كيف نتمثَّل الإمام الكاظم (عليه السلام) في واقعنا

كيف نتمثَّل الإمام الكاظم (عليه السلام) في واقعنا


تمرّ في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام السابع من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الإمام موسى بن جعفر الذي عاش حياته ـــ كما عاش آباؤه وأبناؤه ـــ من أجل الإسلام والمسلمين، فاستطاع أن يملأ عصره تقىً وحركة في سبيل وعي الأُمّة لمواقفها ولمواقعها، وفي سبيل مواجهة الأُمّة لحكّامها الذين يضغطون على حريّتها والذين يعملون على أساس الانحراف عن خطّ الرسالة.
قبسات من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)

من ألقابه "كاظم الغيظ" وهذه الكلمة تعني الإنسان الذي يحبس غيظه إذا أغاظه أحد، ويفكّر كيف يحلّ هذه المشكلة، التي تواجهه من الذين يكيدون له أو يسعون لأذيّته أو يحقدون عليه.
كان لا ينفعل ولا يمارس ردّات الفعل السريعة إزاء الذين يخاصمونه أو يتكلّمون عليه بشكلٍ غير لائق، في الوقت الذي كان يستطيع أن يقمعهم بالقوّة، لأنّه كان يفكّر من خلال خطّ الإسلام.
إنَّ الإنسان إذا وقف أمام أسلوبين؛ أسلوب يستطيع أن يحوِّل فيه العدوَّ إلى صديق، وأسلوب يقتل فيه عدوّه أو يزيد عداوته، فإنّ الإسلام يقول للإنسان: إنَّ عليك أن تتصرّف بالأسلوب الذي يتحوّل فيه عدوّك إلى صديق، لأنَّ مشكلتك في عدوّك ليس في شخصه، وإنّما في عداوته، ولذا فإن استطعت أن تقتل عداوته، وانحرافه وتبقي على شخصه، فإنّك الرابح في ذلك.
تنقل سيرة الإمام (عليه السلام) أنّه كان هناك شخص في المدينة يسبّه بمختلف الكلمات السيّئة، حتى إِنّ طريقته في السبّ وفي التكلُّم، أثارت أصحاب الإمام وأثارت أقرباءه، حتى قالوا للإمام: ائذن لنا أن نقتله. فمنعهم من ذلك.
ثمّ في يوم من الأيام ذهب الإمام إلى هذا الرجل ـــ بعد أن سأل عنه وقيل له إنّه في بستانه ـــ فذهب إليه في البستان ودخل عليه وهو جالس، فقال الرّجل: إنّك تفسد عليَّ زرعي، تابع الإمام سيره حتّى وصل إليه فقال له: كم تؤمّل في زرعك. قال له: لا أعلم الغيب، قال له: لم أقل لك كم تخرج وكم تحصّل في زرعك بل كم تؤمّل، قال: أؤمّل أن يخرج بمئتي دينار. قال هذه ثلاثمائة دينار وزرعك على حاله. ثم بدأ يتحدّث معه بكلّ الكلام الذي يفتح قلبه وعقله وعاطفته، حتّى ودّعه بكلّ ما يملك من الاحترام، ثمّ سبقه الإمام إلى المسجد، وعندما دخل والناس جالسون ـــ هؤلاء الناس الذين اعتادوا أن يسمعوا السبّ من هذا الشخص ـــ بادر هذا الرجل إلى الإمام وهو يقول للناس: الله أعلم حيث يجعل رسالته. والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً لهم فانظروا أيّ أسلوب أفضل؛ أن تذهبوا لقتله فتخلقوا ألف مشكلة من خلال قتله أم أن نحتوي عداوته من خلال الأساليب التي يمكن أن تسقط عداوته. وهذا ما حصل {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، والله قال، وأئمّة أهل البيت يجسِّدون لنا ما قاله الله، لأنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين عاشوا القرآن في حياتهم، كما عاشوه في فكرهم. والتزامنا بأهل البيت هو التزامنا بالإسلام وقِيَمه، لأنّنا لا نرتبط بهم إلاّ من خلال الإسلام، باعتبار أنّهم الأُمناء عليه وعلى حلال الله وحرامه، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "أحِبُّونا حبّ الإسلام". وهكذا قال الله تعالى: {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134]، اكظم غيظك ولا تندفع إذا أغاظك أحد إلى ردّ الفعل، بل حاول أن تدرس مسألة الغيظ؛ من أين انطلق هذا الشخص؟ وفي أيّ ظرف؟ وما هي المناسبة؟ وما هي الخلفيّات؟ وما هي الأفكار التي يمكن أن تواجه بها هذه المشكلة؟ وهذا ما أرادنا الإسلام أن نعيشه في حياتنا، أن نعيش على أساس أن نجعل عقلنا أمام كلامنا، أن لا نتكلَّم قبل أن يقول لك عقلك ماذا تتكلَّم، وأنْ لا تتحرّك قبل أن يقول لك عقلك كيف تتحرّك، وأنْ لا تحرِّك سلاحك قبل أن يقول لك عقلك المنفتح على إيمانك كيف تتحرّك بدون غضب. الغضب من عمل إبليس.
هكذا جاءت الأحاديث: "الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم"(1). أيّ شيء أشدّ من الغضب؟ "إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرَّم الله"(2).
هذا هو الجوّ؛ أن تكظم غيظك لتفكّر وتفكّر لتعرف كيف تتحرّك. وقد يقودك الفكر إلى أن تواجه الموقف بقوّة، أو بلين، المهمّ أن تتحرّك من خلال إيمانك، لا من خلال عصبيّتك؛ وأن تتحرّك من خلال عقلك، لا من خلال غضبك وعاطفتك.
هذا ما علَّمنا إياه الله وعلَّمنا إيّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلَّمنا إيّاه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ مجالات حياتهم. وكانوا يعلّمون الناس أن لا يكونوا حياديين بين الحقّ والباطل. لأنَّ هناك أُناساً في المجتمع يريدون أن يتركوا ساحة الصراع وينعزلوا عنها، لأنّهم لا يريدون أن يتّخذوا مواقف، في ما يختلف فيه الناس من مواقف الحقّ والباطل.
الحياد بين الحقّ والباطل
هناك أشخاص يقولون دائماً: إنَّنا حياديون، لا مع هذا ولامع ذاك، أو يقولون: إنَّنا لا نريد أن ندخل بين السلاطين أو بين المختلفين. المسألة في نظر الإسلام وفي نظر الإمام الذي يستمدّ ذلك من الإسلام مختلفة: قل لنفسك مَن أنت؛ هل أنتَ مسلم، هل أنتَ مع الحقّ، هل أنت على طريق القرآن؟ أم أنّك كافر، وعلى طريق الشيطان، ومائع الشخصية؟ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء...} [النساء : 143]، منافق تماماً، كبعض الناس الذين يقولون الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة وراء عليّ أقوم، والجلوس على التلّ أسلم. مَن أنت؟ إذا كنتَ مسلماً حاول أن تطرح على نفسك سؤالاً آخر، ما هو الإسلام؟ هل هو أن أُصلّي وأصوم وأحجّ وأُخمِّس وأُزكّي وتنتهي القصّة عند هذا الحدّ، أم أنّ الإسلام هو الموقف في الحياة، وجهاد للكفّار وللمنافقين وللطاغين، وموقف مع الحقّ ضدّ الباطل؟ هل أنتَ تفهم الإسلام عزلة عن الحياة، أم تفهمه موقفاً في الحياة؟ إذا كنتَ مسلماً وإذا كنت تتحرّك في خطّ الإسلام وكنتَ ترى أنّ الإسلام يشمل الحياة كلّها، فلا بدّ لك أن تكون إنساناً ملتزماً، أن لا تكون حيادياً، وأن لا تنعزل عن ساحة الصراع.
تارةً يكون الصراع بين باطلين وبين ظلمين وبين شرّين وبين كفرين، وأخرى يكون الصراع بين حقّ وباطل، بين كفر وإيمان، بين خير وشرّ، بين عدل وظلم. في هذا المجال إذا كان الصراع بين كفرين وباطلين كانت المسألة فتنة، والفتنة لا بدّ لك أن تقف أمامها حيادياً، لتترك الباطلين يتصارعان في ما بينهما ليضعفا ولتكون القوّة لك بعد ذلك. وإذا رأيت أنّ بعض الباطل قد يخدم أهدافك وقتاً ما أكثر من ذلك في وقت لا تكون فيه أنتَ البديل، أدعِم من يكون أقرب إلى هدفك، أو أضعِف من يكون بعيداً عن هدفك، حتّى تستطيع أن تقطع شوطاً في ذلك من دون أن تلتزم شرعية الباطل. هذا الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين في ما عبَّر عنه من كلمات: "كُن في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"(1) ـــ فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر بحيث لم يقوَ لكي يُنتفع بركوبه وهو ليس أنثى حتى تحلب منه ـــ كن حيادياً في الفتنة التي يتنازع فيها أهل الباطل ولا تنتفع منها في موقفك بشيء، كما يقول المثل الشعبي "فخَّار يكسِّر بعضه" لأنّ الباطل يكسّر باطلاً والكفر يكسّر كفراً، إلاّ إذا كان في هذا الصراع انعكاس سلبي على واقع المسلمين، عند ذلك لا بدّ أن تدرس موقفك كيف يمكن أن تحفظ الواقع الإسلامي العام من خلاله. ولكن قد تكون المسألة وجود صراع بين خطّ يحمل الحقّ وخطّ يحمل الباطل، في هذا المجال لا بدّ أن تدقّق، لا تكن حياديّاً وتقول لا أعرف الحقّ مع مَن والباطل مع مَن: {... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] اسألوا مَن يملكون العلم والأمانة في حركة العلم والوعي في السّاحة، حتى تستعينوا بهم لمعرفة الحق أين يكون، وخطّ الباطل أين يكون؟ فإذا عرفتم خطّ الحقّ فقفوا معه، وإذا عرفتم خطّ الباطل فقفوا ضدّه؛ فإذا لم تلتزموا ذلك فمعناه أنّكم لم تلتزموا بالإسلام، لأنَّ الله يريدكم أن تتحرَّكوا في خطّ الحقّ كلّه، سواء كان حقّاً في العقيدة أو في العمل، وسواء كان العمل في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني أو أيّ جانب من الجوانب الأخرى، أن تلتزم الحقّ على أساس أنّ التزامك بالإسلام يفرض عليك ذلك، وإلاّ كنتَ منحرفاً عن خطّ الحقّ.
وهناك نقطة لا بدّ أن نفهمها في مجرى الحياة العملية في الواقع العسكري أو السياسي أو الأمني، وهي أنّ معنى أن يكون الإنسان حياديّاً بين الحقّ والباطل ـــ وهو من جماعة الحقّ ـــ معنى الحياد أنّك تعين الباطل بأن تنسحب من موقف الحقّ، لأنَّ الباطل يقوى بطريقتين: الطريقة الأولى، هي أن يملك قوّة أكثر ممّا يملكها الحقّ، والطريقة الأخرى، هي أن يسحب الباطل من الحقّ جماعة ليحيدهم فلا ينصروا الحق. هنا لا يوجد فرق بين أن تذهب وتحارب مع الباطل ومع الظلم ضدّ الحقّ وبين أن تكون حيادياً بين الحقّ والباطل وتنسحب من الساحة. أنتَ حاربت الحقّ بأن منعته قوّتك فأصبح الباطل يقوى عليه.
الوقوف مع الحقّ
أنتم تستمعون دائماً في ذكرى عاشوراء إلى قصّة مسلم بن عقيل، الذي كان معه 18 ألف رجل، وابن زياد ليس معه أحد، حتّى إِنّه يقال عندما جاء ابن زياد إلى الكوفة، أغلق عليه باب القصر، لأنّه لم يكن يملك القوّة التي تستطيع أن تواجه القوّة التي كانت عند مسلم بن عقيل، ولكن عندما دسّوا المخابرات التي كانت مهمّتها أن تخذل الحقّ أو تكسب للباطل جماعة. ولقد استخدموا العنصر النسائي، فكانت المرأة تأتي إلى ابنها أو زوجها أو أخيها وتبكي أمامه ـــ والدموع في كثير من الحالات تسقط الموقف ـــ وتقول له: يكفيك بقيّة الناس، ماذا تريد بكلّ هذه "اللّبكة"؟ يكفيك كلّ هؤلاء، هم 18 إذا نقصوا واحداً فما المشكلة؟ وهكذا وصلت الحال إلى أنّ مسلماً يمشي داخل المسجد ومعه ثلاثون وصلَّى المغرب ومعه عشرة وصلَّى العشاء وليس معه أحد.
شجاعة الموقف
هذا واقع موجود الآن، الذين يسمُّون الأكثرية الصامتة، والأكثرية الصامتة هي الأكثرية التي يكون صمتها صمتاً عن الحقّ، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، في الوقت الذي يحتاج الحقّ إلى هذه الأكثرية. والأكثرية الصامتة قد تتحوّل إلى أكثرية منافقة وقد تتحوّل إلى أكثرية معادية. بعض الأشخاص كانوا على الحياد في زمان الإمام عليّ (عليه السلام)، عندما دخل المعركة مع معاوية في صفّين. هؤلاء اعتزلوا القتال فنقل أمرهم إلى الإمام عليّ (عليه السلام) فقال: "إنَّهم خذلوا الحق ونصروا الباطل" لم ينصروا الباطل مباشرة، ولكنّهم نصروه بخذلان الحقّ، لأنّ الحقّ كلّما كان الناس معه أكثر وكلّما كانت الطاقات معه أكثر، كان أقوى. فكِّروا في هذه المعادلة، على أيّ مستوى من المستويات؛ عندما يكون عدوّك عنده عشرون شخصاً وأنتَ عندك مئة، أنتَ تستطيع أن تغلب عدوّك، لكن إذا تحيّد هؤلاء المئة وأصبحوا عشرة، فسوف يغلبك عدوّك بعد ذلك. هم لم يقاتلوا مع عدوّك، لكنّهم نصروا عدوّك عليك بانسحابهم من نصرتك.
لهذا في الإسلام لا يجوز أن يكون هناك موقف مائع، فيقف الواحد ليقول: أنا لستُ مع هذه الجهة، ولا مع تلك، ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة؟ ماذا يقول أهل البلد؟ هذا خطأ، لأنَّ الله لن يحاسبك على أقوال هؤلاء بل سيحاسبك على ما قلت أنتَ وعلى أيّ أساس قلت: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل : 111]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...} [الأنعام : 94]، أنت تبرز أمام الله من خلال عقلك ليحاسب الله عقلك، وبإرادتك ليحاسب إرادتك، وبموقفك ليحاسب موقفك، أمّا موقف الآخرين فسيحاسب الله الآخرين عليه، قد يتّصل بك وقد لا يتّصل، الإمام قالها كلمة لبعض أصحابه وهو يريد أن يتحدّث عن هذا الجوّ: "أبلغ خيراً، وقل خيراً ولا تكن إِمَّعَة"(1)، قالوا وما الإِمَّعَة، قال: أن تقول أنا مع الناس. ولكن ما هو رأيك وما هو موقفك؟ ليس لي موقف. أن تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "إنَّما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فما بال نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"(2).
لهذا لا بدّ لنا من خلال ما يعلّمنا الإمام (سلام الله عليه) من خلال الإسلام، لا بدّ لنا من أن نحدّد مواقفنا في كلّ شيء ابتداءً من القضايا الجزئية إلى القضايا الكليّة، لأنَّ الله يريد للأُمّة أن تفكّر وأن تقرِّر على أساس ما تفكّر، ويريد لها أن تركِّز إرادتها على أساس فكرها وقرارها وأن تتحرَّك وأنْ تتحمَّل مسؤوليّتها تجاه كلّ الواقع الذي تعيشه، وأن تناقش قادتها، وأن تطيعهم إذا كانوا مؤتمنين على الأُمّة. ولكن من حقّ الأُمّة على قادتها أن يبيِّنوا لها أمورها، ويحرِّكوا لها وعيها في الاتجاه السليم. لا بدّ لنا من أن نأخذ هذا الدرس في ذكرى الإمام الكاظم (عليه السلام).
اعرف نفسك جيّداً
هناك درسٌ آخر نحتاجه في حياتنا العملية، سواء كانت حياة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وهي أنّ على الإنسان أن يعرف نفسه جيّداً؛ في ما يملكه من فكر وما يملكه من مواقف وما يملكه من قيمة. أن يعرف نفسه بنفسه، إذا كان يستطيع أن يدرك أبعاد نفسه؛ وأن يعرف نفسه من خلال أهل الرأي والخبرة، ليعرِّفوه قيمته ودرجته في مجال العلم أو في أيّ مجالٍ آخر. أن تثق بنفسك من خلال دراستك لنفسك ومن خلال معرفتك لنفسك، لا أن تثق بنفسك من خلال ما يقوله الناس عنك ومن خلال ما يحكم به الناس لك وعليك، لأنّه ليس من الطبيعي أن يفهمك الناس أكثر ممّا تفهم نفسك.
جاء شخص إلى الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) وقال له: إنّي أُريد أن أصحبك. قال له: عندي ثلاث شروط، وأهلاً وسهلاً بك. قال: ما هي. قال: أن لا تكذّبني. فإنّه لا رأي لمكذوب، وأن لا تغتاب عندي أحداً، وأن لا تمدحني، فأنا أَعْرَف بنفسي منك. كان الإمام عليّ (عليه السلام) إذا مُدح يقول: "اللّهم اجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"(1). حتّى يوحي إليهم بأنّه يفهم نفسه أكثر ممّا يفهمونه، فعلى الإنسان أن لا يستعير ثقته بنفسه من الآخرين، لأنّ الآخرين قد يغشُّونك في نفسك، عندما يضخّمون لكَ شخصيّتك بطريقة غير صحيحة، أو ربّما يسقطونك عند نفسك عندما يحاولون أن يهزموك نفسياً، ليثيروا مواطن الضعف في نفسك بدل أن يثيروا مواطن القوّة فيها.
بعض الناس يسمع كلمة مدح فينتفخ، أو يسمع كلمة ذمّ فيسقط؛ إذا سار الناس معه يشعر بضخامة الشخصية وإذا انكفؤوا عنه وابتعدوا يشعر بضعف الشخصية. هؤلاء الذين يستعيرون ثقتهم بأنفسهم من الآخرين، هم الذين يستطيع الآخرون أن يسيطروا عليهم. وهذه من الأساليب التي استخدمها الاستكبار العالمي والكفر العالمي بجميع ممثّليه في مواقع الحكم والسياسة والاجتماع والثقافة، واستغلّها في هزيمة الشعوب المستضعفة نفسياً فيثير نقاط الضعف في داخلها ليحدّثها عنها ليسقطها.
الغرب والإسلام
الآن نلاحظ أنّ هناك كثيراً من الذين تثقَّفوا بثقافة الغرب، يتحدّثون عن المجتمع الإسلامي أو المجتمع المستضعف بأنّه مجتمع جاهل، متخلّف، متعفّن، لا يستطيع أن يسوس نفسه ويقود نفسه بنفسه. وعندما يتحدّثون عن الإسلام يقولون هذا الحكم الشرعي متخلّف، وهذه العادة الإسلامية عادة غير حضارية، وهذا الحكم الإسلامي أو القاعدة الإسلامية بعيدة عن الحضارة. وهكذا يحاولون أن يفقدوا المسلمين ثقتهم بدينهم، ثم يعملون على استثارة نقاط الضعف في أنفسهم وفي مواقفهم التي يخوضون فيها في مسألة الحرية والعدالة، عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يصادروا حريّتهم أو عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يظلموهم فيأتون إلى الناس من خلال جماعتهم، سواء كانوا في الجامعات أساتذة جامعيّين، لأنّهم عاشوا الانبهار من خلال الاستعمار، وعاشوا الهزيمة النفسية من خلال واقع الاستضعاف، أو من خلال كلّ الذين زرعهم الاستكبار العالمي والكفر العالمي في مواقعنا السياسية والثقافية والاجتماعية، يأتون إليك ويقولون ما هذا العمل؟ ما هذه العنترية التي لا معنى لها؟ أنتم تريدون أن تقاتلوا أميركا و"إسرائيل" التي تعتبر العنصر الأساس في سياسة أميركا. وتريدون أن تواجهوا المارونية السياسية في لبنان، أو هذا الحاكم الذي يظلم ويضطهد شعبه في هذا البلد العربي أو ذاك؟ ما قيمتكم؟ ما هي أسلحتكم؟ ما هي إمكاناتكم؟ يقولون ذلك حتّى يفقد الناس ثقتهم بأنفسهم، وحتّى يهزمهم الذين يصادرون الحريّة ويركّزون الظلم من دون معركة.
نقاط القوّة والضعف
في هذا المجال قد يقول بعض الناس: ألاَ توافق معنا على أنّ هناك نقاط ضعف فينا؟ ألاَ توافق على أنّ هناك جهلاً وتخلُّفاً في كثير من المواقع الإسلامية؟ ألاَ توافق معنا على أنّ هناك ضعفاً في السلاح وفي التخطيط وفي فنون الحرب، وأنّ هناك خللاً في العادات الاجتماعية الإسلامية؟ كلّ هذا صحيح. ولكن ألا توافقون معي على أنّنا نملك نقاط قوّة في مواجهة نقاط الضعف، وعادات حسنة في مقابل العادات السيّئة، وطاقات علمية في مقابل مواضع الجهل، وعناصر تقدّم في مقابل عناصر التخلُّف.
نحن لسنا فوق النقد ولسنا القوّة المطلقة، ولكنّنا لسنا الضعف المطلق. المسألة هي أنّ الاستكبار العالمي، من خلال رموزه الثقافية والسياسية والاقتصادية، يريد أن يثير أمامنا نقاط ضعفنا ونقاط قوّة الآخرين لنسقط أمام الآخرين. وما نريده هو أن نثير نقاط ضعفنا إلى جانب نقاط قوّتنا، لنستطيع أن نهزم نقاط الضعف بنقاط القوّة، ولنستطيع أن نواجه الآخرين في نقاط ضعفهم بنقاط قوّتنا.
لهذا، المسألة هي في المفهوم الإسلامي، أن تعرف نفسك في نقاط ضعفك وقوّتك كفرد، كمجتمع وكأُمّة، أن تعرف ما هي نقاط ضعفك وما هي نقاط قوّتك، حتّى إذا مَدَحَكَ الآخرون وقالوا لك: إنّك مثال القوّة المطلقة، قل لهم: لا أنا عندي ضعف. وإذا قال لكَ الآخرون: إنّك تمثّل الضعف المطلق، قل لهم: إنّ عندي قوّة. لا توافق الآخرين على رأيهم.
يقال إنّه جاء شخص من المدّاحين بأشعاره إلى عليّ (عليه السلام) ومدحَه مدحاً عظيماً، وعليّ (عليه السلام) في مستوى المدح العظيم من خلال عناصر العظمة الذاتية، لكنَّ عليّاً (عليه السلام) أراد أن يعطيَ درساً بعد أن فرغ الإنسان من مدحه، قال: يا هذا، أنا دون ما تقول، مدحتني أكثر ممّا أستحق، ولكنّي أعرف أنّك تضحك على نفسك من هذا المدح وليس عليّ أنا. فأنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك، أنا أعظم ممّا في نفسك، لأنّني أفهم نفسي في مواقع الضعف وفي مواقع القوّة.
هذا هو التوازن؛ أن تعرف نفسك حتّى لا يغشَّك الناس. قالوا لهشام بن الحكم: يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس إنّها لؤلؤة ما نفعك، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنّها جوزة ما ضرّك، وأنت تعلم أنّها لؤلؤة؟
التطرُّف والاعتدال
لهذا نحن لا نريد أن نسقط أمام كلّ كلمات الإعلام، الذي يحاول أن يثير المسألة ليعطينا ألقاباً من صنع أجهزة مخابراته، لنسقط أمام هذه الألقاب ولنندفع حتّى يرضى عنّا الاستكبار.
وهذا ما استعمله في كثير من الحالات في كلمات التعصّب والتطرّف والإرهاب والتزمّت وما إلى ذلك من كلمات، علينا أن نقول لأنفسنا، في ما نسمع من كلمات من الإذاعة أو في ما نقرؤه في الصحف، هل صحيح أنّنا متطرّفون؟ ما هو الخطّ الفاصل بين التطرّف والاعتدال؟ وندرس المسألة لنفحص أنفسنا ونقرّر الواقع لأنفسنا من خلال الدراسة.
قالوا لنا إنّنا إرهابيون، ما هو الفرق بين الإرهاب والعمل من أجل الحريّة؟ هل نحن إرهابيون، أم نحن طلاّب حرية؟ عندما يقولون عنّا إنّنا متعصّبون، نجلس ونفكّر؛ ما هو الفرق بين التعصّب والالتزام؟ فكّر حتّى لا يهزمك الآخرون بإعلامهم، الذي يريد أن يضعف موقفك. وهذه نقطة استعملت مع المقاومة الفلسطينية سابقاً، وتستعمل مع الشخصيات السياسية، وأيضاً مع بعض المنظّمات أو الأوضاع السياسية الآن، والإعلام عندما يضخّم لك شخصيّتك فإنّك تنتفخ، ليوقعك في الخطأ من خلال انتفاخ الشخصية.
لهذا، التوازن في فهم الشخصية هو الأساس؛ التوازن في المواقف وفي خطّ المواجهة ضروري للتماسك.
هذه نقاط فكرية، لا بدّ لنا من أن نواجهها بالوعي والتفكير عندما نستثير ذكرى أئمّتنا، لأنَّ الالتزام بالأئمة ليس معناه أن تذهب لزيارتهم، أو أن تقف لتقرأ مئات الزيارات على أضرحتهم. هذا أمر قد يجعلك تدرك شخصيّتهم أكثر، ولكنّك إذا ارتبطت بمنهجهم الذي هو منهج الإسلام، وخطّهم الذي هو خطّ القرآن، فإنّك تستطيع أن ترتبط بهم أكثر، وأن تفهم حياتك من خلالهم أكثر، وهذا هو الذي نريد أن نعايشه؛ أن ننطلق لنفهم فكر أئمّتنا، ونفهم سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونفهم نهج القرآن، حتّى نفهم أنفسنا؛ هل نحن نتحرّك في خطّ الإسلام، أم في خطّ الضلال؟
قلنا إنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) عاش في مواجهة الظلم الذي كان يلبس لبوس الإسلام، لأنَّ الخلافة التي كان يمثّلها هارون الرشيد قد تحوّلت إلى ملك، ومنطلق لإخضاع الناس بالطرق غير الشرعية، والأخذ بكلّ أسباب اللّهو والفجور وغير ذلك. في هذا المجال كان دور الإمام أن يوجّه الأُمّة في كلّ المواقع، حتّى في مواقع الظلم.
في جلسة للإمام (عليه السلام) مع هارون الرشيد، قبل أن تسوء العلاقات بينهما، قال الرشيد للإمام، فدك هذه التي كانت تقول الزهراء (عليها السلام) إِنّها لها من رسول الله وصارت مشكلة بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنا مستعد لأن أرجع لكم فدك، قال له الإمام: إذا عرفت حدودها فلن تستطيع أن ترجعها إلينا. فدك التي عندنا لها حدود غير التي عندك. قال: ما حدودها؟ قال: الحدّ الأوّل عدن، الحدّ الثاني سمرقند، الحدّ الثالث افريقيا، الحدّ الرابع أرمينيا، وساحل الخزر. قال له: إنّ هذا معناه ملكي كلّه، قال له: نعم، فدكنا هذه، فدك التي نعتبر أنّها الحق الذي نريده. فتغيَّر وجه الرشيد من خلال ذلك.
معاناة الإمام (عليه السلام) مع الرشيد واستشهاده
كان الرشيد يعتبر نفسه قريب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، جاء إلى قبر النبي، وقال له: السلام عليك يا رسول الله. إنّي أُريد أن أعتذر إليك من أمرٍ أُريد أن أفعله. إنّي أُريد أن أحبس موسى بن جعفر، لأنّه يريد أن يشتّت أُمّتك ويسفك دماء المسلمين، والإمام لم يقم بثورة ولم يقم بأيّ حركة من الحركات التي نفهمها. ولكنّه كان يوجّه الأُمّة، وكانت الأُمّة ترتبط به ارتباطاً عفوياً، حيث كانت توجّه إليه حقوقها الشرعية وغيرها، ممّا أخنق الرشيد آنذاك. وهذا ما جعل الرشيد ينقله من سجن إلى سجن. وكان الذين يحبسونه يشعرون بعقدة لفعلتهم هذه. فأحد أقرباء الرشيد أرسل إليه يطلب إذناً، لينقل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من سجنه، وإلاّ سوف يطلق حريّته لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مشغولاً بنفسه، لا يدعو على السجَّان ولا على الرشيد، بل يقول: اللّهم إنّي طلبتُ منك أن تفرّغني لعبادتك، لأنّي كنت في أيام الشغل والعمل مشغولاً مع الناس، وقد فعلت ذلك، فلك الشكر يا ربّ، فاستجاب لطلبه ونقل الإمام إلى سجنٍ آخر.
ينقل أحد الأشخاص، فيقول: كنّا جالسين في الطابق الأعلى، التفت إليّ صاحب السجن، وقال لي: أنظر ماذا ترى في أرض الدار؟ قلت: أرى ثوباً، قال حدِّق. حدَّقت، فرأيت رجلاً ساجداً. قلت له: إنّي أرى رجلاً ساجداً، قال له: هذا موسى بن جعفر (عليه السلام). قال له: عندما يصبح الصباح يتوضّأ ويصلّي ثم يعقّب ثم يسجد فلا يزال ساجداً حتى يأتي الزوال. ثم عندما يأتي الزوال ويسمع الآذان يقوم ويصلّي من دون أن يتوضّأ، فأعرف أنّه لم يغفُ في منامه، فيصلّي الظهر ثم بعد ذلك يتمثّل ويعقّب ثمّ يصلّي العصر، بعد ذلك يسجد حتى تأتي العتمة، ثمّ بعد ذلك يفعل ذلك، ثمّ يأخذ نوماً خفيفاً فيقوم ليصلّي، ويمتد ذلك حتّى الفجر، هذا هو ديدنه في الليل والنهار. هكذا كان المستوى الذي يعيشه الإمام في علاقته بالله سبحانه وتعالى، ويقال إنّه أرسل إلى الرشيد رسالة يقول فيها: لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتّى ينقضي عنك يوم من الرّخاء، وهكذا حتّى نقضي جميعاً إلى يوم لا انقضاء له، يوم يخسر المبطلون.
وفي نهاية المطاف، دسَّ له الرشيد السمّ، ثمّ جاء بكلّ القضاة والفقهاء والوجهاء، قال السجَّان لهم، انظروا إلى موسى بن جعفر، ليس هناك خدش في جسمه أو أيّ شيء. ولكنَّ الإمام التفت إليهم وقال لهم إنَّني سقيت السمّ، وإنّني سأقضي بعد أيّام، وهكذا استشهد الإمام (سلام الله عليه) بعد أن قضى أربع عشرة سنة في سجون الرشيد.
وفي عصرنا نرى أنَّ الحكّام الذين يريدون أن يتحرّكوا ويمتدّوا في حكمهم، غالباً ما يقومون بالإيحاء للمجتمع وللأُمّة بأنَّ فلاناً قد اعتقل، لأنّه يريد أن يسيء إلى وحدة الأُمّة ويريد أن يلقي الفتنة بينها، ويريد أن يسفك دماء الأُمّة. لاحظوا ما جرى في تونس، عندما واجَه الحكم الظالم الإسلاميين، قال إنّهم يريدون الفتنة، وإِنّهم ينطلقون على أساس الخارج. لا يستطيع أن يواجه المسألة بالواقع، إنَّ هؤلاء يحاربون الحكم الظالم الطاغي على أساس الإسلام، يريد أن يهرب من هذه الحقيقة. كذلك نجد في مصر الآن، عندما انطلق المسلمون المصريون للتظاهر تأييداً للانتفاضة الفلسطينية في الضفّة الغربية وغزّة، قمعهم النظام المصري بعنوان أنّ هؤلاء يستغلّون الانتفاضة الفلسطينية لإثارة الفتنة وما إلى ذلك، إنّه لا يستطيع أن يواجه الحقيقة. وهذا ما نواجهه في كلّ مواقع الظلم في العالَم الثالث الذي يحكمه حرَّاس مصالح الاستعمار.
الطغاة وألاعيب الباطل
كذلك نعيش هذا الواقع، عندما نلاحظ أنّ أميركا بلسان رئيسها ريغان تتحدّث عن مسألة الانتفاضة الفلسطينية الإسلامية، على أساس أنّها أحداث شغب وفتنة تأتي من الخارج، نرى أنّ هذا هو المنطق نفسه الذي يواجه به الحكّام الظلمة أبناء شعبهم داخل الدول التي يتسلَّطون عليها.
لذلك نرى أنّ المسلمين والمجاهدين وكلّ طلاّب الحريّة، يُضطهدون باسم مواجهة الفتنة، وباسم مواجهة التفرقة، ولكنَّ الواقع هو أنّهم يُضطهدون لأنّهم يعارضون الطاغية هنا، ويقاتلون الطاغية هناك، ويعارضون النظام هنالك، حتّى يستبدلوه بنظام أكثر عدالة وأكثر انسجاماً مع مصالح الشعب، وبحكم أكثر انسجاماً مع عقيدة شعبة ومع الشريعة التي يؤمن بها الشعب.
لا بدّ لنا من أن نواجه ذلك لأنّنا لا نجد الحقيقة إلاّ في هذا الاتجاه، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يفهم الشعب في كلّ مكان ـــ سواء في البلاد العربية التي تحكمها أنظمة بوليسية أو في افريقيا، أو في أيِّ بلد تحكمه الأنظمة المخابراتية ـــ إنّ على الشعب أن يفهم جيّداً طبيعة الظروف، التي يُسجَن فيها هؤلاء المجاهدون، أو هؤلاء الذين يطالبون بالحريّة، وأنّ المسألة ليست أنّهم يسيؤون للنظام من خلال إساءتهم للشعب، ولكن هم يحسنون إلى الشعب من خلال مواجهتهم للنظام، الذي يظلم الشعب ويصادر حريّته.
لا بدّ أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولا بدّ أن نواجه مسألة السجناء المسلمين والأحرار في كلّ بلاد العالم، على أساس أن يكون الشعب معهم ومع قضيّتهم، وعلى أن يواجه كلّ الأساليب التي تحاول أن تفسد سمعتهم، وأن نعمل بكلّ الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نفرِّج عنهم.
الإمام السجين والمجاهدون السجناء
في هذا المجال، نقف أمام قضية السجناء الموجودين في سجن الخيام، وفي عتليت، وفي المنطقة الشرقية عند القوّات والكتائب، وكلّ السجناء الأبرياء في كلّ سجن عربي يضطهد الأحرار ويضطهد المسلمين الملتزمين.
لا بدّ لنا عندما نذكر الإمام السجين، لأنّه أراد أن يقول كلمة الحقّ، من أن نتذكَّر كلّ السجناء الذين سجنوا من أجل الحقّ وفي سبيل الحقّ وعلى أساس الحقّ كلّه. وإذا ذكرنا السجناء فإنَّ علينا أن نذكر كثيراً من البلاد المسجونة من خلال السجن الكبير الذي فرضه حكّامها عليها.
لا بدّ لنا من أن نتذكَّر فلسطين التي يُسجن فيها الشعب الفلسطيني المسلم والمستضعف من قبل "إسرائيل". ولا بدّ لنا أن نذكر كلّ الأنظمة الرجعية التي تجعل من بلادها سجناً كبيراً لشعوبها، حيث لا تستطيع هذه الشعوب أن تملك حريّتها في أيِّ موقف سياسي أو أيّ موقف مناقض للحكم، لأنَّ المخابرات تعمل على أن تسقط حريّتها بكلّ ما تملك من وسائل القمع والتعسّف والوحشية.
لا بدّ من أن نقف مع كلّ قضايا الشعوب، سواء كانت الشعوب إسلامية، أو كانت شعوباً مستضعفة تجهد في طلب الحريّة، لأنّنا نعتبر أنّ علينا أن نقف مع المستضعفين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين في كلّ مكان.


الانتفاضة إرادة الأُمّة
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ علينا أن نظلّ نحدِّق بالانتفاضة الإسلامية الفلسطينية، التي استطاعت أن تصل إلى الشهر الرابع، ممّا يدلّ على أنّ الإرادة، عندما يملكها الشعب وعندما تتعمَّق في وعي الأُمّة وفي حياتها، فإنّها تستطيع أن تواجه كلّ أدوات القمع والتدمير، ولو كان سلاحها في المواجهة الحجارة، ولو كانت المواجهة بالسكاكين، لأنَّ المسألة هي أن تخترق الأُمّة حاجز الخوف، فلا تخاف من القوّة المضادّة أو المعادية، مهما كانت الظروف ومهما كانت الأوضاع. وقد عبَّر بعض الصهاينة ممّن يملكون موقعاً متقدّماً في فلسطين المحتلة وهو يتحدّث عن هذه الانتفاضة بقوله: إنّهم استطاعوا أن ينتصروا على الخوف، وكأنّهم يريدون أن يثأروا من كلّ ذلك الشلل، الذي عاشوه على أساس الخوف سابقاً. ولهذا فإنّهم أصبحوا يملكون الإرادة، وعندما ملكوا الإرادة استطاعوا أن يربكوا الواقع السياسي والأمني كلّه. واستطاعوا أن يفرضوا أنفسهم على عقلية العدوّ وتفكيره، حتّى قال وزير دفاع العدوّ: إنّنا لم نشاهد في تاريخنا ولم نتعوَّد على مثل هذا التحرّك الشعبي غير الإرهابي وعندما يعترف بذلك فمعناه أنّ العدوَّ بدأ يعتبر أنّ هذا نذير ثورة، وبدأ العدوّ يتحدّث ليستوعب الإعلام العالمي، بدأ يتحدّث عن أنّ هذه الحرب في داخل فلسطين تمثّل جزءاً من المؤامرة على "إسرائيل". أصبح اليهود يفكِّرون بقلق على مستقبلهم، لأنَّ هناك شعباً يحمل الحجارة مقابل الدبّابة.
ونحن في كلّ الواقع الذي يعمل على أن يخدِّرنا ويضعفنا ويسقطنا، نريد أن نتعلَّم منهم كيف نقف الوقفة الصلبة، كما تعلَّموا منّا سابقاً عندما وقفنا الموقف الصلب، لأنَّ الأُمّة بحاجة إلى من يلهمها فيتقوّى شعب بآخر، ويستلهم شعب من آخر.
لهذا عندما نستمع إلى أخبار التحرّك المستمرّ، الذي ينتقل من قرية إلى قرية والذي استطاع بكلّ قوّته أن ينقل المواجهة من المدينة إلى الريف لتتّسع الثورة، فإنَّ علينا أن نتعلَّم من ذلك وأن نتحرّك في هذا الاتجاه من خلال كلّ قضايانا، سواء كانت هذه القضايا في الداخل أو الخارج.
في الداخل هناك عمل لتمييع المسألة الإصلاحية أو المسألة التغييرية، وهناك لغو تتحرّك فيه المفاوضات في المسألة اللبنانية بين اللبنانيين وبين الحكم تحت المظلّة الأميركية؛ هذا يطرح نقطة سلبية وآخر يطرح نقطة نصف سلبية، ثم يعود الآخر ليطرح نقطة سلبية ونصف سلبية ليبقى الموضوع في إطار الملهاة. ثمّ نتحرّك لنقرِّر أو لا نقرِّر أنّ إلغاء الطائفية السياسية سيأتي بعد عشر سنين وبعد عشرين سنة، ويتخدَّر الناس وتذهب كلّ دماء الشهداء، وكلّ نتائج هذه الثورة، ويعود الناس ليقولوا جميعاً: ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ولا نريد شيئاً بعد ذلك.
إنَّنا نحتاج إلى هذه الصلابة التي تتحرّك بهذا الجسم، لنواجه كلّ التمييع الذي يتحرّك في هذا البلد، الذي يريد أن يصادر كلّ الدعوات ويريد أن يخلط الأوراق بطريقة لا يبقى من المطالب شيء.
مراقبة الموقف الأميركي
وعلينا أيضاً في الوقت نفسه أن نراقب موقفين: الموقف الأوّل هو الموقف الأميركي، الذي يعمل من خلال وزير خارجية النظام الأميركي، ليصادر الانتفاضة الفلسطينية، وذلك من خلال تحريك المسألة الفلسطينية في أجواء يُراد من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، مستعيناً بالحكّام الذين عملوا على أن يميِّعوا القضية ويصادروها. إنَّ المسألة لا تزال تعيش في نطاق الحكّام العرب والتمثيليّة الإسرائيلية في الصراع، ولا تزال المسألة تعمل على محاصرة الانتفاضة التي لم يستطع أحد أن يحاصرها حتّى الآن. لهذا فإنَّنا نقول لكلّ إخواننا هناك في فلسطين من هؤلاء المجاهدين المسلمين: إنَّكم عشتم أربعين سنة من الهزيمة، وقد بدأتم عصر النصر، الذي قد يحتاج أربعين سنة أخرى، فلا تبدّلوا عصر النّصر الذي بدأتموه بعصر الهزيمة، التي تريدها الجامعة العربية ويريدها مجلس الأمن وهيئة الأمم، حتى تسقط روحكم وحتّى تكون "إسرائيل" هي الدولة الأقوى في المنطقة. أنتم القوّة التي تستطيع أن تزلزل قوّة "إسرائيل" من الداخل، لأنَّ أيّة انتفاضة في الداخل توازن أكبر انتفاضة في الخارج، باعتبار أنّ الداخل هو الذي يخلخل الأساس، أمّا الخارج فهو الذي يخلخل الجدران فحسب.
لهذا علينا أن نظلّ محدّقين في هذا الواقع، حتّى نستطيع أن نواجهه كلٌّ بحسب إمكاناته وكلٌّ بحسب قدرته.
وحشية النظام العراقي
النقطة الثانية هي نقطة القصف الهمجي الوحشي، الذي يقوم به النظام العراقي الطاغي ضدّ المدنيين في طهران وفي قم وفي بقيّة مدن إيران(1)، من أجل أن يسقط الموقف الإسلامي هناك، ومن أجل أن يُخضع إيران من دون قيد أو شرط للقبول بوقف إطلاق النار، دون أن يحاسب المعتدي ودون أن يسجّل أيّ عقاب عليه، ممّا يجعل المسألة مسألة هزيمة سياسية، ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين، على الرغم من أنّنا جميعاً نتمنّى أن تتوقّف هذه الحرب التي تُراق فيها دماء المسلمين. ولكنّنا نريدها أن تتوقّف على أساس المصلحة الإسلامية، لا على أساس المصلحة الاستكبارية. إنّهم يريدون أن يسقطوا الروحية التي يعيشها المسلمون المجاهدون هناك، ولكنّ الشعب المسلم المجاهد الذي يقوى كلّما اشتدّ الضغط عليه، ويثبت كلَّما كَثُرَت الهزائز من حوله، استطاع أن يفوّت هذه الفرصة، واستطاع أن يقول لأميركا التي تقف وراء هذا النظام: إنَّنا ما زلنا في الساحة، وسنبقى في الساحة مهما قصفت الطائرات ومهما قصفت الصواريخ، لأنَّ الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ الواعي فقهياً وسياسياً لكلّ مصالح الأُمّة، يريدنا أن نتابع المسيرة لأنَّ المسألة ليست مسألة طهران وقمّ ولكنّها مسألة العالم الإسلامي. مسألة أن ينطلق المسلمون، ليمسكوا قرارهم بأيديهم من خلال قرآنهم، لا لتمسك قرارهم أميركا أو روسيا أو أوروبا أو أيّ جهةٍ أخرى.
المسألة هي أنّنا نريد أن نثبت، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ الهزّات والعواصف، لأنَّ العالم المستكبر قرَّر أن يقضي على كلّ الحركات الإسلامية، التي تريد أن تعيد الروح للمسلمين ولكنّ الروح الإسلامية لن يستطيع أحد أن يصادرها، لأنّها من الله بدأت وفي طريق الله تسير، وإلى الله تعود. الله وحده هو الذي يحرِّك هذه الروح وهو الذي يستطيع أن يجمّد روحنا بعدما عادت إلينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين


تمرّ في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام السابع من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الإمام موسى بن جعفر الذي عاش حياته ـــ كما عاش آباؤه وأبناؤه ـــ من أجل الإسلام والمسلمين، فاستطاع أن يملأ عصره تقىً وحركة في سبيل وعي الأُمّة لمواقفها ولمواقعها، وفي سبيل مواجهة الأُمّة لحكّامها الذين يضغطون على حريّتها والذين يعملون على أساس الانحراف عن خطّ الرسالة.
قبسات من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)

من ألقابه "كاظم الغيظ" وهذه الكلمة تعني الإنسان الذي يحبس غيظه إذا أغاظه أحد، ويفكّر كيف يحلّ هذه المشكلة، التي تواجهه من الذين يكيدون له أو يسعون لأذيّته أو يحقدون عليه.
كان لا ينفعل ولا يمارس ردّات الفعل السريعة إزاء الذين يخاصمونه أو يتكلّمون عليه بشكلٍ غير لائق، في الوقت الذي كان يستطيع أن يقمعهم بالقوّة، لأنّه كان يفكّر من خلال خطّ الإسلام.
إنَّ الإنسان إذا وقف أمام أسلوبين؛ أسلوب يستطيع أن يحوِّل فيه العدوَّ إلى صديق، وأسلوب يقتل فيه عدوّه أو يزيد عداوته، فإنّ الإسلام يقول للإنسان: إنَّ عليك أن تتصرّف بالأسلوب الذي يتحوّل فيه عدوّك إلى صديق، لأنَّ مشكلتك في عدوّك ليس في شخصه، وإنّما في عداوته، ولذا فإن استطعت أن تقتل عداوته، وانحرافه وتبقي على شخصه، فإنّك الرابح في ذلك.
تنقل سيرة الإمام (عليه السلام) أنّه كان هناك شخص في المدينة يسبّه بمختلف الكلمات السيّئة، حتى إِنّ طريقته في السبّ وفي التكلُّم، أثارت أصحاب الإمام وأثارت أقرباءه، حتى قالوا للإمام: ائذن لنا أن نقتله. فمنعهم من ذلك.
ثمّ في يوم من الأيام ذهب الإمام إلى هذا الرجل ـــ بعد أن سأل عنه وقيل له إنّه في بستانه ـــ فذهب إليه في البستان ودخل عليه وهو جالس، فقال الرّجل: إنّك تفسد عليَّ زرعي، تابع الإمام سيره حتّى وصل إليه فقال له: كم تؤمّل في زرعك. قال له: لا أعلم الغيب، قال له: لم أقل لك كم تخرج وكم تحصّل في زرعك بل كم تؤمّل، قال: أؤمّل أن يخرج بمئتي دينار. قال هذه ثلاثمائة دينار وزرعك على حاله. ثم بدأ يتحدّث معه بكلّ الكلام الذي يفتح قلبه وعقله وعاطفته، حتّى ودّعه بكلّ ما يملك من الاحترام، ثمّ سبقه الإمام إلى المسجد، وعندما دخل والناس جالسون ـــ هؤلاء الناس الذين اعتادوا أن يسمعوا السبّ من هذا الشخص ـــ بادر هذا الرجل إلى الإمام وهو يقول للناس: الله أعلم حيث يجعل رسالته. والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً لهم فانظروا أيّ أسلوب أفضل؛ أن تذهبوا لقتله فتخلقوا ألف مشكلة من خلال قتله أم أن نحتوي عداوته من خلال الأساليب التي يمكن أن تسقط عداوته. وهذا ما حصل {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، والله قال، وأئمّة أهل البيت يجسِّدون لنا ما قاله الله، لأنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين عاشوا القرآن في حياتهم، كما عاشوه في فكرهم. والتزامنا بأهل البيت هو التزامنا بالإسلام وقِيَمه، لأنّنا لا نرتبط بهم إلاّ من خلال الإسلام، باعتبار أنّهم الأُمناء عليه وعلى حلال الله وحرامه، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "أحِبُّونا حبّ الإسلام". وهكذا قال الله تعالى: {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134]، اكظم غيظك ولا تندفع إذا أغاظك أحد إلى ردّ الفعل، بل حاول أن تدرس مسألة الغيظ؛ من أين انطلق هذا الشخص؟ وفي أيّ ظرف؟ وما هي المناسبة؟ وما هي الخلفيّات؟ وما هي الأفكار التي يمكن أن تواجه بها هذه المشكلة؟ وهذا ما أرادنا الإسلام أن نعيشه في حياتنا، أن نعيش على أساس أن نجعل عقلنا أمام كلامنا، أن لا نتكلَّم قبل أن يقول لك عقلك ماذا تتكلَّم، وأنْ لا تتحرّك قبل أن يقول لك عقلك كيف تتحرّك، وأنْ لا تحرِّك سلاحك قبل أن يقول لك عقلك المنفتح على إيمانك كيف تتحرّك بدون غضب. الغضب من عمل إبليس.
هكذا جاءت الأحاديث: "الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم"(1). أيّ شيء أشدّ من الغضب؟ "إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرَّم الله"(2).
هذا هو الجوّ؛ أن تكظم غيظك لتفكّر وتفكّر لتعرف كيف تتحرّك. وقد يقودك الفكر إلى أن تواجه الموقف بقوّة، أو بلين، المهمّ أن تتحرّك من خلال إيمانك، لا من خلال عصبيّتك؛ وأن تتحرّك من خلال عقلك، لا من خلال غضبك وعاطفتك.
هذا ما علَّمنا إياه الله وعلَّمنا إيّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلَّمنا إيّاه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ مجالات حياتهم. وكانوا يعلّمون الناس أن لا يكونوا حياديين بين الحقّ والباطل. لأنَّ هناك أُناساً في المجتمع يريدون أن يتركوا ساحة الصراع وينعزلوا عنها، لأنّهم لا يريدون أن يتّخذوا مواقف، في ما يختلف فيه الناس من مواقف الحقّ والباطل.
الحياد بين الحقّ والباطل
هناك أشخاص يقولون دائماً: إنَّنا حياديون، لا مع هذا ولامع ذاك، أو يقولون: إنَّنا لا نريد أن ندخل بين السلاطين أو بين المختلفين. المسألة في نظر الإسلام وفي نظر الإمام الذي يستمدّ ذلك من الإسلام مختلفة: قل لنفسك مَن أنت؛ هل أنتَ مسلم، هل أنتَ مع الحقّ، هل أنت على طريق القرآن؟ أم أنّك كافر، وعلى طريق الشيطان، ومائع الشخصية؟ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء...} [النساء : 143]، منافق تماماً، كبعض الناس الذين يقولون الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة وراء عليّ أقوم، والجلوس على التلّ أسلم. مَن أنت؟ إذا كنتَ مسلماً حاول أن تطرح على نفسك سؤالاً آخر، ما هو الإسلام؟ هل هو أن أُصلّي وأصوم وأحجّ وأُخمِّس وأُزكّي وتنتهي القصّة عند هذا الحدّ، أم أنّ الإسلام هو الموقف في الحياة، وجهاد للكفّار وللمنافقين وللطاغين، وموقف مع الحقّ ضدّ الباطل؟ هل أنتَ تفهم الإسلام عزلة عن الحياة، أم تفهمه موقفاً في الحياة؟ إذا كنتَ مسلماً وإذا كنت تتحرّك في خطّ الإسلام وكنتَ ترى أنّ الإسلام يشمل الحياة كلّها، فلا بدّ لك أن تكون إنساناً ملتزماً، أن لا تكون حيادياً، وأن لا تنعزل عن ساحة الصراع.
تارةً يكون الصراع بين باطلين وبين ظلمين وبين شرّين وبين كفرين، وأخرى يكون الصراع بين حقّ وباطل، بين كفر وإيمان، بين خير وشرّ، بين عدل وظلم. في هذا المجال إذا كان الصراع بين كفرين وباطلين كانت المسألة فتنة، والفتنة لا بدّ لك أن تقف أمامها حيادياً، لتترك الباطلين يتصارعان في ما بينهما ليضعفا ولتكون القوّة لك بعد ذلك. وإذا رأيت أنّ بعض الباطل قد يخدم أهدافك وقتاً ما أكثر من ذلك في وقت لا تكون فيه أنتَ البديل، أدعِم من يكون أقرب إلى هدفك، أو أضعِف من يكون بعيداً عن هدفك، حتّى تستطيع أن تقطع شوطاً في ذلك من دون أن تلتزم شرعية الباطل. هذا الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين في ما عبَّر عنه من كلمات: "كُن في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"(1) ـــ فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر بحيث لم يقوَ لكي يُنتفع بركوبه وهو ليس أنثى حتى تحلب منه ـــ كن حيادياً في الفتنة التي يتنازع فيها أهل الباطل ولا تنتفع منها في موقفك بشيء، كما يقول المثل الشعبي "فخَّار يكسِّر بعضه" لأنّ الباطل يكسّر باطلاً والكفر يكسّر كفراً، إلاّ إذا كان في هذا الصراع انعكاس سلبي على واقع المسلمين، عند ذلك لا بدّ أن تدرس موقفك كيف يمكن أن تحفظ الواقع الإسلامي العام من خلاله. ولكن قد تكون المسألة وجود صراع بين خطّ يحمل الحقّ وخطّ يحمل الباطل، في هذا المجال لا بدّ أن تدقّق، لا تكن حياديّاً وتقول لا أعرف الحقّ مع مَن والباطل مع مَن: {... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] اسألوا مَن يملكون العلم والأمانة في حركة العلم والوعي في السّاحة، حتى تستعينوا بهم لمعرفة الحق أين يكون، وخطّ الباطل أين يكون؟ فإذا عرفتم خطّ الحقّ فقفوا معه، وإذا عرفتم خطّ الباطل فقفوا ضدّه؛ فإذا لم تلتزموا ذلك فمعناه أنّكم لم تلتزموا بالإسلام، لأنَّ الله يريدكم أن تتحرَّكوا في خطّ الحقّ كلّه، سواء كان حقّاً في العقيدة أو في العمل، وسواء كان العمل في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني أو أيّ جانب من الجوانب الأخرى، أن تلتزم الحقّ على أساس أنّ التزامك بالإسلام يفرض عليك ذلك، وإلاّ كنتَ منحرفاً عن خطّ الحقّ.
وهناك نقطة لا بدّ أن نفهمها في مجرى الحياة العملية في الواقع العسكري أو السياسي أو الأمني، وهي أنّ معنى أن يكون الإنسان حياديّاً بين الحقّ والباطل ـــ وهو من جماعة الحقّ ـــ معنى الحياد أنّك تعين الباطل بأن تنسحب من موقف الحقّ، لأنَّ الباطل يقوى بطريقتين: الطريقة الأولى، هي أن يملك قوّة أكثر ممّا يملكها الحقّ، والطريقة الأخرى، هي أن يسحب الباطل من الحقّ جماعة ليحيدهم فلا ينصروا الحق. هنا لا يوجد فرق بين أن تذهب وتحارب مع الباطل ومع الظلم ضدّ الحقّ وبين أن تكون حيادياً بين الحقّ والباطل وتنسحب من الساحة. أنتَ حاربت الحقّ بأن منعته قوّتك فأصبح الباطل يقوى عليه.
الوقوف مع الحقّ
أنتم تستمعون دائماً في ذكرى عاشوراء إلى قصّة مسلم بن عقيل، الذي كان معه 18 ألف رجل، وابن زياد ليس معه أحد، حتّى إِنّه يقال عندما جاء ابن زياد إلى الكوفة، أغلق عليه باب القصر، لأنّه لم يكن يملك القوّة التي تستطيع أن تواجه القوّة التي كانت عند مسلم بن عقيل، ولكن عندما دسّوا المخابرات التي كانت مهمّتها أن تخذل الحقّ أو تكسب للباطل جماعة. ولقد استخدموا العنصر النسائي، فكانت المرأة تأتي إلى ابنها أو زوجها أو أخيها وتبكي أمامه ـــ والدموع في كثير من الحالات تسقط الموقف ـــ وتقول له: يكفيك بقيّة الناس، ماذا تريد بكلّ هذه "اللّبكة"؟ يكفيك كلّ هؤلاء، هم 18 إذا نقصوا واحداً فما المشكلة؟ وهكذا وصلت الحال إلى أنّ مسلماً يمشي داخل المسجد ومعه ثلاثون وصلَّى المغرب ومعه عشرة وصلَّى العشاء وليس معه أحد.
شجاعة الموقف
هذا واقع موجود الآن، الذين يسمُّون الأكثرية الصامتة، والأكثرية الصامتة هي الأكثرية التي يكون صمتها صمتاً عن الحقّ، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، في الوقت الذي يحتاج الحقّ إلى هذه الأكثرية. والأكثرية الصامتة قد تتحوّل إلى أكثرية منافقة وقد تتحوّل إلى أكثرية معادية. بعض الأشخاص كانوا على الحياد في زمان الإمام عليّ (عليه السلام)، عندما دخل المعركة مع معاوية في صفّين. هؤلاء اعتزلوا القتال فنقل أمرهم إلى الإمام عليّ (عليه السلام) فقال: "إنَّهم خذلوا الحق ونصروا الباطل" لم ينصروا الباطل مباشرة، ولكنّهم نصروه بخذلان الحقّ، لأنّ الحقّ كلّما كان الناس معه أكثر وكلّما كانت الطاقات معه أكثر، كان أقوى. فكِّروا في هذه المعادلة، على أيّ مستوى من المستويات؛ عندما يكون عدوّك عنده عشرون شخصاً وأنتَ عندك مئة، أنتَ تستطيع أن تغلب عدوّك، لكن إذا تحيّد هؤلاء المئة وأصبحوا عشرة، فسوف يغلبك عدوّك بعد ذلك. هم لم يقاتلوا مع عدوّك، لكنّهم نصروا عدوّك عليك بانسحابهم من نصرتك.
لهذا في الإسلام لا يجوز أن يكون هناك موقف مائع، فيقف الواحد ليقول: أنا لستُ مع هذه الجهة، ولا مع تلك، ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة؟ ماذا يقول أهل البلد؟ هذا خطأ، لأنَّ الله لن يحاسبك على أقوال هؤلاء بل سيحاسبك على ما قلت أنتَ وعلى أيّ أساس قلت: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل : 111]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...} [الأنعام : 94]، أنت تبرز أمام الله من خلال عقلك ليحاسب الله عقلك، وبإرادتك ليحاسب إرادتك، وبموقفك ليحاسب موقفك، أمّا موقف الآخرين فسيحاسب الله الآخرين عليه، قد يتّصل بك وقد لا يتّصل، الإمام قالها كلمة لبعض أصحابه وهو يريد أن يتحدّث عن هذا الجوّ: "أبلغ خيراً، وقل خيراً ولا تكن إِمَّعَة"(1)، قالوا وما الإِمَّعَة، قال: أن تقول أنا مع الناس. ولكن ما هو رأيك وما هو موقفك؟ ليس لي موقف. أن تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "إنَّما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فما بال نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"(2).
لهذا لا بدّ لنا من خلال ما يعلّمنا الإمام (سلام الله عليه) من خلال الإسلام، لا بدّ لنا من أن نحدّد مواقفنا في كلّ شيء ابتداءً من القضايا الجزئية إلى القضايا الكليّة، لأنَّ الله يريد للأُمّة أن تفكّر وأن تقرِّر على أساس ما تفكّر، ويريد لها أن تركِّز إرادتها على أساس فكرها وقرارها وأن تتحرَّك وأنْ تتحمَّل مسؤوليّتها تجاه كلّ الواقع الذي تعيشه، وأن تناقش قادتها، وأن تطيعهم إذا كانوا مؤتمنين على الأُمّة. ولكن من حقّ الأُمّة على قادتها أن يبيِّنوا لها أمورها، ويحرِّكوا لها وعيها في الاتجاه السليم. لا بدّ لنا من أن نأخذ هذا الدرس في ذكرى الإمام الكاظم (عليه السلام).
اعرف نفسك جيّداً
هناك درسٌ آخر نحتاجه في حياتنا العملية، سواء كانت حياة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وهي أنّ على الإنسان أن يعرف نفسه جيّداً؛ في ما يملكه من فكر وما يملكه من مواقف وما يملكه من قيمة. أن يعرف نفسه بنفسه، إذا كان يستطيع أن يدرك أبعاد نفسه؛ وأن يعرف نفسه من خلال أهل الرأي والخبرة، ليعرِّفوه قيمته ودرجته في مجال العلم أو في أيّ مجالٍ آخر. أن تثق بنفسك من خلال دراستك لنفسك ومن خلال معرفتك لنفسك، لا أن تثق بنفسك من خلال ما يقوله الناس عنك ومن خلال ما يحكم به الناس لك وعليك، لأنّه ليس من الطبيعي أن يفهمك الناس أكثر ممّا تفهم نفسك.
جاء شخص إلى الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) وقال له: إنّي أُريد أن أصحبك. قال له: عندي ثلاث شروط، وأهلاً وسهلاً بك. قال: ما هي. قال: أن لا تكذّبني. فإنّه لا رأي لمكذوب، وأن لا تغتاب عندي أحداً، وأن لا تمدحني، فأنا أَعْرَف بنفسي منك. كان الإمام عليّ (عليه السلام) إذا مُدح يقول: "اللّهم اجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"(1). حتّى يوحي إليهم بأنّه يفهم نفسه أكثر ممّا يفهمونه، فعلى الإنسان أن لا يستعير ثقته بنفسه من الآخرين، لأنّ الآخرين قد يغشُّونك في نفسك، عندما يضخّمون لكَ شخصيّتك بطريقة غير صحيحة، أو ربّما يسقطونك عند نفسك عندما يحاولون أن يهزموك نفسياً، ليثيروا مواطن الضعف في نفسك بدل أن يثيروا مواطن القوّة فيها.
بعض الناس يسمع كلمة مدح فينتفخ، أو يسمع كلمة ذمّ فيسقط؛ إذا سار الناس معه يشعر بضخامة الشخصية وإذا انكفؤوا عنه وابتعدوا يشعر بضعف الشخصية. هؤلاء الذين يستعيرون ثقتهم بأنفسهم من الآخرين، هم الذين يستطيع الآخرون أن يسيطروا عليهم. وهذه من الأساليب التي استخدمها الاستكبار العالمي والكفر العالمي بجميع ممثّليه في مواقع الحكم والسياسة والاجتماع والثقافة، واستغلّها في هزيمة الشعوب المستضعفة نفسياً فيثير نقاط الضعف في داخلها ليحدّثها عنها ليسقطها.
الغرب والإسلام
الآن نلاحظ أنّ هناك كثيراً من الذين تثقَّفوا بثقافة الغرب، يتحدّثون عن المجتمع الإسلامي أو المجتمع المستضعف بأنّه مجتمع جاهل، متخلّف، متعفّن، لا يستطيع أن يسوس نفسه ويقود نفسه بنفسه. وعندما يتحدّثون عن الإسلام يقولون هذا الحكم الشرعي متخلّف، وهذه العادة الإسلامية عادة غير حضارية، وهذا الحكم الإسلامي أو القاعدة الإسلامية بعيدة عن الحضارة. وهكذا يحاولون أن يفقدوا المسلمين ثقتهم بدينهم، ثم يعملون على استثارة نقاط الضعف في أنفسهم وفي مواقفهم التي يخوضون فيها في مسألة الحرية والعدالة، عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يصادروا حريّتهم أو عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يظلموهم فيأتون إلى الناس من خلال جماعتهم، سواء كانوا في الجامعات أساتذة جامعيّين، لأنّهم عاشوا الانبهار من خلال الاستعمار، وعاشوا الهزيمة النفسية من خلال واقع الاستضعاف، أو من خلال كلّ الذين زرعهم الاستكبار العالمي والكفر العالمي في مواقعنا السياسية والثقافية والاجتماعية، يأتون إليك ويقولون ما هذا العمل؟ ما هذه العنترية التي لا معنى لها؟ أنتم تريدون أن تقاتلوا أميركا و"إسرائيل" التي تعتبر العنصر الأساس في سياسة أميركا. وتريدون أن تواجهوا المارونية السياسية في لبنان، أو هذا الحاكم الذي يظلم ويضطهد شعبه في هذا البلد العربي أو ذاك؟ ما قيمتكم؟ ما هي أسلحتكم؟ ما هي إمكاناتكم؟ يقولون ذلك حتّى يفقد الناس ثقتهم بأنفسهم، وحتّى يهزمهم الذين يصادرون الحريّة ويركّزون الظلم من دون معركة.
نقاط القوّة والضعف
في هذا المجال قد يقول بعض الناس: ألاَ توافق معنا على أنّ هناك نقاط ضعف فينا؟ ألاَ توافق على أنّ هناك جهلاً وتخلُّفاً في كثير من المواقع الإسلامية؟ ألاَ توافق معنا على أنّ هناك ضعفاً في السلاح وفي التخطيط وفي فنون الحرب، وأنّ هناك خللاً في العادات الاجتماعية الإسلامية؟ كلّ هذا صحيح. ولكن ألا توافقون معي على أنّنا نملك نقاط قوّة في مواجهة نقاط الضعف، وعادات حسنة في مقابل العادات السيّئة، وطاقات علمية في مقابل مواضع الجهل، وعناصر تقدّم في مقابل عناصر التخلُّف.
نحن لسنا فوق النقد ولسنا القوّة المطلقة، ولكنّنا لسنا الضعف المطلق. المسألة هي أنّ الاستكبار العالمي، من خلال رموزه الثقافية والسياسية والاقتصادية، يريد أن يثير أمامنا نقاط ضعفنا ونقاط قوّة الآخرين لنسقط أمام الآخرين. وما نريده هو أن نثير نقاط ضعفنا إلى جانب نقاط قوّتنا، لنستطيع أن نهزم نقاط الضعف بنقاط القوّة، ولنستطيع أن نواجه الآخرين في نقاط ضعفهم بنقاط قوّتنا.
لهذا، المسألة هي في المفهوم الإسلامي، أن تعرف نفسك في نقاط ضعفك وقوّتك كفرد، كمجتمع وكأُمّة، أن تعرف ما هي نقاط ضعفك وما هي نقاط قوّتك، حتّى إذا مَدَحَكَ الآخرون وقالوا لك: إنّك مثال القوّة المطلقة، قل لهم: لا أنا عندي ضعف. وإذا قال لكَ الآخرون: إنّك تمثّل الضعف المطلق، قل لهم: إنّ عندي قوّة. لا توافق الآخرين على رأيهم.
يقال إنّه جاء شخص من المدّاحين بأشعاره إلى عليّ (عليه السلام) ومدحَه مدحاً عظيماً، وعليّ (عليه السلام) في مستوى المدح العظيم من خلال عناصر العظمة الذاتية، لكنَّ عليّاً (عليه السلام) أراد أن يعطيَ درساً بعد أن فرغ الإنسان من مدحه، قال: يا هذا، أنا دون ما تقول، مدحتني أكثر ممّا أستحق، ولكنّي أعرف أنّك تضحك على نفسك من هذا المدح وليس عليّ أنا. فأنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك، أنا أعظم ممّا في نفسك، لأنّني أفهم نفسي في مواقع الضعف وفي مواقع القوّة.
هذا هو التوازن؛ أن تعرف نفسك حتّى لا يغشَّك الناس. قالوا لهشام بن الحكم: يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس إنّها لؤلؤة ما نفعك، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنّها جوزة ما ضرّك، وأنت تعلم أنّها لؤلؤة؟
التطرُّف والاعتدال
لهذا نحن لا نريد أن نسقط أمام كلّ كلمات الإعلام، الذي يحاول أن يثير المسألة ليعطينا ألقاباً من صنع أجهزة مخابراته، لنسقط أمام هذه الألقاب ولنندفع حتّى يرضى عنّا الاستكبار.
وهذا ما استعمله في كثير من الحالات في كلمات التعصّب والتطرّف والإرهاب والتزمّت وما إلى ذلك من كلمات، علينا أن نقول لأنفسنا، في ما نسمع من كلمات من الإذاعة أو في ما نقرؤه في الصحف، هل صحيح أنّنا متطرّفون؟ ما هو الخطّ الفاصل بين التطرّف والاعتدال؟ وندرس المسألة لنفحص أنفسنا ونقرّر الواقع لأنفسنا من خلال الدراسة.
قالوا لنا إنّنا إرهابيون، ما هو الفرق بين الإرهاب والعمل من أجل الحريّة؟ هل نحن إرهابيون، أم نحن طلاّب حرية؟ عندما يقولون عنّا إنّنا متعصّبون، نجلس ونفكّر؛ ما هو الفرق بين التعصّب والالتزام؟ فكّر حتّى لا يهزمك الآخرون بإعلامهم، الذي يريد أن يضعف موقفك. وهذه نقطة استعملت مع المقاومة الفلسطينية سابقاً، وتستعمل مع الشخصيات السياسية، وأيضاً مع بعض المنظّمات أو الأوضاع السياسية الآن، والإعلام عندما يضخّم لك شخصيّتك فإنّك تنتفخ، ليوقعك في الخطأ من خلال انتفاخ الشخصية.
لهذا، التوازن في فهم الشخصية هو الأساس؛ التوازن في المواقف وفي خطّ المواجهة ضروري للتماسك.
هذه نقاط فكرية، لا بدّ لنا من أن نواجهها بالوعي والتفكير عندما نستثير ذكرى أئمّتنا، لأنَّ الالتزام بالأئمة ليس معناه أن تذهب لزيارتهم، أو أن تقف لتقرأ مئات الزيارات على أضرحتهم. هذا أمر قد يجعلك تدرك شخصيّتهم أكثر، ولكنّك إذا ارتبطت بمنهجهم الذي هو منهج الإسلام، وخطّهم الذي هو خطّ القرآن، فإنّك تستطيع أن ترتبط بهم أكثر، وأن تفهم حياتك من خلالهم أكثر، وهذا هو الذي نريد أن نعايشه؛ أن ننطلق لنفهم فكر أئمّتنا، ونفهم سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونفهم نهج القرآن، حتّى نفهم أنفسنا؛ هل نحن نتحرّك في خطّ الإسلام، أم في خطّ الضلال؟
قلنا إنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) عاش في مواجهة الظلم الذي كان يلبس لبوس الإسلام، لأنَّ الخلافة التي كان يمثّلها هارون الرشيد قد تحوّلت إلى ملك، ومنطلق لإخضاع الناس بالطرق غير الشرعية، والأخذ بكلّ أسباب اللّهو والفجور وغير ذلك. في هذا المجال كان دور الإمام أن يوجّه الأُمّة في كلّ المواقع، حتّى في مواقع الظلم.
في جلسة للإمام (عليه السلام) مع هارون الرشيد، قبل أن تسوء العلاقات بينهما، قال الرشيد للإمام، فدك هذه التي كانت تقول الزهراء (عليها السلام) إِنّها لها من رسول الله وصارت مشكلة بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنا مستعد لأن أرجع لكم فدك، قال له الإمام: إذا عرفت حدودها فلن تستطيع أن ترجعها إلينا. فدك التي عندنا لها حدود غير التي عندك. قال: ما حدودها؟ قال: الحدّ الأوّل عدن، الحدّ الثاني سمرقند، الحدّ الثالث افريقيا، الحدّ الرابع أرمينيا، وساحل الخزر. قال له: إنّ هذا معناه ملكي كلّه، قال له: نعم، فدكنا هذه، فدك التي نعتبر أنّها الحق الذي نريده. فتغيَّر وجه الرشيد من خلال ذلك.
معاناة الإمام (عليه السلام) مع الرشيد واستشهاده
كان الرشيد يعتبر نفسه قريب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، جاء إلى قبر النبي، وقال له: السلام عليك يا رسول الله. إنّي أُريد أن أعتذر إليك من أمرٍ أُريد أن أفعله. إنّي أُريد أن أحبس موسى بن جعفر، لأنّه يريد أن يشتّت أُمّتك ويسفك دماء المسلمين، والإمام لم يقم بثورة ولم يقم بأيّ حركة من الحركات التي نفهمها. ولكنّه كان يوجّه الأُمّة، وكانت الأُمّة ترتبط به ارتباطاً عفوياً، حيث كانت توجّه إليه حقوقها الشرعية وغيرها، ممّا أخنق الرشيد آنذاك. وهذا ما جعل الرشيد ينقله من سجن إلى سجن. وكان الذين يحبسونه يشعرون بعقدة لفعلتهم هذه. فأحد أقرباء الرشيد أرسل إليه يطلب إذناً، لينقل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من سجنه، وإلاّ سوف يطلق حريّته لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مشغولاً بنفسه، لا يدعو على السجَّان ولا على الرشيد، بل يقول: اللّهم إنّي طلبتُ منك أن تفرّغني لعبادتك، لأنّي كنت في أيام الشغل والعمل مشغولاً مع الناس، وقد فعلت ذلك، فلك الشكر يا ربّ، فاستجاب لطلبه ونقل الإمام إلى سجنٍ آخر.
ينقل أحد الأشخاص، فيقول: كنّا جالسين في الطابق الأعلى، التفت إليّ صاحب السجن، وقال لي: أنظر ماذا ترى في أرض الدار؟ قلت: أرى ثوباً، قال حدِّق. حدَّقت، فرأيت رجلاً ساجداً. قلت له: إنّي أرى رجلاً ساجداً، قال له: هذا موسى بن جعفر (عليه السلام). قال له: عندما يصبح الصباح يتوضّأ ويصلّي ثم يعقّب ثم يسجد فلا يزال ساجداً حتى يأتي الزوال. ثم عندما يأتي الزوال ويسمع الآذان يقوم ويصلّي من دون أن يتوضّأ، فأعرف أنّه لم يغفُ في منامه، فيصلّي الظهر ثم بعد ذلك يتمثّل ويعقّب ثمّ يصلّي العصر، بعد ذلك يسجد حتى تأتي العتمة، ثمّ بعد ذلك يفعل ذلك، ثمّ يأخذ نوماً خفيفاً فيقوم ليصلّي، ويمتد ذلك حتّى الفجر، هذا هو ديدنه في الليل والنهار. هكذا كان المستوى الذي يعيشه الإمام في علاقته بالله سبحانه وتعالى، ويقال إنّه أرسل إلى الرشيد رسالة يقول فيها: لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتّى ينقضي عنك يوم من الرّخاء، وهكذا حتّى نقضي جميعاً إلى يوم لا انقضاء له، يوم يخسر المبطلون.
وفي نهاية المطاف، دسَّ له الرشيد السمّ، ثمّ جاء بكلّ القضاة والفقهاء والوجهاء، قال السجَّان لهم، انظروا إلى موسى بن جعفر، ليس هناك خدش في جسمه أو أيّ شيء. ولكنَّ الإمام التفت إليهم وقال لهم إنَّني سقيت السمّ، وإنّني سأقضي بعد أيّام، وهكذا استشهد الإمام (سلام الله عليه) بعد أن قضى أربع عشرة سنة في سجون الرشيد.
وفي عصرنا نرى أنَّ الحكّام الذين يريدون أن يتحرّكوا ويمتدّوا في حكمهم، غالباً ما يقومون بالإيحاء للمجتمع وللأُمّة بأنَّ فلاناً قد اعتقل، لأنّه يريد أن يسيء إلى وحدة الأُمّة ويريد أن يلقي الفتنة بينها، ويريد أن يسفك دماء الأُمّة. لاحظوا ما جرى في تونس، عندما واجَه الحكم الظالم الإسلاميين، قال إنّهم يريدون الفتنة، وإِنّهم ينطلقون على أساس الخارج. لا يستطيع أن يواجه المسألة بالواقع، إنَّ هؤلاء يحاربون الحكم الظالم الطاغي على أساس الإسلام، يريد أن يهرب من هذه الحقيقة. كذلك نجد في مصر الآن، عندما انطلق المسلمون المصريون للتظاهر تأييداً للانتفاضة الفلسطينية في الضفّة الغربية وغزّة، قمعهم النظام المصري بعنوان أنّ هؤلاء يستغلّون الانتفاضة الفلسطينية لإثارة الفتنة وما إلى ذلك، إنّه لا يستطيع أن يواجه الحقيقة. وهذا ما نواجهه في كلّ مواقع الظلم في العالَم الثالث الذي يحكمه حرَّاس مصالح الاستعمار.
الطغاة وألاعيب الباطل
كذلك نعيش هذا الواقع، عندما نلاحظ أنّ أميركا بلسان رئيسها ريغان تتحدّث عن مسألة الانتفاضة الفلسطينية الإسلامية، على أساس أنّها أحداث شغب وفتنة تأتي من الخارج، نرى أنّ هذا هو المنطق نفسه الذي يواجه به الحكّام الظلمة أبناء شعبهم داخل الدول التي يتسلَّطون عليها.
لذلك نرى أنّ المسلمين والمجاهدين وكلّ طلاّب الحريّة، يُضطهدون باسم مواجهة الفتنة، وباسم مواجهة التفرقة، ولكنَّ الواقع هو أنّهم يُضطهدون لأنّهم يعارضون الطاغية هنا، ويقاتلون الطاغية هناك، ويعارضون النظام هنالك، حتّى يستبدلوه بنظام أكثر عدالة وأكثر انسجاماً مع مصالح الشعب، وبحكم أكثر انسجاماً مع عقيدة شعبة ومع الشريعة التي يؤمن بها الشعب.
لا بدّ لنا من أن نواجه ذلك لأنّنا لا نجد الحقيقة إلاّ في هذا الاتجاه، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يفهم الشعب في كلّ مكان ـــ سواء في البلاد العربية التي تحكمها أنظمة بوليسية أو في افريقيا، أو في أيِّ بلد تحكمه الأنظمة المخابراتية ـــ إنّ على الشعب أن يفهم جيّداً طبيعة الظروف، التي يُسجَن فيها هؤلاء المجاهدون، أو هؤلاء الذين يطالبون بالحريّة، وأنّ المسألة ليست أنّهم يسيؤون للنظام من خلال إساءتهم للشعب، ولكن هم يحسنون إلى الشعب من خلال مواجهتهم للنظام، الذي يظلم الشعب ويصادر حريّته.
لا بدّ أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولا بدّ أن نواجه مسألة السجناء المسلمين والأحرار في كلّ بلاد العالم، على أساس أن يكون الشعب معهم ومع قضيّتهم، وعلى أن يواجه كلّ الأساليب التي تحاول أن تفسد سمعتهم، وأن نعمل بكلّ الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نفرِّج عنهم.
الإمام السجين والمجاهدون السجناء
في هذا المجال، نقف أمام قضية السجناء الموجودين في سجن الخيام، وفي عتليت، وفي المنطقة الشرقية عند القوّات والكتائب، وكلّ السجناء الأبرياء في كلّ سجن عربي يضطهد الأحرار ويضطهد المسلمين الملتزمين.
لا بدّ لنا عندما نذكر الإمام السجين، لأنّه أراد أن يقول كلمة الحقّ، من أن نتذكَّر كلّ السجناء الذين سجنوا من أجل الحقّ وفي سبيل الحقّ وعلى أساس الحقّ كلّه. وإذا ذكرنا السجناء فإنَّ علينا أن نذكر كثيراً من البلاد المسجونة من خلال السجن الكبير الذي فرضه حكّامها عليها.
لا بدّ لنا من أن نتذكَّر فلسطين التي يُسجن فيها الشعب الفلسطيني المسلم والمستضعف من قبل "إسرائيل". ولا بدّ لنا أن نذكر كلّ الأنظمة الرجعية التي تجعل من بلادها سجناً كبيراً لشعوبها، حيث لا تستطيع هذه الشعوب أن تملك حريّتها في أيِّ موقف سياسي أو أيّ موقف مناقض للحكم، لأنَّ المخابرات تعمل على أن تسقط حريّتها بكلّ ما تملك من وسائل القمع والتعسّف والوحشية.
لا بدّ من أن نقف مع كلّ قضايا الشعوب، سواء كانت الشعوب إسلامية، أو كانت شعوباً مستضعفة تجهد في طلب الحريّة، لأنّنا نعتبر أنّ علينا أن نقف مع المستضعفين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين في كلّ مكان.


الانتفاضة إرادة الأُمّة
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ علينا أن نظلّ نحدِّق بالانتفاضة الإسلامية الفلسطينية، التي استطاعت أن تصل إلى الشهر الرابع، ممّا يدلّ على أنّ الإرادة، عندما يملكها الشعب وعندما تتعمَّق في وعي الأُمّة وفي حياتها، فإنّها تستطيع أن تواجه كلّ أدوات القمع والتدمير، ولو كان سلاحها في المواجهة الحجارة، ولو كانت المواجهة بالسكاكين، لأنَّ المسألة هي أن تخترق الأُمّة حاجز الخوف، فلا تخاف من القوّة المضادّة أو المعادية، مهما كانت الظروف ومهما كانت الأوضاع. وقد عبَّر بعض الصهاينة ممّن يملكون موقعاً متقدّماً في فلسطين المحتلة وهو يتحدّث عن هذه الانتفاضة بقوله: إنّهم استطاعوا أن ينتصروا على الخوف، وكأنّهم يريدون أن يثأروا من كلّ ذلك الشلل، الذي عاشوه على أساس الخوف سابقاً. ولهذا فإنّهم أصبحوا يملكون الإرادة، وعندما ملكوا الإرادة استطاعوا أن يربكوا الواقع السياسي والأمني كلّه. واستطاعوا أن يفرضوا أنفسهم على عقلية العدوّ وتفكيره، حتّى قال وزير دفاع العدوّ: إنّنا لم نشاهد في تاريخنا ولم نتعوَّد على مثل هذا التحرّك الشعبي غير الإرهابي وعندما يعترف بذلك فمعناه أنّ العدوَّ بدأ يعتبر أنّ هذا نذير ثورة، وبدأ العدوّ يتحدّث ليستوعب الإعلام العالمي، بدأ يتحدّث عن أنّ هذه الحرب في داخل فلسطين تمثّل جزءاً من المؤامرة على "إسرائيل". أصبح اليهود يفكِّرون بقلق على مستقبلهم، لأنَّ هناك شعباً يحمل الحجارة مقابل الدبّابة.
ونحن في كلّ الواقع الذي يعمل على أن يخدِّرنا ويضعفنا ويسقطنا، نريد أن نتعلَّم منهم كيف نقف الوقفة الصلبة، كما تعلَّموا منّا سابقاً عندما وقفنا الموقف الصلب، لأنَّ الأُمّة بحاجة إلى من يلهمها فيتقوّى شعب بآخر، ويستلهم شعب من آخر.
لهذا عندما نستمع إلى أخبار التحرّك المستمرّ، الذي ينتقل من قرية إلى قرية والذي استطاع بكلّ قوّته أن ينقل المواجهة من المدينة إلى الريف لتتّسع الثورة، فإنَّ علينا أن نتعلَّم من ذلك وأن نتحرّك في هذا الاتجاه من خلال كلّ قضايانا، سواء كانت هذه القضايا في الداخل أو الخارج.
في الداخل هناك عمل لتمييع المسألة الإصلاحية أو المسألة التغييرية، وهناك لغو تتحرّك فيه المفاوضات في المسألة اللبنانية بين اللبنانيين وبين الحكم تحت المظلّة الأميركية؛ هذا يطرح نقطة سلبية وآخر يطرح نقطة نصف سلبية، ثم يعود الآخر ليطرح نقطة سلبية ونصف سلبية ليبقى الموضوع في إطار الملهاة. ثمّ نتحرّك لنقرِّر أو لا نقرِّر أنّ إلغاء الطائفية السياسية سيأتي بعد عشر سنين وبعد عشرين سنة، ويتخدَّر الناس وتذهب كلّ دماء الشهداء، وكلّ نتائج هذه الثورة، ويعود الناس ليقولوا جميعاً: ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ولا نريد شيئاً بعد ذلك.
إنَّنا نحتاج إلى هذه الصلابة التي تتحرّك بهذا الجسم، لنواجه كلّ التمييع الذي يتحرّك في هذا البلد، الذي يريد أن يصادر كلّ الدعوات ويريد أن يخلط الأوراق بطريقة لا يبقى من المطالب شيء.
مراقبة الموقف الأميركي
وعلينا أيضاً في الوقت نفسه أن نراقب موقفين: الموقف الأوّل هو الموقف الأميركي، الذي يعمل من خلال وزير خارجية النظام الأميركي، ليصادر الانتفاضة الفلسطينية، وذلك من خلال تحريك المسألة الفلسطينية في أجواء يُراد من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، مستعيناً بالحكّام الذين عملوا على أن يميِّعوا القضية ويصادروها. إنَّ المسألة لا تزال تعيش في نطاق الحكّام العرب والتمثيليّة الإسرائيلية في الصراع، ولا تزال المسألة تعمل على محاصرة الانتفاضة التي لم يستطع أحد أن يحاصرها حتّى الآن. لهذا فإنَّنا نقول لكلّ إخواننا هناك في فلسطين من هؤلاء المجاهدين المسلمين: إنَّكم عشتم أربعين سنة من الهزيمة، وقد بدأتم عصر النصر، الذي قد يحتاج أربعين سنة أخرى، فلا تبدّلوا عصر النّصر الذي بدأتموه بعصر الهزيمة، التي تريدها الجامعة العربية ويريدها مجلس الأمن وهيئة الأمم، حتى تسقط روحكم وحتّى تكون "إسرائيل" هي الدولة الأقوى في المنطقة. أنتم القوّة التي تستطيع أن تزلزل قوّة "إسرائيل" من الداخل، لأنَّ أيّة انتفاضة في الداخل توازن أكبر انتفاضة في الخارج، باعتبار أنّ الداخل هو الذي يخلخل الأساس، أمّا الخارج فهو الذي يخلخل الجدران فحسب.
لهذا علينا أن نظلّ محدّقين في هذا الواقع، حتّى نستطيع أن نواجهه كلٌّ بحسب إمكاناته وكلٌّ بحسب قدرته.
وحشية النظام العراقي
النقطة الثانية هي نقطة القصف الهمجي الوحشي، الذي يقوم به النظام العراقي الطاغي ضدّ المدنيين في طهران وفي قم وفي بقيّة مدن إيران(1)، من أجل أن يسقط الموقف الإسلامي هناك، ومن أجل أن يُخضع إيران من دون قيد أو شرط للقبول بوقف إطلاق النار، دون أن يحاسب المعتدي ودون أن يسجّل أيّ عقاب عليه، ممّا يجعل المسألة مسألة هزيمة سياسية، ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين، على الرغم من أنّنا جميعاً نتمنّى أن تتوقّف هذه الحرب التي تُراق فيها دماء المسلمين. ولكنّنا نريدها أن تتوقّف على أساس المصلحة الإسلامية، لا على أساس المصلحة الاستكبارية. إنّهم يريدون أن يسقطوا الروحية التي يعيشها المسلمون المجاهدون هناك، ولكنّ الشعب المسلم المجاهد الذي يقوى كلّما اشتدّ الضغط عليه، ويثبت كلَّما كَثُرَت الهزائز من حوله، استطاع أن يفوّت هذه الفرصة، واستطاع أن يقول لأميركا التي تقف وراء هذا النظام: إنَّنا ما زلنا في الساحة، وسنبقى في الساحة مهما قصفت الطائرات ومهما قصفت الصواريخ، لأنَّ الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ الواعي فقهياً وسياسياً لكلّ مصالح الأُمّة، يريدنا أن نتابع المسيرة لأنَّ المسألة ليست مسألة طهران وقمّ ولكنّها مسألة العالم الإسلامي. مسألة أن ينطلق المسلمون، ليمسكوا قرارهم بأيديهم من خلال قرآنهم، لا لتمسك قرارهم أميركا أو روسيا أو أوروبا أو أيّ جهةٍ أخرى.
المسألة هي أنّنا نريد أن نثبت، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ الهزّات والعواصف، لأنَّ العالم المستكبر قرَّر أن يقضي على كلّ الحركات الإسلامية، التي تريد أن تعيد الروح للمسلمين ولكنّ الروح الإسلامية لن يستطيع أحد أن يصادرها، لأنّها من الله بدأت وفي طريق الله تسير، وإلى الله تعود. الله وحده هو الذي يحرِّك هذه الروح وهو الذي يستطيع أن يجمّد روحنا بعدما عادت إلينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية