كتابات
08/12/2013

الدّولة الإسلاميَّة بين الإسلاميَّة والمذهبيَّة

الدّولة الإسلاميَّة بين الإسلاميَّة والمذهبيَّة

ربما كانت من المشاكل العميقة التي تواجه الثورة الإسلاميَّة في حركيتها في المجتمع الإسلامي، مشكلة المذهبية التي تحوّلت إلى حالة ذهنية عصبيّة متحجّرةٍ، بدلاً من أن تكون حالةً فكريةً منفتحةً متحركةً، ما جعلها تترك تأثيرها العميق على المحتوى النفسي للإنسان المسلم في نظرته إلى المسلم الآخر. وربما تفاعلت في بعض المواقع الإسلامية، فتحوّلت لديها إلى حالةٍ من الغلوّ، بحيث جعلت المسلم في هذه المواقع ينظر إلى الآخرين كما لو لم يكونوا من المسلمين، واعتبارهم حالة كفر أو شركٍ في داخل الإسلام، لتتحوّل إلى مشكلة في العقيدة، مشكّلةً نوعاً من الخطورة على الإسلام نفسه، لا مشكلة في الشريعة، أو في الفهم الاجتهادي لتفاصيل العقيدة.

المذهبية مشكلة في طريق الوحدة

وفي ضوء ذلك، كان الواقع المذهبي يقيم حواجز نفسيّة تثير العصبيات في المجتمعات الإسلاميَّة، لتفصلها عن بعضها البعض، وتقسّمها إلى مجتمعات سنيّة ومجتمعات شيعيّة، قد تتخذ كل واحدة منهما مواقع مستقلة عن مواقع الأخرى، وقد يجد بعضها لأفراده مصالح تختلف عن مصالح الأفراد الآخرين.

ومن هنا، نشأت المشكلة في حركة الثورة الإسلاميَّة، أو في نظرية التغيير الإسلاميّة؛ فكيف يمكن أن تنطلق الثورة من موقع وحدويّ إسلاميّ في مثل هذا الجو النفسي الذي يتحرك بمشاعره لا بأفكاره؟ وكيف يمكن للثورة الوليدة أن تنفذ إلى الواقع الذي تنتصب فيه الحواجز العصبية الكبيرة، إذا كانت تنطلق من موقع مذهبي معيّن، مرفوض من الموقع المذهبيّ الآخر؟

وقد لا تقتصر المسألة على المفردات النفسية في الساحة الإسلامية، بل قد تمتد إلى الوضع السياسيّ الذي تستغله المحاور والتيارات الكافرة في الواقع الدولي، بهدف إجهاض أيّة ثورة إسلامية تغييرية تكون بخلاف اتجاهاته الفكرية والسياسية ومصالحه الاستكبارية، وذلك من خلال تعميق الحالة النفسية المذهبية التي تمنع التواصل بين المسلمين في التحرك السياسيّ الموحّد، والعمل على استغلالها بالنفاذ إلى بعض المواقع الثورية، لإثارتها ضد المواقع الأخرى بطريقةٍ وبأخرى.

وتتكاثر علامات الاستفهام في هذه الأجواء، لتثير المزيد من التفكير الذي ينبغي للعاملين أن يحرّكوه في اتجاه إيجاد الحلول العمليَّة للمشاكل الإسلاميَّة التي تقف في وجه حركة الثورة الإسلاميَّة.

وفي هذا الإطار، نتساءل عن إمكانية وجود نظرية إسلامية موحّدة في حركة الثورة في مسألة الحكم، بحيث يلتقي المسلمون عليها في الجانب العملي، حتى لو اختلفت المفردات التفصيلية فيها في الجانب النظري، فلا يجد فيها هذا الجانب حالةً غير شرعيةٍ، أو يرى الآخر حالةً غير ملزمة.

هل يلتقي "نهج الإمامة" و"نهج الخلافة"؟

قد يثير البعض في هذا المجال، أن هناك نظريتين في الفكر الإسلامي، هما نظرية الإمامة ونظرية الخلافة، اللتان تختلفان في الخطوط وتختلفان في الأسماء، ما يمنع من اللقاء بينهما على خط واحد، أو تحريكهما في أسلوب واحدٍ، فلا يجد الملتزمون بالمذهب السنيّ أساساً فكرياً إسلامياً يربطهم بنهج الإمامة، ولا يجد الملتزمون بالمذهب الشيعي أساساً فكرياً إسلامياً يربطهم بنهج الخلافة، وبذلك، يفقد كل واحد منهما الأساس الذي يلتقي فيه بالآخر، ليتحد معه، أو ليتكامل معه، فكيف نواجه المسألة؟

إننا لا نرى هناك مشكلةً كبيرةً في الجانب العملي، لأنّ المسألة المطروحة هي: كيف يمكن للمسلمين أن يعيشوا في داخل المجتمع الإسلامي الذي يحكمه أو يتحرك فيه فريقٌ مذهبيٌ إسلاميٌ معين، فيما هي الحركية، وفيما هو الخط العملي؟

والجواب عن ذلك، أنّ هناك تجربةً إسلاميةً رائدة عاشها المسلمون في مرحلة الخلفاء الراشدين، فقد كانت المسألة التي واجهها الإمام علي(ع) هي حقه في الخلافة الذي لم يحصل عليه، من خلال طبيعة التطوّرات التي عاشتها مسألة الحكم في تلك الفترة... ما قد يطرح إشكالية الشرعية وعدم الشرعية للحكم آنذاك، التي قد يستتبعها التفكير في التحرّك السلبي المضادّ أو الوقوف بعيداً عن ساحة المسؤولية.

ولكننا رأينا الإمام علياً(ع) يطرح الخطَّ العملي كأساسٍ للموقف، فيقول في بعض كلماته المأثورة عنه: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين..."[1]، ليعطي القاعدة الإسلامية التي تؤكد أن النظرة في مثل هذه الأمور، ينبغي أن تتركَّز على الخطِّ العام للسلامة العامة للواقع الإسلامي في وجود المسلمين، لا على المفردات التفصيلية التي تتحرك في داخل الحكم وخارجه، فليست القضية المطروحة هي في الموافقة على هذا العمل أو ذاك، أو على هذا الفهم للحكم الشرعي أو ذاك، بل القضية المطروحة هي كيف يمكن الحفاظ على السلامة العامة للوجود السياسي الإسلامي، ونجده يتحدث في حديث آخر، كما ورد في نهج البلاغة، فيقول:  "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ـ ويقصد أبا بكر ـ يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيّامٍ قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زال الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"[2].

إننا نلاحظ أن السلبية المتمثلة بالمقاطعة، كانت هي الأسلوب العملي الأول للإمام في هذه المسألة، ولكنها تحولت إلى إيجابيةٍ واقعيةٍ بعد ذلك، عندما لاحظ أن هناك خطراً كبيراً على الإسلام، من خلال حركة الردّة التي بدأت تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي آنذاك، وأن هناك إمكانية حدوث مشاكل فكريةٍ وعمليةٍ تحتاج إلى فكر الإمام علي(ع) وحركته الفاعلة في بناء القوة الإسلامية ومنع عناصر الهدم من أن تفرض نفسها على الواقع هناك. وهكذا دار الأمر لديه، بين أن يستغرق في مسألة الخلافة التي يرى أنّ له الحق فيها من الناحية الشرعية الإسلامية، فيصرّ على أنها هي العنصر الأساس في الحلّ، فلا مجال لأيّ حلٍّ بدونه، وبين أن يجمّد الموقف المتحرك في هذا المجال، لينصرف إلى معالجة الأمور الخطيرة الطارئة التي قد تتحول إلى خطرٍ على الإسلام نفسه، لتكون المصيبة هي مسألة سقوط الإسلام أمام التحديات الداخلية والخارجية، لا مسألة الابتعاد عن الحكم من الناحية الذاتية، لأن مثل هذه الانفعالات الشخصية ليست واردةً في حساب الرساليين.

وهكذا كان علي(ع) في موقفه الإسلامي، مشيراً ومعلِّماً ومعاوناً وناقداً وناصحاً، من دون أن تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان المرتبطون بعليّ(ع) في مواقفهم العملية. لذلك لم نر هناك أيّة مشكلة معقّدة في كل تلك المدة، حتى في قصة الثورة على عثمان، حيث كان دوره دور الوسيط بين الثائرين والخليفة، ثم أرسل ولديه للدفاع عنه مع كل ما يحمله في فكره من نقد حقيقيّ لسلوكه في الخلافة.

إننا نقدّم هذا النموذج الوحدوي في الموقف المنفتح على الفريق الآخر، في الصورة الرائعة التي ينسجم فيها الرمز الأول للمعارضة مع موقفه، باعتباره الإنسان الذي يملك الحق في الخلافة فيما يراه، وفيما يعتقد الكثيرون أنه الحقيقة، ومع ذلك، وقف مع المسيرة الإسلامية في خطّها العام، حتى لا يكون هناك خطورة على مستوى القضايا العامة، بالرغم من التحفظات على كثير من المفردات والتفاصيل، لأن السلبية قد تمنع الإسلام الذي يواجه التحديات من كل موقع حوله، ويعيش الأخطار في الداخل والخارج، من قوةٍ كبيرةٍ تستطيع أن تحمي الكثير من المواقع، وتركِّز الكثير من المواقف، وقد تسيء هذه السلبية بالتالي إلى سلامته على أكثر من صعيد.

وفي ضوء ذلك، يمكننا دراسة المشكلة المذهبية التي قد يملك فيها مذهب إسلامي معين موقعاً قيادياً متقدّماً، من خلال نجاحه في السيطرة على بعض الساحات الإسلامية سياسياً أو فكرياً، أو بشكل شامل يتمثل بقيام دولة على صورته، ما يعطي للإسلام دولةً جديدة، ومحوراً سياسياً مميّزاً، وحركة ثوريةً فاعلة، الأمر الذي يمنح أيّة حركة إسلامية سياسية أخرى بعض القدرة على تجربة جديدة في مواقع أخرى، لتكون الدولة الإسلامية الثانية والموقع الإسلامي الجديد... أو يحقِّق لها على الأقل قوةً حركيةً فيما تحصل عليه من بعض الفرص، أو انفتاحاً على الدعوة للإسلام بشكل أكثر فاعليةً، وأشدّ قوة. وعلى كل حال، فإن الإخلاص للإسلام، يفرض على هذه الحركة الإسلامية أو تلك، أن تقدّم له الدعم الفكري والسياسي والاقتصادي، لأن سقوط التجربة الإسلامية للدولة الوليدة تحت تأثير قوة الكفر، فيما يعيشه من الشعور بالخطر على مواقعه وامتيازاته من خلالها، يعني صعوبة أو استحالة قيام دولة أخرى في ظروف قادمة، لأن الأعداء سوف يمنعون ذلك عندما يستعدّون للمواجهة قبل تحقق الانتصار، ولأن المعارضة القائمة على العصبية المذهبية، سوف تتمثل بعصبية أخرى، تتحرك في مواقع الهدم لا في مواقع البناء.

حكم الإسلام أو حكم الكفر؟!

إننا نلاحظ في هذه الدائرة، أن من الإخلاص للإسلام، أن نفكر بجدِّيةٍ في الأفق الإسلامي الواسع، الذي يوحي بالتعاون في المسألة من ناحية المبدأ، بدلاً من التناحر والتخالف والتحارب، لأن الأمر قد يدور في الساحة العامة، بين أن يكون الحكم لنهج إسلامي، قد تختلف معه في بعض الأفكار العقيدية، أو في بعض الاجتهادات الشرعية، أو في بعض المواقف السياسية، وبين أن يكون الحكم للنهج الكافر، المتمثل بالخط العلمانيّ الذي يتّسع للأفكار الملحدة أو الضالة في غير الاتجاه الديني.

إن المسألة المطروحة هي: هل نحافظ على المبدأ مع تجاوز بعض التفاصيل، أو نثير المشكلة في المبدأ والتفاصيل، لننسف الواقع الذي يقوم على حركة المبدأ؟

وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنقرِّر أن إسلاماً لا نرضى عن بعض تفاصيله أفضل من كفرٍ لا نلتقي معه في أي شيء... ولن يكون من الواقعيّ ومن الإخلاص للإسلام، أن نتحدث كما يتحدث بعض الناس، بأن الكفر أقرب إلينا من إسلامٍ مخلوطٍ ببعض الكفر، أو ببعض الشرك، أو ببعض الانحراف فيما تتصوره اجتهاداتنا الكلامية أو الفقهية، أو أنه يتساوى معه، لأن مثل هذا الكلام يوحي بالتعصب الذي يريد صاحبه أن يدمّر من خلاله خصمه، حتى لو كان في ذلك تدمير نفسه.

وقد لا يقتصر هذا النوع من التفكير السلبي على الجانب المذهبي، بل قد يمتد إلى المواقع الحركية ذات التفكير المتعدد في وعي العمل الإسلامي، حيث قد تفضّل حركة إسلامية أن تبقى الساحة في سيطرة الكفر العقيدي أو السياسي، بدلاً من سيطرة الحركة الإسلامية الأخرى، وقد يمتد ذلك إلى بعض المواقع المرجعية في دائرة الزعامات الإسلامية، بحيث قد يجد أتباع هذا الشخص أو ذاك في انتصار زعيمٍ إسلاميٍ معيّن مشكلةً كبيرة، قد يفضلون معها، أن يسقط حكمه الإسلامي على يد الكفر والانحراف، على امتداده في حياة الأمة بالمستوى الذي يؤثر فيه تأثيراً سلبياً على مكانة الشخص الذي يتّبعونه. وقد يحاولون التقاط بعض الأخطاء، أو بعض الانحرافات، أو بعض المواقف غير الشرعية، ليؤكّدوا للناس أن هذا الحكم غير إسلامي، أو أنّه أشدّ خطورةً على الإسلام من خطورة الحكم المبني على قاعدةٍ غير إسلامية، مما يكون تابعاً للشرق أو للغرب، وذلك من خلال العصبية للشخص أو للحركة أو لغير ذلك.

الخلاف المذهبي والحكم الإسلامي

إنَّ المسألة لا تحمل أيّة مشكلة معقّدة مستعصية، لأن التحفّظ الذي قد يسجله أتباع المذهب الآخر على الدولة الإسلامية التي تتبع مذهباً مختلفاً، ربما ينطلق من بعض تفاصيل العقيدة، وهو تحفّظ قد يحرِّكه فريق من المسلمين تجاه فريق آخر، فيما قد ينسبونه إليهم من الغلو في بعض الشخصيات القيادية من أئمة المسلمين، أو من الانحراف في بعض تفاصيل التوحيد، مما قد يخرجونهم به عن الإسلام، أو فيما يحرِّكه فريق حول بعض الشخصيات القيادية لدى فريق آخر من المسلمين، مما ينسبه إليهم من بعض الانحرافات الكبيرة عن خط الإسلام. ولكن المسألة مهما كانت مهمة وخطيرة في نظر أصحابها، فإنّها لا تؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على مستوى حركة الحكم الإسلامي، لأنّ بعض الأشياء تتصل بالتاريخ ولا تتصل بالحاضر، ما يجعل المسألة في دائرة التصور الذي لا يغير كثيراً من المسار العملي في الواقع.

كما أنَّ الخلاف في حدود التوحيد فيما يثيره هؤلاء أو أولئك، لا يقتصر على فريق دون فريق، لأنّ ذلك ليس من المسائل المذهبية التي تمثل الانقسام الرسمي بين المسلمين، بل هو من المسائل الكلامية التي قد يلتقي فيها جمهور السنة والشيعة، مع تحفظ بعض الناس في ذلك، وبذلك، تتحول المسألة إلى حالة فكرية يمكن أن يتوفر على دراستها الباحثون بالطريقة العلمية، ليصلوا إلى حلّها بشكل وبآخر. كما يمكن أن نلاحظ أن مسألة التقييم للشخصيات سلباً أو إيجاباً، أو مسألة ما يسمى بالغلو في التقييم، لا تمثل مشكلةً مستحيلة الحل من الناحية الفكرية ما دامت لا تقترب بالإنسان من درجة الألوهية، أو من درجة النبوّة فيمن لم يكن نبياً، ما يعني أن الاجتهاد قد يصل بها إلى حل معقول أو نتيجة حاسمة.

وهكذا نرى أن هذه المسألة مهما كانت خطيرةً، فإن خطورتها ليست دائمةً ما دام الجو الإسلامي الوحدويّ في نطاق الدولة الإسلامية يسمح بالحوار حولها من داخل مواقع اللقاء، التي تتيح للمتحاورين جواً نفسياً يختلف عن مواقع النزاع والخلاف، مع ملاحظة مهمة، وهي أن جوّ الدولة قد يفسح في المجال للانفتاح في كثير من القضايا المختلف عليها، ما يساعد على حلّها بطريقةٍ سريعة، لأن جوّ المسؤولية المنفتحة قد يحرّر الناس من كثيرٍ من العُقَد الصعبة التي يؤكدها الجوّ العادي البعيد عن طبيعة المسؤولية.

تشريع الدولة في ظل التعددية المذهبية

وقد ينطلق التحفظ بالخلاف حول بعض القضايا الشرعية التي تختلف فيها الاجتهادات المذهبية في مذاهب السنة والشيعة، فقد يرى فيها البعض مشكلةً للدولة، فيما قد تختلف فيه قوانينها العامة والخاصة عن قوانين هذا المذهب أو ذاك، ما قد يثير لدى المسلمين الذين يختلفون مع مذهب الدولة الاجتهادي مشاكل حياتية كثيرة، وازدواجيةً فقهيةً عمليّة، بين ما هو المذهب وما هو القانون.

ولكن هذه المشكلة، في صورتها العامة، ليست مشكلة السنّة والشيعة فحسب، بل هي مشكلة المذاهب الفقهية المتعددة في دائرة المسلمين من أهل السنّة، كما هي مشكلة الاجتهادات الفقهية المتنوعة في دائرة المسلمين الشيعة عندما يتبع بعض الناس مجتهداً في التقليد، ويتبع أناس آخرون مجتهداً آخر، ولذلك، لا بد من معالجتها على أيّ حالٍ في أيّة دائرةٍ من دوائر تجربة الحكم الإسلامي.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الخلافات بين السنّة والشيعة، أو بين المذاهب الفرعية، أو الاجتهادات المتنوّعة في داخل المذهب الواحد، ليست بالمستوى الذي يثير مشكلة كبيرة، لأنه قلّ أن تجد مذهباً فقهياً لا يتفق مع مذهب آخر في قضايا المعاملات والأحوال الشخصية، ونحو ذلك، ما يضيّق هوّة الخلاف، ولا سيّما إذا أطلقت الدولة للناس أمر اختيار مذاهبهم الخاصة في الأحوال الشخصية، مع ملاحظة أن لا تتدخل في الشؤون العبادية فيما يختلف فيه المسلمون في شروط العبادات.

وقد نثير ملاحظة أخرى في الموضوع، وهي أن الاختلاف بين المسلمين في مذاهبهم، لن يكون بأكثر من اختلاف المسلمين مع العلمانيين إذا كانت الدولة علمانية، فكيف يصبر فريق من المسلمين أو حركة إسلامية على العيش تحت سلطة غير المسلمين، ولا يصبرون على الاختلافات الجزئية في ظل دولةٍ إسلامية فيما يشتمل عليه قانونها الإسلامي من أحكام؟!

مرجعية التقليد والدولة الإسلامية

إن التحديات الخطيرة التي تواجه العالم الإسلامي في عقيدته وشريعته وثروته وسياسته واقتصاده وثقافته وأمنه، تفرض على المسلمين التطلع إلى إقامة دولةٍ، أيّة دولةٍ، تلتزم مواجهة هذه التحديات من موقع الفكر الإسلامي قاعدةً وشريعةً وحركةً، بحيث يكون النهج الاسلامي في استنتاج الفكر هو المتبع في الاجتهاد الفكري، بشرط أن تنطلق في حركتها السياسية من هذا الموقع، لا أن تكون تابعاً هامشياً للمحاور الدولية الاستكبارية فيما تخطط من خطط، وفيما تحركه من مشاريع، وفيما تثيره من أهداف.

ومن هنا، فإن المفروض أن يفكر الإسلاميون، على مستوى مراجع التقليد أو على مستوى الحركات الإسلامية، في أن الوقوف مع هذه الدولة الإسلامية يمثل الوقوف مع حركة الدعوة الإسلامية من موقعٍ متقدم، لأن الدولة تعطي الدعوة إلى الإسلام حركيةً عالمية من قاعدة القوة الكبيرة، كما أنها تمثل الوقوف مع حرية المؤمنين وعزتهم التي أرادها القرآن الكريم كقيمةٍ أساسية من قيم الإسلام في الإنسان، إضافةً إلى أنها تشكل الفرصة الكبيرة لتطبيق الأحكام الشرعية المنطلقة من اجتهاد إسلامي، قد يختلفون معه في بعض نتائجه، أو في بعض تطبيقاته، ولكنهم لن يختلفوا في الإقرار بأنه ينطلق من القواعد الإسلامية المقرّرة.

إنَّ البديل من الوقوف مع الدولة الإسلامية، هو الابتعاد عن ساحة الصراع على أساس خذلان الإسلام فيما يحتاج إليه من القوة، والخضوع لسيطرة الظلم الكافر الذي يمتد ظلمه إلى الإسلام كله، والمسلمين كلهم، أو التنسيق مع حركات الكفر وقوى الاستكبار العالمي أو الإقليمي أو المحلي، لإسقاط هذه الدولة، لا ليكونوا البديل، لتكون حجتهم أنهم يعملون للإسلام النقيّ الصحيح، بل ليكون الكفر هو البديل في الحكم والقانون والسيطرة الشاملة، وهذا ما لا يتفق مع أيّ منطقٍ إسلاميٍّ، في أيّ اجتهاد، وفي أيّ مذهب.

المصدر: الحركة الاسلامية هموم وقضايا 


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 119

ربما كانت من المشاكل العميقة التي تواجه الثورة الإسلاميَّة في حركيتها في المجتمع الإسلامي، مشكلة المذهبية التي تحوّلت إلى حالة ذهنية عصبيّة متحجّرةٍ، بدلاً من أن تكون حالةً فكريةً منفتحةً متحركةً، ما جعلها تترك تأثيرها العميق على المحتوى النفسي للإنسان المسلم في نظرته إلى المسلم الآخر. وربما تفاعلت في بعض المواقع الإسلامية، فتحوّلت لديها إلى حالةٍ من الغلوّ، بحيث جعلت المسلم في هذه المواقع ينظر إلى الآخرين كما لو لم يكونوا من المسلمين، واعتبارهم حالة كفر أو شركٍ في داخل الإسلام، لتتحوّل إلى مشكلة في العقيدة، مشكّلةً نوعاً من الخطورة على الإسلام نفسه، لا مشكلة في الشريعة، أو في الفهم الاجتهادي لتفاصيل العقيدة.

المذهبية مشكلة في طريق الوحدة

وفي ضوء ذلك، كان الواقع المذهبي يقيم حواجز نفسيّة تثير العصبيات في المجتمعات الإسلاميَّة، لتفصلها عن بعضها البعض، وتقسّمها إلى مجتمعات سنيّة ومجتمعات شيعيّة، قد تتخذ كل واحدة منهما مواقع مستقلة عن مواقع الأخرى، وقد يجد بعضها لأفراده مصالح تختلف عن مصالح الأفراد الآخرين.

ومن هنا، نشأت المشكلة في حركة الثورة الإسلاميَّة، أو في نظرية التغيير الإسلاميّة؛ فكيف يمكن أن تنطلق الثورة من موقع وحدويّ إسلاميّ في مثل هذا الجو النفسي الذي يتحرك بمشاعره لا بأفكاره؟ وكيف يمكن للثورة الوليدة أن تنفذ إلى الواقع الذي تنتصب فيه الحواجز العصبية الكبيرة، إذا كانت تنطلق من موقع مذهبي معيّن، مرفوض من الموقع المذهبيّ الآخر؟

وقد لا تقتصر المسألة على المفردات النفسية في الساحة الإسلامية، بل قد تمتد إلى الوضع السياسيّ الذي تستغله المحاور والتيارات الكافرة في الواقع الدولي، بهدف إجهاض أيّة ثورة إسلامية تغييرية تكون بخلاف اتجاهاته الفكرية والسياسية ومصالحه الاستكبارية، وذلك من خلال تعميق الحالة النفسية المذهبية التي تمنع التواصل بين المسلمين في التحرك السياسيّ الموحّد، والعمل على استغلالها بالنفاذ إلى بعض المواقع الثورية، لإثارتها ضد المواقع الأخرى بطريقةٍ وبأخرى.

وتتكاثر علامات الاستفهام في هذه الأجواء، لتثير المزيد من التفكير الذي ينبغي للعاملين أن يحرّكوه في اتجاه إيجاد الحلول العمليَّة للمشاكل الإسلاميَّة التي تقف في وجه حركة الثورة الإسلاميَّة.

وفي هذا الإطار، نتساءل عن إمكانية وجود نظرية إسلامية موحّدة في حركة الثورة في مسألة الحكم، بحيث يلتقي المسلمون عليها في الجانب العملي، حتى لو اختلفت المفردات التفصيلية فيها في الجانب النظري، فلا يجد فيها هذا الجانب حالةً غير شرعيةٍ، أو يرى الآخر حالةً غير ملزمة.

هل يلتقي "نهج الإمامة" و"نهج الخلافة"؟

قد يثير البعض في هذا المجال، أن هناك نظريتين في الفكر الإسلامي، هما نظرية الإمامة ونظرية الخلافة، اللتان تختلفان في الخطوط وتختلفان في الأسماء، ما يمنع من اللقاء بينهما على خط واحد، أو تحريكهما في أسلوب واحدٍ، فلا يجد الملتزمون بالمذهب السنيّ أساساً فكرياً إسلامياً يربطهم بنهج الإمامة، ولا يجد الملتزمون بالمذهب الشيعي أساساً فكرياً إسلامياً يربطهم بنهج الخلافة، وبذلك، يفقد كل واحد منهما الأساس الذي يلتقي فيه بالآخر، ليتحد معه، أو ليتكامل معه، فكيف نواجه المسألة؟

إننا لا نرى هناك مشكلةً كبيرةً في الجانب العملي، لأنّ المسألة المطروحة هي: كيف يمكن للمسلمين أن يعيشوا في داخل المجتمع الإسلامي الذي يحكمه أو يتحرك فيه فريقٌ مذهبيٌ إسلاميٌ معين، فيما هي الحركية، وفيما هو الخط العملي؟

والجواب عن ذلك، أنّ هناك تجربةً إسلاميةً رائدة عاشها المسلمون في مرحلة الخلفاء الراشدين، فقد كانت المسألة التي واجهها الإمام علي(ع) هي حقه في الخلافة الذي لم يحصل عليه، من خلال طبيعة التطوّرات التي عاشتها مسألة الحكم في تلك الفترة... ما قد يطرح إشكالية الشرعية وعدم الشرعية للحكم آنذاك، التي قد يستتبعها التفكير في التحرّك السلبي المضادّ أو الوقوف بعيداً عن ساحة المسؤولية.

ولكننا رأينا الإمام علياً(ع) يطرح الخطَّ العملي كأساسٍ للموقف، فيقول في بعض كلماته المأثورة عنه: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين..."[1]، ليعطي القاعدة الإسلامية التي تؤكد أن النظرة في مثل هذه الأمور، ينبغي أن تتركَّز على الخطِّ العام للسلامة العامة للواقع الإسلامي في وجود المسلمين، لا على المفردات التفصيلية التي تتحرك في داخل الحكم وخارجه، فليست القضية المطروحة هي في الموافقة على هذا العمل أو ذاك، أو على هذا الفهم للحكم الشرعي أو ذاك، بل القضية المطروحة هي كيف يمكن الحفاظ على السلامة العامة للوجود السياسي الإسلامي، ونجده يتحدث في حديث آخر، كما ورد في نهج البلاغة، فيقول:  "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ـ ويقصد أبا بكر ـ يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيّامٍ قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زال الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"[2].

إننا نلاحظ أن السلبية المتمثلة بالمقاطعة، كانت هي الأسلوب العملي الأول للإمام في هذه المسألة، ولكنها تحولت إلى إيجابيةٍ واقعيةٍ بعد ذلك، عندما لاحظ أن هناك خطراً كبيراً على الإسلام، من خلال حركة الردّة التي بدأت تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي آنذاك، وأن هناك إمكانية حدوث مشاكل فكريةٍ وعمليةٍ تحتاج إلى فكر الإمام علي(ع) وحركته الفاعلة في بناء القوة الإسلامية ومنع عناصر الهدم من أن تفرض نفسها على الواقع هناك. وهكذا دار الأمر لديه، بين أن يستغرق في مسألة الخلافة التي يرى أنّ له الحق فيها من الناحية الشرعية الإسلامية، فيصرّ على أنها هي العنصر الأساس في الحلّ، فلا مجال لأيّ حلٍّ بدونه، وبين أن يجمّد الموقف المتحرك في هذا المجال، لينصرف إلى معالجة الأمور الخطيرة الطارئة التي قد تتحول إلى خطرٍ على الإسلام نفسه، لتكون المصيبة هي مسألة سقوط الإسلام أمام التحديات الداخلية والخارجية، لا مسألة الابتعاد عن الحكم من الناحية الذاتية، لأن مثل هذه الانفعالات الشخصية ليست واردةً في حساب الرساليين.

وهكذا كان علي(ع) في موقفه الإسلامي، مشيراً ومعلِّماً ومعاوناً وناقداً وناصحاً، من دون أن تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان المرتبطون بعليّ(ع) في مواقفهم العملية. لذلك لم نر هناك أيّة مشكلة معقّدة في كل تلك المدة، حتى في قصة الثورة على عثمان، حيث كان دوره دور الوسيط بين الثائرين والخليفة، ثم أرسل ولديه للدفاع عنه مع كل ما يحمله في فكره من نقد حقيقيّ لسلوكه في الخلافة.

إننا نقدّم هذا النموذج الوحدوي في الموقف المنفتح على الفريق الآخر، في الصورة الرائعة التي ينسجم فيها الرمز الأول للمعارضة مع موقفه، باعتباره الإنسان الذي يملك الحق في الخلافة فيما يراه، وفيما يعتقد الكثيرون أنه الحقيقة، ومع ذلك، وقف مع المسيرة الإسلامية في خطّها العام، حتى لا يكون هناك خطورة على مستوى القضايا العامة، بالرغم من التحفظات على كثير من المفردات والتفاصيل، لأن السلبية قد تمنع الإسلام الذي يواجه التحديات من كل موقع حوله، ويعيش الأخطار في الداخل والخارج، من قوةٍ كبيرةٍ تستطيع أن تحمي الكثير من المواقع، وتركِّز الكثير من المواقف، وقد تسيء هذه السلبية بالتالي إلى سلامته على أكثر من صعيد.

وفي ضوء ذلك، يمكننا دراسة المشكلة المذهبية التي قد يملك فيها مذهب إسلامي معين موقعاً قيادياً متقدّماً، من خلال نجاحه في السيطرة على بعض الساحات الإسلامية سياسياً أو فكرياً، أو بشكل شامل يتمثل بقيام دولة على صورته، ما يعطي للإسلام دولةً جديدة، ومحوراً سياسياً مميّزاً، وحركة ثوريةً فاعلة، الأمر الذي يمنح أيّة حركة إسلامية سياسية أخرى بعض القدرة على تجربة جديدة في مواقع أخرى، لتكون الدولة الإسلامية الثانية والموقع الإسلامي الجديد... أو يحقِّق لها على الأقل قوةً حركيةً فيما تحصل عليه من بعض الفرص، أو انفتاحاً على الدعوة للإسلام بشكل أكثر فاعليةً، وأشدّ قوة. وعلى كل حال، فإن الإخلاص للإسلام، يفرض على هذه الحركة الإسلامية أو تلك، أن تقدّم له الدعم الفكري والسياسي والاقتصادي، لأن سقوط التجربة الإسلامية للدولة الوليدة تحت تأثير قوة الكفر، فيما يعيشه من الشعور بالخطر على مواقعه وامتيازاته من خلالها، يعني صعوبة أو استحالة قيام دولة أخرى في ظروف قادمة، لأن الأعداء سوف يمنعون ذلك عندما يستعدّون للمواجهة قبل تحقق الانتصار، ولأن المعارضة القائمة على العصبية المذهبية، سوف تتمثل بعصبية أخرى، تتحرك في مواقع الهدم لا في مواقع البناء.

حكم الإسلام أو حكم الكفر؟!

إننا نلاحظ في هذه الدائرة، أن من الإخلاص للإسلام، أن نفكر بجدِّيةٍ في الأفق الإسلامي الواسع، الذي يوحي بالتعاون في المسألة من ناحية المبدأ، بدلاً من التناحر والتخالف والتحارب، لأن الأمر قد يدور في الساحة العامة، بين أن يكون الحكم لنهج إسلامي، قد تختلف معه في بعض الأفكار العقيدية، أو في بعض الاجتهادات الشرعية، أو في بعض المواقف السياسية، وبين أن يكون الحكم للنهج الكافر، المتمثل بالخط العلمانيّ الذي يتّسع للأفكار الملحدة أو الضالة في غير الاتجاه الديني.

إن المسألة المطروحة هي: هل نحافظ على المبدأ مع تجاوز بعض التفاصيل، أو نثير المشكلة في المبدأ والتفاصيل، لننسف الواقع الذي يقوم على حركة المبدأ؟

وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنقرِّر أن إسلاماً لا نرضى عن بعض تفاصيله أفضل من كفرٍ لا نلتقي معه في أي شيء... ولن يكون من الواقعيّ ومن الإخلاص للإسلام، أن نتحدث كما يتحدث بعض الناس، بأن الكفر أقرب إلينا من إسلامٍ مخلوطٍ ببعض الكفر، أو ببعض الشرك، أو ببعض الانحراف فيما تتصوره اجتهاداتنا الكلامية أو الفقهية، أو أنه يتساوى معه، لأن مثل هذا الكلام يوحي بالتعصب الذي يريد صاحبه أن يدمّر من خلاله خصمه، حتى لو كان في ذلك تدمير نفسه.

وقد لا يقتصر هذا النوع من التفكير السلبي على الجانب المذهبي، بل قد يمتد إلى المواقع الحركية ذات التفكير المتعدد في وعي العمل الإسلامي، حيث قد تفضّل حركة إسلامية أن تبقى الساحة في سيطرة الكفر العقيدي أو السياسي، بدلاً من سيطرة الحركة الإسلامية الأخرى، وقد يمتد ذلك إلى بعض المواقع المرجعية في دائرة الزعامات الإسلامية، بحيث قد يجد أتباع هذا الشخص أو ذاك في انتصار زعيمٍ إسلاميٍ معيّن مشكلةً كبيرة، قد يفضلون معها، أن يسقط حكمه الإسلامي على يد الكفر والانحراف، على امتداده في حياة الأمة بالمستوى الذي يؤثر فيه تأثيراً سلبياً على مكانة الشخص الذي يتّبعونه. وقد يحاولون التقاط بعض الأخطاء، أو بعض الانحرافات، أو بعض المواقف غير الشرعية، ليؤكّدوا للناس أن هذا الحكم غير إسلامي، أو أنّه أشدّ خطورةً على الإسلام من خطورة الحكم المبني على قاعدةٍ غير إسلامية، مما يكون تابعاً للشرق أو للغرب، وذلك من خلال العصبية للشخص أو للحركة أو لغير ذلك.

الخلاف المذهبي والحكم الإسلامي

إنَّ المسألة لا تحمل أيّة مشكلة معقّدة مستعصية، لأن التحفّظ الذي قد يسجله أتباع المذهب الآخر على الدولة الإسلامية التي تتبع مذهباً مختلفاً، ربما ينطلق من بعض تفاصيل العقيدة، وهو تحفّظ قد يحرِّكه فريق من المسلمين تجاه فريق آخر، فيما قد ينسبونه إليهم من الغلو في بعض الشخصيات القيادية من أئمة المسلمين، أو من الانحراف في بعض تفاصيل التوحيد، مما قد يخرجونهم به عن الإسلام، أو فيما يحرِّكه فريق حول بعض الشخصيات القيادية لدى فريق آخر من المسلمين، مما ينسبه إليهم من بعض الانحرافات الكبيرة عن خط الإسلام. ولكن المسألة مهما كانت مهمة وخطيرة في نظر أصحابها، فإنّها لا تؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على مستوى حركة الحكم الإسلامي، لأنّ بعض الأشياء تتصل بالتاريخ ولا تتصل بالحاضر، ما يجعل المسألة في دائرة التصور الذي لا يغير كثيراً من المسار العملي في الواقع.

كما أنَّ الخلاف في حدود التوحيد فيما يثيره هؤلاء أو أولئك، لا يقتصر على فريق دون فريق، لأنّ ذلك ليس من المسائل المذهبية التي تمثل الانقسام الرسمي بين المسلمين، بل هو من المسائل الكلامية التي قد يلتقي فيها جمهور السنة والشيعة، مع تحفظ بعض الناس في ذلك، وبذلك، تتحول المسألة إلى حالة فكرية يمكن أن يتوفر على دراستها الباحثون بالطريقة العلمية، ليصلوا إلى حلّها بشكل وبآخر. كما يمكن أن نلاحظ أن مسألة التقييم للشخصيات سلباً أو إيجاباً، أو مسألة ما يسمى بالغلو في التقييم، لا تمثل مشكلةً مستحيلة الحل من الناحية الفكرية ما دامت لا تقترب بالإنسان من درجة الألوهية، أو من درجة النبوّة فيمن لم يكن نبياً، ما يعني أن الاجتهاد قد يصل بها إلى حل معقول أو نتيجة حاسمة.

وهكذا نرى أن هذه المسألة مهما كانت خطيرةً، فإن خطورتها ليست دائمةً ما دام الجو الإسلامي الوحدويّ في نطاق الدولة الإسلامية يسمح بالحوار حولها من داخل مواقع اللقاء، التي تتيح للمتحاورين جواً نفسياً يختلف عن مواقع النزاع والخلاف، مع ملاحظة مهمة، وهي أن جوّ الدولة قد يفسح في المجال للانفتاح في كثير من القضايا المختلف عليها، ما يساعد على حلّها بطريقةٍ سريعة، لأن جوّ المسؤولية المنفتحة قد يحرّر الناس من كثيرٍ من العُقَد الصعبة التي يؤكدها الجوّ العادي البعيد عن طبيعة المسؤولية.

تشريع الدولة في ظل التعددية المذهبية

وقد ينطلق التحفظ بالخلاف حول بعض القضايا الشرعية التي تختلف فيها الاجتهادات المذهبية في مذاهب السنة والشيعة، فقد يرى فيها البعض مشكلةً للدولة، فيما قد تختلف فيه قوانينها العامة والخاصة عن قوانين هذا المذهب أو ذاك، ما قد يثير لدى المسلمين الذين يختلفون مع مذهب الدولة الاجتهادي مشاكل حياتية كثيرة، وازدواجيةً فقهيةً عمليّة، بين ما هو المذهب وما هو القانون.

ولكن هذه المشكلة، في صورتها العامة، ليست مشكلة السنّة والشيعة فحسب، بل هي مشكلة المذاهب الفقهية المتعددة في دائرة المسلمين من أهل السنّة، كما هي مشكلة الاجتهادات الفقهية المتنوعة في دائرة المسلمين الشيعة عندما يتبع بعض الناس مجتهداً في التقليد، ويتبع أناس آخرون مجتهداً آخر، ولذلك، لا بد من معالجتها على أيّ حالٍ في أيّة دائرةٍ من دوائر تجربة الحكم الإسلامي.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الخلافات بين السنّة والشيعة، أو بين المذاهب الفرعية، أو الاجتهادات المتنوّعة في داخل المذهب الواحد، ليست بالمستوى الذي يثير مشكلة كبيرة، لأنه قلّ أن تجد مذهباً فقهياً لا يتفق مع مذهب آخر في قضايا المعاملات والأحوال الشخصية، ونحو ذلك، ما يضيّق هوّة الخلاف، ولا سيّما إذا أطلقت الدولة للناس أمر اختيار مذاهبهم الخاصة في الأحوال الشخصية، مع ملاحظة أن لا تتدخل في الشؤون العبادية فيما يختلف فيه المسلمون في شروط العبادات.

وقد نثير ملاحظة أخرى في الموضوع، وهي أن الاختلاف بين المسلمين في مذاهبهم، لن يكون بأكثر من اختلاف المسلمين مع العلمانيين إذا كانت الدولة علمانية، فكيف يصبر فريق من المسلمين أو حركة إسلامية على العيش تحت سلطة غير المسلمين، ولا يصبرون على الاختلافات الجزئية في ظل دولةٍ إسلامية فيما يشتمل عليه قانونها الإسلامي من أحكام؟!

مرجعية التقليد والدولة الإسلامية

إن التحديات الخطيرة التي تواجه العالم الإسلامي في عقيدته وشريعته وثروته وسياسته واقتصاده وثقافته وأمنه، تفرض على المسلمين التطلع إلى إقامة دولةٍ، أيّة دولةٍ، تلتزم مواجهة هذه التحديات من موقع الفكر الإسلامي قاعدةً وشريعةً وحركةً، بحيث يكون النهج الاسلامي في استنتاج الفكر هو المتبع في الاجتهاد الفكري، بشرط أن تنطلق في حركتها السياسية من هذا الموقع، لا أن تكون تابعاً هامشياً للمحاور الدولية الاستكبارية فيما تخطط من خطط، وفيما تحركه من مشاريع، وفيما تثيره من أهداف.

ومن هنا، فإن المفروض أن يفكر الإسلاميون، على مستوى مراجع التقليد أو على مستوى الحركات الإسلامية، في أن الوقوف مع هذه الدولة الإسلامية يمثل الوقوف مع حركة الدعوة الإسلامية من موقعٍ متقدم، لأن الدولة تعطي الدعوة إلى الإسلام حركيةً عالمية من قاعدة القوة الكبيرة، كما أنها تمثل الوقوف مع حرية المؤمنين وعزتهم التي أرادها القرآن الكريم كقيمةٍ أساسية من قيم الإسلام في الإنسان، إضافةً إلى أنها تشكل الفرصة الكبيرة لتطبيق الأحكام الشرعية المنطلقة من اجتهاد إسلامي، قد يختلفون معه في بعض نتائجه، أو في بعض تطبيقاته، ولكنهم لن يختلفوا في الإقرار بأنه ينطلق من القواعد الإسلامية المقرّرة.

إنَّ البديل من الوقوف مع الدولة الإسلامية، هو الابتعاد عن ساحة الصراع على أساس خذلان الإسلام فيما يحتاج إليه من القوة، والخضوع لسيطرة الظلم الكافر الذي يمتد ظلمه إلى الإسلام كله، والمسلمين كلهم، أو التنسيق مع حركات الكفر وقوى الاستكبار العالمي أو الإقليمي أو المحلي، لإسقاط هذه الدولة، لا ليكونوا البديل، لتكون حجتهم أنهم يعملون للإسلام النقيّ الصحيح، بل ليكون الكفر هو البديل في الحكم والقانون والسيطرة الشاملة، وهذا ما لا يتفق مع أيّ منطقٍ إسلاميٍّ، في أيّ اجتهاد، وفي أيّ مذهب.

المصدر: الحركة الاسلامية هموم وقضايا 


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 119

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية