جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً
إلى خصوص إنقاذ قومه.
أمّا إذا كان مبعوثاً إلى أمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاصّ،
فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك، مع ما
في نزوله بلسانين أو أزيد من التّطويل، وإمكان تطرّق التحريف والتبديل والتّنازع
والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبيّ ولغتهم لأنّهم
أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.
على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به، كما أنّ
إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشّكّ والترديد في قلوب البعداء
عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.
على أنّ في إرسال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلسان قومه نكتة أخرى، وهي
أنّ قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يملكون نفسيّة خاصّة، وهي عدم رضوخهم
واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.
فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به، كما قال سبحانه: {وَلَوْ
نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ}[الشّعراء : 198 ـ 199]، فلأجل ذلك، بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى
يسدّ باب العذيرة عليهم.
ولأجل هذه المهمّة الاجتماعيّة، يجب على الرّسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه
وإنقاذهم، حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متّبعة في الأمور العادية، فضلاً
عن المبادئ العامَّة.
وإلى ذلك، تهدف الآية التالية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}[إبراهيم ـ 4]. ومفاد الآية، أنّه سبحانه لم يجر في
بعث رسله مجرى الإعجاز وخرق العادة، ولا فوَّض إلى رسله من الهداية والضّلال شيئاً،
بل أرسلهم بلسانهم العاديّ الّذي يتحاورون به كلّ يوم مع أقوامهم، ليبيّنوا لهم
مقاصد الوحي، فليس لهم إلاّ بيان ما أمروا به، وأمّا الغاية من بعثهم، أعني
الاهتداء، فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.
وعلى ذلك، فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرّسول مع لغة من أرسل
إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بقومه. إذ الآية
تصرِّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كلّ من أرسل
إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقّق أن يكون المرسَل إليه أوسع من قومه،
كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرّسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحجّ،
والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا
نبيّنا أمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن، وبقي منهم من
بقي.
مغالطة أخرى حول الآية:
نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: «أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من
أرسل إليهم»، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر،
فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا: من لا يوافق لسانه لسان من أرسل إليهم، ليس رسولاً
منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان مبعوثاً إلى
العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللّسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه
أصلاً.
وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.
ومنشأ هذه المغالطة، ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من
أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من أرسل إليهم حتى يصحّ ما بني عليه، بل مفاده: أنّ
كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من
قومه أو إلى قومه فقط.
نعم، تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه لسان قومه، ليس رسولاً من الله
سبحانه، وهو صحيح، وأمَّا نبي الإسلام، فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة
مع لسان قومه.
وعلى أيّ تقدير، فالمراد من القوم هم الّذين عاش فيهم الرّسول وخالطهم، ولا يختصّ
بالذين هو منهم نسباً، والشّاهد على ذلك، أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من «كلدة»
وهم سريانيّو اللّسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيّون، وفي الوقت نفسه، سمّاهم
قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلاّ امرأته.
*من كتاب "مفاهيم القرآن، ج3".