كتابات
17/02/2019

العالم الافتراضي.. صداقات وهواجس

العالم الافتراضي.. صداقات وهواجس

حين تأخّرت الفتاة عن العودة إلى منزلها حتى وقت فاحش، ظلّت أعصاب من في المنزل مشدودة ومتشنّجة، وحركت في نفوس عائلتها وزميلاتها سؤالاً محيّراً: لماذا يتّصل بنا أهلها في هذا الوقت المتأخّر ويسألون عنها؟ أين هي الآن؟ وماذا تفعل؟ وكيف خرجت ولم تستأذن أهلها؟

على النّحو المتقدّم، ليست هناك قصّة واحدة أو اثنتان، بل قصص عديدة لم ولن تتوقّف مادامت أسبابها حتى الساعة ماثلة وضاغطة.

بعد أن يقع الفأس في الرأس (كما يقول المثل)، تكتشف الأسرة أنّ هناك علاقات خطيرة ومتطوّرة نشأت من وراء ذلك الجهاز الموجود في كلّ منازلنا، والمزوَّد بكافّة وسائل الاتصال والمحادثة والرؤية للآخرين.

ربما يجد الأولاد متّسعاً كبيراً للهروب من أجوائهم المنزليّة، والذهاب مع زملائهم ورفاقهم متى شاؤوا وحيث شاؤوا، لكنّ هذا الأمر لا يتسنى كثيراً للفتيات بحكم العادات والتقاليد والضوابط الاجتماعية التي يزداد تطبيقها صرامة على البنات أكثر من إخوانهم.

هنا تلجأ بعض الفتيات لما سهل وتيسّر من صداقات وعلاقات ممكنة وغير مثيرة للأهل، وليس إلا الإنترنت (العالم الافتراضي) والصّديق دون منافس، الذي أصبح مألوفاً في بيوتنا، ومقبولاً كضيف دائم الوجود بيننا، دون أن نستثقل منه أو نتضايق، فأجساد بناتنا وأولادنا بين أعيننا في المنزل.

وهل سنكتب الآن لقطع (الإنترنت) عن بيوتنا، وإبعاد هذه التكنولوجيا عن منازلنا؟ كلا، وذلك لأمرين، الأول هو عدم إمكانية فعل ذلك غالباً، والثاني هو أن المجتمع، وجيل الشباب تحديداً، لن يستجيب لهذه الدعوة، ولن يكترث بها، مضافاً إلى أنها دعوة مأزومة.

الحاجة إلى الحديث والصداقة والفضفضة والتّعبير عمّا يجول في النفس، هي الدوافع الحقيقيّة لصداقة النت، مضافاً إلى ما فيه من المتعة والترفيه والتسلية.

بفعلنا، أو بسبب إيحاء الأجواء من حولنا، أصبح أولادنا ينظرون إلينا كديكور منزلي، أو واقع فرض عليهم دون إرادتهم، ولذلك، يتعاملون معنا بحجم الضّرورة التي تدفعهم إلى ذلك، لكنّهم لا يروننا جزءاً من حياتهم وحركتهم.

العالم الحيوي بالنّسبة إليهم هو شاشة جهاز الحاسوب، فهي المليئة بالحياة والقابلة للاستشارة ومستودع الأسرار، والسبب هو أنّ العالم الكبير الذي وراءها، يقبل الإصغاء والإنصات إلى المتعاملين معه دون تعب أو ملل.

حين يرى الأبناء أنَّ حيويَّة الحاسوب متوفِّرة فينا، وإصغاءه ممكن عندنا، وتعامله مع عقليّات الشَّباب، بما لهم من جموح وخيال وتصوّرات، قابل أن يكون منَّا نحن الآباء والأمّهات، وإتاحته الفرصة لهم للحديث والتّعبير عن مشاعرهم وحسن استقبالها قد نوفّره نحن لفلذات أكبادنا، فإنهم سيقبلون علينا دون تردّد.

حاجات أبنائنا لمن يتحدّث معهم ويصاحبهم ويسلّيهم، يمكن أن نكتشفها من الساعات الطويلة التي يمعنون النّظر فيها في شاشات الحاسوب، ويقلبون خلالها صفحات النتّ، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا استغنوا عنّا وذهبوا إلى هذا العالم الذي ليس له وضوحنا معهم وحبّنا لهم؟

إذا أقبل أولادنا علينا بمشاعرهم واستشاراتهم وأسرارهم، فالخوف من استخدام الحاسوب سيتلاشى وينتهي، وستتهيّأ لهم فرص الاستفادة الحقيقيّة من العلم والتطوّر الذي بين أيديهم دون خسائر وانتكاسات.

نحن معاشر الآباء والأمهات، يمكن أن نفرض معادلة الأمن والأمان في أغلب وسائل الاتّصال والتّواصل، ليس بالمنع ولا بالمراقبة الشّديدة، ولا بالزجر والتّرهيب، بل بممارسة دور الأبوّة التي تشخّص واقع الأبناء وحاجاتهم ومراحلهم العمريّة، ثم نبادرهم بتعامل يغني مشاعرهم وعواطفهم عن الآخرين.

* صحيفة اليوم: 31 / 7 / 2010م.

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

حين تأخّرت الفتاة عن العودة إلى منزلها حتى وقت فاحش، ظلّت أعصاب من في المنزل مشدودة ومتشنّجة، وحركت في نفوس عائلتها وزميلاتها سؤالاً محيّراً: لماذا يتّصل بنا أهلها في هذا الوقت المتأخّر ويسألون عنها؟ أين هي الآن؟ وماذا تفعل؟ وكيف خرجت ولم تستأذن أهلها؟

على النّحو المتقدّم، ليست هناك قصّة واحدة أو اثنتان، بل قصص عديدة لم ولن تتوقّف مادامت أسبابها حتى الساعة ماثلة وضاغطة.

بعد أن يقع الفأس في الرأس (كما يقول المثل)، تكتشف الأسرة أنّ هناك علاقات خطيرة ومتطوّرة نشأت من وراء ذلك الجهاز الموجود في كلّ منازلنا، والمزوَّد بكافّة وسائل الاتصال والمحادثة والرؤية للآخرين.

ربما يجد الأولاد متّسعاً كبيراً للهروب من أجوائهم المنزليّة، والذهاب مع زملائهم ورفاقهم متى شاؤوا وحيث شاؤوا، لكنّ هذا الأمر لا يتسنى كثيراً للفتيات بحكم العادات والتقاليد والضوابط الاجتماعية التي يزداد تطبيقها صرامة على البنات أكثر من إخوانهم.

هنا تلجأ بعض الفتيات لما سهل وتيسّر من صداقات وعلاقات ممكنة وغير مثيرة للأهل، وليس إلا الإنترنت (العالم الافتراضي) والصّديق دون منافس، الذي أصبح مألوفاً في بيوتنا، ومقبولاً كضيف دائم الوجود بيننا، دون أن نستثقل منه أو نتضايق، فأجساد بناتنا وأولادنا بين أعيننا في المنزل.

وهل سنكتب الآن لقطع (الإنترنت) عن بيوتنا، وإبعاد هذه التكنولوجيا عن منازلنا؟ كلا، وذلك لأمرين، الأول هو عدم إمكانية فعل ذلك غالباً، والثاني هو أن المجتمع، وجيل الشباب تحديداً، لن يستجيب لهذه الدعوة، ولن يكترث بها، مضافاً إلى أنها دعوة مأزومة.

الحاجة إلى الحديث والصداقة والفضفضة والتّعبير عمّا يجول في النفس، هي الدوافع الحقيقيّة لصداقة النت، مضافاً إلى ما فيه من المتعة والترفيه والتسلية.

بفعلنا، أو بسبب إيحاء الأجواء من حولنا، أصبح أولادنا ينظرون إلينا كديكور منزلي، أو واقع فرض عليهم دون إرادتهم، ولذلك، يتعاملون معنا بحجم الضّرورة التي تدفعهم إلى ذلك، لكنّهم لا يروننا جزءاً من حياتهم وحركتهم.

العالم الحيوي بالنّسبة إليهم هو شاشة جهاز الحاسوب، فهي المليئة بالحياة والقابلة للاستشارة ومستودع الأسرار، والسبب هو أنّ العالم الكبير الذي وراءها، يقبل الإصغاء والإنصات إلى المتعاملين معه دون تعب أو ملل.

حين يرى الأبناء أنَّ حيويَّة الحاسوب متوفِّرة فينا، وإصغاءه ممكن عندنا، وتعامله مع عقليّات الشَّباب، بما لهم من جموح وخيال وتصوّرات، قابل أن يكون منَّا نحن الآباء والأمّهات، وإتاحته الفرصة لهم للحديث والتّعبير عن مشاعرهم وحسن استقبالها قد نوفّره نحن لفلذات أكبادنا، فإنهم سيقبلون علينا دون تردّد.

حاجات أبنائنا لمن يتحدّث معهم ويصاحبهم ويسلّيهم، يمكن أن نكتشفها من الساعات الطويلة التي يمعنون النّظر فيها في شاشات الحاسوب، ويقلبون خلالها صفحات النتّ، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا استغنوا عنّا وذهبوا إلى هذا العالم الذي ليس له وضوحنا معهم وحبّنا لهم؟

إذا أقبل أولادنا علينا بمشاعرهم واستشاراتهم وأسرارهم، فالخوف من استخدام الحاسوب سيتلاشى وينتهي، وستتهيّأ لهم فرص الاستفادة الحقيقيّة من العلم والتطوّر الذي بين أيديهم دون خسائر وانتكاسات.

نحن معاشر الآباء والأمهات، يمكن أن نفرض معادلة الأمن والأمان في أغلب وسائل الاتّصال والتّواصل، ليس بالمنع ولا بالمراقبة الشّديدة، ولا بالزجر والتّرهيب، بل بممارسة دور الأبوّة التي تشخّص واقع الأبناء وحاجاتهم ومراحلهم العمريّة، ثم نبادرهم بتعامل يغني مشاعرهم وعواطفهم عن الآخرين.

* صحيفة اليوم: 31 / 7 / 2010م.

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية