كم من أناس يعشعش الباطل والانحراف في نفوسهم، وتنمو مشاعر البغضاء والحسد
والكراهية فيهم، فيؤذون أنفسهم ويؤذون الآخرين من حولهم، ويزرعون الفتنة بين الناس،
ويدعمون مواقف الباطل، وينصرون الظالمين، ويتآمرون على الغير بالدّسائس، ويتسبّبون
بالمشاكل لأهلهم وجيرانهم.. هؤلاء يعيشون خبث النوايا والنفسيات الخسيسة التي لا
ينتج منها سوى الشر والبليّة، فيعقدون الحياة معهم بما يسبّبونه من آلام لمحيطهم.
في المقابل، هناك فئة من الناس لا تحمل في داخلها إلا مشاعر المحبة والرحمة والخير
للآخرين، تنطلق إلى الحياة حاملة كلّ مكرمة وعطاء ووعي ومسؤوليّة، وكل إخلاص ونوايا
طيّبة وأخلاق فاضلة، تنطق بالحقّ، وتلتزم الحقّ، وتسعى بالتوفيق بين الناس، وإسداء
المعروف والمكرمات للجميع، فهي تنتج كلّ خير يعمّ المجتمع ببركات أفعالها.
هاتان الفئتان تحدَّث عنهما القرآن الكريم، ليحرك فينا الروح والوعي، كي نكون من
فئة أهل الخير وأصحاب النفوس التي تلهج بالحقّ، وتندفع بهمة لتعطي من جهدها وعملها
بما يصلح الحياة ويرفع من شأنها ويغنيها بكلّ قيمة ومعنى وشعور يرضاه تعالى.
قال تعالى في كتابه العزيز: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.[الأعراف: 58] .
وجاء في تفسير الطبري في شرحه لهذه الآية:
"القول في تأويل قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ}.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته
إذا أنـزل الله الغيث، وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. {والذي
خَبُثَ}، فردؤت تربته، وملحت مشاربه، {لا يخرُجُ نباتُهُ إلا نكدً}. يقول: إلا
عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر:
لا تُنْجِــزُ الوعْـدَ، إِنْ وَعَـدْتَ، وإن أَعْطَيْــتَ أَعْطَيْــتَ تَافِهًــا
نَكِـدا
يعني بـ"التافه"، القليل، وبـ"النكد" العسر.
وقوله: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}، يقول: كذلك: نُبيّن
آية بعد آية، وندلي بحجّة بعد حجّة، ونضرب مثلاً بعد مثل، لقوم يشكرون الله على
إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضّلالة، باتباعهم ما أمرَهم
باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن
والكافر، فالبلد الطيّب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن {وَالَّذِي خَبُثَ لا
يَخْرُجُ إِلا نَكِدً} مثلٌ للكافر". [تفسير الطبري].
ويشير العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في شرحه لهذه الآية، إلى أهمية
تفجير طاقات الخير في الحياة، والابتعاد عن العقد النفسية والتأثر بالبيئة الفاسدة
التي لا تنتج إلا العسر والعذاب والألم، داعياً إلى تنظيف دواخلنا من كلّ ما يفسدها
ويعلق بها من مشاعر شريرة، بغية غرس الخير فيها، والانطلاق إلى الحياة بروحية
العطاء التي تملؤها بالطيبة والمحبة والخير الوفير:
"{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} طيّباً لذيذاً
كثيراً، لأنه يتحرّك من موقع الطبيعة الطيّبة الصافية التي تعيش القوّة، فيخرج
نباتها قويّاً قوة الأرض التي أنتجته. {وَالَّذِي خَبُثَ} في أرضه نتيجة ما تحتويه
من عناصر تعيق إنتاجيّتها وتعطّل عملية النموّ والامتداد {لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ
نَكِدً} أي بصعوبة وجهدٍ؛ وذلك كناية عن القلة، لأنّ مثل هذه الطبيعة الخبيثة لا
يمكن أن تنتج شيئاً كثيراً أمام المعوّقات الطبيعية هنا وهناك. {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ
الآيَاتِ} ونحوّلها في ما توحي به من فكرٍ ووعيٍ وشعور... {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}،
فيحوّلون الحياة عندهم إلى طاقةٍ خيّرةٍ منتجةٍ في ما تعطي للحياة وللآخرين. وذلك
هو معنى الشكر العملي في حياة الإنسان.
وربما كانت هذه الآية واردةً مورد المثل للذات الطيّبة التي تنتج الخير من خلال
طبيعتها الخيّرة، فتملأ الحياة خيراً كثيراً؛ وللذات الخبيثة المعقّدة التي تتحرك
من موقع العقدة المرضية، فلا تنتج إلّا النّكد والعذاب الذي لا ينتهي إلى شيء.
دروس للعاملين في حقل التربية الإنسانيّة:
وقد نستوحي من اختلاف النتائج الطيبة في البلد الطيب، والخبيثة في البلد الخبيث، في
الوقت الذي يستويان في نزول المطر عليهما، أنَّ نزول المطر لا يكفي في الإنتاج
الطيِّب وفي الخصب المثمر، بل لا بدّ من أن تكون الأرض صالحةً قابلةً للخير بحسب
خصائصها الذاتية التي تنفتح على الرحمة الإلهية، فإذا كانت الأرض سبخةً مالحةً، فلا
يزيدها المطر إلا ملوحةً من دون أية فائدة، وإذا كان للمطر دورٌ في بعض الإنتاج،
فلن يكون إلا شوكاً وحنظلاً لا غناء فيه ولا لذّة. وهكذا الإنسان الطيّب في عقله
وقلبه وقابليته للخير، يستقبل الكلمة الطيّبة، والموعظة الحسنة، والأسلوب الحكيم،
بالعقل المفتوح الذي ينتج عقلاً جديداً، وبالقلب الطيّب الذي ينتج حبّاً لله
وللإنسان وللحياة، وبالحركة الطيّبة التي تمنح الحياة الكثير من عناصر تقدّمها
ونموّها وحيويّتها، بينما ينطلق الإنسان الخبيث الذي عشّش الباطل في فكره، وتحرك
الشر في قلبه، وزحفت الجريمة إلى حياته، ليزداد بالكلمات الطيّبة شراً وجريمة وبغضاً
وعدواناً.
ومن الطبيعيّ، أنه لا بد للعاملين في حقل التربية من دراسة ذلك كله، من أجل أن
يعرفوا كيف يصلحون الأرض قبل أن يضعوا فيها غراس الخير، وأن يمهّدوا الأرض الخصبة
قبل أن يتحركوا في عملية الإنتاج الفعلي.
إن الخبث في الأرض وفي الإنسان ليس خصوصية ذاتية، بل هو شيء طارئ قد يأتي من هنا
وهناك، من خلال العناصر الخبيثة الخارجية التي تزحف إلى الإنسان بفعل البيئة أو
الثقافة أو التربية السيئة، أو إلى الأرض بفعل العناصر المرَضيَّة، وما تحمله
الرياح إليها، مما تخبث خصائصه فتتعمق في داخله.
ولهذا، لا بد للعاملين في حقل الخير الإنساني، من الاندفاع في طريق تنقية الداخل من
كلِّ وحول الشرّ وقذارات الجريمة". [تفسير من وحي القرآن، ج 10، ص 148-150].
علينا أن نتعلّم كيف نصلح نفوسنا، فننقلها من مشاعر الكراهية والبغضاء والحسد، إلى
حالة تشعر فيها بكل مسوؤلية، وتتربى فيها على كلّ شعور يحمل كلّ خير وفضيلة. من هنا،
فإن العاملين في كل قطاعات الحياة، عليهم التفكير بما يملكون من نفوس، وهل هي تتحرك
في خط الخير الذي ينتج الثمار الطيبة التي تحيي العلاقات بين الناس، أو تتحرك في خط
الشرّ وتنتج الثمار الرديئة التي تلوّث الحياة وتعقّدها؟
إن الفرصة أمامنا، فلنمتثل دعوة القرآن لنا، ولنندفع وراء كلّ خير ومكرمة، ولنطهّر
نفوسنا ونجعلها مكاناً صالحاً للثمار الجيدة التي تولّد مواقف الخير والحقّ، وتنزع
كلّ شرّ وغلّ من الصّدور.