قيمة الإسلام أنّه جاء في تشريعاته ومفاهيمه من أجل أن يعمِّق للإنسان إنسانيَّته، وأن يحقّق له التّوازن بين حاجاته ومصالحه، حتى لا تطغى عليه حاجاته لتسقط مصالحه الحقيقيّة، ولهذا رأينا أنّ الإسلام يفتح للإنسان أبواب الحياة، فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه، ففي العلم اقتحم كل باب من أبوابه، فليس هناك علم محرَّم، وفي التجربة، انطلق ليكتشف الحقيقة من خلال التجربة، لأن بعض الحقائق لا تستطيع أن تكتشفها بالتأمّل. وهكذا الحال في الناحية السلوكية، فلقد أراد الله للإنسان أن يعيش مع الإنسان الآخر بسلام، فالأصل السّلام في حياة الناس مع بعضهم البعض، والحرب إنما تنطلق ضدّ الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن يصنعوا له المأساة، ولذلك فإن الحرب في الإسلام وقائيّة تارةً، ودفاعيّة تارة أخرى.
وهكذا أيضاً أراد الله للإنسان أن يحرّك أخلاقه في خطّ السلوك، لتكون له خصائصه الفردية التي تحمي له شخصيته فيما يعيشه من عناصره الذاتية، كما تحفظ له خصائصه الاجتماعية كجزء فيما يراد لعناصره الاجتماعية أن تحمي نفسها من خلال ذلك.
ولا بدّ للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش إسلامه كما أراد الله له ذلك، أن يجمع في شخصيته العناصر الفكرية التي ترتكز عليها العقيدة، والعناصر المفاهيمية التي يرتكز عليها التصور، والعناصر الحركية التي يرتكز عليها السلوك.
مفهوما القناعة والطمع
وفي هذا اللّقاء، نريد أن نتحدث عن مفهومين متقابلين في الأخلاق: مفهوم سلبيّ وآخر إيجابي. فأمّا المفهوم الإيجابي فهو (القناعة) وأما المفهوم السلبي فهو (الطمع).
ونحاول في البداية أن نعطي فكرة عن مفهوم القناعة، كيف نحدّده ونوازنه، وعن مفهوم الطمع أيضاً.
ربما يبدو لبعض الناس أنّ القناعة تعني القبول بالأمر الواقع، فإذا أراد الإنسان ـ وفق هذه النظرة ـ أن يكون قنوعاً، فعليه أن لا يفكر في تطوير أوضاعه إلى الأفضل، أو تطوير إمكاناته إلى الأقوى، أو تطوير حياته إلى الأرحب، بحيث يظلّ يعيش في نطاق واقعه مستسلماً لكلّ ما يفرضه عليه الواقع من فقر وذلّ وجهل وما إلى ذلك.
وربما يفكّر الناس أنّ القناعة ضدّ الطموح، وأنّ على الإنسان أن لا يكون طموحاً، وأن لا يفكر في تطوير واقعه وتغييره، وبعض الناس يؤكّد أنّ على الإنسان أن يكون قنوعاً، فليس من الضروري أن يأخذ بأسباب العلم إلى الذّروة، أو يكون قنوعاً في الواقع السياسي، فيقبّل الاستسلام لحكم الظالمين والمستكبرين. وكذا الحال في الواقع الاجتماعي عندما يواجه قضايا التخلّف في الواقع، فإنَّ عليه، حسب هذه النظرة ـ أن يقبل بذلك، وأن على المجتمع أن يقنع بما تركه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد أصبحت مقدَّسة، ولو كانت من باب تقديس الخطأ والجهل والتخلّف.
ولكنّ هذا المفهوم خاطئ، فقد أراد الله للإنسان أن يكون طموحاً، وأن يظلّ في حركة تصاعديّة، بحيث إذا كان في درجة ما، فعليه أن يعمل لينطلق إلى درجة أعلى، ولذلك فقد جاء في الدّعاء: "اللّهمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه"، ليؤكّد عنصر التكامل في واقع الإنسان الإيجابي كلّه. وفي الأذان نقول: (حيّ على خير العمل)، وخير العمل هو أفضله، وإذا كان مفسّراً بالصلاة، فإن الصلاة نموذج لخير العمل، ولكن الفكرة هي أن ينطلق الإنسان ليبحث عن العمل الأفضل والأحسن.
الطّموح مطلوب
لذلك، لا بدّ للإنسان من أن يكون طموحاً، فإذا استطاع أن يوسع في رزقه، فإنّ الله سبحانه وتعالى يشجعه على ذلك، وقد اعتبر العمل في سبيل تحصيل الرزق من الحلال، والتوسعة على العيال والتعطّف على الجار والقيام بالمسؤوليات الاجتماعية الإسلامية، عبادة، ففي الحديث الشّريف: "العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال" . وقد جاء أحدهم إلى إمام من أئمة أهل البيت (ع)، وأحسبه الإمام الصادق (ع)، قال له: إني هممت أن أدع السّوق، قال: "إذاً يقلّ عقلك ولا يُنتفع منك بشيء". إنك بذلك تفقد غنى في التجربة، لأن التجارة ليست مجرد عمل تحصل منه على رزق، ولكنها تجربة تحصل من خلالها على خبرة وعقل اجتماعي واقتصادي، من خلال حركتك مع النّاس في تعقيدات التجارة كلّها.
فإذا قبلت بما عندك، فسوف لن ينتفع الناس منك بشيء، ولكنّك إذا ثبتّ في التجارة وكسبت رزقك، فإنّك سوف تنفع النّاس، سواء في الحاجات التجاريَّة أو فيما تعين به النّاس في هذا المجال أو ذاك، وقد ورد في بعض أحاديث أهل البيت (ع)، أنّ الإمام الصادق (ع) سئل عن شخص، قال: أين هو؟ قالوا: هو في البيت يعبد ربَّه، قال: فمن يقوته؟ قالوا: بعض إخوانه، قال: "والله للّذي يقوته أشدّ عبادة منه" ، لأن الله لا يريد لنا أن نجلس في المسجد طوال اللّيل والنهار {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة؛ 10] {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك؛ 15]. فالإسلام لا يريد للإنسان أن يتقاعد في أيّ سنّ، بل أن يظلّ يعمل، وإن كان لكلّ مرحلة من العمر عملها، لكن أن يبقى ينتظر الموت ولا يعمل ولا يكتسب رزقاً، فإنه بذلك يعطل طاقاته، بعكس صاحب المصنع الضخم الذي قيل له: لقد أصبح لديك مال كثير يكفيك ويكفي أجيالاً من بعدك، فلماذا لا تتقاعد؟ فقال: إذا تقاعدت فماذا أعمل؟
أمَّا بالنّسبة إلى العلم، فإنّ الله أراد للإنسان أن يستزيد منه كما علّم رسوله (ص) {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْم}[طه؛ 114]، فكلّما بلغت مرحلة من العلم، فعليك أن تستزيد منه، ذلك أنّ المرء عالم ما طلب العلم، وإن طلب العلم، كما في الحديث الشريف ـ من المهد إلى اللحد.
وهكذا الحال في كلّ جهد يقوم به الإنسان، وكل طاقة يفجّرها مما يحتاجها الناس ويرتفع بها مستوى الحياة، فهي مسؤوليّة الإنسان، وربما يصل الأمر إلى حدّ الوجوب، عندما تكون الحاجة في مستوى القضايا الكبرى والحاجات الملحّة للمجتمع، فالإسلام لا يقول لك كن قنوعاً ولا تكن طموحاً، بل كن طموحاً في كلّ شيء، ولكن ليكن طموحك في خطّ طاقاتك وإمكاناتك، فعليك أن تطوّر أوضاعك وطاقاتك وطموحاتك في حجم إمكاناتك، وحاول أن تجعلها تتحرّك بطريقة وبأخرى لتوسّع حياتك وحياة الآخرين أيضاً.
الطّمع مرفوض
أمّا في الجانب السلبي، فالقناعة هي ضدّ الطمع، بمعنى أن تتحرّك لتطمح إلى أن تأخذ مالاً من دون جهد، فقد تمرّ بك ظروف معيّنة تجعل رزقك محدوداً، فالإسلام يقول لك حاول أن يكون لك غنى النفس، بأن تشعر بأنّك لا تلتفت إلى الآخرين لتجعل حاجاتك عندهم، بحيث تسقط نفسك وموقعك وموقفك من أجل تلك الحاجات، بل حاول أن تعمل وتعمل لتلبي حاجاتك من جهدك، وحتى إذا كانت حاجاتك مرتبطة بالآخرين، حاول أن تشاركهم في تحصيل حاجاتك لا أن تنحني أمامهم. اعمل معهم، لأنك بالعمل تعطي وتأخذ، وهذا لا يناقض القناعة، أمّا أن لا تعمل، وتمدّ يدك إلى الآخرين، وتجلس بطّالاً في البيت، وتتطلّع إلى ما رزق الله الآخرين من رزق، فهذا ما يرفضه الإسلام، في آيتين في القرآن في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَ}[طه؛ 131] وقوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}[التوبة؛ 55]، أي لا تتطلّع إلى الآخرين فيما أعطاهم الله، سواء كان العطاء بلاءً منه واختباراً، أو لسبب آخر، فلا تمدَّن عينيك إلى ذلك، بل مدَّها إلى طاقاتك وجهدك وظروفك والوسائل التي تملكها.
القناعة في الأحاديث
تعالوا لنتوسّع بالفكرة من خلال أحاديث أهل البيت (ع) التي رواها صاحب (أصول الكافي)، ولعلّ ارتباطنا بأهل البيت (ع) لا هو ارتباط دمعة ولا ارتباط بسمة، ولكنه ارتباط عقل وحركة وهدف كبير لا بدَّ أن نسعى إليه.
ففي الحديث عن الإمام الباقر (ع)، وكنيته (أبو جعفر)، قال أبو جعفر: "إيّاك أن تطمح بصرك إلى ما هو فوقك"، أي لا تحاول أن تتطلّع إلى ما فوقك لتتمنّاه من دون جهد، أو لتحسد غيرك على ذلك، بل انظر إلى طاقاتك. ويقول (ع): "فكثيراً ما قال الله عزّ وجلّ لنبيّه (ص): {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}، وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَ}، فإن دخلك من ذلك شيء"، ورأيت نفسك صغيراً، فصغرت نفسك عندك، وتصوّرت أنّ الله عاقبك وأهانك بذلك، وتساقطت أمام الآخرين، "فاذكر عيش رسول الله (ص)، فإنما كان قوته الشّعير، وحلواه التّمر، ووقوده السّعف إذا وجده" . فهل إنّ الله ابتلى رسوله بذلك عقوبةً وإهانةً له؟ فاعرف أنها الظّروف، فلقد عاش رسول الله (ص) في بيئة فقيرة فرضت عليه هذا الفقر، فتحرّك من خلال ما أعطاه الله من طاقات، ورضي بما عنده، وربما كان يعمل على أساس تطوير ذلك في حياته.
وعن أبي عبد الله الصّادق (ع) قال: "من رضي باليسير من المعاش، رضي الله منه باليسير من العمل" . فهذا الأمر يتّصل بعلاقة الإنسان بربّه في موقع رضا الله عليه، فإذا قبلت الظّروف التي تحيط بك من خلال ما ابتلاك الله به، فقبلت باليسير من المعاش، فإن الله يحمد لك ذلك، ويقبل منك باليسير من العمل، ولا يكلفك غير ذلك.
وعنه (ع) قال: "مكتوب في التّوراة: ابن آدم كن كيف شئت، كما تدين تدان، من رضي من الله بالقليل من الرّزق، قبل الله منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال" فلم يطمح إلى الحرام "خفّت مؤونته، وزكت مكسبته، وخرج من حدّ الفجور" ، لأن الإنسان الذي لا يرضى بالحلال وينفتح على الحرام، فإن ذلك سوف يقوده إلى الوقوع في الحرام والشّبهات.
ويقول الإمام عليّ (ع) فيما يروي عنه الإمام الصَّادق (ع): "كان أمير المؤمنين (ع) يقول: ابن آدم، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك"، فتارة تفكّر في الحصول على كفايتك بأن تأكل وتشبع فترتوي وتنام على فراش لتستريح، فأقل ما في الدنيا يكفيك، "وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك" ، لأنك ستبقى في حالة طوارئ نفسيّة ربما تدمّر واقعك الداخلي أكثر مما تعطيك من حركة في الخارج.
قصّة الفقير الذي أثرى
ويروي الإمام الصادق (ع) قصّة حدثت بين رسول الله (ص) وبين شخص جاء يطلب منه أن يعطيه، فلمّا رآه قال: "من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. فقال الرّجل ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت إنَّ رسول الله (ص) بشر فأعلمه، فأتاه، فلما رآه رسول الله (ص) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه الله، حتى فعل الرّجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب، فاستعار معولاً، ثم أتى الجبل فصعده، فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مدّ من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين (من الإبل) وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي (ص)، فأعلمه كيف جاء يسأله، وكيف سمع النبي (ص)، فقال له النبي (ص): قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه الله" . فعندما تعتمد على طاقاتك، وتفتّش عن الفرص التي يمكن من خلالها أن تجني عيشك ولو بالقليل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يغنيك ويزيدك من فضله، فنحن نعرف أنّ البعض من الشبّان يطرق هذا الباب وذاك الباب، ويطلب العون والمساعدة، وهو ليس مستعدّاً للعمل في الأعمال المتعبة كالبناء مثلاً، أو يدَّعي أنّ هذا المورد لا يكفيه، فروحيّة التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، والإحساس بالتّعب والكسل، هي التي تمنع الإنسان من أن ينفتح على الفرص التي يمكن أن يحصل على رزقه من خلالها.
وعن أبي جعفر(ع) قال: "قال رسول الله (ص): من أراد أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره" . فأنت غنيّ، ومع ذلك تقول إن فلاناً هو الذي يحلّ لي مشكلتي، في حين أنّ الله هو الغني المطلق الذي أعطى كلَّ غنيّ غناه. ثق بما عند الله، واطلب وتحرّك في الاتجاه الذي أراد لك أن تتحرّك فيه، فإنّك ستكون حينئذٍ أغنى الناس، لأنك تقطع تمنّياتك على الناس، وتنفتح على الله الذي أعطى للغنيّ غناه.
وفي دعاء الإمام زين العابدين (ع) في (الصحيفة السجاديّة): "اللّهمّ أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلّي عليك"، بعقلي وقلبي وجميع مشاعري، "ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه"، أي أنّ مفلساً يطلب من مفلس، "وضلّة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثّروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت مولاي دون كلّ مسؤول موضع مسألتي" .
وعن الإمام الصادق (ع) والباقر (ع): "من قنع بما رزقه الله، فهو من أغنى الناس" ، لأن الغنى هو غنى النفس، فعندما تشعر بالاكتفاء، فمعنى ذلك أنك أغنى من النّاس كلّهم، لأن كلاً منهم يتطلّع إلى الآخر فيشعر بالفقر أمامه، ولكنّك عندما تشعر بالفقر لله سبحانه وتعالى، فأنت بذلك تعيش غنى النفس كأفضل ما يكون الغنى.
قبح الطّمع
وفي نهاية المطاف نتحدث عن الجانب السلبي في قيمة الطمع، يقول الإمام الصادق (ع): "ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تذلّه" . فأنت قد تكون لك أمنيات وأحلام، ولكنّك لا تملك المعطيات التي تحقّق بها تلك الأمنيات والأحلام، فبدلاً من أن تصبر حتى تستطيع أن تحقّق ما يلبّيها، تحاول إذلال نفسك أمام الآخرين الذين مهما أعطوك، فإن عطاءهم لا يكون ثمناً لما تبذله من نفسك. وفي ذلك يقول الإمام عليّ (ع): "وأكرم نفسك عن كلّ دنيئة" عن كلّ رغبة وضيعة، "وإن ساقتك إلى الرغائب"، وإن حقّقت لك بعض الأرباح، "فإنَّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً" ، فربما تحصل على أكبر المبالغ، لكن ما بذلته من نفسك لا يقدَّر بثمن، مهما كان كلّ ما حصلت عليه.
وعن أبي جعفر الباقر (ع): "بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذلّه" . وعن عليّ بن الحسين (ع)؛ هذا الذي لا نعرف عنه سوى مكوثه في الخيمة في عاشوراء، في الوقت الذي قدَّم لنا ثقافة متنوّعة من خلال الصحيفة السجادية يغتني بها العقل والروح، ولو درسنا تلامذته الّذين رووا عنه، لرأينا أنّ أغلبهم قادوا حركة الفكر الإسلاميّ، في حين لا نروي عنه سوى أنّه ما وضع بيد يديه طعام ولا شراب إلا مزجه بدموعه، وحتى في ذلك، كان الإمام السجّاد (ع) يريد أن يخلِّد ويعمّق القضية الحسينيّة في نفوس الناس من خلال العاطفة.
يقول (ع): "رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي النّاس" . ويقول الصادق (ع)، وقد سأله بعض أصحابه، قلت له: "ما الّذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: الورع عن محارم الله. والذي يخرجه؟ قال: الطّمع"، لأنّ الطمع يقود الإنسان إلى ارتكاب المحرَّمات في سبيل الحصول على ما يريد، وقد ورد عن عليّ (ع): "الطمع في وثاق الذلّ" ، وورد عنه: "القناعة مال لا ينفد" ، فهي تعطيك رصيداً من الصّبر وعزّة النّفس وكرامتها.
أخلاق الإسلام
أيّها الأحبّة: الإسلام أخلاق كلّه، لأن النبي (ص) قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، فإذا أردنا أن نكون مسلمين، فعلينا أن تكون أخلاقنا أخلاق المسلمين، كما كان رسول الله (ص) الّذي سئلت بعض زوجاته عنه فقالت، هل أوجز أو أطنب؟ قالوا: أوجزي، قالت: "كان خلقه القرآن".
فاقرأوا القرآن بكلّ ما جاء به من أخلاق للإنسان بما يرفع مستوى الإنسان، لتقرأوا رسول الله (ص) في أخلاقه، فهل لنا أن نعيش أخلاق القرآن بأنفسنا، لأننا سنحشر إلى الله بأخلاقنا وأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا؟!
أيّها الأحبّة: "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل" ، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}[الانفطار؛ 19]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَ}[النّحل؛ 11]، {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيب}[الإسراء؛ 14].
والحمد لله ربّ العالمين.
* فكر وثقافة، السنة الثانية ـ 16 محرَّم 1420هـ ـ1/5/1999م، العدد(124)