كتابات
24/03/2020

في يوم المبعث علينا الالتزام بالإسلام

في يوم المبعث علينا الالتزام بالإسلام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

إنّه اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الّذي بعث الله تعالى فيه رسوله برسالته إلى الناس من أجل أن يبلّغهم رسالة الله، وليخرجهم من الظلمات إلى النّور، كما قال الله تعالى في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ}.

فقد كانت الرّسالة الإسلاميّة إشراقة في عقول النّاس التي أظلمت من خلال الخرافات التي عشّشت في داخلها، وكانت إشراقة محبّة في قلوب الناس التي حملت كلّ الحقد والعداوة والبغضاء. وأراد الله تعالى للرّسالة أن تشرق في حياة النّاس لتهديهم إلى الصّراط المستقيم. وانطلق النبيّ (ص) بالرسالة كما علّمه الله، وهو الذي كان في مدى الأربعين سنة التي سبقت إرساله بها، يعيش تأمّلاته وعبادته في غار "حراء"، ولكنّ الله تعالى لم يُنزل عليه الكتاب ويبلغه بتفاصيل الإيمان مما أمره به ونهاه عنه، ومما وجّهه إليه، إلا عندما أرسله بالرّسالة، {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا - والمراد من الرّوح، كما ورد في بعض التّفاسير، القرآن - مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

وقال الله تعالى لنبيّه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

 وانطلق النبيّ (ص) صادعاً بالرسالة، وكان يأتيه الشخص والشخصان، فيدخلون الإسلام، ثم ينطلق هذا وذاك ليهدوا غيرهم إلى الإسلام. وعاش النبي (ص) مرحلة من أصعب المراحل في مكة، حيث اضطهده المشركون هو وأصحابه، حتى اضطرّوا للهجرة إلى "الحبشة"، وكان النبي (ص) يجتمع برؤساء القبائل والعشائر ويقصدهم إلى بيوتهم عندما يأتون إلى "مكّة" في المواسم ليدعوهم إلى الله تعالى، حتى إذا استكمل دعوته، هاجر إلى المدينة، وبدأت المعاناة هناك، حيث شنّ عليه المشركون حرباً متحرّكة انطلقت في أكثر من مرحلة، بلغت القمّة في حرب "الأحزاب" التي حاول فيها المشركون القضاء على الإسلام في مهده، ولكن الله تعالى كفى المؤمنين القتال.

وتحالف اليهود مع المشركين، بعد أن كان النبيّ (ص) قد وثّق العهد معهم، ولكنّهم - كعادتهم - ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وعاش النبيّ (ص) في كل تاريخه هذا في خط الرسالة، ولكنّه في الوقت نفسه، كان يعيش الألم كلّ الألم، والإيذاء كلّ الإيذاء، حتى قال (ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، لأنه في كلّ تاريخه، كان يتلقى الصدمات على كلّ المستويات، حيث كان المشركون يحاصرون الإيمان كلّه والإسلام كلّه، وكانوا يتحركون في المناطق التي يبسطون عليها نفوذهم من أجل أن يبعدوا الناس عن الإسلام، وكانوا يخوّفونهم بما يملكون من قوّة حتى لا يدخلوا في الإسلام، حتى إذا نصر الله تعالى نبيّه وجاء فتح "مكّة"، بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

لقد أراد النبيّ (ص) - من خلال الرّسالة - أن يعمّق الإسلام في عقول النّاس، ولذلك كان يقوم في الناس بين وقت وآخر ليعلّمهم ويربيهم ويجيبهم عن كلّ أسئلتهم، كان يعيش مع الناس كأحدهم، ويعيش المحبة لكلّ الناس معه، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وكان ليّن القلب، فلا يحمل في قلبه ثقلاً على أحد، حتى الذين يعادونه ويخاصمونه، وكان ليّن اللّسان، فلم تصدر عنه أية كلمة قاسية أو عاديّة ضد كلّ الناس، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

واستطاع النبي (ص) أن يربي صفوة طيّبة من أصحابه على خطّ الإسلام كلّه، وقد تحدّث الله تعالى عن هؤلاء الذين استقاموا وواصلوا الاستقامة في الخطّ ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}. وأراد النبيّ (ص) أن يصنع للحياة مجتمعاً يقوم على المحبّة والتّسالم، فقد قال رسول الله (ص) مما روي عنه: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع يعيش النّاس فيه بسلام مع بعضهم البعض، فلا يتعدّى إنسان على إنسان بسوء في كلامه وعمله، حتى إن الله تعالى آخى بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ - وحمّلهم المسؤوليّة في أنهم إذا تنازعوا فيما بينهم، فعلى الجميع أن ينهض ويعمل على إصلاح ذات البين - فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.

لذلك، لا بدّ لنا عندما نتمثّل المجتمع المسلم كما أراده رسول الله (ص) وعمل له، أن ندرس مجتمعنا المسلم الّذي تنخر فيه العصبيات، فيعيش كلّ يوم العصبيّة الشخصية والعائلية والحزبية والقومية والعرقية، ما جعل المؤمنين يعيشون موزَّعين متفرّقين. إنّ الله أراد لنا أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الإسلام والقرآن، ولكننا تفرّقنا، فبدأ بعضنا يكفّر بعضنا الآخر، فوجدنا من المسلمين الشيعة من يكفّر المسلمين السنّة، ومن المسلمين السنّة من يكفّر المسلمين الشيعة، وبدأنا نكفّر ونضلّل بعضنا بعضاً، وبدأنا نعيش المشاكل والمنازعات والحروب، وأعداء الله من الكافرين والمستكبرين ينفذون من كل هذه الثغرات، وينصبون الحواجز بيننا من جديد.

إنّ الإسلام وحدة بيننا، إنّ شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، وإنّ الصّلاة - مهما اختلفت الاجتهادات فيها - هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، فها نحن في يوم الجمعة نصلّي لربّنا كما يصلّي كل المسلمين في العالم لربّهم في هذا اليوم، وإن اختلفنا في بعض شروط الصلاة، ولكنّ صلاتنا واحدة وقبلتنا واحدة، ونتجه إلى ربّ واحد، وننطلق من رسول واحد ومن سنّة واحدة، وإذا اختلفنا في بعض تفاصيل العقيدة والشّريعة، فإنّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ - وأنتم مسلمون تؤمنون بالله وبرسوله - فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، اقرأوا كتاب الله ماذا يقول لكم فيما تتنازعون فيه لتتوحّدوا عنده، واقرأوا ماذا يقول رسول الله لتتوحّدوا فيه، لأنّ رسول الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".

إنّ الله تعالى أرادنا أن نكون أمّة واحدة، لذلك قد نختلف فيما يختلف فيه النّاس، قد نختلف في داخل المذهب والدّين والبلد الواحد، ولكن الذين يعيشون المسؤوليّة الإسلاميّة أمام الله، هم الذين إذا اختلفوا تحاوروا ودرسوا الأمور بعقلانيّة وموضوعيّة، هذه هي الحضارة.. أن تكون إنساناً متحضّراً، يعني أنك إذا اختلفت معي واختلفت معك، تحاورني وأحاورك، وتجادلني وأجادلك، ذلك هو كلام الله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا - لأهل الكتاب، وكم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب! - آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، نسلم قلوبنا وعقولنا وحياتنا لله.

إنّ الله تعالى يقول لك: إذا كنت مخلصاً للإسلام لا لذاتك وعصبيّتك وطائفيّتك، فـ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. هل تريد أن تدعو الناس إلى الله وتقرّبهم إليه؟ كفَّ عن كلّ كلمة شاتمة ولاعنة وسابّة، وعن كلّ حقد وعداوة، افتح إنسانيّتك على إنسانيّة الإنسان الآخر، فتضع الكلمة في موضعها، وتحرّك الأسلوب الذي تربح من خلاله قلوب النّاس وعقولهم، لأنك لا تستطيع أن تغيّر عقول الناس بالقوّة، الكلمة الطيبة هي التي تغيّر العقل عندما تعرف كيف تدخل إلى العقل، والأسلوب الطيّب هو الذي يمكن أن ينفذ إلى القلب عندما يتحرّك في العناصر التي تجتذب قلوب الناس، وقد قال أمير المؤمنين (ع): "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك".

إنّ الإسلام في هذا العصر يعيش التحدّيات الكبرى على مستوى العقيدة والشّريعة والواقع، فقد برز الكفر كلّه إلى الإسلام كله، وعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وذلك بأن ندعو أوّلاً أهلنا إلى الإسلام. لا تعتبروا أنّ مهمتكم في أولادكم وأهلكم وأزواجكم مجرّد مهمة مادية، بل إنّ مهمتنا كيف ننقذ أهلنا من النار التي وقودها الناس والحجارة، ما قيمة أن تؤمّن حياة ولدك أو زوجتك أو أخيك أو قريبك في الدّنيا، ليأكل جيداً ويلبس جيداً، وعندما يلاقي ربّه، فليس له ما يأكله إلا الزقّوم، وليس له ما يشربه إلا الغسلين، وليس له ما يعيشه إلا لهب النّار، هل تحبون أولادكم؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.

في يوم المبعث، علينا أن ندعو أهلنا إلى الالتزام بالإسلام والتثقّف به، وأن نعمل على نصرة الإسلام في العالم بكلّ ما عندنا من فكر وقول وعمل، بهذا نستطيع أن نحتفل بيوم المبعث احتفالاً فاعلاً منتجاً، لأنّ الرسول (ص) غاب عنّا جسداً، ولكن لم تغب عنّا رسالته.

في يوم المبعث، وفي يوم "الإسراء والمعراج" الّذي أراد الله فيه أن يسري بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وليجمعه برسله، وليصلّي بهم في بيت المقدس - كما ورد في بعض الرّوايات - وأراد الله له أن يعرج إلى السّماء ليعرّفه كلّ آفاق السماء والأرض، من أجل أن يفتح عقله على الكون كلّه، ليتعرّف أسراره، وليعرف عظمة الله في ذلك كلّه، في هذا اليوم، ينبغي لنا أن نعيش هذا الامتداد وهذه الرّحابة في معرفة آيات الله وأسرار خلقه، لنعرف الله أكثر، ونؤمن به أكثر، ولنحمي المسجد الأقصى كما علينا أن نحمي المسجد الحرام، لأنّ ذلك هو جزء أساس من مسؤوليّاتنا، فالمسجد الأقصى هو مهبط الأنبياء، والمسجد الحرام هو المسجد الذي بناه شيخ الأنبياء، وأرسل الله تعالى فيه خاتمهم. علينا أن نحتفل بالإسلام كلّه، وأن نعمل للإسلام كلّه، وأن نتوحّد بالإسلام كلّه، ونتحاور في ما اختلفنا فيه، لا أن نتحارب ونتحاقد في خلافاتنا.

*من أرشيف خطب الجمعه الدينيّة - العام 2000.

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

إنّه اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الّذي بعث الله تعالى فيه رسوله برسالته إلى الناس من أجل أن يبلّغهم رسالة الله، وليخرجهم من الظلمات إلى النّور، كما قال الله تعالى في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ}.

فقد كانت الرّسالة الإسلاميّة إشراقة في عقول النّاس التي أظلمت من خلال الخرافات التي عشّشت في داخلها، وكانت إشراقة محبّة في قلوب الناس التي حملت كلّ الحقد والعداوة والبغضاء. وأراد الله تعالى للرّسالة أن تشرق في حياة النّاس لتهديهم إلى الصّراط المستقيم. وانطلق النبيّ (ص) بالرسالة كما علّمه الله، وهو الذي كان في مدى الأربعين سنة التي سبقت إرساله بها، يعيش تأمّلاته وعبادته في غار "حراء"، ولكنّ الله تعالى لم يُنزل عليه الكتاب ويبلغه بتفاصيل الإيمان مما أمره به ونهاه عنه، ومما وجّهه إليه، إلا عندما أرسله بالرّسالة، {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا - والمراد من الرّوح، كما ورد في بعض التّفاسير، القرآن - مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

وقال الله تعالى لنبيّه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

 وانطلق النبيّ (ص) صادعاً بالرسالة، وكان يأتيه الشخص والشخصان، فيدخلون الإسلام، ثم ينطلق هذا وذاك ليهدوا غيرهم إلى الإسلام. وعاش النبي (ص) مرحلة من أصعب المراحل في مكة، حيث اضطهده المشركون هو وأصحابه، حتى اضطرّوا للهجرة إلى "الحبشة"، وكان النبي (ص) يجتمع برؤساء القبائل والعشائر ويقصدهم إلى بيوتهم عندما يأتون إلى "مكّة" في المواسم ليدعوهم إلى الله تعالى، حتى إذا استكمل دعوته، هاجر إلى المدينة، وبدأت المعاناة هناك، حيث شنّ عليه المشركون حرباً متحرّكة انطلقت في أكثر من مرحلة، بلغت القمّة في حرب "الأحزاب" التي حاول فيها المشركون القضاء على الإسلام في مهده، ولكن الله تعالى كفى المؤمنين القتال.

وتحالف اليهود مع المشركين، بعد أن كان النبيّ (ص) قد وثّق العهد معهم، ولكنّهم - كعادتهم - ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وعاش النبيّ (ص) في كل تاريخه هذا في خط الرسالة، ولكنّه في الوقت نفسه، كان يعيش الألم كلّ الألم، والإيذاء كلّ الإيذاء، حتى قال (ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، لأنه في كلّ تاريخه، كان يتلقى الصدمات على كلّ المستويات، حيث كان المشركون يحاصرون الإيمان كلّه والإسلام كلّه، وكانوا يتحركون في المناطق التي يبسطون عليها نفوذهم من أجل أن يبعدوا الناس عن الإسلام، وكانوا يخوّفونهم بما يملكون من قوّة حتى لا يدخلوا في الإسلام، حتى إذا نصر الله تعالى نبيّه وجاء فتح "مكّة"، بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

لقد أراد النبيّ (ص) - من خلال الرّسالة - أن يعمّق الإسلام في عقول النّاس، ولذلك كان يقوم في الناس بين وقت وآخر ليعلّمهم ويربيهم ويجيبهم عن كلّ أسئلتهم، كان يعيش مع الناس كأحدهم، ويعيش المحبة لكلّ الناس معه، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وكان ليّن القلب، فلا يحمل في قلبه ثقلاً على أحد، حتى الذين يعادونه ويخاصمونه، وكان ليّن اللّسان، فلم تصدر عنه أية كلمة قاسية أو عاديّة ضد كلّ الناس، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

واستطاع النبي (ص) أن يربي صفوة طيّبة من أصحابه على خطّ الإسلام كلّه، وقد تحدّث الله تعالى عن هؤلاء الذين استقاموا وواصلوا الاستقامة في الخطّ ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}. وأراد النبيّ (ص) أن يصنع للحياة مجتمعاً يقوم على المحبّة والتّسالم، فقد قال رسول الله (ص) مما روي عنه: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع يعيش النّاس فيه بسلام مع بعضهم البعض، فلا يتعدّى إنسان على إنسان بسوء في كلامه وعمله، حتى إن الله تعالى آخى بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ - وحمّلهم المسؤوليّة في أنهم إذا تنازعوا فيما بينهم، فعلى الجميع أن ينهض ويعمل على إصلاح ذات البين - فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.

لذلك، لا بدّ لنا عندما نتمثّل المجتمع المسلم كما أراده رسول الله (ص) وعمل له، أن ندرس مجتمعنا المسلم الّذي تنخر فيه العصبيات، فيعيش كلّ يوم العصبيّة الشخصية والعائلية والحزبية والقومية والعرقية، ما جعل المؤمنين يعيشون موزَّعين متفرّقين. إنّ الله أراد لنا أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الإسلام والقرآن، ولكننا تفرّقنا، فبدأ بعضنا يكفّر بعضنا الآخر، فوجدنا من المسلمين الشيعة من يكفّر المسلمين السنّة، ومن المسلمين السنّة من يكفّر المسلمين الشيعة، وبدأنا نكفّر ونضلّل بعضنا بعضاً، وبدأنا نعيش المشاكل والمنازعات والحروب، وأعداء الله من الكافرين والمستكبرين ينفذون من كل هذه الثغرات، وينصبون الحواجز بيننا من جديد.

إنّ الإسلام وحدة بيننا، إنّ شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، وإنّ الصّلاة - مهما اختلفت الاجتهادات فيها - هي التي توحّد المسلمين وتجمعهم، فها نحن في يوم الجمعة نصلّي لربّنا كما يصلّي كل المسلمين في العالم لربّهم في هذا اليوم، وإن اختلفنا في بعض شروط الصلاة، ولكنّ صلاتنا واحدة وقبلتنا واحدة، ونتجه إلى ربّ واحد، وننطلق من رسول واحد ومن سنّة واحدة، وإذا اختلفنا في بعض تفاصيل العقيدة والشّريعة، فإنّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ - وأنتم مسلمون تؤمنون بالله وبرسوله - فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، اقرأوا كتاب الله ماذا يقول لكم فيما تتنازعون فيه لتتوحّدوا عنده، واقرأوا ماذا يقول رسول الله لتتوحّدوا فيه، لأنّ رسول الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".

إنّ الله تعالى أرادنا أن نكون أمّة واحدة، لذلك قد نختلف فيما يختلف فيه النّاس، قد نختلف في داخل المذهب والدّين والبلد الواحد، ولكن الذين يعيشون المسؤوليّة الإسلاميّة أمام الله، هم الذين إذا اختلفوا تحاوروا ودرسوا الأمور بعقلانيّة وموضوعيّة، هذه هي الحضارة.. أن تكون إنساناً متحضّراً، يعني أنك إذا اختلفت معي واختلفت معك، تحاورني وأحاورك، وتجادلني وأجادلك، ذلك هو كلام الله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا - لأهل الكتاب، وكم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب! - آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، نسلم قلوبنا وعقولنا وحياتنا لله.

إنّ الله تعالى يقول لك: إذا كنت مخلصاً للإسلام لا لذاتك وعصبيّتك وطائفيّتك، فـ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. هل تريد أن تدعو الناس إلى الله وتقرّبهم إليه؟ كفَّ عن كلّ كلمة شاتمة ولاعنة وسابّة، وعن كلّ حقد وعداوة، افتح إنسانيّتك على إنسانيّة الإنسان الآخر، فتضع الكلمة في موضعها، وتحرّك الأسلوب الذي تربح من خلاله قلوب النّاس وعقولهم، لأنك لا تستطيع أن تغيّر عقول الناس بالقوّة، الكلمة الطيبة هي التي تغيّر العقل عندما تعرف كيف تدخل إلى العقل، والأسلوب الطيّب هو الذي يمكن أن ينفذ إلى القلب عندما يتحرّك في العناصر التي تجتذب قلوب الناس، وقد قال أمير المؤمنين (ع): "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك".

إنّ الإسلام في هذا العصر يعيش التحدّيات الكبرى على مستوى العقيدة والشّريعة والواقع، فقد برز الكفر كلّه إلى الإسلام كله، وعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وذلك بأن ندعو أوّلاً أهلنا إلى الإسلام. لا تعتبروا أنّ مهمتكم في أولادكم وأهلكم وأزواجكم مجرّد مهمة مادية، بل إنّ مهمتنا كيف ننقذ أهلنا من النار التي وقودها الناس والحجارة، ما قيمة أن تؤمّن حياة ولدك أو زوجتك أو أخيك أو قريبك في الدّنيا، ليأكل جيداً ويلبس جيداً، وعندما يلاقي ربّه، فليس له ما يأكله إلا الزقّوم، وليس له ما يشربه إلا الغسلين، وليس له ما يعيشه إلا لهب النّار، هل تحبون أولادكم؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.

في يوم المبعث، علينا أن ندعو أهلنا إلى الالتزام بالإسلام والتثقّف به، وأن نعمل على نصرة الإسلام في العالم بكلّ ما عندنا من فكر وقول وعمل، بهذا نستطيع أن نحتفل بيوم المبعث احتفالاً فاعلاً منتجاً، لأنّ الرسول (ص) غاب عنّا جسداً، ولكن لم تغب عنّا رسالته.

في يوم المبعث، وفي يوم "الإسراء والمعراج" الّذي أراد الله فيه أن يسري بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وليجمعه برسله، وليصلّي بهم في بيت المقدس - كما ورد في بعض الرّوايات - وأراد الله له أن يعرج إلى السّماء ليعرّفه كلّ آفاق السماء والأرض، من أجل أن يفتح عقله على الكون كلّه، ليتعرّف أسراره، وليعرف عظمة الله في ذلك كلّه، في هذا اليوم، ينبغي لنا أن نعيش هذا الامتداد وهذه الرّحابة في معرفة آيات الله وأسرار خلقه، لنعرف الله أكثر، ونؤمن به أكثر، ولنحمي المسجد الأقصى كما علينا أن نحمي المسجد الحرام، لأنّ ذلك هو جزء أساس من مسؤوليّاتنا، فالمسجد الأقصى هو مهبط الأنبياء، والمسجد الحرام هو المسجد الذي بناه شيخ الأنبياء، وأرسل الله تعالى فيه خاتمهم. علينا أن نحتفل بالإسلام كلّه، وأن نعمل للإسلام كلّه، وأن نتوحّد بالإسلام كلّه، ونتحاور في ما اختلفنا فيه، لا أن نتحارب ونتحاقد في خلافاتنا.

*من أرشيف خطب الجمعه الدينيّة - العام 2000.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية