كتابات
21/01/2020

من أسرار السياسة النبويّة

من أسرار السياسة النبويّة

إنَّ سنَّة الله تعالى في المسلمين وغيرهم، قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء: 105]، أي الصّالحون لعمارتها بعدلهم واستقامتهم، وبإيمانهم وطاعتهم لربِّهم، فكانوا مخلصين لربّهم في جهادهم، فجازاهم بذلك في دنياهم على إخلاصهم.

لقد عرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في موسم من مواسم الحجّ على القبائل، فأعجب به رجل من بني عامر يقال له (بيجرة بن فراس)، بهره ما رآه من فصاحته، وقوّة منطقه، فقال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر بعدك؟

فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الأمر بيد الله يضعه حيث يشاء"، فقال بيجرة: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك.

ولو تمت هذه المعاهدة، لكانت معاهدة هجومية، يراد منها شنّ حرب على العرب لأكل الأموال، والاستيلاء على الغنائم، وإقامة ملك عليهم لبني عامر، يتولاه بيجرة بن فراس أو غيره من رؤسائهم، والإسلام لا يريد مثل هذه الحروب، وإنما يريد أن يتمكّن من الدّعوة إلى رسالته بالتي هي أحسن، فلا يلجأ إلى الحرب إلا إذا كانت دفاعيّة لا هجوميّة، وكذلك لا يريد الإسلام من دعوته أكل أموال النّاس، ولا يريد الاستيلاء على المغانم، ولا يريد إقامة ملك لقومه أو لغيرهم من قبائل العرب، وإنما تأتي المغانم فيه عرضاً في حرب من الحروب المشروعة، فتكون تعويضاً عما خسره فيها من النفوس والأموال، أو تأديباً لمن اعتدى بها عليه من غير حقّ، ليكفّ عنها في المستقبل.

ثم كان بعد رفض تلك المعاهدة، أن قدم إلى مكّة إياس بن معاذ، وأنس بن رافع مع جماعة من الأوس، ليحالفوا قريشاً على الخزرج، وكانت قد قامت بينهما حروب، آخرها يوم بعاث، وقد قتل فيه غالب رؤساء الفريقين، ولم يبق من الخزرج إلا عبد الله بن أبي، ولم يبق من الأوس إلا أبو عامر الرّاهب، فأفنت هذه الحروب رؤساءهم، وألانت نفوسهم، وقربت بينها وبين الدّعوة السلميّة التي يقوم بها الإسلام، فلما جاء هذا الوفد مكة، جاءهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: "هل لكم في خير مما جئتم له؟ أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وقد أرسلني الله إلى النّاس كافّة".

ثم تلا عليهم شيئاً من القرآن، فقال إياس بن معاذ: يا قوم، هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أنس بن رائع، وقال له: دعنا منك، لقد جئنا لغير هذا. فسكت إياس.

فلما جاء الموسم، تعرّض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفر منهم يبلغون الستة، كلهم من الخزرج، وهم أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فدعاهم إلى الإسلام، وإلى معاونته في رسالته، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تعدكم به يهود، فلا يسبقكم إليه، فآمنوا به جميعاً، وقالوا له: إنَّا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعزّ منك. ثم وعدوه أن يلقوه في الموسم المقبل.

فلمّا كان الموسم المقبل، قدم منهم اثنا عشر رجلاً: عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، فاجتمعوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعوه بيعة دينيّة: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنّة، وإن غشّوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء غفر، وإن شاء عذَّب، ثم أرسل معهم مصعب بن عمير وعبد الله بن أمّ مكتوم، يقرئانهم القرآن، ويفقهانهم في الدّين، فانتشر الإسلام بهما بين الأوس والخزرج، حتى لم يكن بينهم حديث إلا أمر الإسلام، ثم ذهب إليه منهم في الموسم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكان النبيّ قد عزم على أن يعقد معهم معاهدة سياسية يهاجربعدها إليهم، فاجتمعوا به سراً، ولم يكن معه من قومه إلا عمه العباس، وهو على دين قومه، وقد أراد أن يحضر هذه المعاهدة السياسية، ليستوثق فيها لابن أخيه، فعرفهم بأنّه لم يزل في منعة من قومه، حيث لم يمكنوا منه أحداً ممن أظهر له العداوة والبغضاء، وتحمّلوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته، فإنهم لبمكان عظيم. فقال البراء بن معرور: والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصّدق، وبذل مهجنا دون رسول الله. ثم قالوا جميعاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): خذ لنفسك ولربّك ما أحببت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم، فقال له الهيثم بن التيهان: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرّجال يريد اليهود عهوداً، وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: "بل الدّم الدّم، والهدم الهدم"، يريد إن طالبتم بدم طالبت به، وإن أهدرتموه أهدرته، فبايعوه وبايعهم على ذلك، ثم هاجر إليهم بعد هذه المعاهدة السياسيّة.

والفضل في نجاح هذه المعاهدة لفهم الأوس والخزرج، رسالة الإسلام من أوّل الأمر، فلم تلتبس عليهم كما التبست على بني عامر، فقد أدرك إياس بن معاذ في المرة الأولى أنّ المعاهدة مع الإسلام خير مما جاؤوا له من مخالفة قريش على الخزرج، لأنّ مخالفتهم مع قريش تقضي باستمرار الحروب فيما بينهم، أمّا المعاهدة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتؤلّف بينهم، وتجعلهم إخواناً في هذا الدّين الجديد.

فهموا في المرة الثانية رسالة الإسلام على أنها دعوة تأليف لا تفريق، ورسالة سلام لا رسالة حرب ومغانم، وهذا حين قالوا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعزّ منك. فلمّا جاء في المرّة الأخيرة، وقت عقد المعاهدة، لم يقصدوا منها أن تكون تحالفاً على العرب لأكثر أموالهم كما قصدت بنو عامر، ولم يقصدوا منها أن يكون لهم بها ملك على العرب أو غيرهم، وإنما قصدوها على أنها معاهدة دفاعيّة، يبذلون فيها مهجهم في الدّفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يعادون إلا من يعاديهم على الإسلام، ولا يحاربون إلا من يحاربهم لأجل أن يفتنهم عنه، كذلك قصدها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) معاهدة دفاعيّة، فلم يشترط عليهم فيها إلا أن يمنعوه حين يقدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

ولكن قد يقال: إذا كانت هذه المعاهدة معاهدة دفاعيّة سلميّة، فكيف أقرّ فيها قطع ما كان بين اليهود وعرب الأوس والخزرج من عهود؟!

إن هذه العهود كانت من آثار الحروب بين الأوس والخزرج، ولم تكن عهوداً سلميّة يصحّ بقاؤها بعد هذه المعاهدة السلميّة، فإنه لما انقسم هؤلاء العرب على أنفسهم، وقامت هذه الحروب بينهم، حالف الأوس منهم بين قريظة من اليهود، وحالف الخزرج منهم بني النضير وبني قينقاع، فوجب بعد هذه المعاهدة السلمية أن تبطل هذه العهود الباغية، ليؤدي هذه المعاهدة رسالتها في التأليف بين الأوس والخزرج، ولا حروب دينيّة بينهم وبين اليهود، بل تجمع الأوس والخزرج رابطتهم الدينية الجديدة، وتجمعهم واليهود رابطتهم القديمة.

نتعلم من السياسة النبويّة الحكمة في التّدبير، وبعد النظر في قراءة الأحداث، والتعامل معها بحنكة ورويّة، كي تكون نتائجها في صالح الإسلام والمسلمين والمجتمع ككلّ.

إنَّ سنَّة الله تعالى في المسلمين وغيرهم، قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء: 105]، أي الصّالحون لعمارتها بعدلهم واستقامتهم، وبإيمانهم وطاعتهم لربِّهم، فكانوا مخلصين لربّهم في جهادهم، فجازاهم بذلك في دنياهم على إخلاصهم.

لقد عرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في موسم من مواسم الحجّ على القبائل، فأعجب به رجل من بني عامر يقال له (بيجرة بن فراس)، بهره ما رآه من فصاحته، وقوّة منطقه، فقال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر بعدك؟

فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الأمر بيد الله يضعه حيث يشاء"، فقال بيجرة: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك.

ولو تمت هذه المعاهدة، لكانت معاهدة هجومية، يراد منها شنّ حرب على العرب لأكل الأموال، والاستيلاء على الغنائم، وإقامة ملك عليهم لبني عامر، يتولاه بيجرة بن فراس أو غيره من رؤسائهم، والإسلام لا يريد مثل هذه الحروب، وإنما يريد أن يتمكّن من الدّعوة إلى رسالته بالتي هي أحسن، فلا يلجأ إلى الحرب إلا إذا كانت دفاعيّة لا هجوميّة، وكذلك لا يريد الإسلام من دعوته أكل أموال النّاس، ولا يريد الاستيلاء على المغانم، ولا يريد إقامة ملك لقومه أو لغيرهم من قبائل العرب، وإنما تأتي المغانم فيه عرضاً في حرب من الحروب المشروعة، فتكون تعويضاً عما خسره فيها من النفوس والأموال، أو تأديباً لمن اعتدى بها عليه من غير حقّ، ليكفّ عنها في المستقبل.

ثم كان بعد رفض تلك المعاهدة، أن قدم إلى مكّة إياس بن معاذ، وأنس بن رافع مع جماعة من الأوس، ليحالفوا قريشاً على الخزرج، وكانت قد قامت بينهما حروب، آخرها يوم بعاث، وقد قتل فيه غالب رؤساء الفريقين، ولم يبق من الخزرج إلا عبد الله بن أبي، ولم يبق من الأوس إلا أبو عامر الرّاهب، فأفنت هذه الحروب رؤساءهم، وألانت نفوسهم، وقربت بينها وبين الدّعوة السلميّة التي يقوم بها الإسلام، فلما جاء هذا الوفد مكة، جاءهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: "هل لكم في خير مما جئتم له؟ أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وقد أرسلني الله إلى النّاس كافّة".

ثم تلا عليهم شيئاً من القرآن، فقال إياس بن معاذ: يا قوم، هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أنس بن رائع، وقال له: دعنا منك، لقد جئنا لغير هذا. فسكت إياس.

فلما جاء الموسم، تعرّض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفر منهم يبلغون الستة، كلهم من الخزرج، وهم أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فدعاهم إلى الإسلام، وإلى معاونته في رسالته، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تعدكم به يهود، فلا يسبقكم إليه، فآمنوا به جميعاً، وقالوا له: إنَّا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعزّ منك. ثم وعدوه أن يلقوه في الموسم المقبل.

فلمّا كان الموسم المقبل، قدم منهم اثنا عشر رجلاً: عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، فاجتمعوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعوه بيعة دينيّة: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنّة، وإن غشّوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء غفر، وإن شاء عذَّب، ثم أرسل معهم مصعب بن عمير وعبد الله بن أمّ مكتوم، يقرئانهم القرآن، ويفقهانهم في الدّين، فانتشر الإسلام بهما بين الأوس والخزرج، حتى لم يكن بينهم حديث إلا أمر الإسلام، ثم ذهب إليه منهم في الموسم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكان النبيّ قد عزم على أن يعقد معهم معاهدة سياسية يهاجربعدها إليهم، فاجتمعوا به سراً، ولم يكن معه من قومه إلا عمه العباس، وهو على دين قومه، وقد أراد أن يحضر هذه المعاهدة السياسية، ليستوثق فيها لابن أخيه، فعرفهم بأنّه لم يزل في منعة من قومه، حيث لم يمكنوا منه أحداً ممن أظهر له العداوة والبغضاء، وتحمّلوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته، فإنهم لبمكان عظيم. فقال البراء بن معرور: والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصّدق، وبذل مهجنا دون رسول الله. ثم قالوا جميعاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): خذ لنفسك ولربّك ما أحببت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم، فقال له الهيثم بن التيهان: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرّجال يريد اليهود عهوداً، وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: "بل الدّم الدّم، والهدم الهدم"، يريد إن طالبتم بدم طالبت به، وإن أهدرتموه أهدرته، فبايعوه وبايعهم على ذلك، ثم هاجر إليهم بعد هذه المعاهدة السياسيّة.

والفضل في نجاح هذه المعاهدة لفهم الأوس والخزرج، رسالة الإسلام من أوّل الأمر، فلم تلتبس عليهم كما التبست على بني عامر، فقد أدرك إياس بن معاذ في المرة الأولى أنّ المعاهدة مع الإسلام خير مما جاؤوا له من مخالفة قريش على الخزرج، لأنّ مخالفتهم مع قريش تقضي باستمرار الحروب فيما بينهم، أمّا المعاهدة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتؤلّف بينهم، وتجعلهم إخواناً في هذا الدّين الجديد.

فهموا في المرة الثانية رسالة الإسلام على أنها دعوة تأليف لا تفريق، ورسالة سلام لا رسالة حرب ومغانم، وهذا حين قالوا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعزّ منك. فلمّا جاء في المرّة الأخيرة، وقت عقد المعاهدة، لم يقصدوا منها أن تكون تحالفاً على العرب لأكثر أموالهم كما قصدت بنو عامر، ولم يقصدوا منها أن يكون لهم بها ملك على العرب أو غيرهم، وإنما قصدوها على أنها معاهدة دفاعيّة، يبذلون فيها مهجهم في الدّفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يعادون إلا من يعاديهم على الإسلام، ولا يحاربون إلا من يحاربهم لأجل أن يفتنهم عنه، كذلك قصدها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) معاهدة دفاعيّة، فلم يشترط عليهم فيها إلا أن يمنعوه حين يقدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

ولكن قد يقال: إذا كانت هذه المعاهدة معاهدة دفاعيّة سلميّة، فكيف أقرّ فيها قطع ما كان بين اليهود وعرب الأوس والخزرج من عهود؟!

إن هذه العهود كانت من آثار الحروب بين الأوس والخزرج، ولم تكن عهوداً سلميّة يصحّ بقاؤها بعد هذه المعاهدة السلميّة، فإنه لما انقسم هؤلاء العرب على أنفسهم، وقامت هذه الحروب بينهم، حالف الأوس منهم بين قريظة من اليهود، وحالف الخزرج منهم بني النضير وبني قينقاع، فوجب بعد هذه المعاهدة السلمية أن تبطل هذه العهود الباغية، ليؤدي هذه المعاهدة رسالتها في التأليف بين الأوس والخزرج، ولا حروب دينيّة بينهم وبين اليهود، بل تجمع الأوس والخزرج رابطتهم الدينية الجديدة، وتجمعهم واليهود رابطتهم القديمة.

نتعلم من السياسة النبويّة الحكمة في التّدبير، وبعد النظر في قراءة الأحداث، والتعامل معها بحنكة ورويّة، كي تكون نتائجها في صالح الإسلام والمسلمين والمجتمع ككلّ.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية