أبارك لكم ذكرى ميلاد الرّسول الأكرم محمّد (ص)، وذكرى ميلاد الإمام جعفر الصادق
(ع)، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الذّكريات فرصةً لنا للتزوّد من هذا
التاريخ المشرق الذي شعّ رحمةً للعالمين.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيراً}[الأحزاب: 21]
وقال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25].
القرآن مجسَّدًا
عندما بُعث رسول الله (ص) ببضع آياتٍ من القرآن الكريم، كان الذين يستمعون إلى هذه
الآيات يؤمنون بالنبي (ص) رسولاً من عند الله، ويتركون الشّرك ويتحوّلون إلى
الإسلام.
وربَّما لو حاولنا أن نتعمَّق قليلاً من النّاحية الفكريّة، لوجدنا أنَّ بضع آيات
من القرآن الكريم ليست كافيةً للتَّصديق. اليوم في الحوزات العلميَّة، عندما نريد
أن نبحث مسألة من المسائل في العقيدة أو في أصول الفقه أو ما إلى ذلك، فإنّها
تستهلك منّا أياماً أو أسابيع.
ومع ذلك فالرسول (ص) كان يتلو بضع آيات على المشركين آنذاك فيؤمنون؛ فما السرّ في
ذلك؟
ولعلّنا نجيب هنا بأنّ النبيّ (ص) قد جسّد القرآن كله في شخصيّته، فهو كسائر
الأنبياء الذين عبَّر الله سبحانه وتعالى عنهم في الكتاب {وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي}[طه: 39]، وقد أثر عنه (ص) أنّه قال: "أدَّبني ربي فأحسن تأديبي" .
خلال كل هذه السنين، كان رسول الله (ص) مجسِّداً للقرآن بكلِّه، ولذلك، عندما جاء
محمَّد (ص) رسولاً إلى النّاس، رأى الناس فيه القرآن قبل أن يتلوه عليهم آيات،
رأوْه محسوسًا في منطقه وأخلاقه وروحيته، وفيما يطرحه عليهم في هذا الأفق الإنساني
الرّسالي الواسع، رأوا القرآن بأعينهم قبل أن يسمعوه بآذانهم، فصدَّقوا بالقرآن،
لأنّهم رأوا المثال الحيّ للرّسالة مجسَّداً فيه (ص).
اثنان لا ينفصلان
هذه الثنائيّة التي أكّدها الله سبحانه وتعالى في أكثر من موضع في القرآن الكريم،
وأكّدها كلّ تاريخ الرسالات السماويّة؛ أنه إلى جانب الكتاب، هناك الذي يجسِّد هذا
الكتاب، والرِّسالة لا يكتفى بها ولا تتحرّك بالكتاب فقط، وإلّا كان يكفي للبشريّة
أن ينزل الله سبحانه وتعالى عليهم كتاباً يقرأونه، وعلى كلّ حال، فقد طلب المشركون
من رسول الله أيضاً ذلك، قالوا: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]، لكنّ المبدأ أنّ الإنسان كما يحتاج
إلى الكتاب، يحتاج إلى من يجسِّد هذا الكتاب بعمله، وبصورته وأخلاقه وسيرته، بحيث
يرى النّاس الرسالة تمشي وتتحرّك، وتقفُ وتنطلق، وتواجه كلّ مفردات الحياة.
كان رسول الله (ص) هو الذي يجسّد القرآن كلّه، كما قالت إحدى زوجاته عنه: "كان خلقه
القرآن" ، ومفاهيمه مفاهيم القرآن، وفكره فكر القرآن، وروحه روح القرآن...كان رسول
الله هو هذا القرآن الناطق الحيّ الذي يتحرّك بين الناس، فيقرأ الناس في رسول الله
آياته، ثم إذا رجعوا إلى الكتاب، وجدوا عمل رسول الله وأخلاقه مصدّقين للكتاب،
فكانا معاً – الرسول والكتاب - القاعدة الّتي على أساسها يؤمن النّاس بالإسلام.
وإلّا، فإنّ ثلاثًا وعشرين سنة تعتبر مدّة قصيرة، ومع ذلك، استطاع النبيّ (ص) فيها
أن يغيّر وجه العالم ووجه التّاريخ، وأن يؤسّس لقواعد الحضارة الإنسانيّة انطلاقًا
من هذه الثنائية التي انطلقت دفعةً واحدةً مع الرسول، واتّبعها النّاس، وواكب
القرآن هذه الحركة تدريجًا، فتمّ تثبيت القاعدة التي على أساسها قال الرسول وفعل
وتحرّك...
وهذه الثنائيّة؛ الرسول والرسالة، أو الكتاب والنبيّ، هي التي أكّدها القرآن في عدة
مبادئ أساسيّة:
أولًا: القرآن الكريم أكّد أنَّ هذا النبيّ لا بدّ أن يكون من هذا المجتمع: {لَقَدْ
جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}[التوبة: 128]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم: 4].
ثانيًا: الرَّسول (ص) قال له الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. بمعنى أنّك كنت محمد
بن عبد الله، اليوم أنت رسول الله إلى العالمين جمعياً. هذا موقع مميَّز، لكن الله
تعالى يريد للرّسول أن يبقى ملتصقاً بالنّاس الذي هو من أنفسهم، والّذين كان منهم،
وكان يعيش آلامهم وآمالهم ومشاكلهم، ويتحسّس كلّ ما يعيشونه من طموحات وآمال في
الحياة، يفهم حاجاتهم، أن يبقى ملتصقاً بهؤلاء {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أي يعيش بعيداً عن الناس {وَلَا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً}[الكهف: 28].
رسول الله (ص) من خلال هذه الثنائيّة؛ ثنائية الكتاب وثنائيّة النموذج الحيّ له في
مدى ثلاث وعشرين سنة، أرسى قاعدة التّوحيد وحركة الرّسالة في مكة والمدينة، بل في
كلّ الجزيرة العربيّة، وعطّل كلّ مفاعيل الأخطار التي كانت محدقة بهذا الكيان
الرسالي الوليد، لذلك كانت حروبه إمّا دفاعيّة وإمّا وقائيّة، لم يكن يعتدي على أحد،
ولا يهوى الحرب، وكان همّه أن يزيل الموانع أمام رؤية النّاس لعظمة الإسلام ورسالته.
إعداد النّموذج الرّساليّ
أيضاً، كان رسول الله (ص) خلال هذه الثّلاث والعشرين سنة، يُعِدُّ النموذج الرّساليَّ
الّذي يأتي من بعده، لأنّ الرّسالة لا بدَّ أن تستمرّ بعد الرسول (ص).
وكما كانت فاعليّة الرّسالة من خلال ثنائيّة الكتاب والرّسول النّموذج، لا يمكن
للرّسالة أن تستمرّ فقط على قاعدة "حسبنا كتاب الله"، هذا غير ممكن، لأنّه لو كانت
هذه القاعدة كافية، لأنزل الله كتاباً ولما بعث رسولاً، ولكن "حسبنا كتاب الله"
يحتاج إلى عالم بكتاب الله ومجسّد له.
النَّموذج الّذي كان يُعدّه النّبي (ص)، والّذي عاش الإسلام بكلّه، كان نموذج أهل
البيت (ع)، والرّسول (ص) أكّد لما بعد وفاته ثنائيّة الكتاب والعترة، فقال: "إنّي
تارك فيكم الثّقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي".
بدأ الإسلام مع ثنائية الكتاب والرّسول، واستمرّ بعد رسول الله بثنائية الكتاب
والعترة.
من هنا، نفهم أنَّ العترة لم تكن مجرَّد حالةً تَخْلُفُ رسولَ الله (ص) على القاعدة
السياسيّة وما أشبه ذلك، وإنما كانت حاجة ضروريّة لاستمرار الرسالة من بعد النبيّ
(ص).
دور أهل البيت(ع)
لم يكن يمكن للرّسالة أن تستمرّ بالكتاب فقط، كانت هناك حاجة رساليَّة بعد رسول
الله (ص) لكي يرى النّاس الرّسالة مجسَّدة في شخوص أمامهم، كان عليّ (ع) يرى فيه
النّاس رسول الله (ص)، يقرأون فيه القرآن مجسّداً في سلوكه، في مواقفه، في حربه وفي
سلمه، فأهل البيت (ع) في كلّ امتدادهم، على مدى قرنين ونصف تقريباً من الزّمن،
كانوا يجسّدون الإسلام في كلّ حياتهم، ولذلك استطاعوا أن يؤكّدوا كلّ الرسالة التي
أراد رسول الله (ص) أن يؤكّدها في حياة الناس.
وعندما نقرأ سيرة أمير المؤمنين (ع) أو سيرة الحسن والحسين والسجّاد والباقر
والصادق (ع)، مرورًا بالإمام الرّضا (ع)، وصولًا إلى سائر الأئمة الإثني عشر (ع)،
نجد أنهم كلّهم كانوا يجسّدون الرّسالة في كلّ موقف يقفونه. ولذلك، عندما كانت
الرّسالة تتطلّب المعارضة كانوا يعارضون، وعندما كانت تتطلّب أن ينصحوا حتى الذين
يخالفونهم، وحتى الذين أبعدوهم عن الخلافة، كانوا ينصحون، وعندما كانت تتطلّب منهم
صلحاً كانوا يصالحون، وعندما كانت تتطلّب منهم شهادةً ودماً، كانوا يقدِّمون أنفسهم
وأصحابهم، وعندما كانت تتطلّب منهم أن ينطلقوا في سبيل أن يعدّوا للأمّة النموذج
الحيّ كانوا ينطلقون في كلّ ذلك.
هذه المهمّات التي عاشها أئمّة أهل البيت (ع) بعد رسول الله (ص)، كانت تنطلق من
أنهم كانوا يشكّلون النموذج الحيّ، وكانوا في الوقت نفسه يعدّون النموذج الحيّ
ليستمرّ من بعدهم؛ تربية القاعدة، تربية العلماء، تربية من نسمّيهم برواة الأحاديث...
ولذلك، عندما وجد الحسن (ع) أنّ هذا النموذج مهدَّد بالخطر والاغتيال الّذي كان
يمارسه معاوية بن أبي سفيان، صالح، لأنّه إذا استمرّ في الحرب، فإنّ هذا النموذج لن
يكون موجوداً من بعده، فسيقتل الحسن والحسين (ع)، وسيقتل أصحابهما، نتيجة التعقيدات
التي كانت موجودةً آنذاك في ذلك الواقع الّذي عاشه النّاس في حرب صفّين والجمل
والنَّهروان، وما إلى ذلك من تداعيات، وبذلك فإنَّ هذا النّموذج الذي تستمرّ
الرِّسالة به كان في خطر. وقد حمى أهل البيت (ع) الكتاب الّذي يجب أن يستمرَّ
وتستمرَّ الرِّسالة معه. أمّا الحسين (ع) فلم يصالح لأنّه بيعته كانت ستمنح
الشرعيّة للنمط الذي أراد الأمويّون تكريسه وقد كان لا يزال في بدايته، وهو ما
سيجعل النّاس ترى الإسلام من خلال هذا النمط، وهنا ستفقد الطليعة المؤمنة القائدة
أيّ فاعليّة لها في تكريس الرسالة في حياة الناس، هذا إذا أبقاها الأمويون على قيد
الحياة؛ ولذلك كان موقفه الصّلب حتّى الشهادة هو الذي أبقى لهذه الثنائية دورها،
نتيجة تحويل حركة التاريخ من نمط بني أميّة إلى النمط الإسلامي الأصيل، كما بدأه
رسول الله.
الثنائيّة في عصر الغيبة
بعد ذلك انطلقوا ليضعوا لنا قواعد كيف نحمي المعدن الأصيل لفكر الرِّسالة، فوضعوا
لها قواعد في قبول الأفكار ورفضها، ومعايير ممن نقبل الحديث وممن لا نقبل منه..
وهكذا، كانوا يواجهون كلّ الأخطار التي كانت محدقة بهذه الرّسالة الإسلامية.
بعد قرنين ونصف من الزّمن، أكَّد أهل البيت (ع) هذه الثّنائيّة من جديد: "أمّا
الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حُجَّتي عليكم، وأنا حُجَّة
الله" . هؤلاء الرّواة الذين لم يكونوا مجرَّد ناقلين للأحاديث، ولا مجرّد كتب تروى
للنّاس، بل هم العلماء الذين يجسّدون الرّسالة على منهج الإسلام الذي جسَّده أهل
البيت (ع) وقبلهم رسول الله (ص).
لقد أكّد الأئمّة (ع) مع بداية عصر الغيبة ثنائيّةَ الكتاب والعلماء، وهذه هي
مسؤوليّتنا اليوم.
هذه الثنائيّة التي بدأت مع رسول الله (ص)؛ الكتاب والرَّسول، ثم الكتاب والعِترة،
اليوم هناك الكتاب والعلماء، لا يمكن لنا اليوم أن نتحدَّث عن إسلامٍ يتحرَّك في
الحياة من دون أن يكون للعلماء دور في تجسيد الرِّسالة في حياة الأمَّة.
ولعلَّنا نستطيع أن نقول أيضاً، إنَّ الكثير من المنزلقات والاهتزازات والمشاكل
التي يعانيها النّاس تجاه الدّين والإسلام والتديّن، ليست فقط مربوطة بنقص في
المعارف، ولا بعدم وجود الكتاب، وإنما مربوطة في كثير من أوجهها بعدم وجود النّموذج
الحيّ المتحرّك الفاعل والمؤثر في حياة النّاس.
لماذا يهرب النّاس أحياناً من البيئة المتديّنة الملتزمة بالإسلام إلى بيئات أخرى
خارج الالتزام الدّينيّ؟
قد نجد، لو دقّقنا النظر، أنّ كثيراً منهم ربما ابتلوا ببعض النّماذج التي جعلتهم
يشعرون بأنَّ الإسلام كرسالة ليس قابلاً للحياة.. ليس واقعيّاً.. لا يجدونه أمامهم
في سلوك بعض النّماذج التي يحتكّون بها. ولذلك، لو سألنا بعض هؤلاء: لماذا خرجتم من
الدّين؟ – وبعضهم قد يلحد ويخرج كليّاً من كلّ المنظومة الدينيّة، فهو لا يؤمن حتى
بالله عزّ وجلّ - قد نجد بين كلماتهم، أنّ الطريقة التي كان يتعامل بها بعض
النَّماذج مع هؤلاء كانت طريقة أبعدتهم عن الدّين.
هم يقرأون القرآن، لكنَّ الإنسان العادي لا يستطيع أن يقرأ كلّ آيات القرآن الكريم
بعمقٍ، ولا يستطيع أن يستوعبها في كلّ معانيها، ربما أيضاً لا يتّسع له وقته أو
حياته أو فهمه لكي يتعمَّق كما نتعمَّق نحن – طلبة العلوم الدّينية - في آيات
القرآن وسنَّة رسول الله (ص) وأهل البيت (ع).
قد لا يمكن ذلك، وليس كلّ الناس أهل اختصاص، كما قال عليّ (ع): "الناس ثلاثة: فعالم
ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كل ريح، لم
يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق" .
إذاً، نحن أمام طبقات ثلاث، والناس العاديّون لا نطلب منهم أن يقرأوا القرآن
ويفهموه، ولا نقول لهم: ما بالكم؟ لماذا تربطون الدين بهذا العالم وبهذا النموذج أو
بذاك النموذج؟
وكأنّنا نقول لهم: عليكم أن تبحثوا لتكتشفوا بأنفسكم أنّ الدّين شيء وبعض النماذج
قد تكون بعيدةً عنه.. ولكنْ هذا ليس واقعيّاً! لا نستطيع أن نقول لهم ذلك، لأنهم
إنما يشعرون بقرب الدّين من حياتهم، بمقدار ما يجسّد أمامهم هذا النموذج أو ذاك
القرآنَ الكريم بكلِّه والسنّةَ كلّها.
مسؤوليّة العلماء
ليست العصمة مطلوبة اليوم من العلماء، بل المطلوب أعلى درجات التّجسيد، لا يمكن
أحياناً أن يكون بعض المتديّنين أكثر تقوى منّا، نحن الّذين نعلّم النّاس كيف تكون
التّقوى وكيف تكون الاستقامة في حياتهم.
بعد الغَيْبة الكبرى، الرّسالة إنما تستمرّ بهذين؛ بالكتاب، وبالنموذج الحيّ للكتاب،
وهم العلماء في عصرنا الحاضر.
هذا هو الّذي يمكن أن يجعل الرّسالة تستمرّ اليوم. ولذلك، المطلوب في هذا العصر
بالذّات من العلماء، أكثر مما كان مطلوباً منهم في سنوات وعقود سابقة.
أصبح الإسلام اليوم في الواجهة، الإسلاميون الحركيّون أيضاً في الواجهة، الحركات
الإسلامية والأحزاب الإسلاميّة أصبحت في الواجهة، المؤمنون أيضاً في الواجهة، والكلّ
اليوم يدرس هذه الظاهرة الإيمانيّة، الكلّ اليوم يرصد ويتابع الكثير من السلوكيّات،
وحتّى الدّقية منها، ليعيبوا على هذا الدّين، أو ليقولوا إنّ هذا الإيمان ليس
بإيمان حقيقيّ، لينتقدوا هذه الظاهرة الإيمانيّة العالميّة.
وبذلك، أصبح الضوء مسلَّطاً علينا جميعاً، وخصوصاً الّذين يمثّلون بزيّهم أو
بموقعهم الإسلام. ما كان مطلوباً من النبيّ (ص) أن يكون مستقيماً على الرّسالة
بكلّها، مهما كلّفه الأمر، وما كان مطلوباً من الأئمّة (ع) أن يكونوا تجسيداً لهذه
الرّسالة، وهم كانوا كذلك بكلّ معنى الرّسالة في حياتهم، مطلوب من العلماء اليوم
كذلك، وخصوصاً الطبقة الوسطى الذين هم "المتعلّمون على سبيل نجاة"، لأنهم أكثر
احتكاكاً بالجماهير، والّذين يجب أن يكونوا أكثر التصاقاً بمشاكلهم وآلامهم
ومشاعرهم وآمالهم وطموحاتهم، أكثر اختباراً لذهنيّاتهم، وأقرب إلى لغتهم، لكي
ينقلوا الرّسالة بسلوكهم، وينقلوها أيضاً بكلماتهم، ليصدق الفعل القول: "كونوا
للناس دعاةً بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصّلاة والخير، فإنَّ ذلك
داعية" .
ما معنى ذلك؟ أن يكون المؤمن المنتمي إلى مدرسة أهل البيت (ع) إنسان الرِّسالة،
النّموذج الحيّ للرّسالة. هذا هو المطلوب. ولذلك، كما قال الله سبحانه وتعالى
لرسوله الأكرم (ص): {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف: 28].
العلماء والقرب من النّاس!
بعض العلماء اليوم يقول ليس عندي وقت أن أجلس مع النّاس، ربما أحتاج إلى أن أنصرف
وأعيش في المكتبة عمراً طويلاً ولا أحتكّ بالناس...
الساحة لا تحتمل الفراغ، إذا لم نملأها نحن، فسيملأها غيرنا، وهذا الذي يعانيه
شبابنا وشابّاتنا اليوم في الجامعات، ويعانونه في مواقع العمل، ويعانونه أمام
التحدّيات.
أيّها الإخوة الأعزّة والأحبَّة، لنرصد بعض مشكلاتنا التي نعانيها اليوم في بلداننا،
في لبنان نعاني ذلك، في العراق أيضاً، سنجد أنّنا قصَّرنا، فعندما أُسقِط النّظام
البائد، أو عندما تحرَّكت التحدّيات الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة والروحيّة
لتعصف بمجتمعاتنا، أين كنّا نحن؟ هل كنّا الملتصقين بالقاعدة نجسِّد الإسلام ليروا
النَّموذج المختلف؟! كانوا يرون نماذج بعيدة عن الإسلام، لكنّ النّموذج المسلم،
النّموذج الحيّ للقرآن، لسيرة أهل البيت (ع)، لسنّة رسول الله (ع)، لم يكونوا يروه
في واقعهم. هل كنا أكثر التصاقاً بالجماهير، أو أنّنا انشغلنا بكثير من المواقع
التي ألهتنا؟! {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، هؤلاء المخلصون الصادقون، الّذين ربما تحتاج
معاملتهم إلى صبر، بمعنى أنّ هناك من قد يتحدّث بطريقة غير لائقة وغير مناسبة، لا
تنسجم مع طبيعة البروتوكولات التي ابتدعناها بالعلاقة بيننا وبين النّاس العاديّين
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطاً}، أي أنّ الأزمات الّتي نعانيها اليوم، السّبب في بعض أوجهها
أنّنا لا نقوم بواجباتنا.
ولذلك، كان العلم يتحرَّك مع الحياة، ليس العلم محصوراً فقط في المكتبات وبين جدران
الحوزات، وإنما يحتاج الإنسان دائماً إلى هذه العلاقة الجدليّة بين المواقع التي
يفرض فيها العلم، ثم يذهب ليختبر هذا العلم في موقع التّطبيق. قال الله: {هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2]، يعلمهم
النظريّة، ويعلّمهم التطبيق في حياتهم، وهذا إنما يكون من خلال ما قصّ الله علينا
من شأن رسول الله {وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ
وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}[الفرقان: 7].
ألسنا نروي في بعض مرويّاتنا أنّ عليّاً (ع) كان يمرّ على الأسواق، ويتحدّث مع هذا
وينبّه ذاك؟! الروايات موجودة في الكتب الأربعة لدينا. وكثيرٌ من كلماته انطلقت وهو
جالسٌ مع النّاس.. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه كان يعيش مع القاعدة.
وهذا أمر حسّاس اليوم. الناس لديها أسئلة، وهي تحتاج إلى من يجيبها... الناس لديها
ربما حاجات نفسيّة. لاحظوا النبيّ (ص)، كان البعض يؤذيه، ويقولون هو أذن، بمعنى كان
يستمع إلى هذا فيقول بارك الله بك، ثم يأتيه الشّخص نفسه ربما في اللّيل، ويقول له
بارك الله بك، فقالوا هو أذن، بمعنى أنّه ليس عميقاً في تصفّح شخصيّات النّاس!
ولكنّ الأمر ليس كذلك. فالناس أحياناً تحتاج إلى أن تتحدَّث مع العالم، مع الإمام،
مع الرّسول، فقط من باب الحاجة النفسية {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ
وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم}، يستمع إليكم ليرحمكم،
وليستوعب ما تريدون أن تعبّروا به عن همومكم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ}[التّوبة: 61]، بمعنى أنّه يستمع إليكم
ليرحمكم، يستمع إليكم ليستوعب ما تريدون أن تعبّروا به عن همومكم.
لماذا ورد في الأحاديث أنَّ النَّظر إلى وجه العالم عبادة؟ ربّما لأنَّ الحاجة إلى
الاطمئنان الإيماني قد تكون نفسيَّة أكثر منها حاجة فكريّة. ولكن عندما لا يجد
الإنسان ما يريده في هذه المواقع، فقد يجده عند الآخرين من المنظمات والجهات
الدولية والإقليمية الّتي قد تستوعب هؤلاء، وتأتيهم بالعاطفة، وتستمع إليهم وتحتضن
مشاعرهم، فتجذب إليها هؤلاء الشّباب ونحن غائبون!
ولذلك، فإنَّ المسؤوليّة الكبرى اليوم هي على طبقة العلماء، الـ "متعلّمين على سبيل
نجاة"، لأنّهم الأكثر عدداً، ولأنّ القيادات العليا محدودة، مع أنّ الّذي كان
مطلوباً من الرّسول، ومطلوباً من الإمام، هو مطلوب من القيادات العليا، لكن
الأكثريّة اليوم الّتي هي الأكثر التصاقاً بالجماهير وبالنّاس، هي هذه الطبقة
"الدعاة"، طبقة علماء الدّين المتعلمين على سبيل نجاة، إذا صحّ هذا التّعبير
والتصنيف عن العلماء.
العلماء الفضلاء الدّعاة عليهم مسؤوليّة الانطلاق من هذه الثنّائية؛ الثنائية التي
تؤكّد أنّ الرّسالة لا تستمرّ إلا بالكتاب وبالنّموذج الحيّ الذي يجسّد الكتاب.
أيّ نموذج نمثِّل اليوم؟!
في ذكرى رسول الله (ص)، وذكرى صادق أهل البيت (ع)، نحتاج إلى أن نعود إلى أنفسنا
لنقيس حياتنا عليهم؛ هل نمثّل النّموذج الأقرب إليهم، أو أننا نمثّل النموذج الأبعد
عنهم؟!
كان رسول الله (ص) رحمةً للعالمين، فهل نعيش روحيّة أن نكون رحمةً للعالمين، أو أنّ
بعض النّاس إذا احتكّوا بنا وجدونا ربما نقمةً عليهم وليس رحمةً للعالمين؟!
لم يكن النبيّ (ص) فقط رحمةً للّذين آمنوا، وإنما كان رحمةً للّذين كفروا.
كان الحسين (ع) في عاشوراء، على فرض صحة الرواية، يبكي لأنّ هؤلاء سيدخلون النّار
بسببه. النبيّ (ص) كان يقول: "اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، "اللّهمّ اغفر
لقومي فإنهم لا يعلمون".
هل نملك هذه الروحيّة نحن اليوم؟
فإذا كنّا لا نملكها، فإنّنا نحتاج إلى الكثير من الجهد حتى نرتقي بأنفسنا لنجسّد
هذا النّموذج.
قال الله في كتابه عن الرّسول (ص): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:
159]. هل نعيش اللّين والرَّحمة للمؤمنين في حواراتنا، في جدالاتنا؟ هل نعيش
الوداعة، الاحترام، أو أنّنا ربما نعيش الفظاظة في كثير من تعابيرنا؟!
كان النبيّ (ص) كما يؤكّد القرآن، يجادل أهل الكتاب بالّتي هي أحسن؛ هل نجادل أهل
الكتاب بالّتي هي أحسن؟ هل نجادل أهل القرآن بالّتي هي أحسن؟ إذا اختلف الواحد منّا
مع أخيه في فكرة فقهيّة أو مفاهيميّة أو عقديّة أو غيرها، هل نجادل بالتي هي أحسن،
أو أننا نجادل بالتي هي أسوأ، ويكفِّر بعضنا بعضاً، ويضلِّل بعضنا بعضاً؟!
يمكن للحوار أن يفتح مساحات من القناعة المتبادلة، قد يغيِّر الإنسان فكره نتيجة
فكرة ألقاها عليه المحاور. هل نحاور بالّتي هي أحسن؟ هل نجادل بالّتي هي أحسن؟ هل
ندفع بالّتي هي أحسن؟ إذا حصلت مشادّة أو مشاحنة بيننا وبين إخواننا، ونحن نتحدَّث
عن مجتمعاتنا الإيمانيَّة، هل يسلّم بعضنا على بعض إذا التقاه في الطَّريق -
والسَّلام لله -؟ هل يسلِّم بعضنا على بعض أو لا؟! ربما نعتبر أنَّ تسليمنا عليه هو
اعتراف بضلاله أو بكفره أو ما إلى ذلك!
كيف يمكن أن يجد النَّاس هذا النّموذج الحيّ في أنفسنا، إذا كانوا يشاهدون أنَّ
الواحد منَّا، نحن المتزيّين بزيِّ أهل العلم، يدخل إلى مجلس، فيشيح بنظره عن
متزيٍّ آخر بزيّ أهل العلم، لأنّ هناك مشكلة بينهما، أو لأنّ هناك فكرة يختلفان
حولها، كيف يمكن لنا أن نقول للنّاس على منابرنا عندئذٍ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 34- 35]؟
نعظ النّاس، ويجد النّاس أمامهم النّموذج الذي يخالف هذا الوعظ.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]. هل
نتحاور على هذه القاعدة؟
هل يشعر الواحد منّا فعلاً أنّ فكرته يمكن أن تكون على خطأ، وأنّ فكرة الآخر قد
تكون على حقّ، وأنّ فكرتي قد تكون على حقّ ّأو خطأ، وكذلك الآخر، نتحاور لنتشارك في
الأفكار، وربما نصل إلى فكرة ثالثة أو تقنعني أو أقنعك؟!
هل نتواضع في إدراكنا للحقّ، أو أنَّ الإنسان ربما يعيش هذا النَّوع من التقمّص
لصفة من صفات الله عزّ وجلّ "الديّان"؟! هذه الصفة قد نعيشها نحن، بحيث نجعل أنفسنا
ديّانين على الناس، وندخل هذا إلى النّار، وندخل ذاك إلى الجنّة، ونحكم على هذا
بأنّ فكره كلّه باطل، وعلى ذاك بأنّ فكره كلّه حقّ. إنّ الله سبحانه وتعالى هو
الّذي يعلم حقائق الأمور والسّرائر والنيّات، ونحن أصبحنا نحاسب حتى على النيّات.
الحاجة إلى تجسيد القرآن
لذلك، هذا الكتاب الّذي جسَّده رسول الله (ص) وجسَّده أهل البيت (ع) بكلِّه حتى كان
قرآناً يمشي بين النَّاس، اليوم نحن بحاجة إلى أن نجسِّده في أنفسنا، في أخلاقنا،
في سلوكيّاتنا، في مفاهيمنا، وفي قواعدنا التي ننطلق منها في تعاملنا مع النَّاس
الّذين نتَّفق معهم في الخطّ، في المذهب، في الدّين، أو الذين نختلف معهم في ذلك.
نحتاج إلى أن نرجع إلى الكتاب، ليجد النَّاس الكتاب مجسَّداً فينا قبل أن يقرأوه
فيما بين الدفّتين.
بذلك، نستطيع أن نُعذَر إلى الله سبحانه وتعالى اليوم، وعندما نفد على الله تعالى،
نكون قد أدَّينا ما استطعنا من جهد، وحاولنا تجسيد الكتاب في أنفسنا، حتى يجد الناس
الكتاب مجسّداً أمامهم. ألم يكن أولئك الّذين يحتكّون بالأئمَّة (ع)، يدخل الواحد
منهم عدواً لهم (ع)، ثم يخرج ويقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته؟! لماذا؟ لأنّه رأى
أمامه شيئاً لم يألفه من كلّ هذه النماذج التي سمّت نفسها أمراء المؤمنين وما إلى
ذلك.
هؤلاء كانوا يجدون الإسلام في هؤلاء الأئمّة (ع)، ولذلك قالوا: {اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام: 124]؛ رسالته التي تجسَّدت في شخصيّات
هؤلاء.
هذه الرّسالة اليوم هي مسؤوليّتنا، لا في تثبيتها قولاً فحسب، وإنما في تجسيدها
فعلاً وسلوكاً في حياة النّاس.
بذلك نستطيع أن نسدَّ الفجوات، وأن نحقِّق هذا الأمن الإيماني في حياة النَّاس، في
عصرنا اليوم الّذي ملؤه الشّكّ والقلق والحيرة، وملؤه كثير من العابثين بأفكار
النَّاس وروحيّات النّاس وإيمانهم، ونحن نحتاج هذا أكثر من أيّ وقت مضى.
هذه مسؤوليَّتنا اليوم انطلاقاً من ذكرى رسول الله (ص) وذكرى حفيده الإمام جعفر
الصّادق (ع).
أسال الله سبحانه وتعالى أن يثبّتنا على دينه، وأن يجعلنا في السّير على خطّ تجسيد
رسالة الإسلام، وأن يتقبّل منا ويعصمنا من الزّلل والخطايا، إنّه أرحم الراحمين.
أستغفر الله لي ولكم، والحمد الله ربّ العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.