إنَّ الاتجاه الواقعي هو الذي يرسم للإنسان حياته من خلال واقعه، ويتعامل معه في إطار ظروفها الموضوعية، ونحن هنا من أجل أن نتلمَّس هذا الاتجاه في نظرة الإسلام إلى الإنسان، وإلى الحياة، وإلى التشريع.
النظرة الواقعية للإنسان في الإسلام
في نظرة الإسلام للإنسان، نجدُ الواقعية تنطلق من تأكيده بشريته، التي ترافقه في جميع مراحل حياته التي قد تتصاعد في قمة السموّ حتى تبلغ درجة النبوة، وتنحدر إلى أقصى درجات الانحطاط، حتى تقترب من درجة الشيطان... فهو، في كلا الحالتين، البشر الذي يجلس على القمة منتصراً على عوامل الضعف، أو الذي يهوي في الهاوية مستسلماً لنوازع الشر.
ولذا، جاءت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم، لتؤكد بشرية النبي أمام الذين يفترضون فيه صفةً أخرى غير هذه الصفة، أو يطلبون منه عملاً فوق قدرة البشر، فقد حدَّثنا القرآن الكريم عن صفة النبي ـ أيِّ نبي كان ـ أنه يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويفرح، ويحزن، ويتألم، وتتمثل فيه مواطن قوة الإنسان في حياته العامة، كما تتمثل فيه مواطن الضعف التي تظل في إطار البشرية، دون أن تنحرف به إلى ما يتنافى مع خطِّ النبوة أو قداستها.
وبذلك، استطاع أن يعيش آلام البشر ومشاكلهم، فيحيا معهم ويعالج قضاياهم من خلال ظروفهم التي يفهمها فهماً جيداً من خلال الطبيعة البشرية المتمثلة فيه.
إنَّ فكرة وجود الملاك مع النبي، والتي كانت تراود أفكار الناس الذين اعترضوا على فكرة أن النبي من البشر، أو الذي ينطلق بالرسالة وحده، دون أن يكون معه ملك منـزل من السماء؛ هذه الفكرة المطروحة آنذاك، عالجها القرآن بشكل حاسم، إذ وضع القضية في إطارها الطبيعي الذي يقرر ـ بوضوح ـ أن الله لو شاء أن ينـزل ملكاً يرافق النبي، لوجب أن تكون له خصائص البشر، ليكون صالحاً لمركز النبوّة، أو لتحقيق الفائدة العملية من مواكبته للنبي.
قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[1]، {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}[2]. فقد رأينا أن «البشرية» لا تنفصل عن كيان «الإنسان»، حتى في إطار اتصاله بالله عن طريق الوحي، وانفصاله عن الناس بارتباطه المباشر بكلمات الله، فلا يتحوَّل في نظر الناس إلى إله أو نصف إله، بل هو، بالرغم من خصائصه الكبيرة، بشر يوحى إليه، ولا يعلم الغيب إلا بمقدار ما يلقيه إليه الله من وحيه، ولا يستطيع اجتراح المعجزات إلا بقدرة الله، وفي إطار محدود، ولذا فهو لا يستجيب للتحديات التي تقترح عليه ما شاءت من اقتراحات لا تنطلق من الحاجة إلى الإقناع، بل تنطلق من مواجهة الموقف بالتحدي لمجرد التحدي:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(الكهف/110)، {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً}[3]، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}[4].
تلك هي حالة الإنسان البشر في جانب السموّ حتى القمة، أما الإنسان الذي يهوي إلى هاوية الخطيئة، كنتيجة لاستسلامه لنقاط الضعف، فإنه لا يتحوَّل إلى شيطان تمنعه شيطانيته من العودة إلى رحاب إنسانيته، بل يبقى إنساناً خاطئاً يمكنه أن يعمل على تصحيح خطئه، لأن الخطيئة ليست ذاتية له، بل هي أمر طارئ يعرض له من خلال مواجهته حالات الضعف بإرادة ضعيفة، ولذا، فإنه يظل في الطريق إلى الله، ليتعلق به في حال التوبة، ويرتفع ـ من خلال ذلك ـ من جديد إلى السفح الصاعد أبداً نحو القمة، في عملية عودة إلى قمة البشرية المنطلقة أبداً إلى الله، وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان، فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصلية مفروضة عليه، تبتعد به عن مستوى القمة، ولا تدعه يرتفع ـ مهما سما ـ إلى المستوى الذي ينفصل فيه عن عبوديته، ليتخذ لنفسه صفة الإله.
فالعقيدة الإسلامية تجعل الإنسان يتطلع إلى الله وهو في قمة مجده، ليشعر بضآلة هذا المجد أمام مجد الله، كما توجهه إلى أن يتطلع إلى الله وهو في أشد حالات الانحطاط، ليعرف كيف يمكن للخطيئة أن تذوب أمام غفران الله، لينطلق ـ من جديد ـ في السير مع نفسه في درب القمة إلى الله.
إنها الواقعية التي تنظر إلى الإنسان على طبيعته؛ كائناً يعيش بالرجاء إلى حدٍّ ما، لئلا يقع في قبضة الغرور، ويخلد إلى الخوف إلى حد ما، لئلا يقع في قبضة اليأس.
القرآن مع فكرة «البشرية» وجهاً لوجه
لقد درس القرآن بشريّة الإنسان، في حالات الاعتدال وفي حالات الانحراف، فأثار في حديثه عن ذلك، نقاط الضعف الموجودة لديه، المنطلقة من بشريته، ولكن من حيث هي قابلية واستعداد، ولذا فإنها لا تفقده حرية الاختيار في حشد نوازع القوة وعواملها، التي يمكن لبشريته أن تأخذ بها وتسير معها في عملية نمو وتكامل، لأنه يملك قابليّة القوة كما يملك قابلية الضعف، ولكل منهما مؤثّرات ومحرّكات فيما حوله من عوامل الهدى ونوازع الضلال، فحاول أن يثير لديه الشعور بضرورة التغلب على نقاط الضعف، بالتركيز على مؤثرات القوة، من الإيمان بالله في جانب، وإبراز الصورة المضيئة في الإنسان القويّ الذي ينتصر على ضعفه، في مواجهة الصورة السوداء التي ينهار فيها الإنسان أمام رغبات نفسه الأمّارة بالسوء من جانب آخر، وبالأساليب الرائعة في التشريع التي حاول القرآن من خلالها أن يعالج حالة الرغبة، بإغلاق بعض النوافذ من جهة، مع فتح نوافذ أخرى تكفل لها الانفتاح من جانب ثالث.
وخلق الإنسان ضعيفاً!
فنراه يتحدث عن ضعف الإنسان أمام رغباته، فلا يتركه في أسر الرغبة أو ضغط الشهوة، بل يطلق للشهوة مجالها وللرغبة أميالها، في عملية تنظيم دقيق بين الحاجة والواجب.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[5].
وبهذا، انسجم الإسلام مع الواقع، فاحترم نوازع الضعف لدى الإنسان، ولم يطلب منه إلغاءَها وتجميدها تجميداً تاماً، بل هيأ له مجال التعامل معها على أساس إيجاد الجو الذي تتنفس فيه دون أن تفقد الروح ـ معه ـ طهارتها، أو ينهار ـ معها ـ الإنسان في شخصيته.
وكان الإنسان عجولاً!
وهكذا، ينطلق القرآن في كلِّ حالة ليصوِّر الانحراف، باعتباره حالةً طبيعيةً من حالات الإنسان على أساس النموّ غير السليم لبعض خصائصه. وهو يتحدَّث عن حالةِ العجلة التي يفسِّر فيها دعاءه للشر، واستعجاله للعقاب، واستباقه للأمور قبل أن تتكامل، دون النظر إلى نتائج ذلك أو البحث في طبيعته.
قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}[6]، {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}[7]، {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[8]. فقد تجسَّدت حالة العجلة في دعاء الإنسان واستعجاله للشر، دون التفات منه إلى طبيعة الموقف ومدى إمكانية انفجاره في غير مصلحة الإنسان، بل هي الحالة النفسية التي تجعل الإنسان ينطلق من الشعور باللحظة الحاضرة من غير مراعاة للمستقبل، فيهزأ بالوعيد دون تبصّر، ظناً منه أنه غير واقعي، من دون أن يفكر في مصدر القوة التي توعّدت، وطبيعة الأسباب التي هيأت للوعيد. وتحاول الآيات أن توحي له بأنه لو أعطى نفسه فرصة التفكير، ورجع إلى منطلقات الإيمان التي تمنحه فرصة التأمل والتفكير، لما استعجل ما استعجله وسخر ممّا سخر منه.
الإنسان أمام الشدَّة ولرخاء
إننا نرى القرآن في أكثر من آية، يصور لنا حالة الإنسان أمام الخطر الداهم والشدائد والأهوال التي تجعله يتجه إلى الله بقلبه وروحه، مبتهلاً متضرعاً راجياً منه أن ينقذه من الشدة والهول والخطر العظيم، معطياً ـ على نفسه ـ العهد الكبير لله في تصحيح انحرافه وإصلاح حاله، فإذا استجاب الله دعاءه، رجع إلى حالته، ونسي ما كان يدعو إليه. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[9].
وتصوِّره لنا بعض الآيات، في حالات تبدّل أوضاعه من فقر إلى غنى أو بالعكس، كيف ينطلق بحالة انفعالية لا ترتكز على أساس متين: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}[10].
إنها قصة اللحظة الحاضرة التي تتحكَّم بتصرفات الإنسان وأعماله، وتوجه انفعالاته ومشاعره، فإذا غابت عنه استسلم للحظة جديدة تعيش في جو جديد.
نوازع الضّعف أمام مواطن القوّة
ونحن نعرف ـ من هذا العرض كله ـ أنَّ الإسلام يتعامل مع الإنسان على أساس وجود نقاط الضعف عنده، واعتبارها حالةً طبيعية ناتجةً من تكوينه البشري عندما يلتقي بآلام الحياة ومشاكلها، ولكنه لا يراها معقَّدة بالمستوى الذي يسقط معها الإنسان عن قدرته على الحركة بحرية واختيار، بل يحاول أن يثير لدى الإنسان الشعور العملي بالجانب الإيجابي منها، وبالأسلوب الذي يفجِّر فيه طاقة المقاومة عندما يضع الموقف في إطار الاختبار والابتلاء والامتحان، الذي تتجلى فيه النفوس القوية بإيمانها أمام النفوس الضعيفة، تبعاً للموقف الذي يقفه الإنسان من ذلك كله. يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[11].
فالقضية كلها قضية فتنة يختبر فيها الإنسان قدرته على الوقوف مع مبادئه ضد شهواته، ومع إيمانه ضد أطماعه، ثم لا يترك القضية تتجمد في هذا الموقف، بل يحاول في أكثر من آية أن يوحي له بقيمة الثبات والصبر والصمود أمام نوازع النفس وإغراءات الرغبة، ويعرّفه ما أعد الله للصّابرين من ثواب ورضوان ومغفرة ونصر كبير وفتح قريب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[12]، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[13].
وهكذا نشعر بالجانب البشري للإنسان يخطو مع نوازع الضعف تارةً، ولكنه لا يسمح لها أن تصرعه، بل يحاول أن يسرع للّحاق بمواطن القوة ليثيرها في نفسه، ويتعامل معها في حياته، من أجل أن يسير في طريق الفلاح والنجاح...
وتتنوَّع الأحاديث في القرآن الكريم عن نجاح التجربة في هذا الاتجاه، فيما يحدّثنا به عن المؤمنين الذين أفلحوا وانسجموا مع خطِّ الإيمان وجاهدوا بأنفسهم، وعن المتقين الذين استطاعوا أن يتجاوزوا خطأ الغفلة بيقظة الإيمان.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[14]،{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[15].
كل ذلك بطريقة واقعية تواجه النفس بالعلاج تارةً، وبالاستجابة لبعض نوازعها تارة أخرى، وبالوقوف في وجهها بأسلوب مرن متحرك مرة ثالثة.
وفي ذلك كله، تبقى رحلة الإنسان مع غرائزه وشهواته وكلِّ نقاط الضعف لديه، رحلة صراع واقعية، لا تتنكّر للواقع، ولا تغرق في أوحاله، بل تنتصر تارةً لتفلح وتفوز، وتنهزم أخرى لتخيب وتخسر. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[16].
المفهوم الإسلامي للحياة
تختلف النظرة إلى الحياة تبعاً لاختلاف النظرة إلى ما وراء الحياة، فإذا رفضنا وجود حياة أخرى غير هذه الحياة التي نحياها، فإننا نواجه أهدافاً تنبثق من طبيعة هذا الكون الذي نعيش فيه، باعتبار هذه الحياة الفرصة التي لن تتكرر أو تتجدد، ولذا، فإن الطيبات والشهوات تمثل القيمة الكبرى في وجود الإنسان وتفكيره، فهي النعيم الكبير، بينما يمثل الحرمان الجحيم الأكبر في حياته، لأنه يجسّد العذاب النفسيّ والجسديّ الذي يعيشه الإنسان في كلّ لحظة من لحظات الحرمان.
الدنيا دار المسؤولية والعمل، والآخرة دار نتائج المسؤوليّة، ولا بد من أن يقاس التشريع بمقياس هذه النظرة
وأما عندما نؤمن بوجود حياةٍ أخرى، فالموقف يختلف، لأن اللذة لا تمثل قيمة كبرى، كما أن الألم لن يكون ضد هذه القيمة، بل القضية تكون نسبية... فإذا كانت هناك حياة أخرى تشتمل على لذة أكبر أو حرمان أكبر، فإن الحرمان هنا من أجل اللذة الكبرى، لا يُعتَبَرُ جحيماً وعذاباً، كما أن اللذة التي تستتبع الحرمان الأبدي، لن تكون نعيماً وسروراً... تماماً كما هو الحال في الحياة نفسها، عندما يتعرض الإنسان لحالة حرمان طارئة في إطار العمل من أجل المستقبل الكبير، فإنه لن يعتبر ذلك حرماناً إذا استطاع التعويض عنه بالهدف الكبير، والعكس هو الصحيح، في الطرف المقابل.
وفي ضوء هذا، نحدِّد واقعية النظرة الإسلامية للحياة، فقد انطلقت الفكرة الدينية من وجود حياتين للإنسان ولكلٍّ منهما مهمة، فالدنيا دار المسؤولية والعمل، والآخرة دار نتائج المسؤوليّة، فلا بد من أن يقاس التشريع، أو المفهوم العام، بمقياس هذه النظرة.
ولن نحاول استخدام كلمتي "المادة" و"الروح" في معالجتنا للفكرة، لأننا نعتبر أن هاتين الكلمتين، بما لهما من مدلول فلسفي، ليستا من الألفاظ القرآنية التي تحدثت عن الفكرة، بل نستخدم كلمتي الدنيا والآخرة، فالدنيا ـ في القرآن الكريم ـ تمثل الحياة التي نحياها، بما فيها من متع ولذائذ وأموال وعلاقات.. أما الآخرة، فإنها تمثل القيم التي تحكم هذه المتع واللذائذ والعلاقات، وتنظّمها في نطاق مخصوص، وإنما هي من أمر الآخرة، باعتبارها تمثل الإطار الذي تعيش فيه هذه الأوضاع، والأهداف التي تتجه نحوها، الأمر الذي يجعل الإنسان يواجه نوعاً من الحرمان على أساس رضا الله.
وفي ضوء هذا، نستطيع أن نقرر أن الإسلام لم يواجه انفصالاً في العمل بين الدنيا والآخرة، فقد أعطى الإنسان نصيبه من الدنيا بكل ما تمثله من حاجات حسية ومعنوية، وطلب منه ـ إلى جانب ذلك ـ أن يراعي القيم التي وضعها الإسلام في حياته، وأصبحت تمثل الحدَّ الفاصل بين التقييد والإطلاق، أو الفوضى والتنظيم، كأساس من أسس تنظيم الواقع وعلاقة الإنسان به.
ولعلَّ أبلغ آية تصوِّر لنا النظرة الإسلامية العامة، في هذا المجال، قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[17]. فهي تركز على الهدف في ما يملكه الإنسان من أشياء، وفي ما يمارسه من أعمال، ولكن على أساس مراعاة التوازن بين طبيعة الهدف وطبيعة الواقع، فلا يستغرق الإنسان في جو القيمة، بالشكل الذي يغفل فيه عن حياته وعن واقعه، كما يفعله بعض المتصوفة، بل بالطريقة التي يحفظ فيها نصيبه من الدنيا. ولعل التركيز على المسؤولية تجاه الآخرين بالإحسان إليهم، والمسؤولية تجاه الكون بترك الفساد في الأرض، يرسم الخط العريض للقيمة التي تحدد للإنسان خط الدنيا وخط الآخرة عندما يلتقيان في طريق واحد، كما يوضح لنا الخط الذي ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، فإذا استغرق الإنسان في الدنيا حتى يتحوّل إلى إنسان أناني يفكر بنفسه، ولا يهتم بالآخرين وبحاجتهم إليه، فلا يتعاطف معهم في شيء، أو يستسلم لنـزواته الذاتية التي تجعله خاضعاً لنوازع الفساد والإفساد، فإنه يقف في الخط المقابل لخط الآخرة.
أما إذا استغرق في الآخرة ـ القيمة ـ الهدف، فأهمل حياته وترك نصيبه من الدنيا، أو عاش في سكراته الصوفية الحالمة المغرقة في أجواء الخيال، فإنه يقف في الخط البعيد عن خط الدنيا الواقعية التي يريدها الإسلام للإنسان في الحياة. وربما نفهم هذه الفكرة من الآية الكريمة، التي تصور لنا النموذج الذي يطلب الدنيا، فيقتصر على لذّاتها وشهواتها، لأنها ـ في نطاقها الخاص ـ لا تعني إلا ذلك. أما النموذج الآخر الذي يطلب الآخرة، فإنه يطلب الدنيا والآخرة على أساس التفكير الإسلامي الذي يرى القيمة الروحية الواقعية في التعاطي معهما كوحدة عملية رائعة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[18].
وفي الحديث الشريف: "ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه"[19]. وفي الحديث المشهور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"[20]. إن ذلك هو الذي يحقِّق للإنسان التوازن بين حاجاته وواجباته.
ونستطيع أن نلمح ذلك في الحشد الكبير من الآيات المختلفة التي أنكرت تحريم الطيبات من الرزق، وما أخرجه الله لعباده من الزينة، ودعت الإنسان إلى أكل الحلال الطيب، مع التحفظ في ترك اتّباع خطوات الشيطان، وطلبت منه القيام بشكرها عملياً، وعدم الاعتداء فيها.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}[21]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[22]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[23].
وربما تلمح في بعض الآيات الإيحاء بأن الله يريد من الإنسان أن لا يبتعد عن التمتّع بالطيبات، لأنها من رزقه، وأرادها للمؤمن خالصة يوم القيامة، لا يحاسب عليها، لأنه قام بواجبها ورعاها حق رعايتها كما شرع الله وأراد: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[24].
وتنطلق في هذا الاتجاه الأحاديث الكثيرة المرويّة عن أئمَّة أهل البيت(ع)، التي تعتبر أن الدنيا إذا أقبلت فأحق الناس بها أخيارها، لا أشرارها ولا فجّارها. والحديث النبوي الشريف: "حُبّب إلي من دنياكم ثلاث؛ الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة"[25].
وهناك الآيات الكريمة التي توضح لنا ما أودعه الله في الإنسان من محبة للشهوات والأموال والبنين والخيل والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وغيرها من الأمور التي يتجه إليها بطبيعته، فعليه أن يوازن بينها وبين ما تطلبه الدار الآخرة من انضباط واتزان.
رفض الحياة بطيباتها ليس قيمة إسلامية كبرى، يجاهد الإنسان من أجل الحصول عليها، بل العكس هو الصحيح
ونلاحظ، في هذا الاتجاه، حوار الإمام علي(ع) مع العلاء الذي شكاه أخوه للإمام، لأنه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فبادره الإمام بقوله: "يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك"[26]. واستمع العلاء إلى الإمام يلقي عليه هذه الموعظة، ففاجأه ذلك، لأنه يرى سلوك الإمام العملي مرتكزاً على ترك الدنيا، فبادره بقوله: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. فقال الإمام: "ويحك، إنّي لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره"[27].
وهكذا، نجد أن رفض الحياة بطيباتها ولذائذها ليس قيمة إسلامية كبرى، يجاهد الإنسان من أجل الحصول عليها، لينال بها الحظوة عند الله والثواب منه في الدار الآخرة، بل العكس هو الصحيح، باعتباره يجسِّد السلوك الطبيعي الذي يجعل الإنسان يمارس فيه حياته بطريقة واقعية، لا يسيء فيها الإنسان إلى نفسه، ولا يرهق بها غيره.
أما أحاديث الزهد التي كثرت في السنّة الشريفة، فإنها تنطلق معه، من حيث هو حالة نفسية، تمثل الشعور بالغنى الذاتي اتجاه الحياة، ما يجعل الإنسان لا يواجهها مواجهة الجائع الشره الذي يقدم كل شيء، ويضحي بكل شيء، في سبيل الحصول على متعة أو لذة فيها، حتى لو كان الشيء الذي يضحي به دينه أو عقيدته، بل يواجهها مواجهة الإنسان الطبيعي الذي يملك حرية الاختيار، فيأخذ منها بحرية، ويدع ما يدع منها بحرية واختيار.
وربما يصوّر لنا ذلك الحديث الشريف الذي يروى عن الإمام علي(ع) في نهج البلاغة: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم"[28].
إنها الفكرة التي تقول للإنسان إن عليك أن تواجه خسائر الحياة وأرباحها بنظرة واقعية، لا تعتبر أياً منها حالة غير عادية، ولذا، فإن الالتزام بمثل هذه النظرة لا يترك في النفس أي شعور غير طبيعي، باعتباره يؤدي إلى التحرر من العلاقة القوية بالدنيا، التي تجعله يعيش تحت ضغط متطلباتها، وعندها، فإن مسألة الربح والخسارة تصبح ككل وقائع الحياة التي تأتي وتروح، تماماً كما هو الليل والنهار والفصول الأربعة.
وعلى هدى ذلك كله، نعرف أن الإسلام واجه الموقف في نظرته إلى الحياة وممارسته لها، على أساس واقعي، لا يغفل حاجات الإنسان الجسدية، ولا يتسامح في قيم الإنسان المعنوية التي ترتبط بالوجود الثاني للإنسان.. وربما نلتقي، في هذا المجال بنقطة مهمة، تؤكد لنا هذه النظرة الواقعية، وهي أن الدين عندما دعا الإنسان إلى ممارسة الحرمان عن اللذات التي حرَّمها الله، وعده بالثواب الحسي في الآخرة، حيث يمارس الإنسان فيه لذائذه الحسية بشكل أفضل، إضافة إلى الثواب المعنوي، فهو يعد الإنسان المؤمن بالحور والولدان والنعيم الكبير وغير ذلك، ثم يضيف إليها قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}[29].
ولعلَّ هذا الاتجاه في جعل الثواب منسجماً مع إحساس الإنسان بالحاجات الحسية للجسد في الدنيا والآخرة، يلتقي مع النظرة الواقعية للإنسان، التي تبعده عن الشعور بالحرمان الأبدي، ما منع في عنه الدنيا، الأمر الذي يجعله طبيعياً في مواجهة حالات الحرمان.
[المصدر :كتاب مفاهيم إسلامية عامة].
[1] (الفرقان/7)
[2] (الأنعام/8-9)
[3] (الإسراء/ 90-93)
[4] (الأعراف/188)
[5] (النساء/ 26-28)
[6] (الإسراء/11)
[7] (الأنبياء/37)
[8] (القيامة/16_17)
[9] (يونس/12)
[10] (هود/ 9،10)
[11] (العنكبوت/ 2-3)
[12] (الزمر/10)
[13] (النحل/96)
[14] (الأعراف/201)
[15] (المؤمنون/1 - 4)
[16] (الشمس/ 7 - 10)
[17] (القصص/77)
[18] (البقرة/ 200 -202)
[19] الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 18، ص 8
[20] الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 18، ص 9
[21] (المائدة/ 87-88)
[22] (البقرة/168)
[23] (البقرة/ 172)
[24] (الأعراف/ 32)
[25] الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 1، ص 263
[26] نهجالبلاغة، خطب الإمامعلي(ع)، ج 2، ص 187
[27] المصدر السابق نفسه
[28] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 102
[29] (التوبة/72)