يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
إنّ هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكّد عدّة مسائل مهمّة:
الأولى: تأكيد واقعيّة الخصوصيّات الإنسانيّة القوميّة والعرقيّة والجغرافيّة؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأنَّ الإلغاء لا يغيّر شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعيّة، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشيّة، ما يعني أن العمل على إلغاء الخصوصيات أو طمسها في التعامل الإنساني، يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيّات في المقابل يؤدّي بدوره إلى مشاكل إضافيّة.
الثانية: إنّ الإسلام يشجّع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخليّة التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلّقة بها، ولكن شرط أن لا تتحوَّل تلك المشاركة إلى عقدة عصبيّة تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخطّ الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانيّة وتتحرّك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كلّ فئة من الناس عن الّذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) حول العصبيّة، حيث قال: "إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"[الكافي، ج: 3، ص: 308، حديث: 7].
الثالثة: إنّ تنوّع الخصوصيات الإنسانيّة قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كلّ شعب حاجةً للشعب الآخر، من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتيّة ظروفه وأوضاعه، وليقدّم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتمّ التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فيَنتُج التقاربُ والتلاقي اللّذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانيّة على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني.
إنّ التعارف يمثّل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطّط له من مشاريع، أو يتطلّع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفيّة على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثمّ على أسس التعاون المتنوّع معه.. ونستوحي من ذلك، أنّ الإسلام لا يضع حاجزاً بين النّاس في كلّ مواقع اللّقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى, وقد طرح الكلمة السّواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[آل عمران: 64]، كما طرح الجدال بالّتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَ?هُنَا وَإِلَ?هُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدّعوة في الإسلام: {ادْعُ إِلَى? سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، ما يوحي بأنّ الآخر المختلف لا يمثّل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثّل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطّاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خطّ مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرّك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة.
في هذا المجال، نلاحظ أنّ الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التّعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.
وقد نلتقي في هذا الخطّ ـ المنهج ـ بالحديث الشّريف: "اطلبوا العلم ولو في الصّين"، حيث يدعو المسلمين في إيحاءاته الواسعة، إلى الاستفادة من الآخرين الذين قد نختلف معهم في العقيدة، ولكنهم يملكون علماً نحتاج إليه، فنتعارف معهم للحصول عليه، ونتمثّل ذلك في كلمة الإمام عليّ (ع) في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: "خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج"، "الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق" [قصار الحكم / 79-80].
وفي ضوء ذلك كلّه، يمكن تلخيص هذه الفكرة بتأكيد ثقافة التعايش الداخلي في اللقاء على واقع الوفاق، والحوار في مواقع الخلاف في الخصوصيات المختلفة في المتفرّقات الجزئية، وفي الانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم التي تركز على الفهم المتبادل الذي يجعلنا نفهم وجهة نظره، كما هو في دائرته الفكرية، وفي الجدال معه حول الخلافات العامّة والخاصة بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيّته التي تفتح عقله وقلبه، وهو ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بالتي هي أحسن.
*من أرشيف حوارات فكريّة - العام 2004.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
إنّ هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكّد عدّة مسائل مهمّة:
الأولى: تأكيد واقعيّة الخصوصيّات الإنسانيّة القوميّة والعرقيّة والجغرافيّة؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأنَّ الإلغاء لا يغيّر شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعيّة، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشيّة، ما يعني أن العمل على إلغاء الخصوصيات أو طمسها في التعامل الإنساني، يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيّات في المقابل يؤدّي بدوره إلى مشاكل إضافيّة.
الثانية: إنّ الإسلام يشجّع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخليّة التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلّقة بها، ولكن شرط أن لا تتحوَّل تلك المشاركة إلى عقدة عصبيّة تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخطّ الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانيّة وتتحرّك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كلّ فئة من الناس عن الّذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) حول العصبيّة، حيث قال: "إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"[الكافي، ج: 3، ص: 308، حديث: 7].
الثالثة: إنّ تنوّع الخصوصيات الإنسانيّة قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كلّ شعب حاجةً للشعب الآخر، من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتيّة ظروفه وأوضاعه، وليقدّم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتمّ التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فيَنتُج التقاربُ والتلاقي اللّذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانيّة على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني.
إنّ التعارف يمثّل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطّط له من مشاريع، أو يتطلّع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفيّة على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثمّ على أسس التعاون المتنوّع معه.. ونستوحي من ذلك، أنّ الإسلام لا يضع حاجزاً بين النّاس في كلّ مواقع اللّقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى, وقد طرح الكلمة السّواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[آل عمران: 64]، كما طرح الجدال بالّتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَ?هُنَا وَإِلَ?هُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدّعوة في الإسلام: {ادْعُ إِلَى? سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، ما يوحي بأنّ الآخر المختلف لا يمثّل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثّل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطّاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خطّ مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرّك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة.
في هذا المجال، نلاحظ أنّ الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التّعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.
وقد نلتقي في هذا الخطّ ـ المنهج ـ بالحديث الشّريف: "اطلبوا العلم ولو في الصّين"، حيث يدعو المسلمين في إيحاءاته الواسعة، إلى الاستفادة من الآخرين الذين قد نختلف معهم في العقيدة، ولكنهم يملكون علماً نحتاج إليه، فنتعارف معهم للحصول عليه، ونتمثّل ذلك في كلمة الإمام عليّ (ع) في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: "خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج"، "الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق" [قصار الحكم / 79-80].
وفي ضوء ذلك كلّه، يمكن تلخيص هذه الفكرة بتأكيد ثقافة التعايش الداخلي في اللقاء على واقع الوفاق، والحوار في مواقع الخلاف في الخصوصيات المختلفة في المتفرّقات الجزئية، وفي الانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم التي تركز على الفهم المتبادل الذي يجعلنا نفهم وجهة نظره، كما هو في دائرته الفكرية، وفي الجدال معه حول الخلافات العامّة والخاصة بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيّته التي تفتح عقله وقلبه، وهو ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بالتي هي أحسن.
*من أرشيف حوارات فكريّة - العام 2004.