كتابات
12/12/2013

مظاهر عبادة الله وركائزها

مظاهر عبادة الله وركائزها

اعتبر الإسلام مسألة العبادة من المسائل التي تمثِّل الخط العام لما أمر الله به، مما يتصل بكل أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته ومواقفه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنفَاءَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}[1]، أن يعبدوا الله عبادة خالصة ليس فيها أي شائبة.

العبادة في الإسلام

أكّد الإسلام أن تكون العبادة بالطاعة المطلقة لله، والخضوع له في كل الأمور، بحيث يذوب الإنسان في الله. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق(ع)، عمّن يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، قال: "ورجلٌ لم يقدم رجلاً ولم يؤخّر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضى أو يحبس"[2].

ومن جهة أخرى، اعتبر الإسلام قيام الإنسان بمسؤولياته فيما يعول به أهله، وفيما يعول به الناس الذين يسأله الله عن رعايتهم، اعتبر ذلك عبادةً؛ فقد ورد في الحديث: "العبادة عشرة أجزاء" ـ وفي رواية سبعون جزءاً ـ "أفضلها طلب الحلال"[3]، فعندما تطلب المال من حلّه لتقوم بمسؤوليّاتك في رعاية عيالك أو رعاية الناس من حولك، فأنت بذلك تعبد الله، سواء كنت في المزرعة أو في المصنع أو في المتجر، أو في أي موقع من مواقع طلب الرزق، إذا كنت مخلصاً في ذلك، ولم تحرّك رزقك في غير ما يريده الله سبحانه وتعالى.

وقد جاء في السنَّة النبوية الشريفة، أنّ أصحاب رسول الله(ص) رأوا رجلاً في جلْدة ونشاطة: فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله ـ أيْ في الجهاد ـ، فقال رسول الله(ص): "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"[4].

إذاً، عندما يطلب الإنسان المال في الحلال، ليحقِّق من خلال ما يجنيه الأهداف التي أرادها الله سبحانه له، فهو في حالة عبادة، وفي حالة سير في سبيل الله، وفي الطريق إليه سبحانه وتعالى.

التوحيد ركيزة العبادة الأولى

ومن الطبيعي أنَّ مسألة العبادة في الإسلام، هي مسألة التوحيد في عبادة الله، ولذلك، كانت كل العناوين الكبرى التي يطلقها الأنبياء لأممهم هي: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}[5]، {اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}[6]، ثم بعد تأكيدهم وحدانية الله، يدخلون في تفاصيل العبادة من خلال التشريعات التي يفصّلونها للناس.

وفي ضوء هذا، رفض الإسلام كل شرك في العبادة؛ حتى اعتبر الرياء في العبادة مبطلاً لها، وهو أن يصلّي الإنسان ليراه الناس، أو أن يحج لذلك، وقد اعتُبر الرّياء من الشرك الخفيّ، لأن على الإنسان أن يخلص العبادة لله.

عبادة الإنسان للشيطان

وقد تحدث الله ـ في كتابه ـ عن عبادة بني آدم للشيطان في مقابل عبادتهم لله. وهذا ما جاء في سورة (يس): {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[7]، فكيف نتمثل عبادة بني آدم للشيطان؟

العبادة ـ في مفهومها ـ تمثّل غاية الخضوع والاستسلام المطلق، وبتعبير آخر: هي الذوبان في الشخص أو الجهة، في ما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يكون لك كلمة مع كلمته، ولا يكون لك موقف أمام ما يريده من موقف، ولا يكون لك خطّ أمام ما يسيّره من خطّ.

وعبادة الشيطان تتمثّل بعبادة الفكر، وذلك في الاستسلام لما يثيره الشيطان في عقول الناس من مفاهيم الكفر والشرك وخطوط الضلال، وفي ما يحرّكه في مشاعرهم وأحاسيسهم من وساوس الشرّ، ليدفعهم نحو الانحراف في السلوك والعمل.

ويريد الله سبحانه ـ في نوعٍ من العتاب واللوم ـ أن ينبّه الناس ويحذّرهم من الانقياد إلى الشيطان والاستسلام له، وقد قصّ علينا كيف أن الشيطان أخرج أبوينا من الجنة، وقال لنا: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة}[8]، فهو يخطط ليخرجكم منها أيضاً، أو ليمنعكم من دخولها، وهذا ما حدّثنا به القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[9]. وأنتم عندما تطيعون الشيطان فكرياً وعملياً في كل الواقع، فأنتم تعبدونه عمليّاً، وإن لم تعترفوا بذلك نظريّاً؛ لأن العبادة ليست أن تقول للشخص إني أعبدك فحسب، بل العبادة هي أن تستسلم له من دون أي تفكير، ومن دون أي حساب ـ كما ذكرنا ـ ومن هذا الباب، تكون عبادة الشخصية، وعبادة الناس بعضهم بعضاً؛ حيث إنّ هناك مَن يعبد زوجته، ومن تعبد زوجها، وهناك من يعبدون الشخصيات الاجتماعية، وربما حتى الشخصيات الدينية بشكل وآخر.

{إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}: هنا يريد الله سبحانه أن يركّز في نفوس بني آدم ما ركّزه في نفس آدم وحواء، حيث قال لهما: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة فَتَشْقَى}[10]، فقد الله أعلن لآدم وحوّاء، أنَّ الشيطان يختزن في داخله العداوة لهما، وذلك من خلال عقد الكبرياء والعصبيّة في نفسه. وفي آية أخرى، يقول تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[11].

خطوط العداوة

وقد أكّد القرآن الكريم في أكثر من آية، عداوة الشيطان للإنسان، في ما يدخل في حياتنا الاجتماعية، سواء في بيوتنا مع عوائلنا، أو في مجتمعاتنا مع الناس الذين نتحرك معهم في علاقاتنا ومعاملاتنا، في السلم والحرب، في السياسة والأمن والاقتصاد وما إلى ذلك.

فمن ذلك قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيطانَ كان للإنْسَان عَدُوّاً مُبِينَاً}[12]؛ فالله سبحانه أعطاك هذا اللسان الذي ألهمك لأن تعبر به عمّا في نفسك، وأن تقول الكلمة التي تريد أن تنقلها إلى الآخر. والكلام على أنحاء: كلام للخير وكلام للشر، كلام يجمع وكلام يفرِّق، كلام يؤدي إلى الفتنة وكلام يؤدِّي إلى اللقاء والتواصل، فالله يقول للإنسان: انتبه إلى كلماتك، وادرسها دراسة دقيقة، ادرس نتائجها، سواء عندما تتحدث مع عائلتك، أو مع أقربائك، أو مع أصدقائك، أو مع الناس الذين تختلف معهم، سواء كان هذا الاختلاف اختلافاً مذهبياً، لأنك على مذهب وهم على مذهب آخر، أو طائفياً لأنك على دين وهم على دين آخر، أو سياسياً لأنك في اتجاه سياسي معين والآخرين في اتجاه آخر.

وفي آية أخرى، يركز على أنّ مسألة التعامل مع الشيطان كالتعامل مع العدو، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر:5)، والغرور هو الشيطان، أي الخدّاع الذي يحاول أن يغرّكم، فيصوّر لكم الأشياء الخيالية التي ليس لها أيّة واقعية بصورة الحقيقة، لتسيروا في اتجاهها وما إلى ذلك. {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}[13]، لأنه يريد أن يخرجكم من الجنة ويبعدكم عن الصراط المستقيم، {فَاتَّخذُوهُ عَدُوّاً}، يعني: تعاملوا معه كما تتعاملون مع أعدائكم، وذلك بالحذر من كلِّ ما يصدر منه، سواء كان ما يصدر منه كلاماً يوحي به إلى الإنسان، أو نصائح ينصحه بها، كما اتخذ إبليس صفة الناصح لآدم وحواء. وحتى لو تكلَّم بكلام يوحي بالخير، فإنّ على الإنسان أن يكون حذراً، وأن يتنبّه إلى خلفيات هذا الكلام، لأنّه سيكون كلام حق يراد به باطل، أو كلام خير يراد به الشر.

ثم إنَّ الله سبحانه يعلِّل مسألة عداوة الشيطان لنا، ولماذا يجب أن نتّخذه عدوّاً: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ}، هؤلاء الذين يطيعونه، والذين يسيرون في خطواته، والذين يخضعون لوسوسته، والذين يأخذون بتزييناته، وما إلى ذلك {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، لا يقول لهم: كونوا من أصحاب السعير، ولكنه يدعوهم من خلال ما يقدمه لهم من التعليمات، إلى السير في الخطوط التي يريد لهم أن يسيروا عليها، ممّا تكون نتيجته السعير وغضب الله سبحانه.

وفي حديث الله عن الحوار الذي جرى بين يعقوب ويوسف(ع) حول رؤيا يوسف، تعرّض القرآن لهذه العداوة الشيطانية، فقال تعالى: ـ على لسان يوسف ـ: {إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[14]، وبما أنّ يعقوب كان يُدرك مدى الحساسية التي يحملها إخوة يوسف تجاه أخيهم؛ ليس لأنه كان آية في الجمال فحسب، بل لأنّه كان على درجة عالية من الوعي والتقوى والعلم على صغر سنه، أراد أن يحذّره: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}[15]، يعني لا تتحدث معهم عمّا رأيته ممّا يبيِّن مستواك الرفيع وقيمتك الراقية {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وكأنّه يقول له: إن الشيطان قد يدخل إلى مشاعر أخوتك وأحاسيسهم، فيدعوهم أو يدفعهم إلى أن يكيدوا لك، ويتآمروا عليك، وأن يقودوك إلى الهلاك.

ونحن نستطيع أن نعي هذه الحالة التي عاشها أخوة يوسف تجاهه، من خلال الكثير من النماذج التي نعايشها في حياتنا، ممّن يعيشون العقدة في نفوسهم تجاه آخرين قد يكونون من أقربائهم، أو أصدقائهم، أو أصحاب الصنعة نفسها التي يمارسونها، أو الوظيفة نفسها، أو ما إلى ذلك ممّا يحسُد الناس بعضهم بعضاً فيه.

{وَأَنْ اعْبُدُونِي هذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}[16]، لأن العبادة لله وحده؛ فهو الخالق، وهو الرازق، وهو سرّ الوجود كلّه، وهو المهيمن على الأمر كله، وهو الذي يحيى ويميت، ويعطي ويمنع، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[17]، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[18]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[19]، فهو ولي النعمة، وهو صاحب كل حسنة، وهو منتهى كل رغبة. وكأنّ الله يريد ـ في هذه الفقرة ـ أن يقول: إذا أردتم أن تعبدوا فاعبدوني أنا؛ لأنني أنا سر الألوهية، وسر الربوبية.

وعبادة الله تكون بالانقياد المطلق له سبحانه؛ وبالالتزام بدينه وشريعته وإطاعته في كل شيء، فهو الذي يصل بالإنسان إلى النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة، ويحقق له السعادة في كل مجالات حياته. وعبادة الله سبحانه وتعالى هي الخط المستقيم الذي يحقق للإنسان التوازن بين الدنيا والآخرة؛ فلا تطغى الدنيا على الآخرة في مسؤولياتها، ولا تطغى الآخرة على الدنيا في ما يحصل عليه الإنسان منها في طاعة الله.

تجارب مريرة مع الشيطان

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً}[20]، أي جيلاً وجماعةً كثيرين. يبيّن الله سبحانه في هذه الآية نقطةً، وهي أنّ علينا أن ندرس الأجيال التي سبقتنا؛ كيف بغت؟ وكيف سقطت في التجربة؟ كيف ضلَّت وانحرفت عن الخط المستقيم؟ كيف واجهت مسوؤلياتها في معصية الله سبحانه وتعالى؟

والإنسان عندما يدرس التاريخ، بسلبيّاته وإيجابيّاته، وانحرافاته واستقامته، وأضاليله وهداه، ومتاهاته التي تاه فيها السابقون، ويقف على حقائق الأشياء، فإنّه يستطيع أن يحصل على العبرة والدرس، وذلك هو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}[21]؛ فيجتنب كلّ السلبيّات والانحرافات والأضاليل والمتاهات التي أبعدت السابقين عن الارتفاع إلى مواقع السموّ الفكري والروحي والأخلاقي والحضاري، ويأخذ بكلّ الإيجابيّات التي ترتفع به إلى تلك المواقع. وليس التاريخ قصّة نلهو بها، أو سياحة نتسلّى بها.

والله سبحانه وتعالى لا يريد لنا أن نعيش مع التاريخ على نحو يعزلنا عن أن نعيش مسؤوليّاتنا في الواقع، فنستشعر الأمجاد في تاريخ أبطالنا من دون أساس لها في حاضرنا، ونتقاتل باسم كلّ الذين اختلفوا في التاريخ من دون أن يكون للعداوة خطوط واقعيّة في من نواجهه في حياتنا. قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}[22]، وذهبت في كل متاهات الزمن {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، مما عملت، ومما قامت به في انتصاراتها وهزائمها، وفي استقاماتها وانحرافاتها، وفي كل ما صدر منها، وهي تتحمّل مسؤوليته أمام الله، {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} فأنتم الآن تتحملون مسؤولية كلّ ما تكسبون وما تعملون {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فالله لن يحاسبكم عمّا عملته الأجيال السابقة من خير أو من شر، بل سيحاسبكم على ما عملتم أنتم.

وبعد أن ينبّه إلى ما فعله الشيطان في الأجيال السابقة، يأتي السؤال ـ على سبيل الإنكار ـ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}؟! ما هي مهمة العقل؟!

العقل هو سيِّد الإنسان، وهو الذي يوجّهه إلى الخير، فيدفع به إلى أن يتلمَّس سبل سعادته عبر ما يختاره لنفسه مما يصلح أمره، ولا سيما فيما يتعلق بقضية المصير في الآخرة، ويبتعد به عمّا يفسد أمره، باعتبار أنّ العقل يحدّد للإنسان مواقع الحسن والقبح، ومواضع الخير والشر. فلماذا جمّدتم عقولكم، وامتنعتم عن أن تأخذوا الدروس من الذين سبقوكم، والذين أضلهم الشيطان، وأودى بهم إلى المصير السيّئ الذي عاشوا فيه غضب الله وسخطه؟! لماذا جمَّدتم عقولكم ومنعتموها من الحركة في هذا الاتجاه، حتى وقعتم تحت تأثير شهواتكم في دائرة شيطنة الشيطان الذي دفعكم إلى السّير في طريق الضلال؟! أتعرفون ما هي النتيجة؟

يتحدّث الله عن تلك النتيجة مخاطباً هؤلاء الناس الذين وقعوا في حبائل الشيطان: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[23].

 [ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة].


[1] (البينة:5)

[2] المحاسن، أحمد بنمحمد بن خالد البرقي، ج 1، ص 5

[3] مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج 7 ، ص 72

[4] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 3415

[5] (النساء:36)

[6] (الأعراف:59)

[7] (يس:60)

[8] (الأعراف:27)

[9] (الأعراف:16-17)

[10] (طه:117)

[11]  (البقرة:36)

[12] (الإسراء:53)

[13] (فاطر:6)

[14] (يوسف:4)

[15] (يوسف:5)

[16] (يس:61)

[17] (آل عمران:26)

[18] (النحل:53)

[19] (النحل:18)

[20] (يس:62)

[21] (يوسف:111)

[22] (البقرة:134)

[23]  (يس:63، 64)

اعتبر الإسلام مسألة العبادة من المسائل التي تمثِّل الخط العام لما أمر الله به، مما يتصل بكل أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته ومواقفه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنفَاءَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}[1]، أن يعبدوا الله عبادة خالصة ليس فيها أي شائبة.

العبادة في الإسلام

أكّد الإسلام أن تكون العبادة بالطاعة المطلقة لله، والخضوع له في كل الأمور، بحيث يذوب الإنسان في الله. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق(ع)، عمّن يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، قال: "ورجلٌ لم يقدم رجلاً ولم يؤخّر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضى أو يحبس"[2].

ومن جهة أخرى، اعتبر الإسلام قيام الإنسان بمسؤولياته فيما يعول به أهله، وفيما يعول به الناس الذين يسأله الله عن رعايتهم، اعتبر ذلك عبادةً؛ فقد ورد في الحديث: "العبادة عشرة أجزاء" ـ وفي رواية سبعون جزءاً ـ "أفضلها طلب الحلال"[3]، فعندما تطلب المال من حلّه لتقوم بمسؤوليّاتك في رعاية عيالك أو رعاية الناس من حولك، فأنت بذلك تعبد الله، سواء كنت في المزرعة أو في المصنع أو في المتجر، أو في أي موقع من مواقع طلب الرزق، إذا كنت مخلصاً في ذلك، ولم تحرّك رزقك في غير ما يريده الله سبحانه وتعالى.

وقد جاء في السنَّة النبوية الشريفة، أنّ أصحاب رسول الله(ص) رأوا رجلاً في جلْدة ونشاطة: فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله ـ أيْ في الجهاد ـ، فقال رسول الله(ص): "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"[4].

إذاً، عندما يطلب الإنسان المال في الحلال، ليحقِّق من خلال ما يجنيه الأهداف التي أرادها الله سبحانه له، فهو في حالة عبادة، وفي حالة سير في سبيل الله، وفي الطريق إليه سبحانه وتعالى.

التوحيد ركيزة العبادة الأولى

ومن الطبيعي أنَّ مسألة العبادة في الإسلام، هي مسألة التوحيد في عبادة الله، ولذلك، كانت كل العناوين الكبرى التي يطلقها الأنبياء لأممهم هي: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}[5]، {اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}[6]، ثم بعد تأكيدهم وحدانية الله، يدخلون في تفاصيل العبادة من خلال التشريعات التي يفصّلونها للناس.

وفي ضوء هذا، رفض الإسلام كل شرك في العبادة؛ حتى اعتبر الرياء في العبادة مبطلاً لها، وهو أن يصلّي الإنسان ليراه الناس، أو أن يحج لذلك، وقد اعتُبر الرّياء من الشرك الخفيّ، لأن على الإنسان أن يخلص العبادة لله.

عبادة الإنسان للشيطان

وقد تحدث الله ـ في كتابه ـ عن عبادة بني آدم للشيطان في مقابل عبادتهم لله. وهذا ما جاء في سورة (يس): {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[7]، فكيف نتمثل عبادة بني آدم للشيطان؟

العبادة ـ في مفهومها ـ تمثّل غاية الخضوع والاستسلام المطلق، وبتعبير آخر: هي الذوبان في الشخص أو الجهة، في ما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يكون لك كلمة مع كلمته، ولا يكون لك موقف أمام ما يريده من موقف، ولا يكون لك خطّ أمام ما يسيّره من خطّ.

وعبادة الشيطان تتمثّل بعبادة الفكر، وذلك في الاستسلام لما يثيره الشيطان في عقول الناس من مفاهيم الكفر والشرك وخطوط الضلال، وفي ما يحرّكه في مشاعرهم وأحاسيسهم من وساوس الشرّ، ليدفعهم نحو الانحراف في السلوك والعمل.

ويريد الله سبحانه ـ في نوعٍ من العتاب واللوم ـ أن ينبّه الناس ويحذّرهم من الانقياد إلى الشيطان والاستسلام له، وقد قصّ علينا كيف أن الشيطان أخرج أبوينا من الجنة، وقال لنا: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة}[8]، فهو يخطط ليخرجكم منها أيضاً، أو ليمنعكم من دخولها، وهذا ما حدّثنا به القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[9]. وأنتم عندما تطيعون الشيطان فكرياً وعملياً في كل الواقع، فأنتم تعبدونه عمليّاً، وإن لم تعترفوا بذلك نظريّاً؛ لأن العبادة ليست أن تقول للشخص إني أعبدك فحسب، بل العبادة هي أن تستسلم له من دون أي تفكير، ومن دون أي حساب ـ كما ذكرنا ـ ومن هذا الباب، تكون عبادة الشخصية، وعبادة الناس بعضهم بعضاً؛ حيث إنّ هناك مَن يعبد زوجته، ومن تعبد زوجها، وهناك من يعبدون الشخصيات الاجتماعية، وربما حتى الشخصيات الدينية بشكل وآخر.

{إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}: هنا يريد الله سبحانه أن يركّز في نفوس بني آدم ما ركّزه في نفس آدم وحواء، حيث قال لهما: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة فَتَشْقَى}[10]، فقد الله أعلن لآدم وحوّاء، أنَّ الشيطان يختزن في داخله العداوة لهما، وذلك من خلال عقد الكبرياء والعصبيّة في نفسه. وفي آية أخرى، يقول تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[11].

خطوط العداوة

وقد أكّد القرآن الكريم في أكثر من آية، عداوة الشيطان للإنسان، في ما يدخل في حياتنا الاجتماعية، سواء في بيوتنا مع عوائلنا، أو في مجتمعاتنا مع الناس الذين نتحرك معهم في علاقاتنا ومعاملاتنا، في السلم والحرب، في السياسة والأمن والاقتصاد وما إلى ذلك.

فمن ذلك قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيطانَ كان للإنْسَان عَدُوّاً مُبِينَاً}[12]؛ فالله سبحانه أعطاك هذا اللسان الذي ألهمك لأن تعبر به عمّا في نفسك، وأن تقول الكلمة التي تريد أن تنقلها إلى الآخر. والكلام على أنحاء: كلام للخير وكلام للشر، كلام يجمع وكلام يفرِّق، كلام يؤدي إلى الفتنة وكلام يؤدِّي إلى اللقاء والتواصل، فالله يقول للإنسان: انتبه إلى كلماتك، وادرسها دراسة دقيقة، ادرس نتائجها، سواء عندما تتحدث مع عائلتك، أو مع أقربائك، أو مع أصدقائك، أو مع الناس الذين تختلف معهم، سواء كان هذا الاختلاف اختلافاً مذهبياً، لأنك على مذهب وهم على مذهب آخر، أو طائفياً لأنك على دين وهم على دين آخر، أو سياسياً لأنك في اتجاه سياسي معين والآخرين في اتجاه آخر.

وفي آية أخرى، يركز على أنّ مسألة التعامل مع الشيطان كالتعامل مع العدو، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر:5)، والغرور هو الشيطان، أي الخدّاع الذي يحاول أن يغرّكم، فيصوّر لكم الأشياء الخيالية التي ليس لها أيّة واقعية بصورة الحقيقة، لتسيروا في اتجاهها وما إلى ذلك. {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}[13]، لأنه يريد أن يخرجكم من الجنة ويبعدكم عن الصراط المستقيم، {فَاتَّخذُوهُ عَدُوّاً}، يعني: تعاملوا معه كما تتعاملون مع أعدائكم، وذلك بالحذر من كلِّ ما يصدر منه، سواء كان ما يصدر منه كلاماً يوحي به إلى الإنسان، أو نصائح ينصحه بها، كما اتخذ إبليس صفة الناصح لآدم وحواء. وحتى لو تكلَّم بكلام يوحي بالخير، فإنّ على الإنسان أن يكون حذراً، وأن يتنبّه إلى خلفيات هذا الكلام، لأنّه سيكون كلام حق يراد به باطل، أو كلام خير يراد به الشر.

ثم إنَّ الله سبحانه يعلِّل مسألة عداوة الشيطان لنا، ولماذا يجب أن نتّخذه عدوّاً: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ}، هؤلاء الذين يطيعونه، والذين يسيرون في خطواته، والذين يخضعون لوسوسته، والذين يأخذون بتزييناته، وما إلى ذلك {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، لا يقول لهم: كونوا من أصحاب السعير، ولكنه يدعوهم من خلال ما يقدمه لهم من التعليمات، إلى السير في الخطوط التي يريد لهم أن يسيروا عليها، ممّا تكون نتيجته السعير وغضب الله سبحانه.

وفي حديث الله عن الحوار الذي جرى بين يعقوب ويوسف(ع) حول رؤيا يوسف، تعرّض القرآن لهذه العداوة الشيطانية، فقال تعالى: ـ على لسان يوسف ـ: {إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[14]، وبما أنّ يعقوب كان يُدرك مدى الحساسية التي يحملها إخوة يوسف تجاه أخيهم؛ ليس لأنه كان آية في الجمال فحسب، بل لأنّه كان على درجة عالية من الوعي والتقوى والعلم على صغر سنه، أراد أن يحذّره: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}[15]، يعني لا تتحدث معهم عمّا رأيته ممّا يبيِّن مستواك الرفيع وقيمتك الراقية {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وكأنّه يقول له: إن الشيطان قد يدخل إلى مشاعر أخوتك وأحاسيسهم، فيدعوهم أو يدفعهم إلى أن يكيدوا لك، ويتآمروا عليك، وأن يقودوك إلى الهلاك.

ونحن نستطيع أن نعي هذه الحالة التي عاشها أخوة يوسف تجاهه، من خلال الكثير من النماذج التي نعايشها في حياتنا، ممّن يعيشون العقدة في نفوسهم تجاه آخرين قد يكونون من أقربائهم، أو أصدقائهم، أو أصحاب الصنعة نفسها التي يمارسونها، أو الوظيفة نفسها، أو ما إلى ذلك ممّا يحسُد الناس بعضهم بعضاً فيه.

{وَأَنْ اعْبُدُونِي هذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}[16]، لأن العبادة لله وحده؛ فهو الخالق، وهو الرازق، وهو سرّ الوجود كلّه، وهو المهيمن على الأمر كله، وهو الذي يحيى ويميت، ويعطي ويمنع، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[17]، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[18]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[19]، فهو ولي النعمة، وهو صاحب كل حسنة، وهو منتهى كل رغبة. وكأنّ الله يريد ـ في هذه الفقرة ـ أن يقول: إذا أردتم أن تعبدوا فاعبدوني أنا؛ لأنني أنا سر الألوهية، وسر الربوبية.

وعبادة الله تكون بالانقياد المطلق له سبحانه؛ وبالالتزام بدينه وشريعته وإطاعته في كل شيء، فهو الذي يصل بالإنسان إلى النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة، ويحقق له السعادة في كل مجالات حياته. وعبادة الله سبحانه وتعالى هي الخط المستقيم الذي يحقق للإنسان التوازن بين الدنيا والآخرة؛ فلا تطغى الدنيا على الآخرة في مسؤولياتها، ولا تطغى الآخرة على الدنيا في ما يحصل عليه الإنسان منها في طاعة الله.

تجارب مريرة مع الشيطان

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً}[20]، أي جيلاً وجماعةً كثيرين. يبيّن الله سبحانه في هذه الآية نقطةً، وهي أنّ علينا أن ندرس الأجيال التي سبقتنا؛ كيف بغت؟ وكيف سقطت في التجربة؟ كيف ضلَّت وانحرفت عن الخط المستقيم؟ كيف واجهت مسوؤلياتها في معصية الله سبحانه وتعالى؟

والإنسان عندما يدرس التاريخ، بسلبيّاته وإيجابيّاته، وانحرافاته واستقامته، وأضاليله وهداه، ومتاهاته التي تاه فيها السابقون، ويقف على حقائق الأشياء، فإنّه يستطيع أن يحصل على العبرة والدرس، وذلك هو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}[21]؛ فيجتنب كلّ السلبيّات والانحرافات والأضاليل والمتاهات التي أبعدت السابقين عن الارتفاع إلى مواقع السموّ الفكري والروحي والأخلاقي والحضاري، ويأخذ بكلّ الإيجابيّات التي ترتفع به إلى تلك المواقع. وليس التاريخ قصّة نلهو بها، أو سياحة نتسلّى بها.

والله سبحانه وتعالى لا يريد لنا أن نعيش مع التاريخ على نحو يعزلنا عن أن نعيش مسؤوليّاتنا في الواقع، فنستشعر الأمجاد في تاريخ أبطالنا من دون أساس لها في حاضرنا، ونتقاتل باسم كلّ الذين اختلفوا في التاريخ من دون أن يكون للعداوة خطوط واقعيّة في من نواجهه في حياتنا. قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}[22]، وذهبت في كل متاهات الزمن {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، مما عملت، ومما قامت به في انتصاراتها وهزائمها، وفي استقاماتها وانحرافاتها، وفي كل ما صدر منها، وهي تتحمّل مسؤوليته أمام الله، {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} فأنتم الآن تتحملون مسؤولية كلّ ما تكسبون وما تعملون {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فالله لن يحاسبكم عمّا عملته الأجيال السابقة من خير أو من شر، بل سيحاسبكم على ما عملتم أنتم.

وبعد أن ينبّه إلى ما فعله الشيطان في الأجيال السابقة، يأتي السؤال ـ على سبيل الإنكار ـ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}؟! ما هي مهمة العقل؟!

العقل هو سيِّد الإنسان، وهو الذي يوجّهه إلى الخير، فيدفع به إلى أن يتلمَّس سبل سعادته عبر ما يختاره لنفسه مما يصلح أمره، ولا سيما فيما يتعلق بقضية المصير في الآخرة، ويبتعد به عمّا يفسد أمره، باعتبار أنّ العقل يحدّد للإنسان مواقع الحسن والقبح، ومواضع الخير والشر. فلماذا جمّدتم عقولكم، وامتنعتم عن أن تأخذوا الدروس من الذين سبقوكم، والذين أضلهم الشيطان، وأودى بهم إلى المصير السيّئ الذي عاشوا فيه غضب الله وسخطه؟! لماذا جمَّدتم عقولكم ومنعتموها من الحركة في هذا الاتجاه، حتى وقعتم تحت تأثير شهواتكم في دائرة شيطنة الشيطان الذي دفعكم إلى السّير في طريق الضلال؟! أتعرفون ما هي النتيجة؟

يتحدّث الله عن تلك النتيجة مخاطباً هؤلاء الناس الذين وقعوا في حبائل الشيطان: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[23].

 [ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة].


[1] (البينة:5)

[2] المحاسن، أحمد بنمحمد بن خالد البرقي، ج 1، ص 5

[3] مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج 7 ، ص 72

[4] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 3415

[5] (النساء:36)

[6] (الأعراف:59)

[7] (يس:60)

[8] (الأعراف:27)

[9] (الأعراف:16-17)

[10] (طه:117)

[11]  (البقرة:36)

[12] (الإسراء:53)

[13] (فاطر:6)

[14] (يوسف:4)

[15] (يوسف:5)

[16] (يس:61)

[17] (آل عمران:26)

[18] (النحل:53)

[19] (النحل:18)

[20] (يس:62)

[21] (يوسف:111)

[22] (البقرة:134)

[23]  (يس:63، 64)

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية