حركة النفاق في أساليبها ونتائجها

حركة النفاق في أساليبها ونتائجها

حركة النفاق في أساليبها ونتائجها(*)
تحدَّث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن المنافقين في صورهم المتعدّدة في داخل المخيمات الإنسانية بشكلٍ عام وفي داخل المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاص. وذكر المنافقين الذين كانوا يتّخذون النفاق الديني أسلوباً ينفذون من خلاله إلى واقع حياة المسلمين ليأخذوا شرعية وجودهم في المجتمع الإسلامي من خلال الصورة الظاهرة التي ينتمون في واجهتها إلى الإسلام، ولكنَّ علاقاتهم الخفيّة بالكفر والكافرين تجعلهم يعملون بكلّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يستفيدوا من انتمائهم الإسلامي، في تخطيط لما يريد الكافرون منهم أن يخطِّطوا وفي الاطّلاع على الأسرار الإسلامية، في ما يريد لهم الكافرون أن يطّلعوا على هذه الأسرار، وفي تنفيذ المخطّطات التي يرسمها هؤلاء ضدّ الإسلام والمسلمين.
صور النفاق في القرآن
الصورة الأولى يقدّمها الله إلينا في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 8 ـــ 16].
هذا النموذج من الناس يصوّره الله لنا على أساس أنّ أفراده يعتبرون أنفسهم أذكياء يتقنون الحيلة ويتقنون المكر والدّهاء، ويعملون على أساس أن يطرحوا أنفسهم كمؤمنين، وكمسلمين في الساحة، ولكنّ واقعهم غير ذلك، يتحرّكون مع المؤمنين بأساليبهم الخدّاعة وهم يخيّلون لأنفسهم أنّهم يخادعون الله. لاحظوا أنَّ الله لم يقل يخدعون الله. بل قال "يخادعون الله" يعني يتصرّفون مع الله تصرّف المخادع، حيث إِنّهم يصلّون في المساجد ويتحرّكون في المواقع الإيمانية حتّى يخيّل لمن يراهم أنّهم من المؤمنين، وبذلك فهم يمارسون أساليب الخداع لتنطلي الحيلة على المؤمنين.
ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول عنهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} فهم يخيَّل إليهم أنّ خداعهم ينطلي على من حولهم، ولكن في الواقع ينطلي على أنفسهم لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط بكلّ خداعهم، ويظهر كلّ خداعهم، ويخطّط لهم من حيث لا يشعرون.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} النفاق حالة مَرَضِيّة في داخل عقل الإنسان، وفي داخل قلبه، فالإنسان المنافق هو إنسان انتهازي يفكّر في أن يخدم نفسه ومصالحه، ويخيَّل له أنّه يستطيع أن يحافظ على مصالحه هنا ومصالحه هناك. فهو مع المؤمنين مؤمن، ومع الكافرين كافر، فيحقّق لنفسه أطماعه مع المؤمنين لأنه محسوب منهم، ويحقّق لنفسه أطماعه مع الكافرين لأنّه في العمق منهم، ويعتبر أنّ هذا يمثّل ضرباً من الذكاء ومن "الشيطنة" التي تتيح له أن يعيش بشكلٍ متوازن بين هذا الفريق وبين ذاك.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، إنَّ هذا المرض الخفي الذي يتمثّل في الحالة النفاقية العقلية والقلبية. هذا المرض الخفي يزيده الله سبحانه وتعالى إلى أن تظهر علاماته في حياة هؤلاء، {فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

الإسلام الحقّ في مواجهة الإسلام المزيّف
ثمّ يحدّثنا الله عن هؤلاء الذين يتكبّرون على الناس عندما يتحرّكون في الإيمان بطريقة ليست على النهج الذي يسير عليه المؤمنون، ككثير من الناس الذين ينطلقون في حياتهم على أساس أنَّهم مؤمنون وأنّهم مسلمون، ولكنّهم يقولون إنّ إيماننا من نوعٍ آخر، وإنّ إسلامنا من نوعٍ آخر، يجعلون لأنفسهم إيماناً على طريقتهم، بحيث إِنّ إيمانهم لا يتحدّى مصالحهم وأطماعهم، ويجعلون إسلامهم إسلاماً على طريقتهم، فيحلّلون ما كانت مصلحتهم في تحليله، ويحرّمون ما كانت مصلحتهم في تحريمه، وهكذا يتحرّكون في المجتمع باسم الإسلام وباسم الإيمان، كما نشاهده في الكثير من الملوك، والرؤساء، والسياسيين، والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية، والشخصيات الاجتماعية عندما تتحدّث عن إسلام عاقل مهذّب، لا يثير المشاكل، ولا يتحدّى الواقع الفاسد، ولا يواجه الضغوط الاستكبارية، ولا يدخل في معركة مع الكفر، ولا يثير مشاكل للضلال. إسلام يحقّق لنفسه سلاماً على حساب قيمه، وعلى حساب واقعه، ومسلمون يحقّقون لأنفسهم امتيازات على مستوى الحكم، وعلى مستوى السياسة وعلى مستوى الاقتصاد، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية حتّى يتمشّى هذا الإسلام مع كلّ الكفر الذي يحيط بالمجتمع، ومع كلّ الضلال الذي يحيط بالمجتمع. وينطلق الإسلام الحقّ في الساحة ليواجه ويتحدّى وليدعو وليجاهد وليقاتل، حتّى يحرّك الحياة على أساس أن تكون الحياة لله وأن يكون الدين لله؛ أن لا يكون الدين امتيازاً لأشخاص يضخّمون به أوضاعهم ويضخّمون به امتيازاتهم، بل يكون الإسلام لله كما أراد الله أن يكون؛ إسلام العدل، إسلام الحريّة، إسلام العزّة والكرامة. وعندما يتحرّك هذا الإسلام في السّاحة ويقول الناس لهؤلاء لماذا لا تأخذون بالإسلام الحقّ؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام الحركي؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المقاوم؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المجاهد؟ لماذا تريدون الإسلام أن يكون موظّفاً في بلاطات الملوك والرؤساء أو أن يكون الإسلام موظّفاً في هذه الدائرة أو تلك الدائرة؟ لماذا لا تسيرون على خطّ هذا الإسلام الذي يخدم عباد الله المستضعفين والذي يعمل على أن يضع المستكبرين؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ} وهذا في زمان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي زماننا، آمنوا كما آمن الناس الذين يقاتلون المشركين مع القيادة النبويّة، آمنوا كما آمن الناس الذين يؤكّدون مواقفهم من خلال الالتزام بأوامر الله ونواهيه، آمنوا كما آمن الناس، اجعلوا الإسلام يمثّل كلّ حياتهم، ولا يكن لهم كفر في جانب وإسلام في جانب، فما هو جوابهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} نحن نريد الإسلام المثقّف، نحن نريد الإسلام الذي ينطلق في الدرجات العليا، الإسلام الذي يلتزمه الملوك والرؤساء والوجهاء والأغنياء وكلّ هؤلاء، لأنَّ إسلامكم هو إسلام الشعب، وماذا يفهم، إنّهم قد يقولون ذلك، إنّنا نريد الإسلام المتطوّر، نريد الإسلام المقتدر، نريد الإسلام الذي لا يشاغب، لا نريد إسلام السفهاء هؤلاء، الذين يقفون في خطّ المواجهة للاستكبار، وللاستعمار ولكلّ القوى الباغية الظالمة؛ يقفون ويتحرّكون بطريقة ينشرون فيها المشاكل في المجتمع، ولا يجعلون الناس يرتاحون في حياتهم وبيوتهم، نحن لا نريد إسلاماً كإسلام السفهاء، يتدخّل في حريّات الناس ليمنع الناس من أن يشربوا الخمر، أو يلعبوا القمار، أو يكونوا جواسيس للأعداء، أو يزنوا أو يسرقوا، أو يخونوا، أو يعملوا أيّ شيء.
ويضيفون إنّ الإسلام الذي يتدخّل في حريّات الناس هو إسلام السفهاء، ونحن نريد إسلاماً لا يتدخّل في حريّة الناس، إنّه إسلام الطبقة العالية من المجتمع. بعض الناس كانوا يفكّرون بهذه الطريقة على حسب ظروف التحدّيات في زمان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعض الناس يفكّرون بهذه الطريقة عندما يتحدّثون عن المسلمين الملتزمين، ليشيروا إليهم بكلمات جارحة نابية: هؤلاء السفهاء، هؤلاء الغوغاء، هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يتحرّكوا على مستوى الانضباط وعلى مستوى السير على طبق الأمر الواقع.
أساليب المنافقين في الحياة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء}. السفيه: هو الذي لا يعرف أن يدبّر أمره على خطّ الحكمة والتوازن في ماله، وفي رأيه، وفي حركته. هؤلاء الذين يلتزمون الإسلام باسمه، ولكنّهم يلتزمون الكفر مضموناً، ليدخلوه في واجهة الإسلام، هؤلاء ألاَ يعرفون أنّهم يورّطون أنفسهم في معصية الله، وفي المجالات التي سيظهر الله بها خداعهم {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ثمّ كيف يتصرّفون {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} ليشهدوا المؤمنين على إيمانهم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} نحن نضحك على هؤلاء الناس، نصلّي أمامهم حتّى يثقوا بنا، نصوم أمامهم حتّى يثقوا بنا، نتحرّك في كلّ المجالات لنربح قناعاتهم حتّى ننفذ إلى داخلهم. نحن نضحك عليهم، أنتم العمق لنا. هؤلاء يخلون إلى شياطينهم، سواء كان هؤلاء الشياطين من رجال الاستخبارات الدولية، أو من رجال الاستخبارات العربية، أو الاستخبارات المحلية، أو الذين يتحرّكون في محاور الضلال من الأحزاب الضالّة والكافرة.
أتستهزئون بالمؤمنين {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يقول لهم امشوا في الطريق {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون ولكن في النهاية سينكشف أمرهم، ويواجهون خزي الدنيا وخزي الآخرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} يعني باعوا الهدى واشتروا الضلالة مكانه، فإذا كان منكم أيُّها المستمعون هنا، وفي كلّ مكان، إذا كان هناك منكم من أقنعه بعض الناس بأن يكون منافقاً، يقول للمؤمنين كلمة، ويقول لغير المؤمنين كلمة، إذا أقنعكم الناس بأنّها "شطارة"، وإذا أقنعكم الناس بأنَّ هذا ذكاء، وأقنعكم الناس بأن ترتّبوا أمركم في جميع الحالات، على أساس أنّ الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة عند عليّ (عليه السلام) أقوم، والجلوس على التلّ أسلم، إذا أقنعكم بعض الناس بذلك لأنّكم تريدون أن تعيشوا، والعيش يحتاج إلى ذلك؛ انظروا إلى كلمات الله، الله يستهزئ بكم، الله يقول: إنّكم السفهاء. الله يقول لكم يا جماعة، إذا كنتم تعتبرون النفاق عملاً تجارياً فهي التجارة الخاسرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
اتركوا هذه التجارة التي يدلّكم عليها الشياطين وارجعوا إلى الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10 ـــ 11].
هذه هي التجارة، لهذا حاولوا أن تدرسوا مواقفكم التجارية في المسألة الإيمانية، وفي المسألة السياسية، وفي المسألة الاجتماعية، قبل أن تفوتكم الفرصة، لأنّ الله جعل للتوبة مواسم، وجعل لك في موسم التوبة، وفي موسم المغفرة، وفي موسم الرضوان، جعل لك مجالاً واسعاً أن تأخذ من الموسم ما يرفع درجتك عند الله، وما يخلد سعادتك عند الله، فلماذا لا تنتهز الفرصة لتترك التجارة الخاسرة، وتنطلق مع التجارة الرابحة.
ثمّ في سورة أخرى يبشّر الله المنافقين بشارة، ولكن بشارة من نوعٍ آخر، وعلى مَن سار في طريق المنافقين أن يتلقّى هذه البشارة، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 138] بشّرهم بعذاب الله، أنّهم ينتظرون البشارة من شياطينهم بالمال، وبالجاه، وباللّذات والشهوات، ولكنَّ الله يبشّرهم بطريقة أخرى لا ينتظرونها.
الولاء للقيادة الإسلامية المؤمنة
مَن هم المنافقون؟ لنبحث عن شخصية المنافقين في داخل أنفسنا، من خلال كلام الله، لأنَّ القرآن هو مرآة أنفسنا التي أراد الله منّا أن ننظر فيها إلى أنفسنا من خلال القرآن. مَن هم المنافقون؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} هؤلاء الذين يلتزمون ولاية الكافرين الطاغين المستكبرين، الذين يلتزمون ولاية الاستكبار العالمي المتمثّل بالدول الكبرى، التي تريد أن تذلّ المؤمنين، الذين يلتزمون ولاية الصهيونية، التي تشكّل الخطر على وجود المسلمين والمستضعفين. الذين يتّخذون الكافرين من هؤلاء، الذين يتحرّكون في دوائر المخابرات والدوائر السياسية، التي تعمل على إذلال المسلمين وعلى قهر المستضعفين، وإذا قلت لهم إنَّ هناك ولاية للمؤمنين، إنَّ هناك قيادة إسلامية مؤمنة تخاف الله في نفسها، وتخاف الله في الناس، وتتحمّل مسؤولية الإسلام كلّه، وتقوده إلى العزّة والحرّيّة والثبات والقوّة والكرامة، إذا قلت لهم ذلك، فإنَّهم ينفرون منك ويتركون ولاية المؤمنين، كالكثيرين من الناس، الذين عندما تحدّثهم عن ولاية القيادات الإسلامية، المتمثّلة بالإمام الخميني (حفظه الله)، وبكلّ القيادات الإسلامية الواعية السائرة في الخطّ الإسلامي الملتزم الذي لا يلفّ ولا يدور، ولكنّه يظلّ يرصد الطريق المستقيم من مواقع الإسلام، فإنّهم ينفرون منك، ويحدّثونك عن قيادات بديلة لا تؤمن بالله ولا برسول الله، وإذا كانت تؤمن إيماناً محدوداً، فإنّها لا تؤمن بالإسلام كخطٍّ للحياة، ولا تؤمن بالرسالة. أليس هذا موجوداً عندنا؟! أظن أنّه موجود بكثرة، وأظنّ أنَّ كثيراً من الأوضاع القلقة التي عشناها ويعيشها المسلمون في كلّ مكان، تجعل الكثيرين يطرحون قيادات غير قيادات المؤمنين، وولاية غير ولاية المؤمنين.
لماذا يقول الله لكم أنتم مسلمون، وهكذا تقولون عن أنفسكم، أنتم مؤمنون، وهكذا تلتزمون الإيمان بألسنتكم. إذا كنتم مؤمنين فلماذا لا تلتزمون ولاية الإيمان، وإذا كنتم مسلمين فلماذا لا تلتزمون قيادة الإسلام؟ لماذا تنطلقون إلى قيادات كافرة طاغية ضالّة باغية تدخلونها في أمور المسلمين وتتحرّكون معاً في الإضرار بالمسلمين وفي مخادعة الواقع الإسلامي بشعارات تخفي الكفر في داخلها وتظهر الإسلام في واجهتها.



قوّة المنافقين ليست ذاتية
الله يقول للذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} لأنَّ الكافر يترأس دولة، أو محوراً، أو أيّ شيء من هذا، فهو يملك المال، ويملك الجاه، ويملك السلطة. أمّا المؤمنون والمسلمون في قياداتهم، وفي واقعهم، فهم محاصرون من هؤلاء، فكيف نلتزم المحاصَر ولا نلتزم المحاصر، نريد أن نكون أقوياء؛ أُريد أن أكون قويّاً في بلدي، حتّى أضغط على أهل البلد، فأَلتزم قيادة الكفر، لأنَّ الكفر يعطيني هذه القوّة، أريد أن أكون ذا فعل كبير في المجتمع، وهناك مَن يملك مقدّرات المجتمع السياسية، ولذلك أريد العزّة، أريد أن أكون عزيزاً قويّاً، {... أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء...} [آل عمران : 26] لن يعطيك هؤلاء العزّة، قد يعطونكَ انتفاخاً، ولكنّ هذا الانتفاخ سيتمزَّق عندما تنكشف المواقف، أو عندما تتبدّل المواقف، عزّتك مستعارة من عزّته، فإذا أخذ عاريته(1) فأين تكون، وعزّتك تابعة لعزّته، فإذا صار ذليلاً فأين تكون؟ ولكن إذا كانت عزّتك مستمدّة من الله، وبقيت مع الله وفي طاعة الله، فهل يمكن أن تفقد عزّتك "إذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعةِ الله"(2)، "فكم قد رأيت يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فَذَلّوا، وراموا الثروةَ من سواكَ فافتقروا، وحاولوا الارتفاعَ فاتّضعوا، فَصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهم حازمٌ وَفَّقَهُ اعتبارُهُ وأرشدَهُ إلى طريقِ صوابِهِ اختيارُهُ" هذا كلام زين العابدين (عليه السلام).


كيف نواجه المستهزئين بأحكام الله
ثمّ قد تجلسون مع الناس في مجالسهم، في السهرات الطويلة، وفي النوادي المليئة، قد يتحدَّث محدّث فيسخر بأحكام الله، ويستهزئ بأولياء الله، ويسخر من مجتمعات المؤمنين، ماذا تفعل أنت في المجلس وهو يخطب ويتحدّث ويسبّ ويشتم، وأنت تعرف أنّ ذلك كلّه لا يرضي الله، ماذا يفعل بعض الناس؟. نراهم يضحكون للخطيب، ويصفّقون وهم غير مقتنعين بكلامه، لأنّهم يخافون سطوته، ويريدون رضاه. بعض الناس يتزلّفون للمتحدّث الذي يسخر بأحكام الله، وبأولياء الله، لأنّه من الوجهاء والأغنياء والمسلّحين، أو غير ذلك. ردُّوا عليهم كلامهم، قولوا له إنّك مخطئ، قولوا له إنّك كاذب، قولوا له إنّك تتكلَّم بغير ما يرضي الله. يقولون إنّنا نخاف أن يقتلونا، أو يسجنونا، أو يعذّبونا وهذا أمر حاصل، لأنَّ بعض الناس يفهمون الحريّة على أنّها حريّتهم لا حريّة الآخرين، ويفهمون أنّ الأمن أمنهم لا أمن الآخرين، وأنّ الحقّ حقّهم لا حقّ الآخرين. لكنَّ الله يقول لك إذا لم تستطع أن تتكلَّم، فانسحب اسمعوا كلام الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...} [النساء : 140].
أنتم تفهمون اللّغة العربية أم لا؟ وهذه الآية لا تحتاج أن أُفسِّرها لكم، إذا كان الأمر كذلك، لا تجلسوا، انسحبوا حتّى تعبّروا عن احتجاجكم بانسحابكم، وهذا موجود في العالَم، سفراء الدول عندما يحضرون حفلة خطابية، أو مهرجاناً، وينطلق خطيب ليهاجم دولة هذا السفير، فإنَّ القوانين تمنع السفير من أن يقف ليردّ، ولكنّ تعليمات دولته تفرض عليه أن ينسحب ليعبِّر بانسحابه عن احتجاجه، وإذا لم يفعل ذلك عوقب. الله يقول لكلّ مؤمن إنّك سفير الله في كلّ مجتمع، إيمانك يفرض عليك أن تمثّل أنّك سفير الله، تدافع عن أحكام الله، وعن أولياء الله في كلّ مكان. إذا لم تستطع أن تدافع فانسحب {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} إذا لم تنسحبوا، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} يعني إذا سمعت الكلمة فكأنّك قلتها إذا لم تنسحب، وكأنّك ألقيت الخطاب الذي لم تنسحب منه، إنّكم إذا لم تفعلوا ذلك وإذا قعدتم معهم، وإذا بقيتم معهم {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] معنى ذلك أنّك ستحشر مع الخطيب ومع المتكلِّم، لأنَّ جلوسك مع قدرتك على الانسحاب رضىً بعمله، "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1).
هذه أحكام الله أيُّها الإخوة، وهذا ممّا يعتبره الله نفاقاً ثمّ يعطينا صور المنافقين {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون عندما تدخلون الحرب وتدخلون المعركة، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} نحن جماعتكم، وأصحابكم وأولياؤكم، وكنّا معكم، إذاً أعطونا غنائم النصر الذي أخذتم، {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} جاؤوا إلى الكافرين، وقالوا إنّنا استطعنا أن نكون "الطابور الخامس" في داخل المؤمنين، وأن نخذلهم، وأن نزعزع ثقتهم بأنفسهم، وأن نضعفهم، وأن ندبّر المكائد لهم، تعالوا أيّها الكافرون أعطونا من حصيلة الغنائم {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء : 141] لأنَّ الحجّة مع المؤمنين لا مع الكافرين.
موالاة الطاغوت والتحذير الإلهي
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا تحذير، هناك بشارة، هذا تهديد بشكلٍ إلزامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا توالوا الكافرين في محاورهم الفكرية، وفي محاورهم السياسية، وفي خطواتهم الاجتماعية، وتتركوا المؤمنين لتكونوا أولياء للكافرين من دون المؤمنين، المسألة فيها خطورة، افتحوا قلوبكم لهذه الآية، افتحوا مشاعركم، اعرفوا الخطر الذي تطلُّون عليه؛ وماذا بعد، الله يتحدّث، الله يطلق الإنذار، الله يطلق التهديد، وهذا ما تقوم له السموات والأرض {لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 144] إذا أنتم فعلتم ذلك، فستكون الحجّة من الله عليكم، وإذا كانت الحجّة لله عليكم فأين تذهبون، وأين تهربون، وأين تفرُّون؟ هل ينقذكم هؤلاء الكافرون من يديّ الله؟ فكِّروا في القضية بعقلٍ واعٍ ولا تفكّروا بالقضية بطريقة ساذجة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...} [النساء: 145].
الباب مفتوح للتوبة
أمّا الذين أضلَّهم المنافقون، فأبعدوهم عن الخطّ المستقيم وتركوهم في خطّ النفاق، فهؤلاء يفتح الله لهم باب التوبة، فتوبوا إليه، والله يدعوكم إلى الرجوع إليه فارجعوا إليه {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ} بعدما كانوا اعتصموا بالشيطان {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} يعني ليست توبة باللّسان، بل تابوا وأصلحوا، غيَّروا الطريق من الفساد إلى الصلاح، واعتصموا بالله وتركوا الاعتصام بغيره، {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146].
على هذا الأساس لا بدّ لنا إذا أردنا لقاء الله ونحن مرفوعو الرؤوس، إذا أردنا لقاء الله ونحن مطمئنّون، إذا أردنا لقاء الله من خلال رغبتنا في أن يحبّنا الله، فعلينا أن نرجع إليه، وأن نترك كلّ سبيل النفاق، وأن نسير مع المؤمنين، لأنَّ مَن كان المؤمنون أولياءه فإنَّ الله هو وليّه، ومَن كان الكافرون أولياءه فإنَّ الشيطان هو وليّه.
الحياة لا تحتمل الزيف
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ...} [البقرة : 257] لنتأمّل في هذه المفردات: ظلمة الروح، ظلمة العقل، نور الروح، نور العقل. لا بدّ أيُّها الإخوة من أن ندقّق بما تعلَّمناه، قد لا تكونون متمرّدين، لكن قد تأخذكم عدوى النفاق من مجتمعكم، قد يُضلّكم آباؤكم إذا كانوا في خطّ النفاق، قد يضلّكم من حولكم إذا كانوا في خطّ النفاق، والله يريد لنا أن نخلص في دينه، وأنْ نتحرّك في حياتنا على أساس أنّنا إذا آمَنّا بشيءٍ فعلينا أن نلتزمه، وأنا دائماً أقول لكم في أكثر من مرّة، فكِّروا واجلسوا مع أنفسكم؛ ادرسوا المسألة بشكلٍ أساسيّ هل أنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وهل تؤمنون بالإسلام أم لا؟ قولوها لأنفسكم، لنقلها جميعاً لأنفسنا، وأنا معكم، هل نؤمن بالله، وباليوم الآخر، وبالإسلام كلّه أم لا؟ إذا كنّا نؤمن به، ونعتبر أنّه طريق الخلاص، فعلينا أن لا نجامل أحداً في طاعة الله، لا تجاملوا آباءكم، لا تجاملوا أمّهاتكم، لا تجاملوا إخوانكم، أقرباءكم، حكّامكم، لا تجاملوهم لأنّه لن يغني عنكم أحد من الله.
وإذا كنتم لا تؤمنون لكن صرتم مسلمين، لأنَّ آباءكم مسلمون، ولأنَّ بلدتكم مسلمة، وأنتم لا تؤمنون بذلك، فلماذا لا توفّرون على أنفسكم وعلى الإسلام الانتماء للإسلام؟ قولوا لسنا مسلمين، لأنَّ الحياة لا تحمل الزيف. أيّها الإخوة والأحبّة، لا بدّ للإنسان من أن يحترم نفسه، والإنسان المزيّف هو إنسان لا يحترم نفسه، ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون صادقاً مع نفسه ليعرف نفسه من هو وفي أيّ طريقٍ يسير.
خلفيات ظالمة في النظرة إلى الإسلاميين
إذا كنّا نؤمن بالإسلام فعلينا أن نكون معه، وعلينا أن نكون مع خطّه، وعلينا أن نكون مع قيادته، وعلينا أن نرفض الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، مهما كانت قوّتهم، ومهما كانت أوضاعهم، ولا أقول إنّنا عندما نريد أن نواجه هؤلاء فإنَّ علينا أن نواجههم بطريقة الفوضى، أو بأساليب عشوائية، ولكن أن نخطِّط للمواجهة، وأن نبحث عن نقاط القوّة عندنا لنحارب بها نقاط الضعف عندهم، لأنَّ القوم يخطِّطون لمحاربة الإسلام.
إنَّ الهجمة على المسلمين الملتزمين الذين يسمّونهم أصوليين تتحرّك في كلّ واقع الإسلام الملتزم، المقاوم، المجاهد في العالم. وهذه الهجمة على الملتزمين يتطوَّع لها وعَّاظ السلاطين، ممّن يحملون صفات دينية، ولكنّهم يتحرّكون بما لا يغضب السلاطين، أو بما يرضي السلاطين. فإذا أراد السلاطين منهم أن يحاربوا المؤمنين الملتزمين، ويلتقطوا أخطاءهم، ويلتقطوا بعض انحرافاتهم، فإنّهم يبادرون إلى ذلك دون حرج.
إنَّ الواقع المنحرف الذي زرعه الاستكبار العالمي والكفر العالمي في الساحات الثقافية والسياسية والاجتماعية جعل هناك عقدة ضدّ الإيمان والمؤمنين، حيث إنَّ بعض الناس يضحكون، ويبتسمون، ويفرحون لامرئٍ كافر، أو ضال. ولكنّهم يضغطون على المؤمنين، هؤلاء {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إذا ذكر الله وذكر أولياء الله، وذكرت أحكام الله اشمأزّت قلوبهم {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر : 45]، قد لا يطيق بعض الناس أن يجلس مع مؤمن في جوِّ الإيمان ساعة، ولكنّه يجلس مع غير المؤمنين أيّاماً وليالي، هناك روحية تحدٍّ للخطّ الإسلامي، وهذا أمر مدبَّر الآن في لبنان، هناك الكثير من التيّارات المعادية، ولكن اسمعوا ماذا يتكلّم الناس، كم من الناس يذكرون الكفر والصهاينة وجماعة الصهاينة بسوء؟ وكم من الناس يهاجمون الأصوليين والمسلمين الملتزمين؟
لماذا يعادي الاستكبار إيران
إنَّ بعض الناس يعتبر المؤمنين الخطر وليس الخطر غيرهم، ولهذا جاءت قمّة عمان وتبعتها قمّة الجزائر(1)، لقد اعتبروا أنّ "إسرائيل" ليست الخطر، وإنّما إيران هي الخطر، لماذا إيران هي الخطر؟ هل إيران بقوميّتها عندما أفسح الشاه في المجال للقومية الفارسية؟ هل إيران بجغرافيّتها هي الخطر؟ كان جميع أُمراء الخليج يعتبرون أنفسهم موظّفين صغاراً عند الشاه، لا يستقبلكم الشاه ولكن يستقبلهم موظّف من الموظّفين الكبار، لماذا؟ لأنَّ إيران صارت إسلامية، وإسلامية لا على طريقة الدولة الإسلامية التي تقول إنَّ دين الدولة الإسلام فيما تأتي بكلّ القوانين غير الإسلامية لتكون شريعة الدولة وقانون الدولة. لكنّ إيران قالت إنَّ دين الدولة هو الإسلام، لأنَّ الإسلام كلّه هو الذي تريده أن يحكم إيران، ولأنَّ الإسلام هنا ليس هو الإسلام الذي يريد المتحدّثون فيه أن يجعلوه موظّفاً عند أميركا، أو عند روسيا، ولكن يريدون للإسلام أن يكون دين الله، الذي يتحدّى ويقاوم ويجاهد، لهذا في وقتٍ سابق، كان وزير خارجية فرنسا يتحدّث بكلّ صراحة أنّه لو انتصرت إيران في المنطقة، لشكَّل ذلك خطراً على الحضارة الغربية، ولهذا فإنَّ علينا أن نعمل أن نمنع انتصار إيران بكلّ الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادي والأمنية لنحافظ على هيمنة الحضارة الغربية في المنطقة ليست المسألة إلاّ أنّ الإسلام يريد أن ينطلق، وهذا ما جعلهم يتحدّثون عن الثورة كخطر.
الغرب يعمِّم نموذجه عالمياً
ماذا تريد إيران أن تفعل؟
إنّها تريد أن تصدّر الثورة للعراق(1)، وتريد أن تصدّر الثورة للبنان، وتريد أن تصدّر الثورة لأفغانستان، لكن ماذا تريد أميركا؟ إنّها تريد أن تصدّر "الأمركة" إلى كلّ العالم، فلماذا لا يكون ذلك خطراً؟ ومعنى تصدير "الأمركة" أن يكون العالم خاضعاً للسياسة الأميركية، والاقتصاد الأميركي، والأمن الأميركي، وما إلى ذلك. وأوروبا تعمل أيضاً على تصدير "الأوربة" إذا صحَّ التعبير إلى العالم، وروسيا أيضاً تريد أن تصدّر الماركسية للعالم، لماذا عندما تريد إيران أن تصدّر الإسلام الذي هو موجود في حجم العالم، يكون ذلك خطراً؟



توافق دولي لضرب الإسلاميين
وتُحدّثنا بعض الصحف الصادرة في أميركا وفي أوروبا عن اجتماع القمّة في موسكو(1)، وعلى ذمَّة ما نُشِرَ في بعض الصحف اللبنانية، أنّ الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف قال بعد القمّة لرجل أعمال غربي زار موسكو مؤخّرا: إنَّ أكبر مشكلة تواجه الجبّارين الدوليين، هي الأصولية الإسلامية فقط، ويتابع غورباتشوف: لقد خرج الأصوليون منتصرين على أميركا في إيران، وعلى الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ويجب أن نجد نحن وأميركا طريقة للسيطرة على ذلك، لأنّه إذا ثار المسلمون في المنطقة كلّها، فسوف نحتاج إلى عشرين سنة لتهدئتهم.
ما معنى ذلك؟ معنى ذلك، حسب قول المعلِّق السياسي في هذه الصحيفة، يوحي بأنَّ الجبّارين تفاهما في قمّة موسكو على احتواء الأصولية، ليس فقط في إيران وفي الخليج، بل في المنطقة كلّها أيضاً. ويأتي في هذا الإطار حادث إسقاط البحرية الأميركية لطائرة مدنية إيرانية، وهذا ما يفسّر ردّ فعل الإمام الخميني (قدِّس سرّه)، ودعوته لإعلان الحرب على سلاطين العالَم كلّه، في النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
وما يجري أيضاً في لبنان ليس عفوياً ولكنّه جزء من خطّة عالمية، وهذا ليس كلامي أنا، هذا كلام ينقل عن رئيس الاتحاد السوفياتي وينقله محلّل صحافي قدير ليس مسلماً أيضاً، فهذا يقول إنّ لبنان هو أخطر مكان مارست فيه الأصولية سياساتها، وقد يكون حلّ الوضع فيه، أقرب طريق إلى احتواء الأصولية. فهل دقَّت ساعة التحوّل في السياسات الإقليمية تجاه المدّ الأصولي؟ نحن نرى أنّ الخطة قد بدأت، وأنّ الكثيرين من الناس اعتبروا أنفسهم أدوات للخطّة في ضرب الإسلام الملتزم، الذي يسمّونه أصولياً، في محاولة تشويه صورته، وتسجيل النقاط ضدّه، مع إعطاء كلّ الحريّة لكلّ الذين لا يؤمنون بالإسلام، أو الذين يتحدّثون عن الإسلام في طريق الضلال.
هذا موقف ينطلق من خلال أنّ هناك خطّة في كلّ المواقع، لاحتواء هؤلاء المسلمين، الذين يفكّرون بطريقة الصحابة، حين كانوا مع رسول الله يقاتلون الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لأنّهم لا يريدون للناس أن يفكّروا بطريقة الإسلام الذي ينبع من الأصول الحقيقيّة، ولهذا فإنَّ الدعوات تتحدّث دائماً عن الخطر الأصولي، ولا تتحدّث عن أيِّ خطرٍ آخر، وهذا ما يجعلنا نفكّر، ونعيد النظر في كلّ الواقع، لنعرف أنّ ما يتحرّك من أوضاع وتعقيدات هو من صنع الأجهزة المخابراتية المحليّة والإقليمية والدولية. ولهذا إذا أردنا أن نسير في الصراط المستقيم، فعلينا أن يكون أولياء الله أولياءنا، وأن يكون أعداء الله أعداءنا، حتّى نستطيع أن نواجه المسألة على أساس إسلامي، يضمن للإسلام عزّته وحريّته وقوّته، لأنَّ الإسلام أمانة الله عندنا في كلّ المواقع التي نتحرّك فيها.
السلاح الكيميائي يقتل المسلمين والعالَم يتفرَّج
وعلى هذا الأساس، لا بدّ من أن نراقب ما حدث في جبهة الخليج، من الهجمة على إيران الإسلام في الحرب الأخيرة، والتي استخدمت فيها أكثر أنواع الأسلحة تقدُّماً، وأكثر أنواع الأسلحة الكيميائية المحرّمة في العالم تطوّراً(1)، بالمستوى الذي أحرقت الحرب الكيميائية الأرض كلّها هناك، ولم يحتجّ أحد من العالم بطريقة فاعلة في مواجهة ذلك كلّه. ولذلك فإنَّنا نعتقد أنّ المسألة لم تنشأ من موقع ضعف، أو خيانة، كما يقول بعض الناس، ولكنّها انطلقت من التطوّر في استعمال الأسلحة الكيميائية، حيث كانت القذائف كيميائية والرصاص كيميائياً، وكانت الأسلحة الكيميائية تحرق كلّ ما هناك بشكلٍ غير معقول، ولم يرفع العالَم صوته في ذلك كلّه.


ممنوع على السلاح الخليجي أن يستخدم ضدّ "إسرائيل"
إنَّنا نشاهد أنّ أميركا وغير أميركا عندما تسلِّح المنطقة، تعطي سلاحاً للسعودية، وينطلق صوت من مجلس الشيوخ الأميركي يقول: إنَّنا نخاف أن يستعمل هذا السلاح ضدّ "إسرائيل"، وعندما تعطي سلاحاً لغيرها من دول الخليج، كما حَدَثَ الآن في ما اقترحه الرئيس الأميركي من إعطاء طائرات حربية للكويت يُقال إنّ الرئيس الأميركي يحاول أن يحصل على رضى مجلس الشيوخ، لأنَّ هذا السلاح فيه ضمانات على أن لا يستعمل ضدّ "إسرائيل"(1)، إذاً كيف يستعمل ضدّ إيران، المسألة هي أنّه يراد تسليح كلّ الدول التي تحيط بإيران، على أساس أن تتّسع الحرب وأن تستعمل هذه الأسلحة ضدّها.
نحن نرى أنَّ مجيء السفن الحربية الأميركية والأوروبية إلى مياه الخليج، هو لمنع إيران من أن تأخذ حريّتها في الدفاع عن نفسها في مواجهة النظام العراقي الذي يقصف السفن التي تحمل النفط الإيراني ويلقى دعم وتعاون كلّ دول الخليج(2).
إنّ إيران قالت إمّا أن تكون الحريّة لنا في تصدير نفطنا، وإلاّ فلا حريّة لأحد، ونحن نحمّلكم يا دول الخليج المسؤولية، لأنّكم تعاونون العراق بالمال والسلاح وبكلّ المواقع العسكرية. جاءت أميركا بحجّة أنّها تريد أن تحمي السفن الكويتية، ثمّ تطوّرت الحجّة لتمتدّ إلى حماية السفن التجارية، ولم تحاول أن تقف ضدّ النظام العراقي لتمنعه من قصف السفن التي تحمل النفط الإيراني.. جاءت أميركا إلى مياه الخليج من أجل أن تقوّي أنظمة عملائها من جهة، ومن أجل أن تجعل نفسها السلطة الأقوى في منطقة الخليج، في مقابل الاتحاد ومن أجل أن تحاصر الجمهورية الإسلامية وتمنعها من تحقيق أيّ انتصار على العراق.
الخطّة كانت هي هذه، وعندما وقفت إيران لتجابه الأسطول الأميركي بإمكاناتها المتواضعة، وهي تعرف أنّها لا تستطيع أن تهزمه، فإنّها كانت تريد أن تؤكّد موقفاً عنوانه أنّها لا تنهزم أمامها، ولهذا كانت كلّ ضربة تقابَل بضربة، وكانت إيران تعمل على أساس أن تزعج الوجود الأميركي الحربي في الخليج باعتبار أنّه يشكّل الخطر على المنطقة كلّها.
إسقاط طائرة "الإيرباص" والمأزق الأميركي
إنّنا نعتبر إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية(1)، مِن قِبَل الطراد الأميركي بإطلاق صاروخين عليها، ليس عملاً ناتجاً عن خطأ، فالخطأ لا يتسلَّل إلى هذا المستوى في الأسلحة الأميركية، أو على الأقلّ إنّ احتمالات الخطأ هي احتمالات قليلة جداً، ولكن الذي غاظ أميركا هو أن تقف الزوارق الإيرانية أمام أسطولها لتحاول أن تزعجه، أرادت أن تفرض هيبتها، بأن تقتل أكبر عدد من الإيرانيين، حتى تسقط الروح هناك، ويتساقطوا، ويتراجعوا، ولكنّهم لا يفهمون الشعب الإيراني المسلم. هذا الشعب استطاع الإسلام أن يفتح عينيه على مواقع القوّة، ولهذا فإنَّ أميركا بهذا العمل استطاعت أن تخلق الفرصة لتوحيد الشعب الإيراني من جديد، ولتقويته من جديد، وأصبحت المسألة أنّ أميركا وقعت في المأزق، وأصبحت هناك دعوات على مستوى العالم إلى ضرورة انسحاب أميركا من الخليج، باعتبار أنّ هذا الخطأ يمكن أنْ يتكرَّر مرّة ثانية مع أكثر من طائرة.
إذا كانت المسألة مسألة خطأ، وإذا كان الرادار لا يستطيع أن يميِّز بين الطائرة الحربية والطائرة المدنية، فكيف يمكن للطائرات المدنية أن تحمي نفسها في الخليج، أو في كلّ مكان يوجد فيه مركز عسكري أميركي؟ ثمّ مَن الذي يعاقب أميركا إذا أخطأت؟ إنَّ المسألة هي أنّ هذه الحادثة فتحت عيون العالم على ما يمكن أن تقوم به أميركا ضدّ الطيران المدني، وضدّ كلّ من يعارض سياستها، لتبرّر بعدها بأنَّ المسألة مسألة خطأ وليست مسألة تعتمد على أساس وضع سياسي معيَّن.
الموقف الإيراني حكيم
نحن نحترم ردّة الفعل السياسية للقيادة الإسلامية في إيران، فقد تصرّفت بعقلٍ واتّزان، وقد تركت ردّ الفعل بطريقة الثأر لهؤلاء الضحايا من النساء والأطفال والرجال، تركته للمستقبل، لأنّها هي التي تختار الموقع، وليست الانفعالات هي التي تحدّد الردّ أو الموقع. وعلينا أن نتعلَّم من خلال هذا الموقف العاقل المتّزن، في ردّ الفعل على هذه الجريمة الوحشية المروّعة، أنّ الشجاعة والبطولة ليست في ردّ فعل أمام التحدّيات بشكل فوري انفعالي، ولكن لا بدّ من أن يكون بشكلٍ مدروس، يستطيع أن يحقّق الردّ، دون أن يخسّرك الفرص التي تحتاجها في كلّ واقعك السياسي أو واقعك الأمني. لا بدّ من أن ندرس ذلك، ولا بدّ من أن نقف مع الثورة الإسلامية في هذا التحدّي الجديد الذي يواجهها من كلّ قوى الاستكبار العالمي، وندعم مطالبتها بانسحاب السفن الأميركية، المعادية للخطّ الإسلامي ولحريّة الشعوب، من مياه الخليج.
تحرّك إقليمي ودولي لتدجين الانتفاضة
إنّنا نتطلَّع إلى ذلك كما نتطلّع في الوقت نفسه إلى الانتفاضة التي نريد أن نطلق عليها اسم الثورة، لأنّها ليست مجرّد حدث انتفاض، ولكنّها خطّ في الثورة، لنحدّق في كلّ الوضع السياسي الذي يتحرّك في الدائرة الفلسطينية سواء في حركة الخطّ الإسلامي الذي يصالح "إسرائيل"، وفي هذه الأجواء المعقّدة التي تعيش في داخل المخيمات وغير المخيّمات، وفي ما يتحرّك في الخفاء من خطط مستقبلية. إنّنا نتصوّر أنّ القمّتين العربيّتين(1) وقمّة موسكو، وبعض الأوضاع السياسية، والتحالفات الإقليمية وغير الإقليمية، تعمل على أساس تدجين الانتفاضة وتجميدها واحتوائها حتّى لا تسيء إلى الحلول الاستسلامية أو السلمية.
إنّ هناك عملاً يراد من خلاله إسقاط المسألة الفلسطينية في الدائرة السياسية، لتبقى المسألة مسألة الأراضي العربية المحتلة، التي يمكن أن يدبّر لها حلّ بطريقة أو بأخرى.
وعلينا أن نتفهَّم من خلال ذلك ما يدبّر لنا من أوضاع وأمور في تقوية "إسرائيل" وفي تنفيذ وإنجاح مخطّطاتها في لبنان وغير لبنان، على مستوى الأرض والواقع السياسي والأمني والاقتصادي، ويجب علينا أن ندعم حركة الجهاد في مواجهة "إسرائيل" ولاسيّما المقاومة الإسلامية، التي تحتوي كلّ مسلم مؤمن بضرورة الجهاد ضدّ الاستكبار العالمي والصهيونية، ولا بدّ لنا من أن نعمل على أن تكون لها كلّ حريّتها، وكلّ الفرص التي تعمل على إرباك كلّ المخطّطات، التي تسعى إلى إيجاد شرعية إسرائيلية في داخل فلسطين، وفي خارجها.
الخطّ الإسلامي يرفض الغبن والهيمنة
وإذا انتقلنا إلى لبنان فماذا نرى؟ نرى أنّ ثلاث عشرة سنة مضت من الفتنة، والجميع يتحدّثون عن الإصلاحات وعن استحقاق الإصلاح الذي يمكن أن يحقِّق نوعاّ من المساواة في ما بين اللبنانيين، وأن يجعل اللبنانيين يتعايشون على أساس أن لا يكون لبنان ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً، وعلى أساس أن يكون لبنان لكلّ اللبنانيين لا لفئة دون أخرى لأنّنا نتكلّم في الساحة العامّة، وعندما نتكلّم عن الإسلام، فإنّنا نتكلّم عن هدف استراتيجي، نحرّكه في الساحة، في إطار الحريّة والعدالة لكلّ اللبنانيين، لأنَّ الإسلام لا يريد الحريّة للمسلمين فحسب، ولا يريد العدالة للمسلمين فحسب.
لكنّنا نتكلَّم عن الاتجاه العام الذي انطلق من أجل أن لا يكون هناك غبن في البلد، وأن لا تكون هيمنة طائفية في البلد، وأن لا يعيش المسلمون في الدرجة الرابعة من حقوقهم، وفي كلّ مرحلة من مراحل هذه الحرب، تنطلق الدعوات للحوار، حول طاولة مستطيلة، أو مستديرة أو حوار في سباق الخيل(1)، أو في سباق الحمير، أو في أيّ موقع من مواقع السباق، لأنَّ القصّة قد اختلطت عندنا في كلّ مواقعها فأصبحنا لا نميّز بين الخيول الأصيلة وبين الحمير وبين غيرها في هذا المجال.
الاستحقاق الرئاسي ومهزلة الإصلاح
وكانت كلّ مرّة تنطلق الكلمات الكبيرة في سبيل أن يكون هناك إصلاح، وأن نضغط من أجل الإصلاح، وأن نمنع كلّ شيء على أساس تحقيق الإصلاح، وأن نعتبر الإصلاح شرطاً في كلّ عمل وفي كلّ استحقاق. أليس ذلك ما كان يتحدّث به المتحدّثون، أليس ذلك هو ما قيل للضحايا التي سقطت وهي تقاتل من أجل ذلك، وتمرّ الفرص الكبيرة التي تضغط، ويمكن أن تضغط، وتأتي المداخلات من هنا وهناك على كلّ المستويات لتنفّس الضغط هنا، وتنفّس الضغط هناك، وتنطلق الكلمات لتتحدّث أنّه لا بدّ من أن يكون الرئيس مارونياً، لأنَّ تلك هي ضمانات المسيحيين في لبنان، لأنّهم لا يريدون أن يكونوا من الدرجة الثانية، لكن لماذا قبلتم أن نكون من الدرجة الرابعة.. كلمات تنطلق لتقول للبنانيين لا تفكّروا بالإصلاح، إنَّ ثلاث عشرة سنة تحمل من الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية لم تستطع أن تفرض فيه الإصلاح الذي تريده أكثرية الشعب اللبناني، ومع ذلك لم يفرض إصلاح. كان الكلام يدور كثيراً؛ الأمن قبل الوفاق، أو الوفاق قبل الأمن، ثمّ صار الكلام يدور كثيراً، الوفاق قبل الاستحقاق، أو الاستحقاق قبل الوفاق. وتعب الجميع، وقالوا اتركونا ننتخب رئيس جمهورية، ثمّ بعد ذلك يمكن لكم أن تتحدّثوا معه عن الإصلاح. رئيس جمهورية، ما لونه؟ ما طعمه؟ ما رائحته؟ المهم أن يكون بلا طعم إلاّ الطعم الأميركي، ولا لون إلاّ اللون الأميركي، ولا رائحة إلاّ الرائحة الأميركية الممزوجة برائحة عربية ـــ إسرائيلية ـــ لبنانية.
وبعد ذلك يقال لنا لا تتحدّثوا عن الإصلاح، لأنَّ الإصلاح يقتضيكم حرب ثلاث عشرة سنة أخرى، لهذا هدِّئوا أعصابكم، وتعالوا نغيّر بعض الديكور اللبناني، وتعالوا نتّفق على أن نتعايش لتكون للمارونية الكلمة العليا، ولتكون لبقيّة المسيحيين والمسلمين الكلمة السفلى، لأنّنا نبحث عن ضمانات، أتعرفون لماذا يهوّلون ويضخّمون؟ إنَّ مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري، وهو مسألة انتخاب رئاسة الجمهورية وهذه مسألة بسيطة، فقد انتخب في هذه الفتنة عدّة رؤساء للجمهورية، فلماذا يكون هذا الانتخاب أمراً مهمّاً ضخماً يمثّل أساس نجاة لبنان؟ ليس الأمر كذلك. سيكون انتخاب هذا الرئيس كبقيّة انتخابات الرئاسات الأخرى، أو الرؤساء الآخرين. لكنّهم أرادوا أن يضخِّموا مسألة الاستحقاق الدستوري ليقلِّلوا من أهمية الاستحقاق المصيري، أرادوا أن يهوِّلوا على الناس في أنّه إذا لم ينتخب رئيس جمهورية، فسيكون التقسيم، وسيكون الفراغ، حتّى يخاف الناس من التقسيم الذي لن يكون، والفراغ الذي لن يحدث، حتّى يخاف الناس من ذلك، فيتركوا كلّ شيء، ويقولوا أعطونا خبزنا كفاف يومنا، وانتخبوا لنا رئيس جمهوريّتنا، وكلّ إصلاح وأنتم بخير.
وإلاّ ما معنى كلّ هذه الملهاة، النفايات السامّة، اللحوم المستوردة المجلّدة والمتعفّنة، التبغ والسموم، الكهرباء التي تنقطع بهذا الشكل الفظيع، الماء الذي انقطع(1).. كلّ هذه المفردات المتتالية، لماذا؟ حتّى تتأدَّبوا، حتّى لا ترتفع العين فوق الحاجب، لأنَّ الحاجب يريد أن يكون مسلَّطاً على العين، وحتى تلقوا يد الطاعة لكلّ الأجهزة الدولية والإقليمية والمحليّة. ولتبقى المعادلة اللبنانية التي تحرس النظام الطائفي وتقوّيه لتبقى هي المعادلة الحقيقية في البلد... ولهذا أصبحنا نسمع كلاماً أنّ علينا أن نهدّئ الوضع، وأن ترجع الدولة وأن ترجع الخدمات، وأن ينتخب رئيس جمهورية، ثمّ نسمع أيضاً حديثاً في الثورة وفي تغيير النظام، لا أدري أين عقولنا التي تتقبّل كلّ كلمات التغيير وكلّ كلمات الثورة من الذين يريدون أن يمنعوا التغيير الحقيقي، وأن يدجّنوا الثورة في نفوس الثائرين؟!.
والحمد لله ربّ العالمين

حركة النفاق في أساليبها ونتائجها(*)
تحدَّث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن المنافقين في صورهم المتعدّدة في داخل المخيمات الإنسانية بشكلٍ عام وفي داخل المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاص. وذكر المنافقين الذين كانوا يتّخذون النفاق الديني أسلوباً ينفذون من خلاله إلى واقع حياة المسلمين ليأخذوا شرعية وجودهم في المجتمع الإسلامي من خلال الصورة الظاهرة التي ينتمون في واجهتها إلى الإسلام، ولكنَّ علاقاتهم الخفيّة بالكفر والكافرين تجعلهم يعملون بكلّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يستفيدوا من انتمائهم الإسلامي، في تخطيط لما يريد الكافرون منهم أن يخطِّطوا وفي الاطّلاع على الأسرار الإسلامية، في ما يريد لهم الكافرون أن يطّلعوا على هذه الأسرار، وفي تنفيذ المخطّطات التي يرسمها هؤلاء ضدّ الإسلام والمسلمين.
صور النفاق في القرآن
الصورة الأولى يقدّمها الله إلينا في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 8 ـــ 16].
هذا النموذج من الناس يصوّره الله لنا على أساس أنّ أفراده يعتبرون أنفسهم أذكياء يتقنون الحيلة ويتقنون المكر والدّهاء، ويعملون على أساس أن يطرحوا أنفسهم كمؤمنين، وكمسلمين في الساحة، ولكنّ واقعهم غير ذلك، يتحرّكون مع المؤمنين بأساليبهم الخدّاعة وهم يخيّلون لأنفسهم أنّهم يخادعون الله. لاحظوا أنَّ الله لم يقل يخدعون الله. بل قال "يخادعون الله" يعني يتصرّفون مع الله تصرّف المخادع، حيث إِنّهم يصلّون في المساجد ويتحرّكون في المواقع الإيمانية حتّى يخيّل لمن يراهم أنّهم من المؤمنين، وبذلك فهم يمارسون أساليب الخداع لتنطلي الحيلة على المؤمنين.
ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول عنهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} فهم يخيَّل إليهم أنّ خداعهم ينطلي على من حولهم، ولكن في الواقع ينطلي على أنفسهم لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط بكلّ خداعهم، ويظهر كلّ خداعهم، ويخطّط لهم من حيث لا يشعرون.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} النفاق حالة مَرَضِيّة في داخل عقل الإنسان، وفي داخل قلبه، فالإنسان المنافق هو إنسان انتهازي يفكّر في أن يخدم نفسه ومصالحه، ويخيَّل له أنّه يستطيع أن يحافظ على مصالحه هنا ومصالحه هناك. فهو مع المؤمنين مؤمن، ومع الكافرين كافر، فيحقّق لنفسه أطماعه مع المؤمنين لأنه محسوب منهم، ويحقّق لنفسه أطماعه مع الكافرين لأنّه في العمق منهم، ويعتبر أنّ هذا يمثّل ضرباً من الذكاء ومن "الشيطنة" التي تتيح له أن يعيش بشكلٍ متوازن بين هذا الفريق وبين ذاك.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، إنَّ هذا المرض الخفي الذي يتمثّل في الحالة النفاقية العقلية والقلبية. هذا المرض الخفي يزيده الله سبحانه وتعالى إلى أن تظهر علاماته في حياة هؤلاء، {فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

الإسلام الحقّ في مواجهة الإسلام المزيّف
ثمّ يحدّثنا الله عن هؤلاء الذين يتكبّرون على الناس عندما يتحرّكون في الإيمان بطريقة ليست على النهج الذي يسير عليه المؤمنون، ككثير من الناس الذين ينطلقون في حياتهم على أساس أنَّهم مؤمنون وأنّهم مسلمون، ولكنّهم يقولون إنّ إيماننا من نوعٍ آخر، وإنّ إسلامنا من نوعٍ آخر، يجعلون لأنفسهم إيماناً على طريقتهم، بحيث إِنّ إيمانهم لا يتحدّى مصالحهم وأطماعهم، ويجعلون إسلامهم إسلاماً على طريقتهم، فيحلّلون ما كانت مصلحتهم في تحليله، ويحرّمون ما كانت مصلحتهم في تحريمه، وهكذا يتحرّكون في المجتمع باسم الإسلام وباسم الإيمان، كما نشاهده في الكثير من الملوك، والرؤساء، والسياسيين، والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية، والشخصيات الاجتماعية عندما تتحدّث عن إسلام عاقل مهذّب، لا يثير المشاكل، ولا يتحدّى الواقع الفاسد، ولا يواجه الضغوط الاستكبارية، ولا يدخل في معركة مع الكفر، ولا يثير مشاكل للضلال. إسلام يحقّق لنفسه سلاماً على حساب قيمه، وعلى حساب واقعه، ومسلمون يحقّقون لأنفسهم امتيازات على مستوى الحكم، وعلى مستوى السياسة وعلى مستوى الاقتصاد، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية حتّى يتمشّى هذا الإسلام مع كلّ الكفر الذي يحيط بالمجتمع، ومع كلّ الضلال الذي يحيط بالمجتمع. وينطلق الإسلام الحقّ في الساحة ليواجه ويتحدّى وليدعو وليجاهد وليقاتل، حتّى يحرّك الحياة على أساس أن تكون الحياة لله وأن يكون الدين لله؛ أن لا يكون الدين امتيازاً لأشخاص يضخّمون به أوضاعهم ويضخّمون به امتيازاتهم، بل يكون الإسلام لله كما أراد الله أن يكون؛ إسلام العدل، إسلام الحريّة، إسلام العزّة والكرامة. وعندما يتحرّك هذا الإسلام في السّاحة ويقول الناس لهؤلاء لماذا لا تأخذون بالإسلام الحقّ؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام الحركي؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المقاوم؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المجاهد؟ لماذا تريدون الإسلام أن يكون موظّفاً في بلاطات الملوك والرؤساء أو أن يكون الإسلام موظّفاً في هذه الدائرة أو تلك الدائرة؟ لماذا لا تسيرون على خطّ هذا الإسلام الذي يخدم عباد الله المستضعفين والذي يعمل على أن يضع المستكبرين؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ} وهذا في زمان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي زماننا، آمنوا كما آمن الناس الذين يقاتلون المشركين مع القيادة النبويّة، آمنوا كما آمن الناس الذين يؤكّدون مواقفهم من خلال الالتزام بأوامر الله ونواهيه، آمنوا كما آمن الناس، اجعلوا الإسلام يمثّل كلّ حياتهم، ولا يكن لهم كفر في جانب وإسلام في جانب، فما هو جوابهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} نحن نريد الإسلام المثقّف، نحن نريد الإسلام الذي ينطلق في الدرجات العليا، الإسلام الذي يلتزمه الملوك والرؤساء والوجهاء والأغنياء وكلّ هؤلاء، لأنَّ إسلامكم هو إسلام الشعب، وماذا يفهم، إنّهم قد يقولون ذلك، إنّنا نريد الإسلام المتطوّر، نريد الإسلام المقتدر، نريد الإسلام الذي لا يشاغب، لا نريد إسلام السفهاء هؤلاء، الذين يقفون في خطّ المواجهة للاستكبار، وللاستعمار ولكلّ القوى الباغية الظالمة؛ يقفون ويتحرّكون بطريقة ينشرون فيها المشاكل في المجتمع، ولا يجعلون الناس يرتاحون في حياتهم وبيوتهم، نحن لا نريد إسلاماً كإسلام السفهاء، يتدخّل في حريّات الناس ليمنع الناس من أن يشربوا الخمر، أو يلعبوا القمار، أو يكونوا جواسيس للأعداء، أو يزنوا أو يسرقوا، أو يخونوا، أو يعملوا أيّ شيء.
ويضيفون إنّ الإسلام الذي يتدخّل في حريّات الناس هو إسلام السفهاء، ونحن نريد إسلاماً لا يتدخّل في حريّة الناس، إنّه إسلام الطبقة العالية من المجتمع. بعض الناس كانوا يفكّرون بهذه الطريقة على حسب ظروف التحدّيات في زمان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعض الناس يفكّرون بهذه الطريقة عندما يتحدّثون عن المسلمين الملتزمين، ليشيروا إليهم بكلمات جارحة نابية: هؤلاء السفهاء، هؤلاء الغوغاء، هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يتحرّكوا على مستوى الانضباط وعلى مستوى السير على طبق الأمر الواقع.
أساليب المنافقين في الحياة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء}. السفيه: هو الذي لا يعرف أن يدبّر أمره على خطّ الحكمة والتوازن في ماله، وفي رأيه، وفي حركته. هؤلاء الذين يلتزمون الإسلام باسمه، ولكنّهم يلتزمون الكفر مضموناً، ليدخلوه في واجهة الإسلام، هؤلاء ألاَ يعرفون أنّهم يورّطون أنفسهم في معصية الله، وفي المجالات التي سيظهر الله بها خداعهم {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ثمّ كيف يتصرّفون {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} ليشهدوا المؤمنين على إيمانهم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} نحن نضحك على هؤلاء الناس، نصلّي أمامهم حتّى يثقوا بنا، نصوم أمامهم حتّى يثقوا بنا، نتحرّك في كلّ المجالات لنربح قناعاتهم حتّى ننفذ إلى داخلهم. نحن نضحك عليهم، أنتم العمق لنا. هؤلاء يخلون إلى شياطينهم، سواء كان هؤلاء الشياطين من رجال الاستخبارات الدولية، أو من رجال الاستخبارات العربية، أو الاستخبارات المحلية، أو الذين يتحرّكون في محاور الضلال من الأحزاب الضالّة والكافرة.
أتستهزئون بالمؤمنين {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يقول لهم امشوا في الطريق {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون ولكن في النهاية سينكشف أمرهم، ويواجهون خزي الدنيا وخزي الآخرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} يعني باعوا الهدى واشتروا الضلالة مكانه، فإذا كان منكم أيُّها المستمعون هنا، وفي كلّ مكان، إذا كان هناك منكم من أقنعه بعض الناس بأن يكون منافقاً، يقول للمؤمنين كلمة، ويقول لغير المؤمنين كلمة، إذا أقنعكم الناس بأنّها "شطارة"، وإذا أقنعكم الناس بأنَّ هذا ذكاء، وأقنعكم الناس بأن ترتّبوا أمركم في جميع الحالات، على أساس أنّ الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة عند عليّ (عليه السلام) أقوم، والجلوس على التلّ أسلم، إذا أقنعكم بعض الناس بذلك لأنّكم تريدون أن تعيشوا، والعيش يحتاج إلى ذلك؛ انظروا إلى كلمات الله، الله يستهزئ بكم، الله يقول: إنّكم السفهاء. الله يقول لكم يا جماعة، إذا كنتم تعتبرون النفاق عملاً تجارياً فهي التجارة الخاسرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
اتركوا هذه التجارة التي يدلّكم عليها الشياطين وارجعوا إلى الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10 ـــ 11].
هذه هي التجارة، لهذا حاولوا أن تدرسوا مواقفكم التجارية في المسألة الإيمانية، وفي المسألة السياسية، وفي المسألة الاجتماعية، قبل أن تفوتكم الفرصة، لأنّ الله جعل للتوبة مواسم، وجعل لك في موسم التوبة، وفي موسم المغفرة، وفي موسم الرضوان، جعل لك مجالاً واسعاً أن تأخذ من الموسم ما يرفع درجتك عند الله، وما يخلد سعادتك عند الله، فلماذا لا تنتهز الفرصة لتترك التجارة الخاسرة، وتنطلق مع التجارة الرابحة.
ثمّ في سورة أخرى يبشّر الله المنافقين بشارة، ولكن بشارة من نوعٍ آخر، وعلى مَن سار في طريق المنافقين أن يتلقّى هذه البشارة، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 138] بشّرهم بعذاب الله، أنّهم ينتظرون البشارة من شياطينهم بالمال، وبالجاه، وباللّذات والشهوات، ولكنَّ الله يبشّرهم بطريقة أخرى لا ينتظرونها.
الولاء للقيادة الإسلامية المؤمنة
مَن هم المنافقون؟ لنبحث عن شخصية المنافقين في داخل أنفسنا، من خلال كلام الله، لأنَّ القرآن هو مرآة أنفسنا التي أراد الله منّا أن ننظر فيها إلى أنفسنا من خلال القرآن. مَن هم المنافقون؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} هؤلاء الذين يلتزمون ولاية الكافرين الطاغين المستكبرين، الذين يلتزمون ولاية الاستكبار العالمي المتمثّل بالدول الكبرى، التي تريد أن تذلّ المؤمنين، الذين يلتزمون ولاية الصهيونية، التي تشكّل الخطر على وجود المسلمين والمستضعفين. الذين يتّخذون الكافرين من هؤلاء، الذين يتحرّكون في دوائر المخابرات والدوائر السياسية، التي تعمل على إذلال المسلمين وعلى قهر المستضعفين، وإذا قلت لهم إنَّ هناك ولاية للمؤمنين، إنَّ هناك قيادة إسلامية مؤمنة تخاف الله في نفسها، وتخاف الله في الناس، وتتحمّل مسؤولية الإسلام كلّه، وتقوده إلى العزّة والحرّيّة والثبات والقوّة والكرامة، إذا قلت لهم ذلك، فإنَّهم ينفرون منك ويتركون ولاية المؤمنين، كالكثيرين من الناس، الذين عندما تحدّثهم عن ولاية القيادات الإسلامية، المتمثّلة بالإمام الخميني (حفظه الله)، وبكلّ القيادات الإسلامية الواعية السائرة في الخطّ الإسلامي الملتزم الذي لا يلفّ ولا يدور، ولكنّه يظلّ يرصد الطريق المستقيم من مواقع الإسلام، فإنّهم ينفرون منك، ويحدّثونك عن قيادات بديلة لا تؤمن بالله ولا برسول الله، وإذا كانت تؤمن إيماناً محدوداً، فإنّها لا تؤمن بالإسلام كخطٍّ للحياة، ولا تؤمن بالرسالة. أليس هذا موجوداً عندنا؟! أظن أنّه موجود بكثرة، وأظنّ أنَّ كثيراً من الأوضاع القلقة التي عشناها ويعيشها المسلمون في كلّ مكان، تجعل الكثيرين يطرحون قيادات غير قيادات المؤمنين، وولاية غير ولاية المؤمنين.
لماذا يقول الله لكم أنتم مسلمون، وهكذا تقولون عن أنفسكم، أنتم مؤمنون، وهكذا تلتزمون الإيمان بألسنتكم. إذا كنتم مؤمنين فلماذا لا تلتزمون ولاية الإيمان، وإذا كنتم مسلمين فلماذا لا تلتزمون قيادة الإسلام؟ لماذا تنطلقون إلى قيادات كافرة طاغية ضالّة باغية تدخلونها في أمور المسلمين وتتحرّكون معاً في الإضرار بالمسلمين وفي مخادعة الواقع الإسلامي بشعارات تخفي الكفر في داخلها وتظهر الإسلام في واجهتها.



قوّة المنافقين ليست ذاتية
الله يقول للذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} لأنَّ الكافر يترأس دولة، أو محوراً، أو أيّ شيء من هذا، فهو يملك المال، ويملك الجاه، ويملك السلطة. أمّا المؤمنون والمسلمون في قياداتهم، وفي واقعهم، فهم محاصرون من هؤلاء، فكيف نلتزم المحاصَر ولا نلتزم المحاصر، نريد أن نكون أقوياء؛ أُريد أن أكون قويّاً في بلدي، حتّى أضغط على أهل البلد، فأَلتزم قيادة الكفر، لأنَّ الكفر يعطيني هذه القوّة، أريد أن أكون ذا فعل كبير في المجتمع، وهناك مَن يملك مقدّرات المجتمع السياسية، ولذلك أريد العزّة، أريد أن أكون عزيزاً قويّاً، {... أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء...} [آل عمران : 26] لن يعطيك هؤلاء العزّة، قد يعطونكَ انتفاخاً، ولكنّ هذا الانتفاخ سيتمزَّق عندما تنكشف المواقف، أو عندما تتبدّل المواقف، عزّتك مستعارة من عزّته، فإذا أخذ عاريته(1) فأين تكون، وعزّتك تابعة لعزّته، فإذا صار ذليلاً فأين تكون؟ ولكن إذا كانت عزّتك مستمدّة من الله، وبقيت مع الله وفي طاعة الله، فهل يمكن أن تفقد عزّتك "إذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعةِ الله"(2)، "فكم قد رأيت يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فَذَلّوا، وراموا الثروةَ من سواكَ فافتقروا، وحاولوا الارتفاعَ فاتّضعوا، فَصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهم حازمٌ وَفَّقَهُ اعتبارُهُ وأرشدَهُ إلى طريقِ صوابِهِ اختيارُهُ" هذا كلام زين العابدين (عليه السلام).


كيف نواجه المستهزئين بأحكام الله
ثمّ قد تجلسون مع الناس في مجالسهم، في السهرات الطويلة، وفي النوادي المليئة، قد يتحدَّث محدّث فيسخر بأحكام الله، ويستهزئ بأولياء الله، ويسخر من مجتمعات المؤمنين، ماذا تفعل أنت في المجلس وهو يخطب ويتحدّث ويسبّ ويشتم، وأنت تعرف أنّ ذلك كلّه لا يرضي الله، ماذا يفعل بعض الناس؟. نراهم يضحكون للخطيب، ويصفّقون وهم غير مقتنعين بكلامه، لأنّهم يخافون سطوته، ويريدون رضاه. بعض الناس يتزلّفون للمتحدّث الذي يسخر بأحكام الله، وبأولياء الله، لأنّه من الوجهاء والأغنياء والمسلّحين، أو غير ذلك. ردُّوا عليهم كلامهم، قولوا له إنّك مخطئ، قولوا له إنّك كاذب، قولوا له إنّك تتكلَّم بغير ما يرضي الله. يقولون إنّنا نخاف أن يقتلونا، أو يسجنونا، أو يعذّبونا وهذا أمر حاصل، لأنَّ بعض الناس يفهمون الحريّة على أنّها حريّتهم لا حريّة الآخرين، ويفهمون أنّ الأمن أمنهم لا أمن الآخرين، وأنّ الحقّ حقّهم لا حقّ الآخرين. لكنَّ الله يقول لك إذا لم تستطع أن تتكلَّم، فانسحب اسمعوا كلام الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...} [النساء : 140].
أنتم تفهمون اللّغة العربية أم لا؟ وهذه الآية لا تحتاج أن أُفسِّرها لكم، إذا كان الأمر كذلك، لا تجلسوا، انسحبوا حتّى تعبّروا عن احتجاجكم بانسحابكم، وهذا موجود في العالَم، سفراء الدول عندما يحضرون حفلة خطابية، أو مهرجاناً، وينطلق خطيب ليهاجم دولة هذا السفير، فإنَّ القوانين تمنع السفير من أن يقف ليردّ، ولكنّ تعليمات دولته تفرض عليه أن ينسحب ليعبِّر بانسحابه عن احتجاجه، وإذا لم يفعل ذلك عوقب. الله يقول لكلّ مؤمن إنّك سفير الله في كلّ مجتمع، إيمانك يفرض عليك أن تمثّل أنّك سفير الله، تدافع عن أحكام الله، وعن أولياء الله في كلّ مكان. إذا لم تستطع أن تدافع فانسحب {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} إذا لم تنسحبوا، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} يعني إذا سمعت الكلمة فكأنّك قلتها إذا لم تنسحب، وكأنّك ألقيت الخطاب الذي لم تنسحب منه، إنّكم إذا لم تفعلوا ذلك وإذا قعدتم معهم، وإذا بقيتم معهم {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] معنى ذلك أنّك ستحشر مع الخطيب ومع المتكلِّم، لأنَّ جلوسك مع قدرتك على الانسحاب رضىً بعمله، "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1).
هذه أحكام الله أيُّها الإخوة، وهذا ممّا يعتبره الله نفاقاً ثمّ يعطينا صور المنافقين {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون عندما تدخلون الحرب وتدخلون المعركة، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} نحن جماعتكم، وأصحابكم وأولياؤكم، وكنّا معكم، إذاً أعطونا غنائم النصر الذي أخذتم، {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} جاؤوا إلى الكافرين، وقالوا إنّنا استطعنا أن نكون "الطابور الخامس" في داخل المؤمنين، وأن نخذلهم، وأن نزعزع ثقتهم بأنفسهم، وأن نضعفهم، وأن ندبّر المكائد لهم، تعالوا أيّها الكافرون أعطونا من حصيلة الغنائم {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء : 141] لأنَّ الحجّة مع المؤمنين لا مع الكافرين.
موالاة الطاغوت والتحذير الإلهي
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا تحذير، هناك بشارة، هذا تهديد بشكلٍ إلزامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا توالوا الكافرين في محاورهم الفكرية، وفي محاورهم السياسية، وفي خطواتهم الاجتماعية، وتتركوا المؤمنين لتكونوا أولياء للكافرين من دون المؤمنين، المسألة فيها خطورة، افتحوا قلوبكم لهذه الآية، افتحوا مشاعركم، اعرفوا الخطر الذي تطلُّون عليه؛ وماذا بعد، الله يتحدّث، الله يطلق الإنذار، الله يطلق التهديد، وهذا ما تقوم له السموات والأرض {لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 144] إذا أنتم فعلتم ذلك، فستكون الحجّة من الله عليكم، وإذا كانت الحجّة لله عليكم فأين تذهبون، وأين تهربون، وأين تفرُّون؟ هل ينقذكم هؤلاء الكافرون من يديّ الله؟ فكِّروا في القضية بعقلٍ واعٍ ولا تفكّروا بالقضية بطريقة ساذجة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...} [النساء: 145].
الباب مفتوح للتوبة
أمّا الذين أضلَّهم المنافقون، فأبعدوهم عن الخطّ المستقيم وتركوهم في خطّ النفاق، فهؤلاء يفتح الله لهم باب التوبة، فتوبوا إليه، والله يدعوكم إلى الرجوع إليه فارجعوا إليه {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ} بعدما كانوا اعتصموا بالشيطان {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} يعني ليست توبة باللّسان، بل تابوا وأصلحوا، غيَّروا الطريق من الفساد إلى الصلاح، واعتصموا بالله وتركوا الاعتصام بغيره، {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146].
على هذا الأساس لا بدّ لنا إذا أردنا لقاء الله ونحن مرفوعو الرؤوس، إذا أردنا لقاء الله ونحن مطمئنّون، إذا أردنا لقاء الله من خلال رغبتنا في أن يحبّنا الله، فعلينا أن نرجع إليه، وأن نترك كلّ سبيل النفاق، وأن نسير مع المؤمنين، لأنَّ مَن كان المؤمنون أولياءه فإنَّ الله هو وليّه، ومَن كان الكافرون أولياءه فإنَّ الشيطان هو وليّه.
الحياة لا تحتمل الزيف
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ...} [البقرة : 257] لنتأمّل في هذه المفردات: ظلمة الروح، ظلمة العقل، نور الروح، نور العقل. لا بدّ أيُّها الإخوة من أن ندقّق بما تعلَّمناه، قد لا تكونون متمرّدين، لكن قد تأخذكم عدوى النفاق من مجتمعكم، قد يُضلّكم آباؤكم إذا كانوا في خطّ النفاق، قد يضلّكم من حولكم إذا كانوا في خطّ النفاق، والله يريد لنا أن نخلص في دينه، وأنْ نتحرّك في حياتنا على أساس أنّنا إذا آمَنّا بشيءٍ فعلينا أن نلتزمه، وأنا دائماً أقول لكم في أكثر من مرّة، فكِّروا واجلسوا مع أنفسكم؛ ادرسوا المسألة بشكلٍ أساسيّ هل أنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وهل تؤمنون بالإسلام أم لا؟ قولوها لأنفسكم، لنقلها جميعاً لأنفسنا، وأنا معكم، هل نؤمن بالله، وباليوم الآخر، وبالإسلام كلّه أم لا؟ إذا كنّا نؤمن به، ونعتبر أنّه طريق الخلاص، فعلينا أن لا نجامل أحداً في طاعة الله، لا تجاملوا آباءكم، لا تجاملوا أمّهاتكم، لا تجاملوا إخوانكم، أقرباءكم، حكّامكم، لا تجاملوهم لأنّه لن يغني عنكم أحد من الله.
وإذا كنتم لا تؤمنون لكن صرتم مسلمين، لأنَّ آباءكم مسلمون، ولأنَّ بلدتكم مسلمة، وأنتم لا تؤمنون بذلك، فلماذا لا توفّرون على أنفسكم وعلى الإسلام الانتماء للإسلام؟ قولوا لسنا مسلمين، لأنَّ الحياة لا تحمل الزيف. أيّها الإخوة والأحبّة، لا بدّ للإنسان من أن يحترم نفسه، والإنسان المزيّف هو إنسان لا يحترم نفسه، ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون صادقاً مع نفسه ليعرف نفسه من هو وفي أيّ طريقٍ يسير.
خلفيات ظالمة في النظرة إلى الإسلاميين
إذا كنّا نؤمن بالإسلام فعلينا أن نكون معه، وعلينا أن نكون مع خطّه، وعلينا أن نكون مع قيادته، وعلينا أن نرفض الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، مهما كانت قوّتهم، ومهما كانت أوضاعهم، ولا أقول إنّنا عندما نريد أن نواجه هؤلاء فإنَّ علينا أن نواجههم بطريقة الفوضى، أو بأساليب عشوائية، ولكن أن نخطِّط للمواجهة، وأن نبحث عن نقاط القوّة عندنا لنحارب بها نقاط الضعف عندهم، لأنَّ القوم يخطِّطون لمحاربة الإسلام.
إنَّ الهجمة على المسلمين الملتزمين الذين يسمّونهم أصوليين تتحرّك في كلّ واقع الإسلام الملتزم، المقاوم، المجاهد في العالم. وهذه الهجمة على الملتزمين يتطوَّع لها وعَّاظ السلاطين، ممّن يحملون صفات دينية، ولكنّهم يتحرّكون بما لا يغضب السلاطين، أو بما يرضي السلاطين. فإذا أراد السلاطين منهم أن يحاربوا المؤمنين الملتزمين، ويلتقطوا أخطاءهم، ويلتقطوا بعض انحرافاتهم، فإنّهم يبادرون إلى ذلك دون حرج.
إنَّ الواقع المنحرف الذي زرعه الاستكبار العالمي والكفر العالمي في الساحات الثقافية والسياسية والاجتماعية جعل هناك عقدة ضدّ الإيمان والمؤمنين، حيث إنَّ بعض الناس يضحكون، ويبتسمون، ويفرحون لامرئٍ كافر، أو ضال. ولكنّهم يضغطون على المؤمنين، هؤلاء {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إذا ذكر الله وذكر أولياء الله، وذكرت أحكام الله اشمأزّت قلوبهم {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر : 45]، قد لا يطيق بعض الناس أن يجلس مع مؤمن في جوِّ الإيمان ساعة، ولكنّه يجلس مع غير المؤمنين أيّاماً وليالي، هناك روحية تحدٍّ للخطّ الإسلامي، وهذا أمر مدبَّر الآن في لبنان، هناك الكثير من التيّارات المعادية، ولكن اسمعوا ماذا يتكلّم الناس، كم من الناس يذكرون الكفر والصهاينة وجماعة الصهاينة بسوء؟ وكم من الناس يهاجمون الأصوليين والمسلمين الملتزمين؟
لماذا يعادي الاستكبار إيران
إنَّ بعض الناس يعتبر المؤمنين الخطر وليس الخطر غيرهم، ولهذا جاءت قمّة عمان وتبعتها قمّة الجزائر(1)، لقد اعتبروا أنّ "إسرائيل" ليست الخطر، وإنّما إيران هي الخطر، لماذا إيران هي الخطر؟ هل إيران بقوميّتها عندما أفسح الشاه في المجال للقومية الفارسية؟ هل إيران بجغرافيّتها هي الخطر؟ كان جميع أُمراء الخليج يعتبرون أنفسهم موظّفين صغاراً عند الشاه، لا يستقبلكم الشاه ولكن يستقبلهم موظّف من الموظّفين الكبار، لماذا؟ لأنَّ إيران صارت إسلامية، وإسلامية لا على طريقة الدولة الإسلامية التي تقول إنَّ دين الدولة الإسلام فيما تأتي بكلّ القوانين غير الإسلامية لتكون شريعة الدولة وقانون الدولة. لكنّ إيران قالت إنَّ دين الدولة هو الإسلام، لأنَّ الإسلام كلّه هو الذي تريده أن يحكم إيران، ولأنَّ الإسلام هنا ليس هو الإسلام الذي يريد المتحدّثون فيه أن يجعلوه موظّفاً عند أميركا، أو عند روسيا، ولكن يريدون للإسلام أن يكون دين الله، الذي يتحدّى ويقاوم ويجاهد، لهذا في وقتٍ سابق، كان وزير خارجية فرنسا يتحدّث بكلّ صراحة أنّه لو انتصرت إيران في المنطقة، لشكَّل ذلك خطراً على الحضارة الغربية، ولهذا فإنَّ علينا أن نعمل أن نمنع انتصار إيران بكلّ الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادي والأمنية لنحافظ على هيمنة الحضارة الغربية في المنطقة ليست المسألة إلاّ أنّ الإسلام يريد أن ينطلق، وهذا ما جعلهم يتحدّثون عن الثورة كخطر.
الغرب يعمِّم نموذجه عالمياً
ماذا تريد إيران أن تفعل؟
إنّها تريد أن تصدّر الثورة للعراق(1)، وتريد أن تصدّر الثورة للبنان، وتريد أن تصدّر الثورة لأفغانستان، لكن ماذا تريد أميركا؟ إنّها تريد أن تصدّر "الأمركة" إلى كلّ العالم، فلماذا لا يكون ذلك خطراً؟ ومعنى تصدير "الأمركة" أن يكون العالم خاضعاً للسياسة الأميركية، والاقتصاد الأميركي، والأمن الأميركي، وما إلى ذلك. وأوروبا تعمل أيضاً على تصدير "الأوربة" إذا صحَّ التعبير إلى العالم، وروسيا أيضاً تريد أن تصدّر الماركسية للعالم، لماذا عندما تريد إيران أن تصدّر الإسلام الذي هو موجود في حجم العالم، يكون ذلك خطراً؟



توافق دولي لضرب الإسلاميين
وتُحدّثنا بعض الصحف الصادرة في أميركا وفي أوروبا عن اجتماع القمّة في موسكو(1)، وعلى ذمَّة ما نُشِرَ في بعض الصحف اللبنانية، أنّ الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف قال بعد القمّة لرجل أعمال غربي زار موسكو مؤخّرا: إنَّ أكبر مشكلة تواجه الجبّارين الدوليين، هي الأصولية الإسلامية فقط، ويتابع غورباتشوف: لقد خرج الأصوليون منتصرين على أميركا في إيران، وعلى الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ويجب أن نجد نحن وأميركا طريقة للسيطرة على ذلك، لأنّه إذا ثار المسلمون في المنطقة كلّها، فسوف نحتاج إلى عشرين سنة لتهدئتهم.
ما معنى ذلك؟ معنى ذلك، حسب قول المعلِّق السياسي في هذه الصحيفة، يوحي بأنَّ الجبّارين تفاهما في قمّة موسكو على احتواء الأصولية، ليس فقط في إيران وفي الخليج، بل في المنطقة كلّها أيضاً. ويأتي في هذا الإطار حادث إسقاط البحرية الأميركية لطائرة مدنية إيرانية، وهذا ما يفسّر ردّ فعل الإمام الخميني (قدِّس سرّه)، ودعوته لإعلان الحرب على سلاطين العالَم كلّه، في النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
وما يجري أيضاً في لبنان ليس عفوياً ولكنّه جزء من خطّة عالمية، وهذا ليس كلامي أنا، هذا كلام ينقل عن رئيس الاتحاد السوفياتي وينقله محلّل صحافي قدير ليس مسلماً أيضاً، فهذا يقول إنّ لبنان هو أخطر مكان مارست فيه الأصولية سياساتها، وقد يكون حلّ الوضع فيه، أقرب طريق إلى احتواء الأصولية. فهل دقَّت ساعة التحوّل في السياسات الإقليمية تجاه المدّ الأصولي؟ نحن نرى أنّ الخطة قد بدأت، وأنّ الكثيرين من الناس اعتبروا أنفسهم أدوات للخطّة في ضرب الإسلام الملتزم، الذي يسمّونه أصولياً، في محاولة تشويه صورته، وتسجيل النقاط ضدّه، مع إعطاء كلّ الحريّة لكلّ الذين لا يؤمنون بالإسلام، أو الذين يتحدّثون عن الإسلام في طريق الضلال.
هذا موقف ينطلق من خلال أنّ هناك خطّة في كلّ المواقع، لاحتواء هؤلاء المسلمين، الذين يفكّرون بطريقة الصحابة، حين كانوا مع رسول الله يقاتلون الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لأنّهم لا يريدون للناس أن يفكّروا بطريقة الإسلام الذي ينبع من الأصول الحقيقيّة، ولهذا فإنَّ الدعوات تتحدّث دائماً عن الخطر الأصولي، ولا تتحدّث عن أيِّ خطرٍ آخر، وهذا ما يجعلنا نفكّر، ونعيد النظر في كلّ الواقع، لنعرف أنّ ما يتحرّك من أوضاع وتعقيدات هو من صنع الأجهزة المخابراتية المحليّة والإقليمية والدولية. ولهذا إذا أردنا أن نسير في الصراط المستقيم، فعلينا أن يكون أولياء الله أولياءنا، وأن يكون أعداء الله أعداءنا، حتّى نستطيع أن نواجه المسألة على أساس إسلامي، يضمن للإسلام عزّته وحريّته وقوّته، لأنَّ الإسلام أمانة الله عندنا في كلّ المواقع التي نتحرّك فيها.
السلاح الكيميائي يقتل المسلمين والعالَم يتفرَّج
وعلى هذا الأساس، لا بدّ من أن نراقب ما حدث في جبهة الخليج، من الهجمة على إيران الإسلام في الحرب الأخيرة، والتي استخدمت فيها أكثر أنواع الأسلحة تقدُّماً، وأكثر أنواع الأسلحة الكيميائية المحرّمة في العالم تطوّراً(1)، بالمستوى الذي أحرقت الحرب الكيميائية الأرض كلّها هناك، ولم يحتجّ أحد من العالم بطريقة فاعلة في مواجهة ذلك كلّه. ولذلك فإنَّنا نعتقد أنّ المسألة لم تنشأ من موقع ضعف، أو خيانة، كما يقول بعض الناس، ولكنّها انطلقت من التطوّر في استعمال الأسلحة الكيميائية، حيث كانت القذائف كيميائية والرصاص كيميائياً، وكانت الأسلحة الكيميائية تحرق كلّ ما هناك بشكلٍ غير معقول، ولم يرفع العالَم صوته في ذلك كلّه.


ممنوع على السلاح الخليجي أن يستخدم ضدّ "إسرائيل"
إنَّنا نشاهد أنّ أميركا وغير أميركا عندما تسلِّح المنطقة، تعطي سلاحاً للسعودية، وينطلق صوت من مجلس الشيوخ الأميركي يقول: إنَّنا نخاف أن يستعمل هذا السلاح ضدّ "إسرائيل"، وعندما تعطي سلاحاً لغيرها من دول الخليج، كما حَدَثَ الآن في ما اقترحه الرئيس الأميركي من إعطاء طائرات حربية للكويت يُقال إنّ الرئيس الأميركي يحاول أن يحصل على رضى مجلس الشيوخ، لأنَّ هذا السلاح فيه ضمانات على أن لا يستعمل ضدّ "إسرائيل"(1)، إذاً كيف يستعمل ضدّ إيران، المسألة هي أنّه يراد تسليح كلّ الدول التي تحيط بإيران، على أساس أن تتّسع الحرب وأن تستعمل هذه الأسلحة ضدّها.
نحن نرى أنَّ مجيء السفن الحربية الأميركية والأوروبية إلى مياه الخليج، هو لمنع إيران من أن تأخذ حريّتها في الدفاع عن نفسها في مواجهة النظام العراقي الذي يقصف السفن التي تحمل النفط الإيراني ويلقى دعم وتعاون كلّ دول الخليج(2).
إنّ إيران قالت إمّا أن تكون الحريّة لنا في تصدير نفطنا، وإلاّ فلا حريّة لأحد، ونحن نحمّلكم يا دول الخليج المسؤولية، لأنّكم تعاونون العراق بالمال والسلاح وبكلّ المواقع العسكرية. جاءت أميركا بحجّة أنّها تريد أن تحمي السفن الكويتية، ثمّ تطوّرت الحجّة لتمتدّ إلى حماية السفن التجارية، ولم تحاول أن تقف ضدّ النظام العراقي لتمنعه من قصف السفن التي تحمل النفط الإيراني.. جاءت أميركا إلى مياه الخليج من أجل أن تقوّي أنظمة عملائها من جهة، ومن أجل أن تجعل نفسها السلطة الأقوى في منطقة الخليج، في مقابل الاتحاد ومن أجل أن تحاصر الجمهورية الإسلامية وتمنعها من تحقيق أيّ انتصار على العراق.
الخطّة كانت هي هذه، وعندما وقفت إيران لتجابه الأسطول الأميركي بإمكاناتها المتواضعة، وهي تعرف أنّها لا تستطيع أن تهزمه، فإنّها كانت تريد أن تؤكّد موقفاً عنوانه أنّها لا تنهزم أمامها، ولهذا كانت كلّ ضربة تقابَل بضربة، وكانت إيران تعمل على أساس أن تزعج الوجود الأميركي الحربي في الخليج باعتبار أنّه يشكّل الخطر على المنطقة كلّها.
إسقاط طائرة "الإيرباص" والمأزق الأميركي
إنّنا نعتبر إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية(1)، مِن قِبَل الطراد الأميركي بإطلاق صاروخين عليها، ليس عملاً ناتجاً عن خطأ، فالخطأ لا يتسلَّل إلى هذا المستوى في الأسلحة الأميركية، أو على الأقلّ إنّ احتمالات الخطأ هي احتمالات قليلة جداً، ولكن الذي غاظ أميركا هو أن تقف الزوارق الإيرانية أمام أسطولها لتحاول أن تزعجه، أرادت أن تفرض هيبتها، بأن تقتل أكبر عدد من الإيرانيين، حتى تسقط الروح هناك، ويتساقطوا، ويتراجعوا، ولكنّهم لا يفهمون الشعب الإيراني المسلم. هذا الشعب استطاع الإسلام أن يفتح عينيه على مواقع القوّة، ولهذا فإنَّ أميركا بهذا العمل استطاعت أن تخلق الفرصة لتوحيد الشعب الإيراني من جديد، ولتقويته من جديد، وأصبحت المسألة أنّ أميركا وقعت في المأزق، وأصبحت هناك دعوات على مستوى العالم إلى ضرورة انسحاب أميركا من الخليج، باعتبار أنّ هذا الخطأ يمكن أنْ يتكرَّر مرّة ثانية مع أكثر من طائرة.
إذا كانت المسألة مسألة خطأ، وإذا كان الرادار لا يستطيع أن يميِّز بين الطائرة الحربية والطائرة المدنية، فكيف يمكن للطائرات المدنية أن تحمي نفسها في الخليج، أو في كلّ مكان يوجد فيه مركز عسكري أميركي؟ ثمّ مَن الذي يعاقب أميركا إذا أخطأت؟ إنَّ المسألة هي أنّ هذه الحادثة فتحت عيون العالم على ما يمكن أن تقوم به أميركا ضدّ الطيران المدني، وضدّ كلّ من يعارض سياستها، لتبرّر بعدها بأنَّ المسألة مسألة خطأ وليست مسألة تعتمد على أساس وضع سياسي معيَّن.
الموقف الإيراني حكيم
نحن نحترم ردّة الفعل السياسية للقيادة الإسلامية في إيران، فقد تصرّفت بعقلٍ واتّزان، وقد تركت ردّ الفعل بطريقة الثأر لهؤلاء الضحايا من النساء والأطفال والرجال، تركته للمستقبل، لأنّها هي التي تختار الموقع، وليست الانفعالات هي التي تحدّد الردّ أو الموقع. وعلينا أن نتعلَّم من خلال هذا الموقف العاقل المتّزن، في ردّ الفعل على هذه الجريمة الوحشية المروّعة، أنّ الشجاعة والبطولة ليست في ردّ فعل أمام التحدّيات بشكل فوري انفعالي، ولكن لا بدّ من أن يكون بشكلٍ مدروس، يستطيع أن يحقّق الردّ، دون أن يخسّرك الفرص التي تحتاجها في كلّ واقعك السياسي أو واقعك الأمني. لا بدّ من أن ندرس ذلك، ولا بدّ من أن نقف مع الثورة الإسلامية في هذا التحدّي الجديد الذي يواجهها من كلّ قوى الاستكبار العالمي، وندعم مطالبتها بانسحاب السفن الأميركية، المعادية للخطّ الإسلامي ولحريّة الشعوب، من مياه الخليج.
تحرّك إقليمي ودولي لتدجين الانتفاضة
إنّنا نتطلَّع إلى ذلك كما نتطلّع في الوقت نفسه إلى الانتفاضة التي نريد أن نطلق عليها اسم الثورة، لأنّها ليست مجرّد حدث انتفاض، ولكنّها خطّ في الثورة، لنحدّق في كلّ الوضع السياسي الذي يتحرّك في الدائرة الفلسطينية سواء في حركة الخطّ الإسلامي الذي يصالح "إسرائيل"، وفي هذه الأجواء المعقّدة التي تعيش في داخل المخيمات وغير المخيّمات، وفي ما يتحرّك في الخفاء من خطط مستقبلية. إنّنا نتصوّر أنّ القمّتين العربيّتين(1) وقمّة موسكو، وبعض الأوضاع السياسية، والتحالفات الإقليمية وغير الإقليمية، تعمل على أساس تدجين الانتفاضة وتجميدها واحتوائها حتّى لا تسيء إلى الحلول الاستسلامية أو السلمية.
إنّ هناك عملاً يراد من خلاله إسقاط المسألة الفلسطينية في الدائرة السياسية، لتبقى المسألة مسألة الأراضي العربية المحتلة، التي يمكن أن يدبّر لها حلّ بطريقة أو بأخرى.
وعلينا أن نتفهَّم من خلال ذلك ما يدبّر لنا من أوضاع وأمور في تقوية "إسرائيل" وفي تنفيذ وإنجاح مخطّطاتها في لبنان وغير لبنان، على مستوى الأرض والواقع السياسي والأمني والاقتصادي، ويجب علينا أن ندعم حركة الجهاد في مواجهة "إسرائيل" ولاسيّما المقاومة الإسلامية، التي تحتوي كلّ مسلم مؤمن بضرورة الجهاد ضدّ الاستكبار العالمي والصهيونية، ولا بدّ لنا من أن نعمل على أن تكون لها كلّ حريّتها، وكلّ الفرص التي تعمل على إرباك كلّ المخطّطات، التي تسعى إلى إيجاد شرعية إسرائيلية في داخل فلسطين، وفي خارجها.
الخطّ الإسلامي يرفض الغبن والهيمنة
وإذا انتقلنا إلى لبنان فماذا نرى؟ نرى أنّ ثلاث عشرة سنة مضت من الفتنة، والجميع يتحدّثون عن الإصلاحات وعن استحقاق الإصلاح الذي يمكن أن يحقِّق نوعاّ من المساواة في ما بين اللبنانيين، وأن يجعل اللبنانيين يتعايشون على أساس أن لا يكون لبنان ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً، وعلى أساس أن يكون لبنان لكلّ اللبنانيين لا لفئة دون أخرى لأنّنا نتكلّم في الساحة العامّة، وعندما نتكلّم عن الإسلام، فإنّنا نتكلّم عن هدف استراتيجي، نحرّكه في الساحة، في إطار الحريّة والعدالة لكلّ اللبنانيين، لأنَّ الإسلام لا يريد الحريّة للمسلمين فحسب، ولا يريد العدالة للمسلمين فحسب.
لكنّنا نتكلَّم عن الاتجاه العام الذي انطلق من أجل أن لا يكون هناك غبن في البلد، وأن لا تكون هيمنة طائفية في البلد، وأن لا يعيش المسلمون في الدرجة الرابعة من حقوقهم، وفي كلّ مرحلة من مراحل هذه الحرب، تنطلق الدعوات للحوار، حول طاولة مستطيلة، أو مستديرة أو حوار في سباق الخيل(1)، أو في سباق الحمير، أو في أيّ موقع من مواقع السباق، لأنَّ القصّة قد اختلطت عندنا في كلّ مواقعها فأصبحنا لا نميّز بين الخيول الأصيلة وبين الحمير وبين غيرها في هذا المجال.
الاستحقاق الرئاسي ومهزلة الإصلاح
وكانت كلّ مرّة تنطلق الكلمات الكبيرة في سبيل أن يكون هناك إصلاح، وأن نضغط من أجل الإصلاح، وأن نمنع كلّ شيء على أساس تحقيق الإصلاح، وأن نعتبر الإصلاح شرطاً في كلّ عمل وفي كلّ استحقاق. أليس ذلك ما كان يتحدّث به المتحدّثون، أليس ذلك هو ما قيل للضحايا التي سقطت وهي تقاتل من أجل ذلك، وتمرّ الفرص الكبيرة التي تضغط، ويمكن أن تضغط، وتأتي المداخلات من هنا وهناك على كلّ المستويات لتنفّس الضغط هنا، وتنفّس الضغط هناك، وتنطلق الكلمات لتتحدّث أنّه لا بدّ من أن يكون الرئيس مارونياً، لأنَّ تلك هي ضمانات المسيحيين في لبنان، لأنّهم لا يريدون أن يكونوا من الدرجة الثانية، لكن لماذا قبلتم أن نكون من الدرجة الرابعة.. كلمات تنطلق لتقول للبنانيين لا تفكّروا بالإصلاح، إنَّ ثلاث عشرة سنة تحمل من الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية لم تستطع أن تفرض فيه الإصلاح الذي تريده أكثرية الشعب اللبناني، ومع ذلك لم يفرض إصلاح. كان الكلام يدور كثيراً؛ الأمن قبل الوفاق، أو الوفاق قبل الأمن، ثمّ صار الكلام يدور كثيراً، الوفاق قبل الاستحقاق، أو الاستحقاق قبل الوفاق. وتعب الجميع، وقالوا اتركونا ننتخب رئيس جمهورية، ثمّ بعد ذلك يمكن لكم أن تتحدّثوا معه عن الإصلاح. رئيس جمهورية، ما لونه؟ ما طعمه؟ ما رائحته؟ المهم أن يكون بلا طعم إلاّ الطعم الأميركي، ولا لون إلاّ اللون الأميركي، ولا رائحة إلاّ الرائحة الأميركية الممزوجة برائحة عربية ـــ إسرائيلية ـــ لبنانية.
وبعد ذلك يقال لنا لا تتحدّثوا عن الإصلاح، لأنَّ الإصلاح يقتضيكم حرب ثلاث عشرة سنة أخرى، لهذا هدِّئوا أعصابكم، وتعالوا نغيّر بعض الديكور اللبناني، وتعالوا نتّفق على أن نتعايش لتكون للمارونية الكلمة العليا، ولتكون لبقيّة المسيحيين والمسلمين الكلمة السفلى، لأنّنا نبحث عن ضمانات، أتعرفون لماذا يهوّلون ويضخّمون؟ إنَّ مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري، وهو مسألة انتخاب رئاسة الجمهورية وهذه مسألة بسيطة، فقد انتخب في هذه الفتنة عدّة رؤساء للجمهورية، فلماذا يكون هذا الانتخاب أمراً مهمّاً ضخماً يمثّل أساس نجاة لبنان؟ ليس الأمر كذلك. سيكون انتخاب هذا الرئيس كبقيّة انتخابات الرئاسات الأخرى، أو الرؤساء الآخرين. لكنّهم أرادوا أن يضخِّموا مسألة الاستحقاق الدستوري ليقلِّلوا من أهمية الاستحقاق المصيري، أرادوا أن يهوِّلوا على الناس في أنّه إذا لم ينتخب رئيس جمهورية، فسيكون التقسيم، وسيكون الفراغ، حتّى يخاف الناس من التقسيم الذي لن يكون، والفراغ الذي لن يحدث، حتّى يخاف الناس من ذلك، فيتركوا كلّ شيء، ويقولوا أعطونا خبزنا كفاف يومنا، وانتخبوا لنا رئيس جمهوريّتنا، وكلّ إصلاح وأنتم بخير.
وإلاّ ما معنى كلّ هذه الملهاة، النفايات السامّة، اللحوم المستوردة المجلّدة والمتعفّنة، التبغ والسموم، الكهرباء التي تنقطع بهذا الشكل الفظيع، الماء الذي انقطع(1).. كلّ هذه المفردات المتتالية، لماذا؟ حتّى تتأدَّبوا، حتّى لا ترتفع العين فوق الحاجب، لأنَّ الحاجب يريد أن يكون مسلَّطاً على العين، وحتى تلقوا يد الطاعة لكلّ الأجهزة الدولية والإقليمية والمحليّة. ولتبقى المعادلة اللبنانية التي تحرس النظام الطائفي وتقوّيه لتبقى هي المعادلة الحقيقية في البلد... ولهذا أصبحنا نسمع كلاماً أنّ علينا أن نهدّئ الوضع، وأن ترجع الدولة وأن ترجع الخدمات، وأن ينتخب رئيس جمهورية، ثمّ نسمع أيضاً حديثاً في الثورة وفي تغيير النظام، لا أدري أين عقولنا التي تتقبّل كلّ كلمات التغيير وكلّ كلمات الثورة من الذين يريدون أن يمنعوا التغيير الحقيقي، وأن يدجّنوا الثورة في نفوس الثائرين؟!.
والحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية