ورد التعريف بشخصيّة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم على كونه نبيّاً
كبيراً وقائداً مقتدراً امتلك سلطة عريضة وفريدة من نوعها، وأشيد بعظمته وصلاحه في
سور قرآنية مختلفة، من جملتها سورة البقرة، النساء، الأنبياء، النّمل، سبأ وص، فعلى
سبيل المثال، نقرأ قوله تعالى :{وَوَهَبنَا لِدَاودَ سُلَيَمانَ نِعْمَ العَبدُ
إِنَّهُ اوَّابٌ}[ص/ 30].
القرآن في حكايته المفصّلة نوعاً ما التي أوردها في السور المتقدمة الذكر عن هذا
النبي الكبير، ليس فقط لا ينسب له نسبة عبادة الصّنم وصناعته مطلقاً، وإنّما يعدّ
كافّة جوانب حياته نزيهة من أيّ لون من ألوان التلوث بالشرك والمعصية.
يكفي في هذا المجال مراجعة سورة الأنبياء (الآيات 28 إلى 82)، وسورة النمل (الآيات
15 إلى 44)، وسورة ص (الآيات 30 إلى 40)، وعلى الخصوص قصّة هداية (ملكة سبأ)
وإنقاذها من براثن الشّرك ودعوتها إلى التوحيد الخالص، وخصوصاً عندما يقول: {وَصَدَّهَا
مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّها كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ
كافِرينَ}(النّمل/ 43). وأساساً، يستفاد من الآيات الموجودة في نفس السورة، أنّ
الهدف الرئيسي لسليمان في واقعة ملكة سبأ، يكمن في محاربة الشرك والوثنية، وإنقاذها
وقومها من وطأة هذا الانحراف. والآن نعود إلى التوراة الفعلي المحرّف، لننظر إلى
ما يقوله في شأن سليمان، وما يختلقه من صورة بشعة عن هذا النبي العظيم، صورة لرجل
مفتون بالأهواء، بحيث ساقه هوسه وهواه إلى حدّ الشّرك والوثنية، وحتى بناء معبد
للأصنام.
جاء في الكتاب الأوّل للملوك والسلاطين ما يلي: «وأحبّ الملك سليمان نساء أجنبيات
كثيرة من الأمم التي قال الربّ لبني إسرائيل في شأنها: لا تذهبوا إليهن ولا يذهبن
إليكم، فإنّهنّ يستميلنّ قلوبكم إلى اتباع آلهتهن، فتعلق بهن سليمان حبّاً لهنّ،
وكان له سبع مائة زوجة وثلاث مائة جارية، فأزاغت نساؤه قلبه، وفي زمن شيخوخة سليمان،
تمكّن أزواجه من إمالة قلبه إلى اتباع آلهة أخرى، فلم يكن قلبه مخلصاً للرّبّ
إلهَهُ، كما كان قبل داود أبيه، فتبع سليمان عشتروت آلهة الصيدونيّين، وملكوم بني
عمون، ووضع الشرّ في عيني الربّ، ولم يتبع الربّ اتباعاً تامّاً مثل أبيه داود.
حينئذٍ، بنى سليمان مشرفاً لكاموش صنم قبيلة موآب في الجبل المقابل لأورشليم،
ولمولك صنم بني عمون، وكذلك صنع لجميع نسائه الغريبات اللّواتي كنّ يحرقن البخور
ويذبحن لآلهتهنّ، فغضب الربّ على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الربّ إله إسرائيل الذي
تراءى له مرّتين، وأمره في ذلك أن لا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أمره الربّ به،
فقال الربّ لسليمان: بما أنّ أمرك هذا، وأنت لم تحفظ عهدي وفرائضي التي أمرتك بها،
فسأنتزع الملك عنك وأسلّمه إلى عبدك، إلّا أنّي لا أفعل ذلك في أيّامك نظراً لداود
أبيك، بل أنتزعه من يد ابنك». (سفر الملوك الأوّل، الفصل 11 : 33 : 34).
يستخلص من مضمون هذه القصة الكاذبة للتّوراة ما يلي :
أ) كان لسليمان (عليه السلام) علاقات كثيرة بنساء الطوائف المشركة، وقد استولى على
قسم كبير منهن خلافاً لأمر الله، ثم أخذ يميل إلى معتقداههن شيئاً فشيئاً، وبالرغم
من كونه شخصاً ميالًا للنّساء، فقد حاز على 700 امرأة بالعقد الدّائم، و 300 امرأة
بالعقد المنقطع! إلّا أن تعلقه الشّديد بالنساء أدّى به إلى ابتعاده عن طريق الله
تعالى!
ب) أصدر سليمان قراراً معلناً بناء معبد للأصنام، وبنى على الجبل المطلّ على «أورشيلم»
تلك البقعة المقدّسة لإسرائيل، معبداً لصنم كموش- الصّنم المعروف لطائفة الموابيان-
وصنم مولك- الصنم المختص بطائفة بني عمون- وبرزت في نفسه علاقة خاصّة بصنم «عشتروت»،
الصنم المنسوب إلى الصيدونيان، وقد تحقّق ذلك كلّه في عهد شيخوخته!
ج) ووجه الله تعالى له عقاباً على هذا الانحراف والذّنب العظيم، وتبلور هذا
العقاب في أن يسلب منه مملكته وسلطانه، ولكن لا يسلبه من يده شخصيّاً، وإنّما يسلبه
من يد ابنه «رحبعام»! وسيمنحه فرصة البقاء في الحكم متى شاء، وهذا الأجل لكونه من
عباد الله المقرَّبين؛ لقد كان والد سليمان هو داود، ذلك العبد المقرَّب عند الله،
والذي أقدم على قتل النفس وارتكاب الزنى بالمحصنة، وهي زوجة أحد قادة جيشه!!.
هل يمكن لأحد الأشخاص العقلاء أن ينسب هذه التّهم الفظيعة إلى ساحة إنسان مقدَّس
كالنبيّ سليمان؟!
إذا اعتقدنا بنبوَّة سليمان (عليه السلام)- كما صرّح به القرآن- فالأمر واضح، وإذا
وضعناه في قائمة ملوك بني إسرائيل، فكذلك لا يمكن أن تصدق في حقّه مثل هذه التّهم
أيضاً.
ولو أننا أنكرنا نبوَّته، فمن المسلم أنّه كان تالياً للنبيّ من بعده، لأنّ من
الكتب التي اشتملت على أقوال هذا الرّجل الإلهيّ الكبير، كتابين من كتب العهد
القديم؛ أحدهما يقع تحت عنوان «مواعظ سليمان» أو «حكم سليمان»، والآخر تحت عنوان «نشيد
سليمان»، بالإضافة إلى أنّ التوراة في الفصل الثالث من الكتاب الأوّل لتاريخ
الملوك «الجمل من 5 إلى الأخير»، يقول بصراحة: «لقد تجلّى الله تعالى لسليمان في
المنام ليلًا، وخاطبه بالقول: اُطلب مني ما تشاء. ونظراً لصغر سنه وقلّة تجربته،
طلب سليمان من الله الحكمة، واستجاب الله دعاءه، وأعطاه الفهم والحكمة، وقال: إنّ
هذا الفهم والحكمة التي أعطيته إليك، لم أعطه لأحد من قبلك ولا من بعدك».
هل يعقل أن يتلقّى أحد الأشخاص هذا النّوع الفريد من العلم والحكمة من الله تعالى
في أيّام شبابه، ثم يقدم على بناء معبدٍ للأصنام إرضاءً لرغبات زوجاته في عهد
كِبَرِهِ ونضج عقله واكتمال إدراكه؟!
ممّا لا يقبل الشّكّ، أنّ هذه الأساطير الكاذبة كانت من صنع الأدمغة العاجزة في
السّابق، ومن المؤسف حقّاً، أنّ عدّة من الأفراد الجهلاء وضعوها في سلسلة الكتب
السماويّة بعد ذلك، وقد أطلقوا على هذا الكلام «اللامقدَّس» اسم «الكتاب المقدَّس»
لكن، هل ترى واحدة من هذه النسب السيِّئة في الوقائع والحوادث التي ينقلها القرآن؟
فإذا دقّقت وبحثت، فسوف يكون الجواب بالنّفي.
*من كتاب "نفحات القرآن"، ج8.