الخطبة الرابعة
1989/4/7
الصوم السياسي
إنَّنا نصومُ عن تأييدنا للحاكمِ الجائِر
لأنّ اللّه أرادنا أن نصومَ عن ذلك
الصوم سيطرة على عاداتنا:
قال اللّه سبحانه و تعالى في كتابه المجيد:
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
و قال سبحانه: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
في هذا اليوم الذي نبتدىء فيه الشهر المبارك، كما نبدأ فيه القيام بفريضة من الفرائض التي أوجبها اللّه على عباده، ممن يطيق الصوم و لا يمنعه من ذلك مرض أو خوف أو سفر، إذا كان الإنسان حاضرا و صحيح الجسم، فيجب عليه أن يصوم هذا الشهر، و أن يمتنع فيه عن ملذّات الطعام أو الشراب، أو عن ملذات الجنس، ليؤكد الإنسان من خلال ذلك الانفتاح في إرادته على اللّه، و يؤكد صلابة موقفه أمام الأمور التي تفرضها عليه شهواته، أو حاجته أو طريقته اليومية، فيما يعيشه الإنسان من عاداته اليومية، فالإنسان عندما تهفو نفسه إلى الطعام، و الطعام حلال في ذاته، أو تهفو نفسه إلى العلاقات الجنسية في داخل العلاقات الزوجية و هي حلال في ذاتها، و لكنه يمنع نفسه لأن اللّه أراد منه أن يترك ذلك كلّه في هذه المدة كلّها، التي تبدأ بالفجر و تنتهي بالغروب، إنّ هذا الحرمان الذي يعانيه الإنسان من خلال الصوم و يصرّ عليه، فيجعلك تترك عاداتك التي اعتدتها في صباحك و نهارك، و يدفعك بصلابة إلى الضغط عن عاداتك هي من أجل رضا اللّه تعالى و الإمتثال لأوامره.
الإمتثال لإمر اللّه:
كنت تجوع فتأكل، و تعطش فتشرب، و لكن في شهر رمضان و امتثالا لأمر اللّه تعالى أصبحت تجوع فلا تأكل و تعطش فلا تشرب، و تشتهي لذاتك فلا تمارسها، كل الملذات تسقط أمام التزاماتك. إنه وضع جديد بالنسبة إلى حياتك يخلط كل أوضاعك، و يجعلها في وضع آخر. معنى ذلك أنّ اللّه يريد أن يقول لك، جرّب نفسك أن تضغط على عاداتك، و جرّب نفسك أن تضغط على حاجاتك الجسدية، فإذا نجحت في ذلك أمكنك أن تصوم فتغيّر مواعيدك في كل حاجاتك، و في كل لذاتك، و إذا نجحت في ذلك فإن اللّه يجعل ذلك حجة، ليقول لك إنك كنت تعتذر للآخرين الذين يطلبون منك أن تترك عاداتك السيئة بأني معتاد على ذلك و لا يمكنني أن اترك عاداتي، إذا كنت معتادا على التدخين أو كنت معتادا على المخدرات أو كنت معتادا على غير ذلك من عاداتك المحرّمة، أو المكروهة المضرّة لجسدك أو حياتك، فإنك تعتذر إني لا استطيع، هذه عاداتي و يصعب عليّ أن اترك عاداتي، إن اللّه يقول لك: لقد تركت عاداتك في شهر رمضان في أوقات أكلك و في أوقات شربك، و في أوقات لذتك، و هكذا في أوقات مزاجك و معنى ذلك أنّ الذي يستطيع أن يغيّر عاداته في شهر، قادر أن يغيّر عاداته في سنة، و الذي يستطيع أن يغيّر عادات في سنة، يستطيع أن يغيّرها في العمر كله، لما ذا؟لأنك عندما غيّرت عاداتك في شهر رمضان حكّمت ارادتك من خلال أنك جعلتها تتحرّك في رضى اللّه سبحانه، أصبحت تقول لنفسك: لا، و أصبحت تقول لعاداتك: لا، و إذا كان الأمر كذلك، فإنك عندما تنجح في تحكيم ارادتك في هذه التجربة الصغيرة، فإن اللّه يقول لك لا بدّ لك أن تنجح، و يجب عليك أن تنجح في تجربتك الكبيرة، إن مسألتك عندما يطلب منك الناس أن تترك عاداتك المحرّمة التي حرّمها اللّه عليك تقول: لا أقدر، و لكن الصحيح أنك تقدر، و فرق بين أن تقول لا أستطيع و بين أن تقول لا تريد، لأنني إذا أردت فسوف أتحمّل ألما في ترك عاداتي.
مجابهة العادات:
و هكذا نستطيع أن نفهم بأن الصوم يمثّل بالنسبة إلينا تجربةً ناجحة في السيطرة على كل عاداتنا، فإذا كان الصوم يمثّل السيطرة على كلّ عاداتنا الفردية، فإنّ من الممكن أن نسيطر من خلال الصوم و من خلال التجربة على عاداتنا الاجتماعية، فهناك عادات اجتماعية لدى الناس اعتادوها من خلال تقاليدهم أو من خلال الأوضاع الجديدة المفروضة عليهم، فيما يأخذ به النّاس من عادات الجاهلية، كما في العادات العشائرية أو في العادات المدنية الحديثة العصرية، فيما يأخذ به الناس من عادات عصرية، أن هذه العادات المدنية الحديثة العصرية، فيما يأخذ به الناس من عادات عصرية، أن هذه العادات إذا كانت لا ترضي اللّه سبحانه و تعالى، و إذا كان اللّه يريد منك أن تتركها، فلا بدّ لك من أن تعمل كصائم لا يريد من صومه مجرد تقليد جامد لا يوحي له بشيء، إن مسؤوليتك أنت، أن تنطلق من أجل أن تضغط على عاداتك الاجتماعية المحرّمة، لنا عادات كثيرة في حفلات الزواج، و لنا عادات كثيرة في الأوضاع العصبية العائلية و العشائرية، و لنا عادات كثيرة يكرهها اللّه سبحانه و تعالى، فإن علينا أن نعمل بكل ما عندنا من طاقة لنجعل القدرة على إحتواء العادة، في داخل شهر رمضان أساساً لأن نحتوي العادات الأخرى خارج شهر رمضان، فلا بدّ لنا من أن نفكّر بهذه الطريقة، و إذا كنا نسيطر على حاجاتنا في شهر رمضان فنترك طعامنا و نحن جائعون، و الطعام بين أيدينا، و نترك شرابنا و نحن ظامئون، و الماء بين أيدينا، و نترك لذاتنا و نحن نعيش الحاجة إلى اللذة و هي بين أيدينا، إذا نجحنا في ذلك فعلينا أن نترك ما أرادنا اللّه له أن نصوم عنه في العمر كله، إذا كنت تترك الطعام المحلل في شهر رمضان، لأن اللّه يريد لك أن تتركه، فعليك أن تترك الطعام المحرّم في غير شهر رمضان و في ليل شهر رمضان لأن اللّه حرّم عليك ذلك.
الصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير:
إن هناك صوماً صغيراً نمارسه، و هناك صوماً كبيراً لا نمارسه بدقة الصوم
الصغير هو صوم شهر رمضان، و الصوم الكبير هو صوم الدهر كله عن المحرّمات كلها، فاللّه أراد لنا أن نصوم عن أكل الميتة و لحم الخنزير و الخمر و كل ما حرّمه اللّه علينا مما نأكله أو نشربه، كما أن اللّه أرادنا أن نصوم عن الأفعال التي حرّمها علينا، أرادنا أن نصوم عن الزنا، و السرقة، و اللواط، و قتل النفس المحترمة، و الظلم، و البغي على النّاس بغير حق، و أكل المال الحرام، و الإعتداء على العرض الحرام، و الخيانة و التجسس و ما إلى ذلك من أمور. إنّ قيمة الصوم الصغير هو أن يكون مقدمة للصوم الكبير.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
كتب عليكم الصيام لتحصلوا من خلال الصيام على التقوى، و التقوى هي حالة تعيش في داخل نفسك، و في داخل حياتك، أن تتّقي اللّه و تخافه بعقلك و بقلبك و مشاعرك، و أن تحوّل هذا الخوف خطاً عملياً يجعلك تقف عند حدود اللّه، فلا يجدك اللّه حيث نهاك، و لا يفقدك اللّه حيث أمرك، تصوم لتكون التقي، فإذا صمت و لم تكن التقي فلا قيمة لصيامك، لهذا لا بدّ أن تصوموا صوماً واعيا ينفتح على كل الإسلام الذي أراد اللّه سبحانه و تعالى لكم أن تعملوا من أجل أن تطبّقوا أحكامه في حياتكم الفردية و حياتكم الاجتماعية، و أن تعملوا على أن يكون الإسلام كل فكركم، و عواطفكم و حركتكم في الحياة، هذا هو معنى الصوم في عمقه الذي يريدنا اللّه سبحانه و تعالى أن نعيشه في كل حياتنا.
الصوم: عبادي و سياسي و اجتماعي:
إن هناك صوماً عبادياً، و صوماً سياسياً، و صوماً اجتماعياً، و إن لكل شيء في حياتنا خطين: خطا يلزمنا ببعض الأشياء، و خطا يحرم علينا بعض الأشياء، فالصوم العبادي الفردي كما شرحناه. معناه أن تلتزموا واجباتكم فيما أراد اللّه لكم من واجبات، و أن تتركوا المحرّمات فيما شرّعه اللّه من المحرّمات على مستوى كل الأوضاع التي تعيش في داخل حياتكم الفردية.
الصوم عن السير مع الناس إذا كانوا ضدّ الحق:
أما على المستوى الاجتماعي، فهو أن تصوموا عن كلّ الاوضاع الاجتماعية، التي ورثها المجتمع من التاريخ ممّا لا يرضاه اللّه، أو التي أخذها المجتمع من الواقع المعاصر ممّا لا يرضاه اللّه أيضاً. عليك أن تفهم حقيقة في حياتك، و هي أن معنى أن تكون جزء من المجتمع لا يعني أن تندمج فيه، و تستغرق فيه، و تسير كما يسير، و تقف حيث يقف، إن كونك جزء من المجتمع يعني أن تتحمّل مسؤوليتك الاجتماعية في أن تغيّر المجتمع على الصورة التي يحبها اللّه سبحانه و تعالى، فلو كان مجتمعك يعصي اللّه في بعض عاداته أو بعض أوضاعه، أو بعض حركته... لو كان مجتمعك يرفض حكما شرعيا، لأن الأجواء العصرية التي خلفها الكفر و الاستكبار ترفض ذلك... لو كان مجتمعك لا يريد للمرأة أن تتحجب، و لا يريد للشاب أن يتعفف... لو كان مجتمعك لا يريد للإنسان أن يسير في خط اللّه، و لا أن ينفتح على خط الحق، و خط الدعوة إلى اللّه، في هذا المجال إذا أنكر عليك مجتمعك حكما أراد اللّه لك أن تلتزمه، و منهجا أراد اللّه لك أن تسير عليه، عليك أن ترفض المجتمع، أن لا تقول أنا جزء من العائلة، و عليّ أن أسير كما تسير العائلة، أنا جزء من القرية و عليّ أن أمشي كما يمشي بقية أهل القرية، أنا جزء من هذا الوطن و عليّ أن أسير كما يسير أهل هذا الوطن، أنا جزء من أهل هذه الطائفة و عليّ أن أسير كما يسير الناس.
الفرد الأمّة:
اسمعوا كلام رسول اللّه ؟ص؟ لكم: «لا تكن إمّعة تقول أنا مع الناس و أنا كواحد من الناس إنّما هما نجدان (طريقان)نجد خير و نجد شر فلا يكن نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير» . هذا هو المطلوب، أن تنفصل عن المجتمع إذا ذهب المجتمع إلى الشيطان،
عش وحدك و لو لم يكن معك أحد، «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة و لا تفرّقهم عنّي وحشة» ، إن اللّه قال عن إبراهيم و هو واحد، كان إبراهيم عندما أرسله اللّه وحده و كان أبوه ضدّه و كان أعمامه ضدّه، و كان أهل بلده ضدّه، كان الكل ضدّه، كان أبوه يقول له: «اهجرني مليا» ، اذهب عني، اخرج من بيتي، لا تعاشرني، و لكن إبراهيم وقف وحده و قال اللّه عن إبراهيم:
إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِله [النحل: 120] ، أن إبراهيم كان أمة، و هو فرد حمل كل قضايا الأمة في شخصيته، و جعل موقفه يعبر عن الموقف الصلب الذي يريد للأمة أن تنطلق فيه، كان إبراهيم أمّة لأنه كان يعيش في شخصيته حجم قضايا الأمة.
و لهذا عندما يكون الناس في طريق، و الإسلام في طريق آخر، قفّ في طريق اللّه، «لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله» ، إن عليك إذا قال لك الناس لا تحمل
هذه «الخشبة بالعرض» و كان من واجبك أن تحمل الخشبة بالعرض، لتمنع النّاس
من أن يتجاوزوا حدود اللّه، إحملها حتّى لو أدّت خشبتك إلى أن تصلب عليها في
نهاية المطاف، أن تكون وحدك باعتبار أنّك تعمل على أساس أن تقف مع
الحق، و لهذا كان الأنبياء وحدهم، و عندما كان النبي ؟ص؟ مع صاحبه في الغار و خاف صاحبه قال له: لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا [التوبة: 40]. أنت لست وحدك، إذا كان اللّه معك، و إذا كنت تشعر بذلك أيضاً. فالفكرة التي تقول إنّ على الإنسان أن يعيش مع النّاس، و أن لا يفعل شيئاً لا يرضاه النّاس، أو يقول بعض النّاس أن الحق مع الناس، فعلينا إذا انطلق النّاس في طريق، أن ننطلق معهم،... هذا قول خاطىء و منحرف و مضلل... إننا نقول: إذا سار النّاس في طريق اللّه، فإننا نسير مع الناس لأنهم في
طريق اللّه، و إذا سار النّاس في غير طريق اللّه فإننا نقف مع اللّه سبحانه و تعالى، حتّى
لو وقفنا وحدنا، لهذا لا بدّ أن نصوم عن كل الأوضاع الاجتماعية التي ينطلق فيها النّاس تحت ضغط الجوّ الاجتماعي، الذي يحمي عاداته حتّى العادات الخبيثة
منها، و الذي يحمي تقاليده حتّى التقاليد الفاسدة. لتكن لنا كمؤمنين و
كمسلمين قوة، أن نثّبت أقدامنا في حالات الزلازل، حتّى لو كان كلّ
الناس ضدّنا في هذا المجال، لأن قضية أن تكون مع اللّه هي قضية تتصل بمصيرك، دربّوا أنفسكم على ذلك، حاولوا أن توحوا لأنفسكم بأنّ النّاس مهما رضوا عنكم فإنهم لا يستطيعون أن يكونوا البديل عن رضا اللّه عنكم، و النّاس لا يرضون عنكم، إلاّ إذا سرتم معهم في كل أمورهم، و معنى أن تسيروا معهم أن تنحرفوا حيث ينحرفون، و أن تضلوا حيث يضلون، وَ لَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصٰارىٰ حَتّٰى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ هُوَ اَلْهُدىٰ [البقرة: 120]. هدى اللّه هو الذي يجب أن نعمل عليه.
هناك بعض الناس يقولون في هذا المجال أن الوقت يريد ذلك و أن الزمن يريد ذلك، و أن العصر يريد ذلك، و لكن لا الزمان يريد ذلك، و لا الوقت و لا العصر، و لكن النّاس الذين عاشوا في العصر و أخذوا مواقع قوة و فرضوا قوتهم على أناس آخرين، فرضوا أفكارهم و عاداتهم و تقاليدهم، فأصبحت تقاليدهم تقاليد الزمان، لأنهم كانوا المستكبرين الذين يملكون القوة.
الصوم عن تأييد الحاكم الجائر:
و هكذا نحتاج إلى أن نصوم صوماً سياسيا، و قد يستغرب النّاس أن تكون
هناك علاقة بين الصوم و بين السياسة، فكيف نصف الصوم بالصوم السياسي؟
و لكن السياسة ما هي؟السياسة حكم الناس و إدارة شؤونهم و أمنهم، السياسة
تمثّل كل حركتك في الحياة، حركة الحاكم مع المحكوم و المحكوم مع الحاكم،
حركة المستضعفين مع المستكبرين و المستكبرين مع المستضعفين،
حركة المستضعفين في علاقاتهم مع بعضهم البعض، حركة حربهم و سلمهم،
و حركة أوضاعهم القانونية و غير القانونية، كيف لا يكون هناك صوم سياسي
عندما يقول لك اللّه سبحانه و تعالى، أرفض الحاكم الجائر، يعني صم أيّها
الإنسان عن تأييد الحاكم الجائر. إذا دعتك نفسك إلى تأييده، لأنه يعطيك مالاً
و لأنه يعطيك وظيفة، و لأنه يعطيك موقعاً سياسياً أو إدارياً، إذا دعتك نفسك إلى
ذلك، فقل يا نفس لقد دعيتني إلى الطعام و الشراب و صمت عن الطعام
و الشراب لأن اللّه أرادني أن أصوم عن ذلك، و أن أصوم أيضاً عن تأييدي للحاكم الجائر لأن اللّه أرادني أن أصوم عن ذلك.
الصوم عن الخيانة و التجسس لحساب العدو:
و الأمر نفسه يرد عندما يدعوك إنسان للعمل في المخابرات سواء كانت مخابرات مركزية أميركية، أو أوروبية أو عربية أو لبنانية، رسمية أو حزبية، من هذه المخابرات التي تريد للنّاس أن يتعاونوا معها من أجل أن تحطم مواقع عزّتهم و كرامتهم و مواقع قوّتهم الاقتصادية و السياسية و الأمنية، إذا أراد النّاس منك أن تكون جاسوسا و قيل لك هذا المال بين يديك، هذه الشهوات بين يديك، هذه المواقع بين يديك، أعطنا خبرا عن فلان و خبرا عن فلانة، أعطنا معلومات عن الجهة الفلانية و المسلمة و المستضعفة، و لك ما تريده، قل إني صائم، صائم عن التجسس لأن اللّه تعالى قال: وَ لاٰ تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] و من الخيانة الكبيرة أن أتجسس على المؤمنين و على المستضعفين. فكما قال اللّه سبحانه و تعالى أنّ عليكم أن لا تأكلوا و لا تشربوا في شهر رمضان قال لنا أيضاً: و لا تجسسوا، و هكذا إذا أراد منك إنسان أن تخون دينك أو أهلك أو تخون اللّه و الرسول، أو تخون أمانتك، و حاولوا أن يغرّوك بكثير من إغراءات المال و الجاه و الشهوات، قل يا قومي إني صائم لأنّ اللّه سبحانه و تعالى قال: لاٰ تَخُونُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27]. و قال اللّه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ مَنْ كٰانَ خَوّٰاناً أَثِيماً [النساء: 107].
الصوم عن الركون إلى الظالمين:
و هكذا إذا أريد منك أن تؤيّد بصوتك أو موقفك، أو كلامك، أو سلاحك
أو أيّ شيء آخر، إذا أريد منك أن تؤيّد إنساناً كافراً يدعو إلى الكفر، و ضّالا يتحرّك
في خطّ الضلال، و منحرفاً عن الإسلام يتحرّك في خط الانحراف، ممن يعملون
بعنوان أنهم مسلمون، و لكنهم يعملون على أن يمكّنوا غير المسلمين
من السيطرة على المسلمين، إذا أريد منك أن تؤيّد مثل هؤلاء، فقل إني صائم لأن اللّه يقول: وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ [هود: 113] هكذا نفهم الصوم السياسي، أي أن تصوم في عملك السياسي عن كل عمل من الأعمال التي أراد اللّه منك أن تتحمّل مسؤوليتها، فيما هي العزة للمؤمنين، و فيما هي الحرية للمسلمين و المستضعفين، و فيما هو الأمان للنّاس كلّهم، إنّ عليك أن تصوم عن ذلك، عما يبعدك عن الخط الذي أراد اللّه لك أن تبتعد عنه.
و بذلك فإن الذين يصومون عن الطعام و الشراب في شهر رمضان، و لكنهم يمكّنون الكافرين من المسلمين و يمكّنون المستكبرين من المستضعفين، و يخدمونهم بكل ما عندهم من طاقة، ليكونوا أشخاصاً في مواقع المسؤولية التي يمنحهم إيّاها المستكبرون و الكافرون، إنّ هؤلاء لا قيمة لصيامهم.
على هذا الأساس قالها أحد الأئمة عليهم السّلام: «إذا أردتم أن تعرفوا الرجل فلا تنظروا إلى طول ركوعه و سجوده فلعلّها عادة اعتادها و يشق على المرء ترك عاداته و لكن اختبروه بصدق الحديث و أداء الأمانة» .
إذا حدث صدق، و إذا أؤتمن وفى بأمانته، سواء كانت الأمانة أمانة خاصة على مستوى الأفراد، أو كانت أمانة عامة على مستوى الأمة كلّها.
الصوم هو طريق إلى التقوى:
إنّكم إذا أردتم أن يتقبل اللّه صيامكم، و أن يتقبّل اللّه قيامكم، فليكن صيامكم حركة في اتجاه التقوى، و ليكن قيامكم حركة في اتجاه التقوى، لأنّه كما ورد في الحديث الشريف: «ربّ صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و العطش، و ربّ قائم ليس له من قيامه إلاّ التعب و السهر» .
قيمة الصوم هي بمقدار ما يقودك إلى التقوى، و قيمة الصلاة هي بمقدار
ما تقودك إلى أن تنهى نفسك عن الفحشاء و المنكر. في هذا الخط يجب أن
نفهم الصوم على أساس أنّه طريق إلى التقوى في كل ما أرادنا اللّه أن نفعله أو نتركه.
اللجوء إلى القرآن لمعرفة الحق:
ثم حدثنا اللّه عن شهر رمضان و قال: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ [البقرة: 185]. شهر رمضان لم يقدّمه اللّه لنا إلاّ من خلال أنّ القرآن، أنزل فيه: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر: 1] ، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ [الدخان: 3].
قدّمه اللّه لنا على هذا الأساس، ماذا يريد اللّه منّا من خلال ذلك؟ إنّه يقول لنا
أنّ شهر رمضان هو شهر القرآن باعتبار أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، و على
هذا الأساس إذا جاء شهر رمضان فلينطلق المسلمون ليحتفلوا في ذكرى نزول
القرآن، ألستم تحتفلون بالمناسبات بميلاد النبي، و الإسراء و المعراج أو المبعث،
إنّ اللّه يريدنا أن نحتفل في شهر رمضان بنزول القرآن، و لكن كيف نحتفل بنزوله؟هل نجلّد القرآن و نذهّبه؟هل نأتي بالقرآن المكتوب على صفحة واحدة لنضعه في
صدر البيت؟هل نقرأ القرآن، و نتسابق في ختمه؟هل من الصحيح أن نحتفل بالقرآن كجلد و حروف و منظر، أو أنّك تحتفل بالقرآن لتجعل القرآن هدى لك و لعقلك، عندما ينطلق الناس في متاهات الضياع، فالقرآن هو دليلك، و هو النور الذي تهتدي
به قَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولُنٰا يُبَيِّنُ لَكُمْ [المائدة: 15]. أن نحتفل بالقرآن على أساس أنه النور، و على أساس أنه الكتاب الذي أنزله اللّه على نبيّه ليخرج النّاس من الظلمات إلى
النور. عندما تعيش في شهر رمضان، و الظلمات تحيط بك من كل جانب،
و ينطلق أهل الظلام ليحشدوها في ساحتك، و يتحرّك الكثيرون ليضيّعوك و يجعلوك تتيه و تنحرف و تنطلق في متاهات الضّياع، إلجأ إلى القرآن، إقرأه لتجد فيه الهدى فيما اختلف فيه النّاس، إذا اختلف النّاس في شيء، فقال كل منهم ما يحبّ أن
يقول و تحيّرت، فارجع إلى القرآن، و التزم ما يقوله، و إذا اختلفت الأحاديث، عند ذلك ارجع إلى القرآن، لا تقبلوا حديثا إلا ما وافق كتاب اللّه، «فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فاضربوا به عرض الحائط» .
معنى ذلك أن تجعل القرآن هدى تهتدي به، معنى أن تحتفل بالقرآن أن تعيش في شهر رمضان لتفتح كل فكرك، ماذا عندك من أفكار؟و ماذا تحمل من مفاهيم؟ربّما كنت تحمل مفاهيم ضالة و ربما كنت تحمل أفكارا كافرة؟حاول أن تعرض فكرك على القرآن ليصحح لك القرآن فكرك. و هكذا إذا كنت في شهر رمضان قد تكتشف أنّ بعض عواطفك فيما تحب و فيما تبغض لا تلتقي بالقرآن فأنت تحب أعداء اللّه و تبغض أولياء اللّه، إذا اكتشفت ذلك حاول بسرعة أن تغيّر عواطفك، و أن تجعله في الصراط المستقيم، لتحب من يحبه اللّه و رسوله، و لتبغض من يبغضه اللّه و رسوله.
و هكذا في علاقاتك و صداقاتك و أوضاعك و في تأييدك و رفضك و في خطواتك و انتماءاتك الاجتماعية و السياسية و في كل أعمالك و مأكلك و مشربك، ارجع إلى القرآن لتعرف حلال القرآن و حرامه، في الكلمة و الفعل و العلاقات، لتحلّ ما أحلّ القرآن، و لتحرّم ما حرّم القرآن، و هذا مما أراد رسول اللّه ؟ص؟ و هو نبيّنا و إمامنا و قائدنا و هدانا، وقف أمام المسلمين في آخر أيام حياته و قال: أيّها الناس: «إنّكم لا تمسكون عليّ بشيء إني ما أحللت إلاّ ما أحلّ القرآن و ما حرّمت إلاّ ما حرّم القرآن» . فإذا كان نبيكم يقف ليعلن أنّه التزم بالقرآن كلّه بصفة المسلم الأول الذي يفرض عليه اللّه سبحانه و تعالى أن يلتزم بالكتاب كله عملا، كما يدين بالكتاب كله عقيدة، إذا كان رسول اللّه كذلك فعلينا نحن أن نقتدي برسول اللّه في ذلك لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب: 12] علينا أن نقول لكل النّاس أننا لا نحلّ إلاّ ما أحلّه القرآن، لو كانت القوانين كلها في الدنيا تحرّم ما أحلّه اللّه، فنحن نظل نلتزم حلّيته، و إذا كانت تحلّ ما حرّم اللّه فنحن نلتزم حرمته، نحن لا نلتزم إلاّ بالقرآن فكرا و منهجا، و علينا أن نأخذ القرآن على هذا الأساس.
قراءة القرآن فهما و تدبّرا:
اقرأوا القرآن قراءة تدبّر، اقرأ صفحة واحدة، و حاول أن تفهم هذه الصفحة، لو لم تستطع أن تفهم صفحة اقرأ سطرا واحداً و افهمه، فإن ذلك هو الذي يريده اللّه منك، أن تقرأ ما تيسّر من القرآن قراءة وعي و فهم و تدبر، و لهذا خاطب اللّه الذين كانوا يقفون ضد القرآن:
أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا [محمد: 24] لا تغلقوا قلوبكم عن القرآن حاولوا أن تتفهّموا جيدا، حاولوا أن تجعلوا من أوقاتكم وقتا لفهم القرآن، اطلبوا منهم أن يفسّروا لكم، و أن يجعلوكم تعيشوا أجواءه، و تأخذوا الدروس و العبر من آياته، اجتمعوا في مساجدكم و لا تنفصلوا عنها، كانت المساجد هي مدارس الإسلام في عهد النبوة و بعده...
لتكن مساجدنا مدارسنا و نوادينا و محل تعارفنا و لقاءاتنا، لا تسيّسوا المساجد، فيكون هذا المسجد لهذه الجماعة، و يكون ذاك المسجد لتلك الجماعة، هذه الجماعة تمنع تلك الجماعة عن المسجد، المسجد بيت اللّه، و لكل عباد اللّه أن يدخلوا إلى مسجد اللّه، و إلى بيت اللّه، و لكن إذا التقينا في المسجد، فعلينا أن نتعارف على كلمة اللّه، و تقوى اللّه، و أن نجتمع على شريعة اللّه فنتذاكر في المسجد أمورنا من خلال شريعة اللّه، و خط اللّه في ذلك، انطلقوا، و لتكن مساجدنا عامرة بدروس القرآن، و حتّى لا يكون القرآن عندنا مجرّد كتاب للبركة، أو للإستخارة أو مجرّد كتاب نضعه في الواجهة، بل يكون القرآن هدى و بيّنات تبيّن لنا الحق من الباطل، و الخطأ من الصواب، لهذا لاحظوا أنّ وصية رسول اللّه ؟ص؟ فيما روي عنه من خطبته التي استقبل فيها شهر رمضان، كانت وصيّته:
«فاسألوا اللّه بنيّات صادقة و قلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه و تلاوة كتابه»
أن تصوم شهر رمضان و أن تملأه بقراءة القرآن قراءة الوعي و التدبر، من خلال
ذلك نستطيع إذا عشنا الصوم وعياً لحركة الإرادة في حياتنا فيما يرضي اللّه، و إذا
عشنا شهر رمضان من خلال تلاوة كتاب اللّه، عند ذلك تستقيم لنا الحياة على
خط الإسلام، و تستقيم لنا الحركة على شريعة اللّه سبحانه و تعالى، في كل ما نتحرّك فيه، و عند ذلك نعرف كيف نتحاور إذا اختلفنا و كيف نتوافق إذا التقينا، أن نكون القرآنيين السائرين على خطّ القرآن في كل ذلك، و أن ننطلق إلى مفاهيم القرآن لنرصدها فإذا أراد لنا القرآن أن نتوحّد، فلتكن وحدتنا من خلاله، و إذا أراد القرآن لنا أن نتوّزع الأدوار فليكن ذلك من خلاله، و إذا أراد القرآن منّا أن نتعايش مع الذين يختلفون معنا في الفكر و الدين، فعلينا أن يكون ذلك من خلاله، لأنّ القرآن هو الذي يخطّط لنا الطريق فيما يريده اللّه لنا من ذلك، و بالقرآن نكتشف كيف نواجه الحياة، و الواقع، و كيف نأخذ العزة و الحرية لأنفسنا، و كيف نثبت في مواقع الزلزال، ندرس الواقع كلّه من خلال ما نستطيع أن نفهمه و نتعرّف عليه من آفاق الواقع على هذا الأساس نستطيع أن نفهم من هم أصدقاؤنا، لنفهم أنّ الإسلام يرفض الاستكبار كلّه، و يرفض المستكبرين كلّهم حتّى لو كانوا مسلمين، و أنّ الإسلام يرفض الكفر كلّه و يرفض الكافرين كلهم، و أن الإسلام يعمل على أساس أن لا يكون هناك ظلم في العالم و أن لا تكون هناك مواقع كبيرة للظالمين.
كيف نحدّد مواقفنا السياسية؟
على هذا الأساس علينا أن نؤكد الخطوط العامة للمسألة السياسية في حياتنا من خلال ما يؤكده اللّه لنا من ذلك، و علينا أن نجعل عواطفنا في خدمة أفكارنا و عقولنا، لأنّ الإنسان قد ينجذب عاطفيا إلى بعض الظلمة الذين يظلمون النّاس بأيديهم و يحاولون أن يتحدّثوا معهم بالكلام المعسول بألسنتهم.
لهذا لا بدّ أن نرصد المسألة كلّها، فنجعل عواطفنا في خدمة أفكارنا، فلا ينفصل فكرك عن عاطفتك، فإذا وقفت أمام متكبّر يريد أن يفرض استكباره على المستضعفين، حاول أن تجعله مرفوضا بعاطفتك كما هو مرفوض بعقلك، أن لا تتجاوب معه في بعض الأشياء السطحية البسيطة التي يحاول أن يجتذب فيها عاطفتك.
إننا نريد أن نحدّد دائماً مواقفنا من خلال المواقف التي تتحرّك في العالم في الخط السياسي الذي ينعكس سلبا أو إيجابا على واقعنا السياسي كمسلمين و مستضعفين، ففي الدائرة الدولية عندما نواجه الدول المستكبرة فإن علينا أن نرصد خطها السياسي العريض، ثم نرصد مواقفها لنعرف كيف تحدد مواقفها السياسية في قضاياها، مثلا عندما نواجه المسألة الاميركية في العالم، فإننا نلاحظ أنّ الخط العريض للسياسة الاميركية هو السيطرة على العالم كلّه، بحيث أنّ أميركا تفكّر في سياستها و إداراتها المتعاقبة على الحكم، سواء كانت من الحزب الجمهوري، أو من الحزب الديمقراطي، تفكّر أن يكون العالم ساحة للمصالح الاميركية، المصلحة الاميركية أولا ثم بعد ذلك مصالح العالم بقدر قربها أو بعدها من المصلحة الاميركية، و نحن نعرف سياسة أميركا في فيتنام، و أميركا اللاتينية و العالم الثالث، و الشرق الأوسط و كل المناطق.
لهذا نحن لا نستطيع العمل - من خلال دراستنا للسياسة الاميركية القائمة - على تأكيد سلطة الإستكبار الاميركي في العالم، أن نتعاطف مع هذه السياسة و هذه الدولة، ربما تفرض علينا مصالحنا أن نتعامل معها، و ننشىء علاقات معها، لكن بضوابط أساسية حيث لا تقترب من حرّيتنا، و أن نتعامل معها بحذر فيما هو التعامل الاقتصادي، و قديما قلنا بأننا لسنا ضد الشعب الاميركي و لكننا ضد الإدارة الاميركية التي تعمل على أساس السيطرة على مقدرّات الشعوب. لهذا نحن نرصد هذه السياسة و من خلال رفضنا لهذه السياسة نحن نرفض أن تكون علاقاتنا علاقات جيدة بالدولة التي تمثل هذه السياسة.
المصلحة الاميركية أولا:
و على هذا الأساس فنحن ضد كل الطروحات السياسية على مستوى
لبنان و المنطقة و العالم كله، ضدّ السياسات التي تقول بأن علينا أن نعمل على أساس أن نثير اهتمامات أميركا بنا لتأتي و تحل لنا المشكلة. لماذا نعارض ذلك؟لأننا نعرف أنّ أميركا لا تحلّ المسألة اللبنانية لحساب اللبنايين، و لا تحلّ المشكلة
العربية لحساب العرب، و لا تحلّ مشكلة العالم الثالث، لحساب المستضعفين فيه، و لكنّها تعمل على حلّ المشكلة من خلال مصلحتها و مصلحة المستكبرين، هي تحل المشكلة الاميركية و لا تحل مشاكلنا نحن، و بذلك فإنها تحل مشكلة من هنا و تثير أمامنا مشاكل كثيرة من هناك.
و على هذا الأساس فنحن ضدّ أن تقدّم التنازلات لأميركا من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، و كل العرب فيما هي المسألة الفلسطينية، لأننا عرفنا منذ البداية أن أميركا هي الراعية لإسرائيل بكلّ قضاياها، بحيث أنّه لو دار الأمر بين مشكلة تعيشها إحدى الولايات المتحدة، و بين مشكلة تعيشها إسرائيل فإن اميركا تقدّم مصلحة إسرائيل في بعض الحالات على مصلحة بعض ولاياتها المتحدة، لأنها تلتزم بأمن إسرائيل التزاماً مطلقاً بحيث أنها تراقب دائماً توازن الأسلحة في المنطقة، من خلال علاقة هذا السلاح بالأمن الإسرائيلي، عند ما تبيع سلاحاً لكل دول الخليج و الدول العربية من مصر و غير مصر، فإن شرطها الأساسي هو أن لا يستخدم السلاح في مواجهة إسرائيل، الشرط الأساس يكمن في أنّه إذا خيف من تبدل الأوضاع فإن عناصر أساسية من هذه الأسلحة تؤخذ منها حتّى لا يشكل السلاح خطرا و لو بالمستقبل.
أن تكون إسرائيل خطراً على المنطقة ذلك ليس بمشكلة، و لكن أن يكون بلد في المنطقة يشكل خطرا و لو بنسبة عشرة بالمئة ضد إسرائيل فهذه مشكلة، تهتم أميركا بها بحجم العالم. لقد قدّمت منظمة التحرير تنازلات إلى أميركا حتّى تقبل الحديث معها من خلال إعترافها بإسرائيل، و اعترافها بقرار 242( )، و الآن أميركا في اجتماع رئيسها برئيس وزراء العدو الصهيوني تبنّت التفكير اليهودي، فقالت نحن نرفض دولة فلسطينية، و أيضاً ليس هناك أيّ ضغط على إسرائيل في أن تفاوض منظمة التحرير، بل لا بدّ من أن تكون هناك انتخابات في داخل فلسطين خارج منظمة التحرير حتى يقول الفلسطينيون رأيهم.
و طبعاً الانتخابات يجب أن تجري تحت الاشراف الإسرائيلي لتجميد
الانتفاضة، و من هنا فأميركا تتبّنى التفكير الإسرائيلي، بعد أن قدّم لها العرب كلّ التنازلات و قدّمت لها منظمة التحرير كل التنازلات، و هي تعمل على أن تحلّ لإسرائيل مشكلتها، و لا تعمل على أن تحل للفلسطينين مشكلتهم، أو على أن تحلّ للعرب مشكلتهم، أبدا، و لهذا نحن يجب أن نفكر بالمسألة بوعي و تدبّر.
سياسة التعب هي رهان المستكبرين:
لهذا مطلوب منك أيها الإنسان أن تتعب دائماً، ما دام هناك قوى كبرى تريد أن تفرض عليك إرادتها و سيطرتها، لا يوجد هناك راحة، لا تفكّر بامكانية أن تحلّ المشكلة اليوم و نرتاح، لا، فهناك مشكلة ثالثة و رابعة، لهذا علينا أن نمرّن أنفسنا على التعب. الآن أنتم الرياضيون الشباب الذين يلعبون الرياضة، إذا فرضنا أنكم توقفتم عن التدريب، هل تصلحون للعب المباريات؟فالتعب في التدريب ضروري لإحراز النصر الرياضي، و لما كانت رياضتنا، رياضة ضد الاستكبار العالمي، يجب أن نتعب أنفسنا و لا نسقط أمام التعب.
سياسة التعب هي التي يراهن عليها كل المستكبرين، إن الشعوب المستضعفة تتعب، و عندما تتعب تسقط. و هذا ما نلاحظه في أفغانستان التي خرج منها السوفيات تحت ضغط المجاهدين، لكن أميركا تعمل الآن و بواسطة بعض الدول العربية التي تسير في الفلك الاميركي، في أن تنقل أفغانستان من أن تكون دولة تابعة للفلك السوفياتي، إلى أن تكون تابعة للفلك الاميركي،و على هذا الأساس دخلت أميركا، و دخلت بعض الدول العربية معها في إيجاد خلافات على مستوى مذهبي بين المجاهدين، و بذلك أصبحت حركة المجاهدين أصعب من السابق بفعل التدخل الاميركي في هذا المجال، و طبعاً عندما يرفض الإسلاميون الاتحاد السوفياتي أن يكون هو الدولة التي تسيطر على إفغانستان، يرفضون أن تكون أميركا هي البديل عن¬ الاتحاد السوفياتي¬و يريدون لإفغانستان أن تكون دولة إسلامية يحكمها المسلمون طبق الشريعة
الإسلامية، بحيث تلتزم سياسة عدم الإنحياز للشرق أو للغرب.
و كذلك في لبنان، نرى أن أميركا تحرّك فرنسا، لأنها مشغولة بالموضوع الفلسطيني، لذلك مهما سمعتم من الاذاعات، فإنّ لبنان لا يزال في دائرة المشاكل التي أثيرت فيه، و ما يثير التساؤل أنّ فرنسا لم تقف بشكل قويّ أو فاعل على مستوى مسؤوليتها، أو مثقفيها الذين يتحدّثون باللغة الإنسانية، لم يقفوا الوقفة الصلبة عندما اجتاحت إسرائيل الجنوب في 78 و لبنان عام 82 و عند ما قصفت الضاحية قصفا مدمرا، و عندما كان النّاس يقصفون في المناطق الإسلامية.
السياسة الفرنسيّة:
قد تكون هناك تصريحات توحي بالأسف أو ببعض الاستنكار، لكن لا تشعر بأن الفرنسيين من مسؤولين و شعب يقفون على أساس المسألة الإنسانية ليستنكروا الأعمال اللاإنسانية التي كانت تمارس من قبل إسرائيل و المارونية السياسية ضدّ المسلمين أكثر من هذا أن فرنسا بكل أجهزتها الفرنسية تعرف أن هناك وضعا يعاني منه المسلمون في لبنان، و يعاني منه أيضاً بعض المسيحيّين المستضعفين في لبنان منذ أن انطلقت الدولة اللبنانية، بحيث أنّ المسألة اللبنانية على مستوى الحكم ليست مسألة إنسانية، بل هناك مواطنون من الدرجة الأولى و مواطنون من الدرجة الثانية و الثالثة و الرابعة، و أنّ هناك عملا دائماً في ابقاء هذه الامتيازات بعنوان تأمين المسيحيّين من الخوف ضد كل الواقع الموجود في العالم كله، حتى واقع البلاد الديمقراطية، و لم تستنكر فرنسا هذا التمييز الذي تحوّل في بعض ممارساته إلى ما يشبه التمييز العنصري، و لكن عندما صارت مشكلة في زحلة انطلقت فرنسا بكل أجهزتها في أيام «ديتان» على أساس الوضع اللاإنساني الذي يعيشه الناس، و أرسلوا طائرة لنقل الجرحى، و هكذا في كل مرحلة عندما يكون هناك أية مشكلة بين المسيحيين، و لا نقول كل المسيحيين، بل بين المارونية السياسية التي تحاول أن تصادر كلَّ مواقع
المسيحيين، و بين المسلمين عند ذلك، تنقلب السماء على الأرض في فرنسا.
الموقف الفرنسي: - حماية الاقليات -
«ميتران» و هو رئيس حزب اشتراكي علماني، و فرنسا دولة علمانية، يتحدث عن حماية المسيحيين و يتحدّث عن حماية الاقليات، و يتحدّثون عن الدمار الذي حصل هناك، و نحن لا نقبل بأن يدمر الناس في أي مكان، لكن لا يتحدّثون عن الدمار الذي يحصل هنا و عن القتلى الذين يسقطون هنا و عن المستشفيات و المراكز التربوية حتى الجامعة الاميركيا التي تقصف هنا، أو في الجبل أو في البقاع، هناك قصف للمدنيين بشكل متعمد و للمستشفيات بشكل متعمد و على ما نقل بأن مستشفى الرسول الأعظم ؟ص؟ أطلقت عليه ستون قذيفة حتّى أنه لم يستطع أن يقوم بواجباته، هل عادت فرنسا للحديث عن حماية الأقليات الذي دخلت فرنسا عبره إلى المنطقة و إلى لبنان؟هل المسألة مسألة حماية الأقليات؟و هل معنى ذلك أن فرنسا تتدّخل الآن في لبنان على أساس أن تكون لطائفة دون طائفة؟إنهم يقولون نحن مع كل اللبنانيين، و لكنهم يقولون أن المسيحيين هم الذين يدمّرون الآن، و لكن ماذا عن المسلمين الذين كانوا و لا يزالون يدمّرون؟حتّى الآن نحن لا نريد أن نتحدّث في لبنان بلغة طائفية و لكننا نريد أن نقول إنّ فرنسا لا تزال تحنّ إلى عهد الدولة الكبرى التي تريد مواقع لها في كل مكان، و هي لم تستطع أن تدخل لبنان من خلال العناوين الحضارية السياسية، فحاولت الآن أن تدخل لبنان من خلال الحالة العنصرية الصليبية، و نحن نعرف ذلك.
في حرب الخليج نشر في إحدى الصحف اللبنانية أخيرا أن المخابرات
الفرنسية كانت تفكر بعد انطلاقة الثورة الإسلامية أن من الممكن أن ينطلق هناك
مدّ إسلامي يشمل باكستان و إفغانستان و إيران و العراق من أجل الايحاء
بالجانب المذهبي المتطرّف أو الإسهاب الشيعي في لبنان، عند ذلك يقول مسؤول المخابرات أنه اقنع النظام العراقي بهذا الخوف من هذا المدّ الإسلامي أو من
هذا المدّ الشيعي بحسب تعبيره، لأنهم يعتبرون أنّ الإسلام عندما يتقدّم على الصورة الإسلامية في إيران فإن معنى ذلك أنه يمثّل خطرا على حضارة أوروبا و على دول المنطقة، و على هذا الأساس وقفت فرنسا بجانب العراق، حتّى يقف ضدّ إيران و حتّى لا ينتصر الإسلام، إن فرنسا تحمل في عمقها التاريخي عنصرية صليبية و عنصرية أوروبية ضدّ الإسلام و المسلمين.
إن الإسلام في فرنسا يمثل الدين الثاني و المسلمون الذين يمثلون في فرنسا أربعة ملايين مسلم فرنسي، يحملون الجنسية الفرنسية، و مع ذلك لا تعطى لهم حرية أن يمارسوا مواقعهم و ثقافاتهم و تقاليدهم الدينية بالطريقة اللازمة.
إننا أمام هذه اللعبة نعرف أنّ المغامرين في لبنان من رجال المارونية السياسية لا يستفيدون من ذلك لأن فرنسا الآن تعمل كأداة من أدوات اللعبة الاميركية التي لا تسمح لفرنسا أن تأخذ حرّيتها في أن يكون لها دور كبير في لبنان مهما اشتدّ الصراخ، و مهما كثرت الكلمات، أنّ أميركا أرادت لفرنسا أن تتحرّك بالانضمام إلى اللجنة العربية في هذه المرحلة من أجل اخراج المارونية السياسية من المأزق في هذه اللعبة الحربية التدميرية و ذلك بمحاولة وقف إطلاق النار بالطريقة التي تحفظ فيها المارونية السياسية ماء وجهها لا أكثر و لا أقل، أما مسألة أن تنتقل المسألة غداً إلى مجلس الأمن أو أنّها تتحرّك من أجل الحل السياسي فهذه الأمور كلها مؤجلة، و حتى مجلس الأمن لو أصدر عشرات القرارات، ما قيمة قرارات مجلس الأمن؟المهم من ينفّذ، و القصة لا تزال قصة اللعب بالنّار، و قصة المغامرين الذين أحرقوا الشعب اللبناني من مسيحيين و مسلمين بمغامراتهم و أساليبهم و طموحاتهم التي لا تملك أيّة واقعية.
إنّ علينا أن نبقى مع قضايانا و أن لا نتعب الآن لأنّ هناك عملا يراد من خلاله احراق كل القضايا و كل المراحل التي بلغها المسلمون في لبنان من أجل الوصول إلى توازن سياسي و إداري في هذا البلد، إنّ علينا أن نحدق باللعبة و أن لا نندفع مع مشاعرنا السلبية.
ضرورة رصد خفايا حركة اللعبة السياسية:
لا بدّ لنا في هذه المرحلة من وقفة واحدة ترصد خفايا حركة اللعبة السياسيّة الدولية و الإقليمية، و لا بدّ لنا أن نرصد العامل الإسرائيلي الذي يتحرّك بكل قوة في المسألة، و علينا أن نعرف أنّ هناك كلاما يقول بأنّ قائد ما يسمى بجيش لبنان الجنوبي( )لا يزال يزور المنطقة الشرقية ليجتمع برئيس الحكومة العسكرية( )، لينسّق معه الأدوار في مواجهة كل هذا الواقع السياسي الذي يرفض هيمنة المارونية السياسية و يرفض هيمنة الصهيونية بكل مواقفها و بكل حالاتها، إنّ هناك تنسيقا دقيقا بين الجيش الذي اثبت أنه حيث الطائفة لا حيث لبنان، و لهذا تحرّك ليقصف النّاس في المواقع الإسلامية في كل مكان، أن الجيش الذي قصف الضاحية سابقاً و قصف الغربية مؤخراً و ما زال يقصف الأماكن المدنية ليس جديراً بأن يكون جيش لبنان و إننا نقول دائماً بأن مسألة الحوار إنما تنطلق عندما تكفّ الحالة الإسرائيلية عن أن تفرض نفسها على واقع المارونية السياسية، و إذا كانت الحالة الإسرائيلية تتغطى ببعض الاقنعة العربية التي دخلت في اللعبة الإسرائيلية الآن فإنّه لا بدّ أن نكتشفها.
الحوار الإنساني:
نحن نريد أن نحاور كل النّاس، و نحن نعتقد أن المسلمين محكومون بأن
يحاوروا المسيحيين ليبقى العيش المشترك في هذا البلد، و أن المسيحيين محكومون بأن يحاوروا المسلمين، و لكن نقول إنّ الذين يطلقون الحوار ليسوا جادين،
لماذا؟لأن لعبة التزامن بين الاصلاحات و الانتخابات و لعبة تقدّم الانتخابات
على الاصلاحات هذه مسألة لا تطرح في الساحة التي يراد لها أن تدخل
أجواء الحوار لأننا إذا قبلنا جميعاً بالاصلاح فما الفرق بين أن يتقدّم على الانتخابات
أو يتأخر؟لقد تحدّثنا عن الاصلاحات و كان الحوار في سنة 1943
عندما لم يكن هناك شيء اسمه دولة لبنانية على مستوى مستقل، و كانت الجيوش الأجنبية موجودة في ذاك الوقت. إننا نعتقد أنها لعبة مستمرة من أجل المحافظة على إمتيازات المارونية السياسية تحت مظلة إسرائيلية و مظلة أميركية و أوروبية و لكن بطريقة مختلفة، إنّ هناك عملا على أساس التنسيق بين المارونية السياسية هنا و المارونية السياسية في الشريط الحدودي( )، إنّ هناك تنسيقاً يتحرّك من خلال المخطط الإسرائيلي و نحن نرفض هذا التنسيق، و نرفض هذا الخط و نحن مع كل الذين يرفضون كل اللعبة السياسية التي تقول لأصحابها أن اللعب بالنّار لا يحرق الذين توجه النّار إليهم دائماً، إنّ اللعب بالنّار سوف يحرق أصابع اللاعبين الذين يثيرون الحرب ثم يهربون منها.
الخطبة الرابعة
1989/4/7
الصوم السياسي
إنَّنا نصومُ عن تأييدنا للحاكمِ الجائِر
لأنّ اللّه أرادنا أن نصومَ عن ذلك
الصوم سيطرة على عاداتنا:
قال اللّه سبحانه و تعالى في كتابه المجيد:
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
و قال سبحانه: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
في هذا اليوم الذي نبتدىء فيه الشهر المبارك، كما نبدأ فيه القيام بفريضة من الفرائض التي أوجبها اللّه على عباده، ممن يطيق الصوم و لا يمنعه من ذلك مرض أو خوف أو سفر، إذا كان الإنسان حاضرا و صحيح الجسم، فيجب عليه أن يصوم هذا الشهر، و أن يمتنع فيه عن ملذّات الطعام أو الشراب، أو عن ملذات الجنس، ليؤكد الإنسان من خلال ذلك الانفتاح في إرادته على اللّه، و يؤكد صلابة موقفه أمام الأمور التي تفرضها عليه شهواته، أو حاجته أو طريقته اليومية، فيما يعيشه الإنسان من عاداته اليومية، فالإنسان عندما تهفو نفسه إلى الطعام، و الطعام حلال في ذاته، أو تهفو نفسه إلى العلاقات الجنسية في داخل العلاقات الزوجية و هي حلال في ذاتها، و لكنه يمنع نفسه لأن اللّه أراد منه أن يترك ذلك كلّه في هذه المدة كلّها، التي تبدأ بالفجر و تنتهي بالغروب، إنّ هذا الحرمان الذي يعانيه الإنسان من خلال الصوم و يصرّ عليه، فيجعلك تترك عاداتك التي اعتدتها في صباحك و نهارك، و يدفعك بصلابة إلى الضغط عن عاداتك هي من أجل رضا اللّه تعالى و الإمتثال لأوامره.
الإمتثال لإمر اللّه:
كنت تجوع فتأكل، و تعطش فتشرب، و لكن في شهر رمضان و امتثالا لأمر اللّه تعالى أصبحت تجوع فلا تأكل و تعطش فلا تشرب، و تشتهي لذاتك فلا تمارسها، كل الملذات تسقط أمام التزاماتك. إنه وضع جديد بالنسبة إلى حياتك يخلط كل أوضاعك، و يجعلها في وضع آخر. معنى ذلك أنّ اللّه يريد أن يقول لك، جرّب نفسك أن تضغط على عاداتك، و جرّب نفسك أن تضغط على حاجاتك الجسدية، فإذا نجحت في ذلك أمكنك أن تصوم فتغيّر مواعيدك في كل حاجاتك، و في كل لذاتك، و إذا نجحت في ذلك فإن اللّه يجعل ذلك حجة، ليقول لك إنك كنت تعتذر للآخرين الذين يطلبون منك أن تترك عاداتك السيئة بأني معتاد على ذلك و لا يمكنني أن اترك عاداتي، إذا كنت معتادا على التدخين أو كنت معتادا على المخدرات أو كنت معتادا على غير ذلك من عاداتك المحرّمة، أو المكروهة المضرّة لجسدك أو حياتك، فإنك تعتذر إني لا استطيع، هذه عاداتي و يصعب عليّ أن اترك عاداتي، إن اللّه يقول لك: لقد تركت عاداتك في شهر رمضان في أوقات أكلك و في أوقات شربك، و في أوقات لذتك، و هكذا في أوقات مزاجك و معنى ذلك أنّ الذي يستطيع أن يغيّر عاداته في شهر، قادر أن يغيّر عاداته في سنة، و الذي يستطيع أن يغيّر عادات في سنة، يستطيع أن يغيّرها في العمر كله، لما ذا؟لأنك عندما غيّرت عاداتك في شهر رمضان حكّمت ارادتك من خلال أنك جعلتها تتحرّك في رضى اللّه سبحانه، أصبحت تقول لنفسك: لا، و أصبحت تقول لعاداتك: لا، و إذا كان الأمر كذلك، فإنك عندما تنجح في تحكيم ارادتك في هذه التجربة الصغيرة، فإن اللّه يقول لك لا بدّ لك أن تنجح، و يجب عليك أن تنجح في تجربتك الكبيرة، إن مسألتك عندما يطلب منك الناس أن تترك عاداتك المحرّمة التي حرّمها اللّه عليك تقول: لا أقدر، و لكن الصحيح أنك تقدر، و فرق بين أن تقول لا أستطيع و بين أن تقول لا تريد، لأنني إذا أردت فسوف أتحمّل ألما في ترك عاداتي.
مجابهة العادات:
و هكذا نستطيع أن نفهم بأن الصوم يمثّل بالنسبة إلينا تجربةً ناجحة في السيطرة على كل عاداتنا، فإذا كان الصوم يمثّل السيطرة على كلّ عاداتنا الفردية، فإنّ من الممكن أن نسيطر من خلال الصوم و من خلال التجربة على عاداتنا الاجتماعية، فهناك عادات اجتماعية لدى الناس اعتادوها من خلال تقاليدهم أو من خلال الأوضاع الجديدة المفروضة عليهم، فيما يأخذ به النّاس من عادات الجاهلية، كما في العادات العشائرية أو في العادات المدنية الحديثة العصرية، فيما يأخذ به الناس من عادات عصرية، أن هذه العادات المدنية الحديثة العصرية، فيما يأخذ به الناس من عادات عصرية، أن هذه العادات إذا كانت لا ترضي اللّه سبحانه و تعالى، و إذا كان اللّه يريد منك أن تتركها، فلا بدّ لك من أن تعمل كصائم لا يريد من صومه مجرد تقليد جامد لا يوحي له بشيء، إن مسؤوليتك أنت، أن تنطلق من أجل أن تضغط على عاداتك الاجتماعية المحرّمة، لنا عادات كثيرة في حفلات الزواج، و لنا عادات كثيرة في الأوضاع العصبية العائلية و العشائرية، و لنا عادات كثيرة يكرهها اللّه سبحانه و تعالى، فإن علينا أن نعمل بكل ما عندنا من طاقة لنجعل القدرة على إحتواء العادة، في داخل شهر رمضان أساساً لأن نحتوي العادات الأخرى خارج شهر رمضان، فلا بدّ لنا من أن نفكّر بهذه الطريقة، و إذا كنا نسيطر على حاجاتنا في شهر رمضان فنترك طعامنا و نحن جائعون، و الطعام بين أيدينا، و نترك شرابنا و نحن ظامئون، و الماء بين أيدينا، و نترك لذاتنا و نحن نعيش الحاجة إلى اللذة و هي بين أيدينا، إذا نجحنا في ذلك فعلينا أن نترك ما أرادنا اللّه له أن نصوم عنه في العمر كله، إذا كنت تترك الطعام المحلل في شهر رمضان، لأن اللّه يريد لك أن تتركه، فعليك أن تترك الطعام المحرّم في غير شهر رمضان و في ليل شهر رمضان لأن اللّه حرّم عليك ذلك.
الصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير:
إن هناك صوماً صغيراً نمارسه، و هناك صوماً كبيراً لا نمارسه بدقة الصوم
الصغير هو صوم شهر رمضان، و الصوم الكبير هو صوم الدهر كله عن المحرّمات كلها، فاللّه أراد لنا أن نصوم عن أكل الميتة و لحم الخنزير و الخمر و كل ما حرّمه اللّه علينا مما نأكله أو نشربه، كما أن اللّه أرادنا أن نصوم عن الأفعال التي حرّمها علينا، أرادنا أن نصوم عن الزنا، و السرقة، و اللواط، و قتل النفس المحترمة، و الظلم، و البغي على النّاس بغير حق، و أكل المال الحرام، و الإعتداء على العرض الحرام، و الخيانة و التجسس و ما إلى ذلك من أمور. إنّ قيمة الصوم الصغير هو أن يكون مقدمة للصوم الكبير.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
كتب عليكم الصيام لتحصلوا من خلال الصيام على التقوى، و التقوى هي حالة تعيش في داخل نفسك، و في داخل حياتك، أن تتّقي اللّه و تخافه بعقلك و بقلبك و مشاعرك، و أن تحوّل هذا الخوف خطاً عملياً يجعلك تقف عند حدود اللّه، فلا يجدك اللّه حيث نهاك، و لا يفقدك اللّه حيث أمرك، تصوم لتكون التقي، فإذا صمت و لم تكن التقي فلا قيمة لصيامك، لهذا لا بدّ أن تصوموا صوماً واعيا ينفتح على كل الإسلام الذي أراد اللّه سبحانه و تعالى لكم أن تعملوا من أجل أن تطبّقوا أحكامه في حياتكم الفردية و حياتكم الاجتماعية، و أن تعملوا على أن يكون الإسلام كل فكركم، و عواطفكم و حركتكم في الحياة، هذا هو معنى الصوم في عمقه الذي يريدنا اللّه سبحانه و تعالى أن نعيشه في كل حياتنا.
الصوم: عبادي و سياسي و اجتماعي:
إن هناك صوماً عبادياً، و صوماً سياسياً، و صوماً اجتماعياً، و إن لكل شيء في حياتنا خطين: خطا يلزمنا ببعض الأشياء، و خطا يحرم علينا بعض الأشياء، فالصوم العبادي الفردي كما شرحناه. معناه أن تلتزموا واجباتكم فيما أراد اللّه لكم من واجبات، و أن تتركوا المحرّمات فيما شرّعه اللّه من المحرّمات على مستوى كل الأوضاع التي تعيش في داخل حياتكم الفردية.
الصوم عن السير مع الناس إذا كانوا ضدّ الحق:
أما على المستوى الاجتماعي، فهو أن تصوموا عن كلّ الاوضاع الاجتماعية، التي ورثها المجتمع من التاريخ ممّا لا يرضاه اللّه، أو التي أخذها المجتمع من الواقع المعاصر ممّا لا يرضاه اللّه أيضاً. عليك أن تفهم حقيقة في حياتك، و هي أن معنى أن تكون جزء من المجتمع لا يعني أن تندمج فيه، و تستغرق فيه، و تسير كما يسير، و تقف حيث يقف، إن كونك جزء من المجتمع يعني أن تتحمّل مسؤوليتك الاجتماعية في أن تغيّر المجتمع على الصورة التي يحبها اللّه سبحانه و تعالى، فلو كان مجتمعك يعصي اللّه في بعض عاداته أو بعض أوضاعه، أو بعض حركته... لو كان مجتمعك يرفض حكما شرعيا، لأن الأجواء العصرية التي خلفها الكفر و الاستكبار ترفض ذلك... لو كان مجتمعك لا يريد للمرأة أن تتحجب، و لا يريد للشاب أن يتعفف... لو كان مجتمعك لا يريد للإنسان أن يسير في خط اللّه، و لا أن ينفتح على خط الحق، و خط الدعوة إلى اللّه، في هذا المجال إذا أنكر عليك مجتمعك حكما أراد اللّه لك أن تلتزمه، و منهجا أراد اللّه لك أن تسير عليه، عليك أن ترفض المجتمع، أن لا تقول أنا جزء من العائلة، و عليّ أن أسير كما تسير العائلة، أنا جزء من القرية و عليّ أن أمشي كما يمشي بقية أهل القرية، أنا جزء من هذا الوطن و عليّ أن أسير كما يسير أهل هذا الوطن، أنا جزء من أهل هذه الطائفة و عليّ أن أسير كما يسير الناس.
الفرد الأمّة:
اسمعوا كلام رسول اللّه ؟ص؟ لكم: «لا تكن إمّعة تقول أنا مع الناس و أنا كواحد من الناس إنّما هما نجدان (طريقان)نجد خير و نجد شر فلا يكن نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير» . هذا هو المطلوب، أن تنفصل عن المجتمع إذا ذهب المجتمع إلى الشيطان،
عش وحدك و لو لم يكن معك أحد، «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة و لا تفرّقهم عنّي وحشة» ، إن اللّه قال عن إبراهيم و هو واحد، كان إبراهيم عندما أرسله اللّه وحده و كان أبوه ضدّه و كان أعمامه ضدّه، و كان أهل بلده ضدّه، كان الكل ضدّه، كان أبوه يقول له: «اهجرني مليا» ، اذهب عني، اخرج من بيتي، لا تعاشرني، و لكن إبراهيم وقف وحده و قال اللّه عن إبراهيم:
إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِله [النحل: 120] ، أن إبراهيم كان أمة، و هو فرد حمل كل قضايا الأمة في شخصيته، و جعل موقفه يعبر عن الموقف الصلب الذي يريد للأمة أن تنطلق فيه، كان إبراهيم أمّة لأنه كان يعيش في شخصيته حجم قضايا الأمة.
و لهذا عندما يكون الناس في طريق، و الإسلام في طريق آخر، قفّ في طريق اللّه، «لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله» ، إن عليك إذا قال لك الناس لا تحمل
هذه «الخشبة بالعرض» و كان من واجبك أن تحمل الخشبة بالعرض، لتمنع النّاس
من أن يتجاوزوا حدود اللّه، إحملها حتّى لو أدّت خشبتك إلى أن تصلب عليها في
نهاية المطاف، أن تكون وحدك باعتبار أنّك تعمل على أساس أن تقف مع
الحق، و لهذا كان الأنبياء وحدهم، و عندما كان النبي ؟ص؟ مع صاحبه في الغار و خاف صاحبه قال له: لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا [التوبة: 40]. أنت لست وحدك، إذا كان اللّه معك، و إذا كنت تشعر بذلك أيضاً. فالفكرة التي تقول إنّ على الإنسان أن يعيش مع النّاس، و أن لا يفعل شيئاً لا يرضاه النّاس، أو يقول بعض النّاس أن الحق مع الناس، فعلينا إذا انطلق النّاس في طريق، أن ننطلق معهم،... هذا قول خاطىء و منحرف و مضلل... إننا نقول: إذا سار النّاس في طريق اللّه، فإننا نسير مع الناس لأنهم في
طريق اللّه، و إذا سار النّاس في غير طريق اللّه فإننا نقف مع اللّه سبحانه و تعالى، حتّى
لو وقفنا وحدنا، لهذا لا بدّ أن نصوم عن كل الأوضاع الاجتماعية التي ينطلق فيها النّاس تحت ضغط الجوّ الاجتماعي، الذي يحمي عاداته حتّى العادات الخبيثة
منها، و الذي يحمي تقاليده حتّى التقاليد الفاسدة. لتكن لنا كمؤمنين و
كمسلمين قوة، أن نثّبت أقدامنا في حالات الزلازل، حتّى لو كان كلّ
الناس ضدّنا في هذا المجال، لأن قضية أن تكون مع اللّه هي قضية تتصل بمصيرك، دربّوا أنفسكم على ذلك، حاولوا أن توحوا لأنفسكم بأنّ النّاس مهما رضوا عنكم فإنهم لا يستطيعون أن يكونوا البديل عن رضا اللّه عنكم، و النّاس لا يرضون عنكم، إلاّ إذا سرتم معهم في كل أمورهم، و معنى أن تسيروا معهم أن تنحرفوا حيث ينحرفون، و أن تضلوا حيث يضلون، وَ لَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصٰارىٰ حَتّٰى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ هُوَ اَلْهُدىٰ [البقرة: 120]. هدى اللّه هو الذي يجب أن نعمل عليه.
هناك بعض الناس يقولون في هذا المجال أن الوقت يريد ذلك و أن الزمن يريد ذلك، و أن العصر يريد ذلك، و لكن لا الزمان يريد ذلك، و لا الوقت و لا العصر، و لكن النّاس الذين عاشوا في العصر و أخذوا مواقع قوة و فرضوا قوتهم على أناس آخرين، فرضوا أفكارهم و عاداتهم و تقاليدهم، فأصبحت تقاليدهم تقاليد الزمان، لأنهم كانوا المستكبرين الذين يملكون القوة.
الصوم عن تأييد الحاكم الجائر:
و هكذا نحتاج إلى أن نصوم صوماً سياسيا، و قد يستغرب النّاس أن تكون
هناك علاقة بين الصوم و بين السياسة، فكيف نصف الصوم بالصوم السياسي؟
و لكن السياسة ما هي؟السياسة حكم الناس و إدارة شؤونهم و أمنهم، السياسة
تمثّل كل حركتك في الحياة، حركة الحاكم مع المحكوم و المحكوم مع الحاكم،
حركة المستضعفين مع المستكبرين و المستكبرين مع المستضعفين،
حركة المستضعفين في علاقاتهم مع بعضهم البعض، حركة حربهم و سلمهم،
و حركة أوضاعهم القانونية و غير القانونية، كيف لا يكون هناك صوم سياسي
عندما يقول لك اللّه سبحانه و تعالى، أرفض الحاكم الجائر، يعني صم أيّها
الإنسان عن تأييد الحاكم الجائر. إذا دعتك نفسك إلى تأييده، لأنه يعطيك مالاً
و لأنه يعطيك وظيفة، و لأنه يعطيك موقعاً سياسياً أو إدارياً، إذا دعتك نفسك إلى
ذلك، فقل يا نفس لقد دعيتني إلى الطعام و الشراب و صمت عن الطعام
و الشراب لأن اللّه أرادني أن أصوم عن ذلك، و أن أصوم أيضاً عن تأييدي للحاكم الجائر لأن اللّه أرادني أن أصوم عن ذلك.
الصوم عن الخيانة و التجسس لحساب العدو:
و الأمر نفسه يرد عندما يدعوك إنسان للعمل في المخابرات سواء كانت مخابرات مركزية أميركية، أو أوروبية أو عربية أو لبنانية، رسمية أو حزبية، من هذه المخابرات التي تريد للنّاس أن يتعاونوا معها من أجل أن تحطم مواقع عزّتهم و كرامتهم و مواقع قوّتهم الاقتصادية و السياسية و الأمنية، إذا أراد النّاس منك أن تكون جاسوسا و قيل لك هذا المال بين يديك، هذه الشهوات بين يديك، هذه المواقع بين يديك، أعطنا خبرا عن فلان و خبرا عن فلانة، أعطنا معلومات عن الجهة الفلانية و المسلمة و المستضعفة، و لك ما تريده، قل إني صائم، صائم عن التجسس لأن اللّه تعالى قال: وَ لاٰ تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] و من الخيانة الكبيرة أن أتجسس على المؤمنين و على المستضعفين. فكما قال اللّه سبحانه و تعالى أنّ عليكم أن لا تأكلوا و لا تشربوا في شهر رمضان قال لنا أيضاً: و لا تجسسوا، و هكذا إذا أراد منك إنسان أن تخون دينك أو أهلك أو تخون اللّه و الرسول، أو تخون أمانتك، و حاولوا أن يغرّوك بكثير من إغراءات المال و الجاه و الشهوات، قل يا قومي إني صائم لأنّ اللّه سبحانه و تعالى قال: لاٰ تَخُونُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27]. و قال اللّه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ مَنْ كٰانَ خَوّٰاناً أَثِيماً [النساء: 107].
الصوم عن الركون إلى الظالمين:
و هكذا إذا أريد منك أن تؤيّد بصوتك أو موقفك، أو كلامك، أو سلاحك
أو أيّ شيء آخر، إذا أريد منك أن تؤيّد إنساناً كافراً يدعو إلى الكفر، و ضّالا يتحرّك
في خطّ الضلال، و منحرفاً عن الإسلام يتحرّك في خط الانحراف، ممن يعملون
بعنوان أنهم مسلمون، و لكنهم يعملون على أن يمكّنوا غير المسلمين
من السيطرة على المسلمين، إذا أريد منك أن تؤيّد مثل هؤلاء، فقل إني صائم لأن اللّه يقول: وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ [هود: 113] هكذا نفهم الصوم السياسي، أي أن تصوم في عملك السياسي عن كل عمل من الأعمال التي أراد اللّه منك أن تتحمّل مسؤوليتها، فيما هي العزة للمؤمنين، و فيما هي الحرية للمسلمين و المستضعفين، و فيما هو الأمان للنّاس كلّهم، إنّ عليك أن تصوم عن ذلك، عما يبعدك عن الخط الذي أراد اللّه لك أن تبتعد عنه.
و بذلك فإن الذين يصومون عن الطعام و الشراب في شهر رمضان، و لكنهم يمكّنون الكافرين من المسلمين و يمكّنون المستكبرين من المستضعفين، و يخدمونهم بكل ما عندهم من طاقة، ليكونوا أشخاصاً في مواقع المسؤولية التي يمنحهم إيّاها المستكبرون و الكافرون، إنّ هؤلاء لا قيمة لصيامهم.
على هذا الأساس قالها أحد الأئمة عليهم السّلام: «إذا أردتم أن تعرفوا الرجل فلا تنظروا إلى طول ركوعه و سجوده فلعلّها عادة اعتادها و يشق على المرء ترك عاداته و لكن اختبروه بصدق الحديث و أداء الأمانة» .
إذا حدث صدق، و إذا أؤتمن وفى بأمانته، سواء كانت الأمانة أمانة خاصة على مستوى الأفراد، أو كانت أمانة عامة على مستوى الأمة كلّها.
الصوم هو طريق إلى التقوى:
إنّكم إذا أردتم أن يتقبل اللّه صيامكم، و أن يتقبّل اللّه قيامكم، فليكن صيامكم حركة في اتجاه التقوى، و ليكن قيامكم حركة في اتجاه التقوى، لأنّه كما ورد في الحديث الشريف: «ربّ صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و العطش، و ربّ قائم ليس له من قيامه إلاّ التعب و السهر» .
قيمة الصوم هي بمقدار ما يقودك إلى التقوى، و قيمة الصلاة هي بمقدار
ما تقودك إلى أن تنهى نفسك عن الفحشاء و المنكر. في هذا الخط يجب أن
نفهم الصوم على أساس أنّه طريق إلى التقوى في كل ما أرادنا اللّه أن نفعله أو نتركه.
اللجوء إلى القرآن لمعرفة الحق:
ثم حدثنا اللّه عن شهر رمضان و قال: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ [البقرة: 185]. شهر رمضان لم يقدّمه اللّه لنا إلاّ من خلال أنّ القرآن، أنزل فيه: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر: 1] ، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ [الدخان: 3].
قدّمه اللّه لنا على هذا الأساس، ماذا يريد اللّه منّا من خلال ذلك؟ إنّه يقول لنا
أنّ شهر رمضان هو شهر القرآن باعتبار أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، و على
هذا الأساس إذا جاء شهر رمضان فلينطلق المسلمون ليحتفلوا في ذكرى نزول
القرآن، ألستم تحتفلون بالمناسبات بميلاد النبي، و الإسراء و المعراج أو المبعث،
إنّ اللّه يريدنا أن نحتفل في شهر رمضان بنزول القرآن، و لكن كيف نحتفل بنزوله؟هل نجلّد القرآن و نذهّبه؟هل نأتي بالقرآن المكتوب على صفحة واحدة لنضعه في
صدر البيت؟هل نقرأ القرآن، و نتسابق في ختمه؟هل من الصحيح أن نحتفل بالقرآن كجلد و حروف و منظر، أو أنّك تحتفل بالقرآن لتجعل القرآن هدى لك و لعقلك، عندما ينطلق الناس في متاهات الضياع، فالقرآن هو دليلك، و هو النور الذي تهتدي
به قَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولُنٰا يُبَيِّنُ لَكُمْ [المائدة: 15]. أن نحتفل بالقرآن على أساس أنه النور، و على أساس أنه الكتاب الذي أنزله اللّه على نبيّه ليخرج النّاس من الظلمات إلى
النور. عندما تعيش في شهر رمضان، و الظلمات تحيط بك من كل جانب،
و ينطلق أهل الظلام ليحشدوها في ساحتك، و يتحرّك الكثيرون ليضيّعوك و يجعلوك تتيه و تنحرف و تنطلق في متاهات الضّياع، إلجأ إلى القرآن، إقرأه لتجد فيه الهدى فيما اختلف فيه النّاس، إذا اختلف النّاس في شيء، فقال كل منهم ما يحبّ أن
يقول و تحيّرت، فارجع إلى القرآن، و التزم ما يقوله، و إذا اختلفت الأحاديث، عند ذلك ارجع إلى القرآن، لا تقبلوا حديثا إلا ما وافق كتاب اللّه، «فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فاضربوا به عرض الحائط» .
معنى ذلك أن تجعل القرآن هدى تهتدي به، معنى أن تحتفل بالقرآن أن تعيش في شهر رمضان لتفتح كل فكرك، ماذا عندك من أفكار؟و ماذا تحمل من مفاهيم؟ربّما كنت تحمل مفاهيم ضالة و ربما كنت تحمل أفكارا كافرة؟حاول أن تعرض فكرك على القرآن ليصحح لك القرآن فكرك. و هكذا إذا كنت في شهر رمضان قد تكتشف أنّ بعض عواطفك فيما تحب و فيما تبغض لا تلتقي بالقرآن فأنت تحب أعداء اللّه و تبغض أولياء اللّه، إذا اكتشفت ذلك حاول بسرعة أن تغيّر عواطفك، و أن تجعله في الصراط المستقيم، لتحب من يحبه اللّه و رسوله، و لتبغض من يبغضه اللّه و رسوله.
و هكذا في علاقاتك و صداقاتك و أوضاعك و في تأييدك و رفضك و في خطواتك و انتماءاتك الاجتماعية و السياسية و في كل أعمالك و مأكلك و مشربك، ارجع إلى القرآن لتعرف حلال القرآن و حرامه، في الكلمة و الفعل و العلاقات، لتحلّ ما أحلّ القرآن، و لتحرّم ما حرّم القرآن، و هذا مما أراد رسول اللّه ؟ص؟ و هو نبيّنا و إمامنا و قائدنا و هدانا، وقف أمام المسلمين في آخر أيام حياته و قال: أيّها الناس: «إنّكم لا تمسكون عليّ بشيء إني ما أحللت إلاّ ما أحلّ القرآن و ما حرّمت إلاّ ما حرّم القرآن» . فإذا كان نبيكم يقف ليعلن أنّه التزم بالقرآن كلّه بصفة المسلم الأول الذي يفرض عليه اللّه سبحانه و تعالى أن يلتزم بالكتاب كله عملا، كما يدين بالكتاب كله عقيدة، إذا كان رسول اللّه كذلك فعلينا نحن أن نقتدي برسول اللّه في ذلك لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب: 12] علينا أن نقول لكل النّاس أننا لا نحلّ إلاّ ما أحلّه القرآن، لو كانت القوانين كلها في الدنيا تحرّم ما أحلّه اللّه، فنحن نظل نلتزم حلّيته، و إذا كانت تحلّ ما حرّم اللّه فنحن نلتزم حرمته، نحن لا نلتزم إلاّ بالقرآن فكرا و منهجا، و علينا أن نأخذ القرآن على هذا الأساس.
قراءة القرآن فهما و تدبّرا:
اقرأوا القرآن قراءة تدبّر، اقرأ صفحة واحدة، و حاول أن تفهم هذه الصفحة، لو لم تستطع أن تفهم صفحة اقرأ سطرا واحداً و افهمه، فإن ذلك هو الذي يريده اللّه منك، أن تقرأ ما تيسّر من القرآن قراءة وعي و فهم و تدبر، و لهذا خاطب اللّه الذين كانوا يقفون ضد القرآن:
أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا [محمد: 24] لا تغلقوا قلوبكم عن القرآن حاولوا أن تتفهّموا جيدا، حاولوا أن تجعلوا من أوقاتكم وقتا لفهم القرآن، اطلبوا منهم أن يفسّروا لكم، و أن يجعلوكم تعيشوا أجواءه، و تأخذوا الدروس و العبر من آياته، اجتمعوا في مساجدكم و لا تنفصلوا عنها، كانت المساجد هي مدارس الإسلام في عهد النبوة و بعده...
لتكن مساجدنا مدارسنا و نوادينا و محل تعارفنا و لقاءاتنا، لا تسيّسوا المساجد، فيكون هذا المسجد لهذه الجماعة، و يكون ذاك المسجد لتلك الجماعة، هذه الجماعة تمنع تلك الجماعة عن المسجد، المسجد بيت اللّه، و لكل عباد اللّه أن يدخلوا إلى مسجد اللّه، و إلى بيت اللّه، و لكن إذا التقينا في المسجد، فعلينا أن نتعارف على كلمة اللّه، و تقوى اللّه، و أن نجتمع على شريعة اللّه فنتذاكر في المسجد أمورنا من خلال شريعة اللّه، و خط اللّه في ذلك، انطلقوا، و لتكن مساجدنا عامرة بدروس القرآن، و حتّى لا يكون القرآن عندنا مجرّد كتاب للبركة، أو للإستخارة أو مجرّد كتاب نضعه في الواجهة، بل يكون القرآن هدى و بيّنات تبيّن لنا الحق من الباطل، و الخطأ من الصواب، لهذا لاحظوا أنّ وصية رسول اللّه ؟ص؟ فيما روي عنه من خطبته التي استقبل فيها شهر رمضان، كانت وصيّته:
«فاسألوا اللّه بنيّات صادقة و قلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه و تلاوة كتابه»
أن تصوم شهر رمضان و أن تملأه بقراءة القرآن قراءة الوعي و التدبر، من خلال
ذلك نستطيع إذا عشنا الصوم وعياً لحركة الإرادة في حياتنا فيما يرضي اللّه، و إذا
عشنا شهر رمضان من خلال تلاوة كتاب اللّه، عند ذلك تستقيم لنا الحياة على
خط الإسلام، و تستقيم لنا الحركة على شريعة اللّه سبحانه و تعالى، في كل ما نتحرّك فيه، و عند ذلك نعرف كيف نتحاور إذا اختلفنا و كيف نتوافق إذا التقينا، أن نكون القرآنيين السائرين على خطّ القرآن في كل ذلك، و أن ننطلق إلى مفاهيم القرآن لنرصدها فإذا أراد لنا القرآن أن نتوحّد، فلتكن وحدتنا من خلاله، و إذا أراد القرآن لنا أن نتوّزع الأدوار فليكن ذلك من خلاله، و إذا أراد القرآن منّا أن نتعايش مع الذين يختلفون معنا في الفكر و الدين، فعلينا أن يكون ذلك من خلاله، لأنّ القرآن هو الذي يخطّط لنا الطريق فيما يريده اللّه لنا من ذلك، و بالقرآن نكتشف كيف نواجه الحياة، و الواقع، و كيف نأخذ العزة و الحرية لأنفسنا، و كيف نثبت في مواقع الزلزال، ندرس الواقع كلّه من خلال ما نستطيع أن نفهمه و نتعرّف عليه من آفاق الواقع على هذا الأساس نستطيع أن نفهم من هم أصدقاؤنا، لنفهم أنّ الإسلام يرفض الاستكبار كلّه، و يرفض المستكبرين كلّهم حتّى لو كانوا مسلمين، و أنّ الإسلام يرفض الكفر كلّه و يرفض الكافرين كلهم، و أن الإسلام يعمل على أساس أن لا يكون هناك ظلم في العالم و أن لا تكون هناك مواقع كبيرة للظالمين.
كيف نحدّد مواقفنا السياسية؟
على هذا الأساس علينا أن نؤكد الخطوط العامة للمسألة السياسية في حياتنا من خلال ما يؤكده اللّه لنا من ذلك، و علينا أن نجعل عواطفنا في خدمة أفكارنا و عقولنا، لأنّ الإنسان قد ينجذب عاطفيا إلى بعض الظلمة الذين يظلمون النّاس بأيديهم و يحاولون أن يتحدّثوا معهم بالكلام المعسول بألسنتهم.
لهذا لا بدّ أن نرصد المسألة كلّها، فنجعل عواطفنا في خدمة أفكارنا، فلا ينفصل فكرك عن عاطفتك، فإذا وقفت أمام متكبّر يريد أن يفرض استكباره على المستضعفين، حاول أن تجعله مرفوضا بعاطفتك كما هو مرفوض بعقلك، أن لا تتجاوب معه في بعض الأشياء السطحية البسيطة التي يحاول أن يجتذب فيها عاطفتك.
إننا نريد أن نحدّد دائماً مواقفنا من خلال المواقف التي تتحرّك في العالم في الخط السياسي الذي ينعكس سلبا أو إيجابا على واقعنا السياسي كمسلمين و مستضعفين، ففي الدائرة الدولية عندما نواجه الدول المستكبرة فإن علينا أن نرصد خطها السياسي العريض، ثم نرصد مواقفها لنعرف كيف تحدد مواقفها السياسية في قضاياها، مثلا عندما نواجه المسألة الاميركية في العالم، فإننا نلاحظ أنّ الخط العريض للسياسة الاميركية هو السيطرة على العالم كلّه، بحيث أنّ أميركا تفكّر في سياستها و إداراتها المتعاقبة على الحكم، سواء كانت من الحزب الجمهوري، أو من الحزب الديمقراطي، تفكّر أن يكون العالم ساحة للمصالح الاميركية، المصلحة الاميركية أولا ثم بعد ذلك مصالح العالم بقدر قربها أو بعدها من المصلحة الاميركية، و نحن نعرف سياسة أميركا في فيتنام، و أميركا اللاتينية و العالم الثالث، و الشرق الأوسط و كل المناطق.
لهذا نحن لا نستطيع العمل - من خلال دراستنا للسياسة الاميركية القائمة - على تأكيد سلطة الإستكبار الاميركي في العالم، أن نتعاطف مع هذه السياسة و هذه الدولة، ربما تفرض علينا مصالحنا أن نتعامل معها، و ننشىء علاقات معها، لكن بضوابط أساسية حيث لا تقترب من حرّيتنا، و أن نتعامل معها بحذر فيما هو التعامل الاقتصادي، و قديما قلنا بأننا لسنا ضد الشعب الاميركي و لكننا ضد الإدارة الاميركية التي تعمل على أساس السيطرة على مقدرّات الشعوب. لهذا نحن نرصد هذه السياسة و من خلال رفضنا لهذه السياسة نحن نرفض أن تكون علاقاتنا علاقات جيدة بالدولة التي تمثل هذه السياسة.
المصلحة الاميركية أولا:
و على هذا الأساس فنحن ضد كل الطروحات السياسية على مستوى
لبنان و المنطقة و العالم كله، ضدّ السياسات التي تقول بأن علينا أن نعمل على أساس أن نثير اهتمامات أميركا بنا لتأتي و تحل لنا المشكلة. لماذا نعارض ذلك؟لأننا نعرف أنّ أميركا لا تحلّ المسألة اللبنانية لحساب اللبنايين، و لا تحلّ المشكلة
العربية لحساب العرب، و لا تحلّ مشكلة العالم الثالث، لحساب المستضعفين فيه، و لكنّها تعمل على حلّ المشكلة من خلال مصلحتها و مصلحة المستكبرين، هي تحل المشكلة الاميركية و لا تحل مشاكلنا نحن، و بذلك فإنها تحل مشكلة من هنا و تثير أمامنا مشاكل كثيرة من هناك.
و على هذا الأساس فنحن ضدّ أن تقدّم التنازلات لأميركا من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، و كل العرب فيما هي المسألة الفلسطينية، لأننا عرفنا منذ البداية أن أميركا هي الراعية لإسرائيل بكلّ قضاياها، بحيث أنّه لو دار الأمر بين مشكلة تعيشها إحدى الولايات المتحدة، و بين مشكلة تعيشها إسرائيل فإن اميركا تقدّم مصلحة إسرائيل في بعض الحالات على مصلحة بعض ولاياتها المتحدة، لأنها تلتزم بأمن إسرائيل التزاماً مطلقاً بحيث أنها تراقب دائماً توازن الأسلحة في المنطقة، من خلال علاقة هذا السلاح بالأمن الإسرائيلي، عند ما تبيع سلاحاً لكل دول الخليج و الدول العربية من مصر و غير مصر، فإن شرطها الأساسي هو أن لا يستخدم السلاح في مواجهة إسرائيل، الشرط الأساس يكمن في أنّه إذا خيف من تبدل الأوضاع فإن عناصر أساسية من هذه الأسلحة تؤخذ منها حتّى لا يشكل السلاح خطرا و لو بالمستقبل.
أن تكون إسرائيل خطراً على المنطقة ذلك ليس بمشكلة، و لكن أن يكون بلد في المنطقة يشكل خطرا و لو بنسبة عشرة بالمئة ضد إسرائيل فهذه مشكلة، تهتم أميركا بها بحجم العالم. لقد قدّمت منظمة التحرير تنازلات إلى أميركا حتّى تقبل الحديث معها من خلال إعترافها بإسرائيل، و اعترافها بقرار 242( )، و الآن أميركا في اجتماع رئيسها برئيس وزراء العدو الصهيوني تبنّت التفكير اليهودي، فقالت نحن نرفض دولة فلسطينية، و أيضاً ليس هناك أيّ ضغط على إسرائيل في أن تفاوض منظمة التحرير، بل لا بدّ من أن تكون هناك انتخابات في داخل فلسطين خارج منظمة التحرير حتى يقول الفلسطينيون رأيهم.
و طبعاً الانتخابات يجب أن تجري تحت الاشراف الإسرائيلي لتجميد
الانتفاضة، و من هنا فأميركا تتبّنى التفكير الإسرائيلي، بعد أن قدّم لها العرب كلّ التنازلات و قدّمت لها منظمة التحرير كل التنازلات، و هي تعمل على أن تحلّ لإسرائيل مشكلتها، و لا تعمل على أن تحل للفلسطينين مشكلتهم، أو على أن تحلّ للعرب مشكلتهم، أبدا، و لهذا نحن يجب أن نفكر بالمسألة بوعي و تدبّر.
سياسة التعب هي رهان المستكبرين:
لهذا مطلوب منك أيها الإنسان أن تتعب دائماً، ما دام هناك قوى كبرى تريد أن تفرض عليك إرادتها و سيطرتها، لا يوجد هناك راحة، لا تفكّر بامكانية أن تحلّ المشكلة اليوم و نرتاح، لا، فهناك مشكلة ثالثة و رابعة، لهذا علينا أن نمرّن أنفسنا على التعب. الآن أنتم الرياضيون الشباب الذين يلعبون الرياضة، إذا فرضنا أنكم توقفتم عن التدريب، هل تصلحون للعب المباريات؟فالتعب في التدريب ضروري لإحراز النصر الرياضي، و لما كانت رياضتنا، رياضة ضد الاستكبار العالمي، يجب أن نتعب أنفسنا و لا نسقط أمام التعب.
سياسة التعب هي التي يراهن عليها كل المستكبرين، إن الشعوب المستضعفة تتعب، و عندما تتعب تسقط. و هذا ما نلاحظه في أفغانستان التي خرج منها السوفيات تحت ضغط المجاهدين، لكن أميركا تعمل الآن و بواسطة بعض الدول العربية التي تسير في الفلك الاميركي، في أن تنقل أفغانستان من أن تكون دولة تابعة للفلك السوفياتي، إلى أن تكون تابعة للفلك الاميركي،و على هذا الأساس دخلت أميركا، و دخلت بعض الدول العربية معها في إيجاد خلافات على مستوى مذهبي بين المجاهدين، و بذلك أصبحت حركة المجاهدين أصعب من السابق بفعل التدخل الاميركي في هذا المجال، و طبعاً عندما يرفض الإسلاميون الاتحاد السوفياتي أن يكون هو الدولة التي تسيطر على إفغانستان، يرفضون أن تكون أميركا هي البديل عن¬ الاتحاد السوفياتي¬و يريدون لإفغانستان أن تكون دولة إسلامية يحكمها المسلمون طبق الشريعة
الإسلامية، بحيث تلتزم سياسة عدم الإنحياز للشرق أو للغرب.
و كذلك في لبنان، نرى أن أميركا تحرّك فرنسا، لأنها مشغولة بالموضوع الفلسطيني، لذلك مهما سمعتم من الاذاعات، فإنّ لبنان لا يزال في دائرة المشاكل التي أثيرت فيه، و ما يثير التساؤل أنّ فرنسا لم تقف بشكل قويّ أو فاعل على مستوى مسؤوليتها، أو مثقفيها الذين يتحدّثون باللغة الإنسانية، لم يقفوا الوقفة الصلبة عندما اجتاحت إسرائيل الجنوب في 78 و لبنان عام 82 و عند ما قصفت الضاحية قصفا مدمرا، و عندما كان النّاس يقصفون في المناطق الإسلامية.
السياسة الفرنسيّة:
قد تكون هناك تصريحات توحي بالأسف أو ببعض الاستنكار، لكن لا تشعر بأن الفرنسيين من مسؤولين و شعب يقفون على أساس المسألة الإنسانية ليستنكروا الأعمال اللاإنسانية التي كانت تمارس من قبل إسرائيل و المارونية السياسية ضدّ المسلمين أكثر من هذا أن فرنسا بكل أجهزتها الفرنسية تعرف أن هناك وضعا يعاني منه المسلمون في لبنان، و يعاني منه أيضاً بعض المسيحيّين المستضعفين في لبنان منذ أن انطلقت الدولة اللبنانية، بحيث أنّ المسألة اللبنانية على مستوى الحكم ليست مسألة إنسانية، بل هناك مواطنون من الدرجة الأولى و مواطنون من الدرجة الثانية و الثالثة و الرابعة، و أنّ هناك عملا دائماً في ابقاء هذه الامتيازات بعنوان تأمين المسيحيّين من الخوف ضد كل الواقع الموجود في العالم كله، حتى واقع البلاد الديمقراطية، و لم تستنكر فرنسا هذا التمييز الذي تحوّل في بعض ممارساته إلى ما يشبه التمييز العنصري، و لكن عندما صارت مشكلة في زحلة انطلقت فرنسا بكل أجهزتها في أيام «ديتان» على أساس الوضع اللاإنساني الذي يعيشه الناس، و أرسلوا طائرة لنقل الجرحى، و هكذا في كل مرحلة عندما يكون هناك أية مشكلة بين المسيحيين، و لا نقول كل المسيحيين، بل بين المارونية السياسية التي تحاول أن تصادر كلَّ مواقع
المسيحيين، و بين المسلمين عند ذلك، تنقلب السماء على الأرض في فرنسا.
الموقف الفرنسي: - حماية الاقليات -
«ميتران» و هو رئيس حزب اشتراكي علماني، و فرنسا دولة علمانية، يتحدث عن حماية المسيحيين و يتحدّث عن حماية الاقليات، و يتحدّثون عن الدمار الذي حصل هناك، و نحن لا نقبل بأن يدمر الناس في أي مكان، لكن لا يتحدّثون عن الدمار الذي يحصل هنا و عن القتلى الذين يسقطون هنا و عن المستشفيات و المراكز التربوية حتى الجامعة الاميركيا التي تقصف هنا، أو في الجبل أو في البقاع، هناك قصف للمدنيين بشكل متعمد و للمستشفيات بشكل متعمد و على ما نقل بأن مستشفى الرسول الأعظم ؟ص؟ أطلقت عليه ستون قذيفة حتّى أنه لم يستطع أن يقوم بواجباته، هل عادت فرنسا للحديث عن حماية الأقليات الذي دخلت فرنسا عبره إلى المنطقة و إلى لبنان؟هل المسألة مسألة حماية الأقليات؟و هل معنى ذلك أن فرنسا تتدّخل الآن في لبنان على أساس أن تكون لطائفة دون طائفة؟إنهم يقولون نحن مع كل اللبنانيين، و لكنهم يقولون أن المسيحيين هم الذين يدمّرون الآن، و لكن ماذا عن المسلمين الذين كانوا و لا يزالون يدمّرون؟حتّى الآن نحن لا نريد أن نتحدّث في لبنان بلغة طائفية و لكننا نريد أن نقول إنّ فرنسا لا تزال تحنّ إلى عهد الدولة الكبرى التي تريد مواقع لها في كل مكان، و هي لم تستطع أن تدخل لبنان من خلال العناوين الحضارية السياسية، فحاولت الآن أن تدخل لبنان من خلال الحالة العنصرية الصليبية، و نحن نعرف ذلك.
في حرب الخليج نشر في إحدى الصحف اللبنانية أخيرا أن المخابرات
الفرنسية كانت تفكر بعد انطلاقة الثورة الإسلامية أن من الممكن أن ينطلق هناك
مدّ إسلامي يشمل باكستان و إفغانستان و إيران و العراق من أجل الايحاء
بالجانب المذهبي المتطرّف أو الإسهاب الشيعي في لبنان، عند ذلك يقول مسؤول المخابرات أنه اقنع النظام العراقي بهذا الخوف من هذا المدّ الإسلامي أو من
هذا المدّ الشيعي بحسب تعبيره، لأنهم يعتبرون أنّ الإسلام عندما يتقدّم على الصورة الإسلامية في إيران فإن معنى ذلك أنه يمثّل خطرا على حضارة أوروبا و على دول المنطقة، و على هذا الأساس وقفت فرنسا بجانب العراق، حتّى يقف ضدّ إيران و حتّى لا ينتصر الإسلام، إن فرنسا تحمل في عمقها التاريخي عنصرية صليبية و عنصرية أوروبية ضدّ الإسلام و المسلمين.
إن الإسلام في فرنسا يمثل الدين الثاني و المسلمون الذين يمثلون في فرنسا أربعة ملايين مسلم فرنسي، يحملون الجنسية الفرنسية، و مع ذلك لا تعطى لهم حرية أن يمارسوا مواقعهم و ثقافاتهم و تقاليدهم الدينية بالطريقة اللازمة.
إننا أمام هذه اللعبة نعرف أنّ المغامرين في لبنان من رجال المارونية السياسية لا يستفيدون من ذلك لأن فرنسا الآن تعمل كأداة من أدوات اللعبة الاميركية التي لا تسمح لفرنسا أن تأخذ حرّيتها في أن يكون لها دور كبير في لبنان مهما اشتدّ الصراخ، و مهما كثرت الكلمات، أنّ أميركا أرادت لفرنسا أن تتحرّك بالانضمام إلى اللجنة العربية في هذه المرحلة من أجل اخراج المارونية السياسية من المأزق في هذه اللعبة الحربية التدميرية و ذلك بمحاولة وقف إطلاق النار بالطريقة التي تحفظ فيها المارونية السياسية ماء وجهها لا أكثر و لا أقل، أما مسألة أن تنتقل المسألة غداً إلى مجلس الأمن أو أنّها تتحرّك من أجل الحل السياسي فهذه الأمور كلها مؤجلة، و حتى مجلس الأمن لو أصدر عشرات القرارات، ما قيمة قرارات مجلس الأمن؟المهم من ينفّذ، و القصة لا تزال قصة اللعب بالنّار، و قصة المغامرين الذين أحرقوا الشعب اللبناني من مسيحيين و مسلمين بمغامراتهم و أساليبهم و طموحاتهم التي لا تملك أيّة واقعية.
إنّ علينا أن نبقى مع قضايانا و أن لا نتعب الآن لأنّ هناك عملا يراد من خلاله احراق كل القضايا و كل المراحل التي بلغها المسلمون في لبنان من أجل الوصول إلى توازن سياسي و إداري في هذا البلد، إنّ علينا أن نحدق باللعبة و أن لا نندفع مع مشاعرنا السلبية.
ضرورة رصد خفايا حركة اللعبة السياسية:
لا بدّ لنا في هذه المرحلة من وقفة واحدة ترصد خفايا حركة اللعبة السياسيّة الدولية و الإقليمية، و لا بدّ لنا أن نرصد العامل الإسرائيلي الذي يتحرّك بكل قوة في المسألة، و علينا أن نعرف أنّ هناك كلاما يقول بأنّ قائد ما يسمى بجيش لبنان الجنوبي( )لا يزال يزور المنطقة الشرقية ليجتمع برئيس الحكومة العسكرية( )، لينسّق معه الأدوار في مواجهة كل هذا الواقع السياسي الذي يرفض هيمنة المارونية السياسية و يرفض هيمنة الصهيونية بكل مواقفها و بكل حالاتها، إنّ هناك تنسيقا دقيقا بين الجيش الذي اثبت أنه حيث الطائفة لا حيث لبنان، و لهذا تحرّك ليقصف النّاس في المواقع الإسلامية في كل مكان، أن الجيش الذي قصف الضاحية سابقاً و قصف الغربية مؤخراً و ما زال يقصف الأماكن المدنية ليس جديراً بأن يكون جيش لبنان و إننا نقول دائماً بأن مسألة الحوار إنما تنطلق عندما تكفّ الحالة الإسرائيلية عن أن تفرض نفسها على واقع المارونية السياسية، و إذا كانت الحالة الإسرائيلية تتغطى ببعض الاقنعة العربية التي دخلت في اللعبة الإسرائيلية الآن فإنّه لا بدّ أن نكتشفها.
الحوار الإنساني:
نحن نريد أن نحاور كل النّاس، و نحن نعتقد أن المسلمين محكومون بأن
يحاوروا المسيحيين ليبقى العيش المشترك في هذا البلد، و أن المسيحيين محكومون بأن يحاوروا المسلمين، و لكن نقول إنّ الذين يطلقون الحوار ليسوا جادين،
لماذا؟لأن لعبة التزامن بين الاصلاحات و الانتخابات و لعبة تقدّم الانتخابات
على الاصلاحات هذه مسألة لا تطرح في الساحة التي يراد لها أن تدخل
أجواء الحوار لأننا إذا قبلنا جميعاً بالاصلاح فما الفرق بين أن يتقدّم على الانتخابات
أو يتأخر؟لقد تحدّثنا عن الاصلاحات و كان الحوار في سنة 1943
عندما لم يكن هناك شيء اسمه دولة لبنانية على مستوى مستقل، و كانت الجيوش الأجنبية موجودة في ذاك الوقت. إننا نعتقد أنها لعبة مستمرة من أجل المحافظة على إمتيازات المارونية السياسية تحت مظلة إسرائيلية و مظلة أميركية و أوروبية و لكن بطريقة مختلفة، إنّ هناك عملا على أساس التنسيق بين المارونية السياسية هنا و المارونية السياسية في الشريط الحدودي( )، إنّ هناك تنسيقاً يتحرّك من خلال المخطط الإسرائيلي و نحن نرفض هذا التنسيق، و نرفض هذا الخط و نحن مع كل الذين يرفضون كل اللعبة السياسية التي تقول لأصحابها أن اللعب بالنّار لا يحرق الذين توجه النّار إليهم دائماً، إنّ اللعب بالنّار سوف يحرق أصابع اللاعبين الذين يثيرون الحرب ثم يهربون منها.