{وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}.
ويبقى الحديث عن الذين سلكوا طريق الضّلال، بعد أن فتح الله لهم أبواب الهدى، فلم يدخلوها، فأضلّهم الله، بأن أسلمهم لما اختاروه من الضّلالة عندما التزموا بولاية غيره، وبعبادة الآلهة التي يزعمونها.. ورفع عنهم ولايته، فضلّوا سواء الطريق، وواجهوا الحقيقة التي تفرض سقوط ولاية كلّ شخصٍ غير الله، في النّصرة والرّعاية، ووقفوا وجهاً لوجه أمام المصير الأسود في عذاب جهنّم {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} الذي ينتظرهم ليعيشوا الخلود معه {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، في تساؤلٍ مريرٍ يحاول أن ينفذ إلى بعض الثغرات التي تفتح لهم مجالاً للهروب..
وربما كان هذا التساؤل منطلقاً من حالتهم النفسية الضاغطة، التي تطلب بعض التنفيس عن الضغط الداخلي، في ما يشبه التمنيات المستحيلة، وهنا يبرز مشهد هؤلاء الذليل في رعبهم وفزعهم وانسحاقهم وحيرتهم أمام المصير المحتوم {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}، أي على النار. فها هم في هذا الموقف يقفون في مقامهم لتستعرضهم النّار، من دون حول وقوّة، لتأكلهم وتلتهمهم بعد ذلك، تماماً كما يقف المحكوم بالإعدام أمام أدوات الموت، فتتحوّل النار، في جوّ الآية التعبيري، إلى كائنٍ حيٍّ قويٍّ يستعرض الظالمين في عمليّة تحديدٍ للخيارات التي يتّخذها ضدهم، وهم لا يستطيعون تحديد أيّ خيارٍ للردّ {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} الذي يعيشون فيه الانسحاق والسقوط أمام المصير المحتوم، بدلاً من أن يكونوا خاشعين لله من خلال التزامهم بطاعته في الدنيا، وفي موقفهم أمامه يوم القيامة، حيث يكون الخشوع الروحيّ انفتاحاً على ما ينتظرهم من رضوانه ونعيمه الدائم في جنّته، {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} لا يملكون فتح عيونهم ليحدّقوا بها بنظرةٍ واسعةٍ مملوءةٍ بالمشهد الّذي يواجههم، لأنهم لا يطيقون تصوّر ما توحي به من رعب وفزع، فيسترقون النظر استراقاً حبّاً بمعرفة ما فيها، ويغضون الطرف هرباً منها ولو بعض الشّيء.
وهنا يقف المؤمنون في مواجهة هؤلاء الظّالمين في نظرةٍ تقييميّة لموازين الخسارة التي كان يدّعي هؤلاء في الدّنيا أنها لصالحهم، فالمؤمنون في نظرهم ـ أي الكافرين ـ كانوا قد خسروا فرص التمتع بالملذات والشهوات التي ربحوها عندما كانوا يمسكون بزمام الدنيا بكلّ أوضاعها الحسية.
{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عندما فقدوا كلّ شيء، حتى راحة الموت، التي هي راحة سلبيّة، وواجهوا الخلود في عذاب جهنّم التي لا يذوقون فيها إلا ما خبث من الطعام والشّراب، ويتحملون فيها أشدّ ألوان العقاب، فلا مجال لأية راحةٍ أو لذّةٍ أو شهوةٍ أو جاهٍ أو ما إلى ذلك مما يستمتع به النّاس في الجانب المادي والمعنوي من الحياة، بل الأمر ـ في ذلك ـ على العكس.
وتلك هي خسارة المصير التي لا مجال فيها لأيّ تعويض مستقبليٍّ بأيّ ربحٍ جديد، بينما تمثّل خسارة الدنيا في مقابل ربح الآخرة حالةً طارئةً من حالات الخسارة التي لا تمثّل شيئاً أمام ما ينتظر الإنسان من الرّبح.. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه عندما يريد أن يدخل في حسابات الربح والخسارة، فلا يفكّر في الربح الطارئ الزّائل، ليوجّه طموحاته نحوه، ولا يفكّر في الخسارة المحدودة ليسقط أمامها في مواقفه، بل يفكّر في الربح الدائم كطموحٍ كبيرٍ، ويحذّر من الخسارة الدائمة كمشكلةٍ كبيرة.. وذلك ـ في نظر المؤمن ـ هو ربح الآخرة وخسارتها، ولا سيّما إذا كانت المسألة لا تختصّ به ـ وحده ـ بل تشمل أهله الذين يعيش كلّ مشاكل الحياة ومتاعبها وتضحياتها من أجلهم، ما يجعل خسارتهم خسارة مضاعفة بالنّسبة إليه عندما تضاف إلى خسارة نفسه.
{أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، فذلك هو نهاية المطاف ومصير الكافرين الظالمين في الحياة {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ}، لأنه لا وليّ غير الله في ما تعنيه كلمة الولاية الفعليّة من القدرة على النصرة من موقع القوّة الواسعة الشاملة التي تتيح للوليّ أن يحقّق ما يريده من نصرة مواليه، فالله هو وحده الذي يملك القوّة المطلقة، فلا قوّة إلا له، ولا قوّة لأحدٍ إلا منه. {وَمَن يُضْلِلِ اللهُ} فيتركه لنفسه، بعد اختياره للكفر والضّلال، ويهمل أمره، فلا يمنحه الهدآية بعد ذلك {فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} إلى السعادة التي يسهِّل الله الطريق إليها من خلال هدايته، في فطرة الإنسان ووجدانه، وفي وحيه الذي أنزله إليه ليخرجه من الظّلمات إلى النّور، وفي ألطافه التي يفيض بها عليه.
* من كتاب "تفسير من وحي القرآن".

{وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}.
ويبقى الحديث عن الذين سلكوا طريق الضّلال، بعد أن فتح الله لهم أبواب الهدى، فلم يدخلوها، فأضلّهم الله، بأن أسلمهم لما اختاروه من الضّلالة عندما التزموا بولاية غيره، وبعبادة الآلهة التي يزعمونها.. ورفع عنهم ولايته، فضلّوا سواء الطريق، وواجهوا الحقيقة التي تفرض سقوط ولاية كلّ شخصٍ غير الله، في النّصرة والرّعاية، ووقفوا وجهاً لوجه أمام المصير الأسود في عذاب جهنّم {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} الذي ينتظرهم ليعيشوا الخلود معه {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، في تساؤلٍ مريرٍ يحاول أن ينفذ إلى بعض الثغرات التي تفتح لهم مجالاً للهروب..
وربما كان هذا التساؤل منطلقاً من حالتهم النفسية الضاغطة، التي تطلب بعض التنفيس عن الضغط الداخلي، في ما يشبه التمنيات المستحيلة، وهنا يبرز مشهد هؤلاء الذليل في رعبهم وفزعهم وانسحاقهم وحيرتهم أمام المصير المحتوم {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}، أي على النار. فها هم في هذا الموقف يقفون في مقامهم لتستعرضهم النّار، من دون حول وقوّة، لتأكلهم وتلتهمهم بعد ذلك، تماماً كما يقف المحكوم بالإعدام أمام أدوات الموت، فتتحوّل النار، في جوّ الآية التعبيري، إلى كائنٍ حيٍّ قويٍّ يستعرض الظالمين في عمليّة تحديدٍ للخيارات التي يتّخذها ضدهم، وهم لا يستطيعون تحديد أيّ خيارٍ للردّ {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} الذي يعيشون فيه الانسحاق والسقوط أمام المصير المحتوم، بدلاً من أن يكونوا خاشعين لله من خلال التزامهم بطاعته في الدنيا، وفي موقفهم أمامه يوم القيامة، حيث يكون الخشوع الروحيّ انفتاحاً على ما ينتظرهم من رضوانه ونعيمه الدائم في جنّته، {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} لا يملكون فتح عيونهم ليحدّقوا بها بنظرةٍ واسعةٍ مملوءةٍ بالمشهد الّذي يواجههم، لأنهم لا يطيقون تصوّر ما توحي به من رعب وفزع، فيسترقون النظر استراقاً حبّاً بمعرفة ما فيها، ويغضون الطرف هرباً منها ولو بعض الشّيء.
وهنا يقف المؤمنون في مواجهة هؤلاء الظّالمين في نظرةٍ تقييميّة لموازين الخسارة التي كان يدّعي هؤلاء في الدّنيا أنها لصالحهم، فالمؤمنون في نظرهم ـ أي الكافرين ـ كانوا قد خسروا فرص التمتع بالملذات والشهوات التي ربحوها عندما كانوا يمسكون بزمام الدنيا بكلّ أوضاعها الحسية.
{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عندما فقدوا كلّ شيء، حتى راحة الموت، التي هي راحة سلبيّة، وواجهوا الخلود في عذاب جهنّم التي لا يذوقون فيها إلا ما خبث من الطعام والشّراب، ويتحملون فيها أشدّ ألوان العقاب، فلا مجال لأية راحةٍ أو لذّةٍ أو شهوةٍ أو جاهٍ أو ما إلى ذلك مما يستمتع به النّاس في الجانب المادي والمعنوي من الحياة، بل الأمر ـ في ذلك ـ على العكس.
وتلك هي خسارة المصير التي لا مجال فيها لأيّ تعويض مستقبليٍّ بأيّ ربحٍ جديد، بينما تمثّل خسارة الدنيا في مقابل ربح الآخرة حالةً طارئةً من حالات الخسارة التي لا تمثّل شيئاً أمام ما ينتظر الإنسان من الرّبح.. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه عندما يريد أن يدخل في حسابات الربح والخسارة، فلا يفكّر في الربح الطارئ الزّائل، ليوجّه طموحاته نحوه، ولا يفكّر في الخسارة المحدودة ليسقط أمامها في مواقفه، بل يفكّر في الربح الدائم كطموحٍ كبيرٍ، ويحذّر من الخسارة الدائمة كمشكلةٍ كبيرة.. وذلك ـ في نظر المؤمن ـ هو ربح الآخرة وخسارتها، ولا سيّما إذا كانت المسألة لا تختصّ به ـ وحده ـ بل تشمل أهله الذين يعيش كلّ مشاكل الحياة ومتاعبها وتضحياتها من أجلهم، ما يجعل خسارتهم خسارة مضاعفة بالنّسبة إليه عندما تضاف إلى خسارة نفسه.
{أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، فذلك هو نهاية المطاف ومصير الكافرين الظالمين في الحياة {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ}، لأنه لا وليّ غير الله في ما تعنيه كلمة الولاية الفعليّة من القدرة على النصرة من موقع القوّة الواسعة الشاملة التي تتيح للوليّ أن يحقّق ما يريده من نصرة مواليه، فالله هو وحده الذي يملك القوّة المطلقة، فلا قوّة إلا له، ولا قوّة لأحدٍ إلا منه. {وَمَن يُضْلِلِ اللهُ} فيتركه لنفسه، بعد اختياره للكفر والضّلال، ويهمل أمره، فلا يمنحه الهدآية بعد ذلك {فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} إلى السعادة التي يسهِّل الله الطريق إليها من خلال هدايته، في فطرة الإنسان ووجدانه، وفي وحيه الذي أنزله إليه ليخرجه من الظّلمات إلى النّور، وفي ألطافه التي يفيض بها عليه.
* من كتاب "تفسير من وحي القرآن".