هل بقي لنا مجالٌ للاستهلاك، ونحن أُمّة تحوّلت إلى أُمّة مستهلكة، بدلاً من أن تكون أُمّةً منتجة؟ هل بقي هنالك مجالٌ للاستهلاك في موضوع الوحدة الإسلاميّة لنتحدَّث عنه؟ هل بقيت هناك كلمات؟
ربّما يشعر الإنسان في كثيرٍ من قضايانا التي نعيشها وتهزّ الأرض تحت أقدامنا، أنّ المسألة لا تتّصل بطرح النظريّات أو إطلاق الشعارات، ولكنّ المسألة هي مسألة مَنْ نحن في كلّ قضايانا؟ هل نحن نعيش إسلامنا خارج دوائر ذواتنا؟
ربّما يبدأ الإسلام في عقولنا قضيّةً، ولكنّه ينتهي إلى ذات؛ ذات الشخص، أو ذات الجمعيّة، أو ذات الحزب، أو الحركة، أو الطائفة، بحيث تكون المسألة كيف تسلم الذّات لأنّها تختصر الإسلام في داخلها، وكيف يسلمُ الحزب أو الحركة أو المنظّمة لأنّها تختصر الإسلام في داخلها!
أَسْلَمَة العالَم!
لنجعل الإسلام خارج نطاق الذّات الشخصيّة والجماعية، ولتبقَ الذّات هي التي تحمي الإسلام. المسألة مسألة أخلاقية في معنى القيمة، وليست مسألةً إسلاميّة فحسب. أنا لا أُريد أنْ أُوَزِّع الاتّهامات، فقد أكون من بين هؤلاء الذين أتحدَّث عنهم، لأنَّ على الإنسان أن ينتقد نفسه، تماماً كما قال الشاعر الشيخ محمد رضا الشبيبي:
كُلُّنَا يطلُبُ ما ليسَ لَهُ كُلُّنَا يطلُبُ ذا حتّى أنا
القضيّة قبل أنْ نتحدَّث بالوحدة، هي ما هو الإسلام فينا؟ هل نحن ننفتح على الإسلام في رحابته؟ كيف ينفتح على الإسلام من يعمل على تدمير مسلمين آخرين، بحجّة أنّه يختلف معهم في قضيةٍ كلامية أو فقهية؟ كيف يمكن أن يكون لنا إسلام يحمي الوحدة، ونحن قد ورثنا هذا التمزُّق وهذه الأنانيّة الذاتيّة من المذاهب الفقهية والكلامية المتناحرة، ثمّ ورَّثناها إلى الحركات الإسلاميّة؟
فيما المطلوب منك ـــ أيُّها المسلم ـــ أن تكون حركيّاً، تعمل من أجل أَسْلَمَة العالَم، أن يكون الإسلام أفقك، تماماً كما هو العالَم كلّه أفقك، إذ ليس من مصلحة الإسلام في شيء أن تظلّ تعيش من أجل أن تكون حركتك الإسلامية هي الحركة الوحيدة، وتدفع الآخرين أن يبتعدوا عن الساحة، فتعقّدهم وتحاصرهم وتخرِّب خططهم، علماً أنّك لا تستطيع أن تملك الساحة، وهو ما يؤدّي إلى إسقاط الإسلام والسّاحة!
القضيّة هي قضيّة هل نحن جادُّون في مسألة الإسلام؟ لو أردنا أن ندرس ـــ وقلت إنَّها مسألة أخلاقيَّة ـــ واقعنا الإسلامي المذهبي والحركي، فهل نرى من إسلام أخلاقيّ في معنى القيمة في علاقاتنا مع بعضنا البعض؟ إنَّنا نتكاذب فيما بيننا، حتّى إنَّنا نستعمل التقيّة مع بعضنا بعضاً. كنّا نقول إنّه لا بدَّ لنا أن نكون واقعيّين، وأن نعيش السياسة على أساس الواقع لا على أساس المثال الخيالي، ولكن ليس معنى أن تكون واقعيّاً، أن تخضع للأمر الواقع، وأن تجعل مسألة الصدق استثناءً في سياستك، فتشرِّع الكذب بالعنوان الثّانوي وغيره، ولتكون هذه هي القاعدة، لأنَّ هناك مصلحة تفرض كذباً هنا وهناك.
سبيل الصَّراحة
قولوا ـــ وأنا من بينكم ـــ هل نملك أنْ نتصارَح فيما بيننا؟ هل يفتح أحدنا قلبه للآخر في ما يتحسَّسه معه؟ أنا أشكّ أنَّ الساحة تقبلُ الصَّراحة، وهذه حقيقة نعيشها، لا فيما بين المسلمين على مستوى التنوّع المذهبي، ولا بين المسلمين على أساس التنوّع الحركي، بل على مستوى كلّ حركة في داخلها، وكلّ مذهب في داخله. الله، سبحانه وتعالى، أراد لنا أن نجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فهل يستطيع أحد في هذا المذهب أو ذاك المذهب، أو في هذه الحركة أو في تلك الحركة، أن يجادل الّذين معه بالّتي هي أحسن؟ هل نقبلُ ذلك؟ هل هناك حريّة في داخل المذهب لأتباع المذهب ليصحِّحوا ما يفسُد هنا ويفسُد هناك؟ هل هناك حريَّة في داخل الحركات الإسلاميّة لتنقد القاعدةُ القِمّةَ، أو لتنقد القِمّةُ بعضها بعضاً؟
إنّنا ننعي على بعض النّاس أنّهم يكفِّرون مذهباً في أحد المواقع، فيما نحن نمارس الفعل نفسه في موقعٍ آخر، حتّى أصبحت مسألة التّكفير والتّزندق والانحراف أسلوبنا الغوغائي الذي نستعمله في الساحة.
مَنِ الذي يقف أمام قوله تعالى عندما ندير علاقتنا ببعضنا بعضاً: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول}[الإسراء: 36]؟ مَنِ الذي يُراقب ربّه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]؟
هناك فرقٌ بين الالتزام والتعصُّب. نحن لا نماري الالتزام، فهو الذي يربطك بالفكر ويحرّكك في خطّها وينفتح بك على أهدافه. أمّا نحن، فننتمي إلى أهل العصبيّة التي حدَّدها الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) بقوله: "العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكنَّ من العصبيّة أن يُعين قومه على الظلم"(1). ألاَ نعين قومنا على الظّلم؟ أيّ محازبٍ، أيّ مذهبي، إذا رأى فرداً من مذهبه أو من حزبه أو من حركته يصطدم مع إنسانٍ آخر، حتّى لو كان الحقّ مع ذاك والباطل مع صاحبه، ألاَ يدعمه ويؤيّده؟ هل هناك أخلاقيّة تجعلنا نقف مع ذاك ضدّ صاحبنا؟
وحدة روحيّة
لا أُريد أن أجعل من نفسي واعظاً، فقد أكون بحاجة إلى الموعظة، ولكنّي أتحدّث عن الواقع وعمّا نتحسَّسه في السّاحة، لذلك علينا أن نفكِّر: هل نحن إسلاميون بحيث يعني الإسلام لنا شيئاً؟
لماذا يقبل الكفر الآخر بكلّ تنوّعاته السياسيّة والفكريّة، ونحن لا نقبل الآخر حتّى لو كان مسلماً؟ إنّ الإسلام قبل الآخر غير المسلم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آلعمران : 64]، اعترف بوجوده وتعايش معه ونظَّم العلاقات الموضوعيّة الإنسانيّة معه، سواء كانت علاقات معاهدة أو ذمَّة أو ما إلى ذلك.. ولكنّنا لا نعترف بالآخر.
الأحزاب في الغرب تعترف ببعضها البعض، وربَّما أيَّد هذا الحزب مشروعاً يطرحه الحزب الآخر، لأنَّ المسألة عندهم هي مسألة مصلحة أوطانهم وليست مسألة التعصُّب لأحزابهم. لقد تجاوزوا العصبيّة وانفتحوا على الموضوعيّة، ولذلك استطاعوا أن يتحاوروا في الهواء الطلق. أصبح أحدهم لا يخافُ على فكره من أن يناقشه الآخر حتّى في أصوله، لأنَّ هناك نوعاً من أنواع الإيمان ـــ بطريقةٍ أو بأخرى على طريقتهم الخاصّة ـــ بالحقيقة الموضوعيّة التي يعيشونها.
ونحن كمسلمين لا نقبل الآخر؛ السنّيّ لا يقبل الشيعيّ، والشيعيّ لا يقبل السنّيّ، حتّى لو تحدّثنا في الهواء الطلق بالوحدة الإسلاميّة، لكنّهم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}[البقرة: 14] إلى شياطين الطائفيّة {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، ألا نقول ذلك لبعضنا بعضاً؟ ألاَ نقول ذلك وراء الكواليس؟
لماذا لم نستطع أن نجذِّر في داخل قاعدتنا الإسلاميّة ـــ نحن العلماء والمثقّفين ـــ معنى الوحدة الإسلامية، معنى قبول الآخر في الخطوط الإسلامية الواحدة؟
إنّنا نخاف من ذلك، ونخاف من أن تنفتح قاعدتنا السنيّة على الشيعة، وقاعدتنا الشيعيّة على السنّة، كما نخاف أن تنفتح قاعدتنا الحركيّة على القاعدة الأخرى، لأنّهم قد يسلبوننا هذا وذاك.
الوحدة الإسلاميّة وحدة روحيّة قبل أن تكون مشروعاً، وهي روحيّة ترتبط بالوجدان الإسلاميّ الذي يجعل المسلمين يشعرون بالقضايا الإسلامية الثقافية، ليقفوا من أجل حماية الإسلام الثقافي في الأصول الأساسية للعقيدة، وليقفوا من أجل حماية الخطوط الإسلاميّة في الشّريعة الإسلاميّة أمام الذين ينتقدونها، وليساند المسلمون قضايا المسلمين الحيويّة، سواء كانت محليّة أو إقليميّة أو عالميّة.
أن تكون وحدويّاً، هو أن تشعر بأنّ الإسلام يعني لك شيئاً، وأنّك تُثكل إذا سقط هناك أيّ موقعٍ أو حدث أيّ اهتزاز لأيّ موقعٍ آخر.
لماذا نختلف؟
أن نكون وحدويّين، هو أن نعيش المسألة الإسلاميّة بكلّ حدّ، ولذلك أنا أتساءل: لماذا لم نستطع في لبنان أن نجعل المقاومة الإسلاميّة منفتحة على كلّ الواقع الإسلامي؟
لماذا نسمح لمتحدِّث هنا ومتحدِّث هناك أن يقول إنّها مقاومة شيعيّة؟ لماذا لم نستطع أن نؤسِّس اتّحاداً للحركات الإسلاميّة؟ ولا أقول وحدة، باعتبارها في الظروف الراهنة طموحاً خياليّاً قد نتصوّره. هل تقبل أيّة حركة إسلاميّة أن تدخل في اتّحاد جبهويّ أو أيّة صيغة أخرى مع حركة إسلاميّة على أساس خطوط واضحة على الأقلّ في المسألة السياسيّة؟
لماذا نختلف عندما تكون هناك جولة انتخابية؟ لماذا نختلف بحيث يذهب هذا الفريق الإسلامي الحركيّ هنا، ويذهب ذاك وهناك، ولا يمكن التفاهم لا على الخطوط ولا على البرامج ولا على الأشخاص، في حين أنَّنا نعمل من أجل قوّة الإسلام في لبنان؟
المفروض أنّ الحركيّين هم الطليعة الواعية في الأُمَّة، فهم الذين تجاوزوا الفواصل والتفاصيل، لأنّهم يعملون على أن تكون كلمة الله هي العليا. أليس هدفنا أن نؤسلم العالَم؟ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِير}[سبأ: 28]؛ لكن ألا يحاول كلّ واحدٍ منّا أن يعيش في داخل إطاره، ليكون لنا إسلام لبناني، وإسلام جزائري، وإسلامٌ مصريّ... إلخ، بتأثير من الاستكبار العالمي الذي عمل على أنْ يجعل هناك شخصانيَّة حركيَّة في هذه الحركة أو في تلك؟
يجب أن تكون لنا روحيّة الحركة الإسلاميّة، بالطريقة التي تجعل كلًّا منّا لا يشعر بأنّه يملك الحقيقة كلّها، ولكن يعي أنّه يملك وجهة نظر يقتنع بها في فهم الحقيقة، وعليه أنْ يستمع إلى وجهة النظر الأخرى حتّى تغتني المعرفة. وقد كنَّا دائماً نردِّد لكثيرٍ من المثقّفين غير الإسلاميّين، أنّ أسلوب الحوار في الإسلام لم يتقدّمه أسلوب في إنسانيّته وفي موضوعيّته، ولن يتقدَّمه أسلوب، لأنّه في نهاية المطاف يتمثَّل في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]. قالها الله تعالى على لسان رسوله، وهو الذي جاء بالصدق وصدَّق به، لقد قال له: عندما تتحاور مع الآخر لا تُدخِل ذاتك، لا تدخل إيمانك في عمق وجدانك في ساحة الحوار، قُل لمحاورك إنَّ هناك حقيقة ضائعة بيننا، قد أكون على ضلال وأنتَ على هدىً، وقد أكون على هدًى وأنتَ على ضلال، فتعال لننطلق معاً لنتحاور، فلعلَّنا نكتشف الحقيقة الضائعة معاً لنتوحَّد، أو يكتشف أحدنا ذلك ليفهمه الآخر، إذا لم يقتنع به.
هل نحن قرآنيّون؟
هذا كلام القرآن، فهل نحن قرآنيّون في هذا المستوى؟ هذه المسألة تتّصل بالأخلاقيّة الثقافية الإسلامية، في الخطّ الثقافي الذي نريد أنْ نُقابِل به العالَم في مضمون الفكرة وفي أسلوبها وفي أسلوب الحوار، فهل نحن في هذا الخطّ؟
كلنّا نعرف أنَّ الوحدة من الممنوعات الاستكبارية، وأنّ الوحدة بين المسلمين هي من الممنوعات الكافرة، سواء كانت تبشيريّة أو غير تبشيريّة. إذا كنَّا نعرف أنّ القوم يمنعون الوحدة من أجل أن يبقى العالَم الإسلامي خاضعاً لاقتصادهم وسياستهم وأمنهم وثقافتهم، وإذا كنّا نعرف أنّ الكفر يعمل على أن يخترق بلدان المسلمين كإندونيسيا وماليزيا وأفريقيا وغيرها، من أجل أن يبعد المسلمين عن الإسلام إذا لم يستطع أن يدخلهم في غيره، إذا كنّا نعرف ذلك، ونعرف، إلى جانب ذلك، أنَّ الطريق إلى هذا لا يمكن أن يمرّ بالتعصُّب المذهبي، ولا يمكن أنْ يمرّ بالشخصانيّة الحركيّة، ولا يمكن أن يمرّ بعبادة الشخصية، إذا كنّا نعرف ذلك، فلماذا ننتظر؟ هل ننتظر أن يأتي من المرّيخ أو غيره من يخلِّصنا من هذا، ونحن نملك الأدوات ونملك الوسائل ونملك القاعدة؟
إنَّ قاعدتنا الإسلاميّة؛ هذا الشّعب، هؤلاء المسلمين العاديّين، هؤلاء الذين نشعر بعنفوان عندما نتحدَّث عنهم بأنَّهم مسلمون تقليديّون ونحن مسلمون طليعيّون واعون، هؤلاء لا يعوزُهم الإخلاص، وإذا رأوا كلمة تنفتح على عمق الإخلاص، ورأوا هناك واقعيّة، فإنَّني أقول لكم إنّهم أقرب إلى التخلّي عن التعصُّب حتّى من العلماء ومن المثقّفين. نحن الذين نصنع التعصّب فيهم، نحن الذين نثقّفهم ثقافة عصبيّة، نحن الذين نقول لهم إنَّ الآخر ليس مسلماً إلّا في الظاهر، وهكذا... أليست المسألة كذلك؟
حرب على الأمّة
إنَّ لدينا قاعدة إسلامية رائعة؛ القاعدة الإسلامية في فلسطين؛ الطفل، الشيخ، الشّاب المثقّف، غير المثقّف، تؤمن بالمسألة الفلسطينيّة وفي بُعدها الإسلاميّ. أنا أعرف أنّ الفلسطيني العادي الذي يتحرّك من خلال عمق إسلامه تاريخيّاً وفكرياً وشرعياً قد انفتح على الإسلام، وهو ربّما تغيب عنه القيادة، إلّا أنّه يستمرّ في مقاومته، وسيبقى مرتبطاً بالإسلام، ولو حدَّق بهذه القيادة أو تلك القيادة.. وكذلك الأمر مع هؤلاء الشّباب في المقاومة الإسلاميّة الذين تختلف ثقافتهم، وتختلف أوضاعهم، وربّما يكون أحدهم قد وُلِدَ وفي فمه ملعقة من ذهب، ومع ذلك، عاشوا الجهاد على أساس مفهومه الإسلاميّ.
وهذه الأُمّة أيضاً تتعاطف مع المجاهدين، هذه الأُمّة الإسلاميّة التي رأيناها في كلّ موقفٍ من مواقف التحدّيات الأميركيّة والإسرائيليّة، رأيناها تقف وتجتمع بعيداً من كلّ الإقليميّات، وبعيداً من كلّ القوميّات. إنّها أُمّة جيّدة، لايزال الإسلام فيها عاطفة وحسّاً، ولكن كيف نقود هذه الأُمّة إلى مضمون الإسلام وإلى حركته؟ وكيف نفتح عقل هذه الأُمّة عليه في كلّ رحابته؟ وكيف نفتح قلب هذه الأُمّة عليه في كلّ مشاعره وأحاسيسه؟
إنّني أرى أنَّ هناك حرباً عالمية كافرة استكبارية على الأُمّة الإسلامية كلّها، وعلى العالَم الإسلامي كلّه، الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، إنَّهم يتحدَّثون عنّا ونتحدّث نحن بأنَّ هناك حالة انعدام الوزن في الواقع العربي وفي الواقع الإسلامي، هناك انعدام وزن سياسي واقتصادي وعسكري، وإذا لم تهزّنا هذه التحدّيات الكبرى، فأيّ شيء يهزّنا، هل نقول مع المتنبّي:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَليهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلامُ
إذا لم تستطع جراحنا أنْ تهزّنا، فالكلمات والخطابات والقرارات وما إلى ذلك لا يمكن أنْ تُلامس أيَّ شيءٍ، ولو السطحيّ من مشاعرنا.
المسألة أنّ هناك استلاباً للواقع، فبعد أنْ كانت القضيّة قضيّة فلسطين، أصبحت القضيّة قضيّة الخليل في تفاصيل شوارعها، وقضيّة المسجد الأقصى وما حوله، وأصبحت القضيّة في لبنان "جزّين" وما إلى ذلك.
لقد أدخلونا في التفاصيل حتّى ننسى القضية، ونسينا القضية. أصبحت كلمة أنّ لنا فلسطين بأجمعها كلمةً خارجةً عن الاعتدال السياسي، وعن الواقعيّة السياسيّة، أصبحت كلمات المتطرّفين الحالمين.
لقد أدخلونا في التفاصيل حتّى طبَّعوا الأُمَّة، لتكون كلّ قضيّتها متى تتمّ التسوية ومتى يمكن أن يكون الحلّ السّلمي. أصبحت الذهنية السياسية للأُمّة ـــ لا شعورياً ـــ هي مسألة الحلّ السلمي الذي أصبحوا يشعرون فيه بأنّه سوف يتخفَّفون من خلاله من التعب.
هل نقول إنّنا تعبنا وأتعبنا الأُمَّة معنا؟ لماذا فشلنا في أنْ نُبقي فلسطين في وجدان الإنسان المسلم العادي من الأُمَّة؟ ماذا أصبحت المسألة؟ الأراضي المحتلة، ثمّ هربت الأراضي المحتلة فأصبحت مسألة الاستيطان.
أهميّة الحوار والمصارحة
إنَّ حركة "تجمع العلماء المسلمين" هي الحركة الوحيدة الموجودة في العالَم الإسلامي، التي يلتقي فيها علماء السنّة وعلماء الشيعة في موقعٍ واحد ويدرسون القضايا بحجم إمكاناتهم، وبحجم تجمّعهم وبحجم الحساسيّات المحيطة بهم، يدرسون قضايا الأُمّة، وواقع الأُمّة. إنّني أرجو أن يبقى هذا التجمّع، وأقول لأصدقائنا وأحبّائنا من أعضائه: ليكن لكم الإصرار حتّى الشّهادة في أن يبقى التجمُّع.
ربّما تواجهون الكثير من المشاكل الداخليّة والخارجيّة، ربّما تواجهون الكثير من الضغوط هنا وهناك، لكن تذكَّروا أنّ هذه التّجربة تبقى، مهما كان حجمها، نقطة الضّوء في كلّ ظلام العصبيّات في واقع المسلمين. إنّني أُريد لكلّ أخواننا من علماء الشيعة والسنّة، ولا سيّما الحركيّين منهم، أن يعملوا في داخل هذا التجمُّع، لأنّنا كلّما استطعنا أنْ نجعل القاعدة أوسع، استطعنا أن نجعل الفكرة أعمق، وكلّما استطعنا أن نجمع المفكّرين والمثقّفين من المخلصين في الحركات الإسلاميّة وفي غير الحركات الإسلاميّة من الحركيّين في داخل وجدانهم، استطعنا أن نجعل من التجمُّع ساحة حوار في داخل التجمُّع العلمائيّ؛ الحوار العلمي الموضوعي الذي ينطلق فيه العلماء من الشيعة ومن السنّة ليصارحوا بعضهم البعض في كلّ شيء حتّى في ما يجرح، لأنَّنا قد نحتاج إلى أن نخرج بعض الدّماء السّوداء ليبقى الدّم صافياً نقيّاً في احمراره النقي.
لا مقدّسات في الحوار
إذا بقينا نتكاذَب ونتجامَل، فإنّنا سوف نجعل المشكلة أكثر تعقيداً. لا مقدّسات في الحوار، حاوروا بعضكم البعض في كلّ شيء، شرط أن يكون الحوار موضوعياً عقلانياً مرتكزاً إلى تقوى الله باتّجاه الهدف الكبير {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...}[آل عمران: 103]. هل نأمل ذلك؟ إنّني أرى أنَّ التجمُّع دِينٌ يُدان به، فهل لنا أن ننفتح عليه ونقوّيه ونعمِّقه ونمتدّ به، فلعلّه يمكن أن يكون بجهدنا وإخلاصنا وتعاوننا بعض السّبيل لإيجاد صورة للوحدة الإسلاميّة.
علينا، في كلّ هذه المشاريع، وفي كلّ هذه الكلمات والنظريّات عن الوحدة الإسلاميّة، أن نقدِّم نموذجاً صالِحاً لها، ولا سيّما في دائرة العلماء الذين كان للبعض منهم الدّور الأساس في إسقاطها.
دعونا نجعل هذه التّجربة القائمة تتأسَّس على الصّدق، فيكون العلماء مع الوحدة الإسلاميَّة في داخلهم وخارجهم، ولا يكون لنا شياطين نتكلَّم معهم بطريقة تختلف عمَّا نتكلَّم به مع الملائكة. فلنبقَ مع الملائكة، وإذا عشنا مع الشياطين، فلنعمل على أنْ نحوِّلهم إلى ملائكة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105]، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، متمسّكين بخطّ التوحيد ووحدة الأُمّة ووحدة السّير إلى الله.
*نصّ الكلمة التي ألقاها سماحته في مؤتمر "تحدّيات الوحدة الإسلامية" الذي نظَّمه تجمّع العلماء المسلمين في ذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بتاريخ: 29 /07/1997.