لا نزال نتابع الحديث عن الشيطان. ونحاول هنا أن نتعرَّف إلى الأساليب التي يستعملها ويستخدمها ضدّ الإنسان. وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض هذه الوسائل، باعتبار أن هذا المخلوق هو مخلوق العقدة، بمعنى أنه عاش العقدة ضد الإنسان، ولذلك عمل، بكل ما يملك من وسائل التخطيط والتنفيذ، من أجل أن يستحوذ على الإنسان ويسيطر عليه، من خلال الدخول إلى خلجات فكره ومشاعره وحركته في الحياة.
مخلوق العقدة
وفي هذا المجال، يحدّثنا الله تعالى عمّا كان يتوعّد به الشيطان أبناء آدم، في كل أساليب الشيطنة الخفية والمعلنة: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللَّهُ} وأبعده عن ساحة رحمته، {وَقَالَ} وهو يتوعّد، بعد أن أمهله الله للبقاء في الأرض مع الإنسان إلى يوم القيامة: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}[1]، أي لآخذنّ نصيباً من عبادك ليكونوا أوليائي وجماعتي وجندي، وليسيروا حسب مخططاتي.
ثمّ يتوعد أنّه سوف يستعمل كل الوسائل التي يملكها ليبعدهم عن الصراط المستقيم: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[2]، وكأنّه يريد أن يقول لله سبحانه وتعالى، إن طريقتي هي أن أقعد لهم في الساحة التي توصلهم إلى الهدى؛ لأمنعهم من سلوك طريقه، ولأعمل على الإحاطة بهم؛ سأدخل إلى عقولهم حتى لا تنتج الحق، وإلى قلوبهم حتى لا تنتج الخير، وإلى حياتهم حتى لا تتحرك في اتجاه العدل والصلاح؛ سوف أحاصرهم بكل وسائلي، وبكل خططي؛ حتى لا يشعروا بأية حرية تدفعهم إلى أن يستضيئوا بفكر، أو يستمعوا إلى هدى.
{وَلأُضِلَّنَّهُمْ}، وذلك باستخدام كل وسائل الضلال، فأمنعهم من أن يفكّروا في نطاق الإيمان، وأن يستمعوا إلى كل آيات الوحي، وأن ينفتحوا على كل وسائل الأنبياء، ولأضلّهم أيضاً بأن أفتح لهم كل مواقع المعرفة الضالّة المضلّة، في ما أثيره في داخلهم من الشبهات والإشكالات؛ فلا تستقر عقولهم على قاعدة الإيمان، ما يجعلهم يتحركون معي في طرق الضلال.
الأحلام الشيطانية
{وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}، فالإنسان ينفتح على الأماني وعلى الأحلام في ما لا يملك أمره في الواقع، ولذلك يتعلق الناس بكل الذين يثيرون أمامهم الأمنيات المشوقة، والأحلام المعسولة، حتى لو كانت خيالية وغير واقعية؛ لأن الإنسان عندما يطبق عليه الواقع، فإنه يلجأ إلى الخيال أو الأحلام لكي يتخلّص بذلك من واقعه إلى واقع أفضل، كما يقول الشاعر:
مُنىً إن تكُنْ حقاً تَكُنْ أعذبَ المنى وإلا فقد عشنا بها زمنـاً رغداً
لذلك، سوف أثير ـ كما يقول الشيطان ـ الأمنيات والأحلام للإنسان لأبعده عن الواقع، ولأبعده عن المسؤولية، وعن الرسالة؛ لأن الإنسان إذا عاش في أحلامه الخيالية، فإنه يعيش الغفلة عن كل ما كلّفه به الله سبحانه وتعالى.
ونحن نعرف أن الكثير من الذين يسيطرون على حياة الناس وعلى عقولهم، يقدّمون لهم الأحلام فيما يمكن أن يحققّوه في المستقبل، والأمنيات التي تخاطب غرائزهم وأوضاعهم، من أجل أن يحصلوا منهم على مكسبٍ هنا، أو تنازلٍ عن مبدأ هناك، أو أن يطلبوا تأييداً في موقفٍ سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو ما إلى ذلك، ممّا لا يرضاه الله.
تحريم الحلال
{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}[3]. والتبتيك هو شقّ الأذن. هذه المسألة تتّصل بالجو الذي كان سائداً في الجاهلية، وهو أن الجاهليين كانوا يحرّمون ما أحلَّه الله، وقد يحلّون ما حرَّمه الله. وكان من ذلك، أنّهم إذا شقوا آذان الأنعام والبقر والغنم حرّموها على أنفسهم، وجعلوها من حصّة الأصنام. ولذلك، جاء تعبير إبليس بذلك، كنايةً عن أنّهم يحرّمون ما أحلّ الله، وكأنّه يقول من خلال هذا النموذج الموجود عندهم: إنني سوف أجعلهم يحرِّمون ما أحل الله، وهذا يمثّل انحرافاً بالناس عن الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع الحرام والحلال، فلا يجوز لإنسان أن يحرّم ما أحلّ الله، أو يحلّ ما حرّمه. ولذلك قال تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}[4]، حيث لا يحقّ للإنسان أن ينسب إلى الله تعالى أمراً، إلا أن يثبت بالحجّة والبرهان أنّه أمر به، أو نهى عنه.
تغيير الفطرة
{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[5]. اختلف المفسّرون في المراد من تغيير خلق الله، فبعضهُم قال إنّه الخصاء، وهذا ما كان متعارفاً عليه بالنسبة إلى العبيد الموجودين في قصور الملوك والسلاطين، حتى يأمنوا من خلال ذلك على نسائهم. وبعضهم قال إنّه الوشم. وربّما رأى بعضٌ منهم حلق اللحية، باعتبار أن حلق اللحية هو تغيير لما خلقه الله سبحانه وتعالى، ورأى آخرون أنّه الشمس والقمر والحجارة، عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها. وبالجملة، فهذه الأقوال ـ ما عدا الأخير ـ ترتكز على أنّ التغيير هو تغيير في الجسد.
ولكن ما ورد عن الأئمة من أهل البيت(ع)، يدلُّ على أن المقصود هو تغيير الفطرة، أو تغيير دين الله. ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[6]، فعبّر عن الفطرة بأنّها خلق الله. وهذا المعنى أقرب إلى دور الشيطان، الذي ينطلق لإبعاد الإنسان عن فطرة التوحيد، وعن الانفتاح على الله سبحانه وتعالى. ومن المرويّ في هذا المجال، ما ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع)، في قول الله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[7]، قال: "أمر الله بما أمر به"[8]. وعن الباقر(ع)، قال: "دين الله"[9].
على أنّه يُمكن أن يُقال: لو أخذنا بإطلاق الآية، لاقتضى ذلك القول بحرمة كلّ تغييرٍ يطاول ما خلقه الله، وليس ذلك في الإنسان فحسب، فإنّه عندها لا يجوز لنا أن نقطع الأشجار، ولا أن نفجّر الأنهار، بل يجب أن نأخذ ما ورثناه من صورة العالم من دون أن نغير شيئاً، وهذا أمر لا يُمكن أن يلتزم به أحد.
ثم إن الله سبحانه وتعالى يعلّق على تهديد إبليس ووعيده لبني آدم: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}[10]، لماذا ذلك؟ لأنه {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}، فهو يعدهم بالخير الوفير، ويدفعهم إلى الأماني الحالمة التي قد يوحي لهم بأنها تجلب لهم السعادة، ولكنهم يكتشفون أنّهم لم يكونوا إلا في أحلامٍ ورديّة، أو أماني عذبةٍ ليس وراءها إلا السراب والواقع المرّ، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}[11]؛ لأن وعوده ليست الوعود التي يمكن أن تصبّ في مصلحة الإنسان وفي نجاته في الدنيا والآخرة، بل إن الشيطان يخدع الإنسان عندما يدرس بعض مشاعره وبعض أحاسيسه، من أجل أن يحركها في اتجاه شهواته وغرائزه التي قد تؤدي به إلى الخسران المبين.
ثمّ يحدّث الله تعالى عن جزاء الذين يتّخذون الشيطان وليّاً من دون الله، فيقول: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}[12].
منع الإنفاق والأمر بالفحشاء
وفي آية أخرى، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[13]. هنا، يتحدّث الله سبحانه وتعالى في مسألة، وهي أن الشيطان عندما ينطلق إلى الإنسان وهو ينفق مما رزقه الله، ويتصدق، أو يدفع زكاته، وغير ذلك من الحقوق الشرعية، فإنَّ الشيطان يأتيه ويقول له، إنك إذا صرفت مالك في أداء الحقوق الشرعية وفي الصدقات وفي إعانة الفقراء والمساكين، سوف تفتقر، ولذلك احتفظ بمالك. ونظير ذلك ما ورد في قوله تعالى حكايةً عن الذين يأمرهم الأنبياء بإعطاء حقوق الله في أموالهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[14]، فنحن لسنا مسؤولين عن الناس، بل الله هو الذي خلقهم وهو المسؤول عنهم.
وهذه وسيلة شيطانيّة من أجل منع الإنسان من أن يحرّك قوّة المال الاقتصاديّة فيما ينفع الناس ويعزّز إمكانات المجتمع، وذلك بإثارة كلّ عناصر التقتير التي تصوّر له أنّه لو استمرّ في الإنفاق من ماله، فإنّه سيفتقر في نهاية المطاف، وكأنّه هو يتعبُ ويشقى ليأتي غيره ويأخذ المال. وربّما يوحي إليه ـ لو أراد الإنفاق ـ بأن يصرف من المال الذي لا حاجة له به، وقد يطرحه في الأرض، وهو ما عبّرت عنه الآية بالخبيث الذي لا يأخذه الإنسان، ولا يحتفظ به إلا بطريقة لا تنسجم مع رغباته، بينما يريد الله منه أن ينفق الطيّب من المال الذي يكتسبه بالتجارة أو يزرعه في الأرض.
{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}. المراد بالفحشاء ما يتجاوز الحد، أي أنّ الشيطان يأمركم بما يتجاوز الحدود التي يريد الله منكم أن تقفوا عندها وأن تأخذوا بها، {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}[15]، فالله سبحانه وتعالى عندما يريد منكم أن تنفقوا من أموالكم، فإنّه يمنحكم النتائج الإيجابيّة في الدنيا فيما يفتحه لكم من آفاق فضله ونعمه، وفي الآخرة فيما تحصلون عليه من مغفرته. والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء}[16].
أساليب أخرى
وفي آيةٍ أخرى، يقول الله تعالى وهو يحدّثنا عن موقف إبليس عندما أمره بالسجود لآدم: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}[17]، أأسجد لهذا المخلوق من التراب؟! {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}[18]. لأحتنكنّ لها معنيان: الأوّل: لأقودنّ، مأخوذة من تحنيك الدابّة، إذا شدّ على حنكها الأسفل بحبل يقودها به، والثاني: لأقتطعنّهم من الأصل وأستأصلنّهم، من احتنك الأرض إذا جرّد ما عليها. والقليل المستثنَوْن هم أولئك الذين يحرّكون عقولهم، والذين لا يخضعون لنداء شهواتهم، بل يعطون الشهوة دورها في حركة الجسد بما يلبّي حاجاته الطبيعيّة، ويمنعونها من التحرّك في ما يهدّد حياتهم وطُهرها وصفاءها في آفاق الروح، ويتحرّكون في اتجاه الدور الطبيعي المميّز الذي خلق الله الإنسان من أجله، وهو الخلافة في الأرض.
{قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} وجمّد عقله أمام شهوته، وفكره أمام غريزته، {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا}[19]، أي جزاءً كاملاً. ثم إنَّ الله توعده بالخيبة، فقال له: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}: أطلق صوتك، واستخفّ بهؤلاء حتى يستثيرهم نداؤك فيتّبعوك، {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}، وهذا القول وارد على سبيل الكناية والتمثيل، فحال الشيطان في تسلّطه على من يسعى لغوايته، حالُ الذي يقع على قومٍ فيصوّت بهم صوتاً يستفزّهم من أماكنهم ويقلقهم عن مواقعهم، وهو يحشد بذلك كلّ جنوده، من خيّالة ورجّالة، {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، وذلك بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعيّة في اكتساب المال، كالقمار والربا والسرقة والغصب، أو في إنفاقه في الموارد المحرّمة، أو بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في إنجاب الأولاد، عن طريق الزنى، أو في تربية من ولد منهم شرعيّاً على غير النهج الشرعي، الأمر الذي يجعل هناك نوعاً من الشراكة بين الشيطان وصاحب المال أو الولد.
وقد ورد في الحديث عن عليّ(ع) قال: "قال رسول الله(ص): "إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فإنّك إن فتّشته لم تجده إلا لغيّة أو شرك شيطان". فقيل: يا رسول الله، وفي الناس شرك شيطان؟ فقال رسول الله(ص): "أما تقرأ قول الله عزّ وجلّ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}""[20].
{وَعِدْهُمْ} بكلّ الوعود الكاذبة التي تثير فيها أمامهم أحلام المستقبل الذهبيّة التي تجرّهم إلى معصية الله، وتنحرف بهم عن خطّه المستقيم، وتؤدّي بهم إلى الاستسلام، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}[21]، فليس لوعوده حقيقة؛ لأنّه لا يملك من الأمر شيئاً، إلا أن يزيّن لهم الواقع، ويصوّر لهم صوراً خياليّة تثير غرائزهم وشهواتهم وأطماعهم.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}[22]؛ لأنّ عباد الله هم الأقوياء في إيمانهم، والأشدّاء في إرادتهم في الثبات على الاستقامة، وهم الذين باعوا أنفسهم لله، فلم يكن لهم مع الله أمر، ولا في غير خطّ الله طموح، ولا لغير الله إخلاص.
البراءة الكاملة
وفي حديثٍ آخر، يتحدّث النصّ القرآني عن نموذجٍ من النّاس يعدون ويخلفون، وهم المنافقون الذين كانوا يعرضون على اليهود المساعدة والنصرة على النبي، ولكن الله سبحانه وتعالى يبيّن أنهم يقولون لليهود كلاماً لن يستطيعوا الوفاء به في الواقع، ثم يشبّه وعودهم بوعود الشيطان، إذ يقول في هذه المسألة في سورة الحشر: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، وهم اليهود الذين كانوا في المدينة، {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي طُردتُم وأجليتم عن المدينة، {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} تضامناً معكم، {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا}؛ لا نطيع النبي والمسلمين، {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ}، فنحن مستعدّون لأن نكون معكم في القتال، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[23]، في كل هذه الوعود التي قدّموها إلى اليهود.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا}، أي اليهود من المدينة {لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}[24]، يعني يهربون من المعركة. وتتابع الآيات إلى أن يقول الله بعد ذلك: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ}، وكأنّه يقول للإنسان: لا تحمِّلْني المسؤولية في انحرافك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} عاقبة الشيطان ومن أغواه الشيطان {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ}[25].
وفي مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، يصوّر القرآن الكريم الحقيقة الواضحة، وهي تنصّل الشيطان من كلّ مسؤوليّة يحاول أن يحتجّ بها الذين وقعوا في شركه وخضعوا لغوايته، يقول تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} في يوم القيامة {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}[26]، وقال لكم ـ كما في أكثر من آية في القرآن الكريم ـ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[27]، وبشّر المؤمنين بالجنّة، والعاصين بعذابه وسخطه، كما حذّركم من خطوات الشيطان، وقال لكم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[28]، {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} وزيّنت لكم أعمالكم، ووعدتُكم بوعودي الكاذبة، حتى صدّقتم أنّه ليس هناك جنة ولا نار ولا حساب ولا عقاب، والله قال لكم: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}[29].
ثمّ يقول الشيطان للإنسان: {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ} بحيث أشلُّ قدرتكم على التفكير، وأشلُّ إرادتكم عن الحركة، {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} يعني ضربت الطبل فاجتمعتم حول صوت الطبل، {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، لأن الله أعطاكم عقلاً وإرادةً، وأرسل إليكم رسلاً، وعرَّفكم معنى الشيطان، وأرشدكم إلى مسؤولياتكم، وما هي نتائج حساب المسؤولية في الآخرة، ولكنّكم لم تلتفتوا إلى ذلك كله، فلا تلوموني في ذلك؛ لأن عملي كان أن أحول بينكم وبين الجنة، وأن أدفعكم إلى الدخول في النار، {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} إذا صرختم بسبب العذاب، {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} إذا أنا عُذِّبْتُ، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}[30]، عندما جعلتموني شريكاً لله. هذه هي المسألة، ويبقى للشيطان حديث آخر ما دامت مشكلتنا معه مستمرة.
[ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة].
[1] (النساء:117-118)
[2] (الأعراف:16-17)
[3] (النساء:119)
[4] (يونس:59)
[5] (النساء:119)
[6] (الرّوم:30)
[7] (النساء:119)
[8] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 60، ص 219
[9] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 60، ص 219
[10] (النساء:119)
[11] (النساء:120)
[12] (النساء:121)
[13] (البقرة:266-268)
[14] (يس:47)
[15] (البقرة:268)
[16] (البقرة:261)
[17] (الإسراء:61)
[18] (الإسراء:62)
[19] (الإسراء:63)
[20] موسوعة أهل البيت(ع)، الشيخ هادي النجفي، ج 2، ص 29
[21] (الإسراء:64)
[22] (الإسراء:65)
[23] (الحشر:11)
[24] (الحشر:12)
[25] (الحشر:16-17)
[26] (إبراهيم:22)
[27] (الزلزلة:7-8)
[28] (فاطر:6)
[29] (النساء:120)
[30] (إبراهيم:22)