يتوجّه الخطاب القرآني دائماًإلى من يعيشون روح التقليد الأعمى من الكافرين والمشركين، والذين لم ينفتحوا على الحقّ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان: 21].
يوحي القرآن للإنسان، سواء كان فرداً أو جماعة: أيّها الإنسان، إنَّ الله خلق لك عينين تنظر بهما، وأذنين تسمع بهما، ولساناً تنطق به، وعقلاً تفكّر به، وخلق لك إرادةً تستطيع أن تؤكّدها، فاسمع كلَّ ما ينطلق في حياتك من كلام، وانظر إلى كلّ مَنْ حولك وما حولك، ولكن فكّر في كلّ ذلك، ولا تكن صدىً للآخرين، وارفض لحياتك وشخصيّتك أن تكون كمثل الظلّ إلى الضّوء، أو كمثل الصّدى بالنّسبة إلى الصوت...
دعوة إلى التّفكير
لذلك، فالقرآن ينادي في الناس: إنّكم الحقيقة في وجودكم، فكونوا الحقيقة في انتمائكم، لا تكونوا ظِلاًّ أو هامشاً للآخرين. الآخرون فكّروا وقرّروا، فلماذا لا تفكّرون أنتم ويكون قراركم من خلال تفكيركم؟ ولنفرض أنَّ آباءنا وأجدادنا فكّروا لأنفسهم وركّزوا حياتهم في هذا الخطّ الفكريّ أو ذاك، هم عاشوا مرحلتهم، سواء أصابوا أو أخطأوا، ولكن نحن غيرهم، صحيحٌ أنّنا نتاجهم، لكنّنا نحن نتاجهم الماديّ، أمّا المعنويّ، فنحن نتاج أنفسنا، نتاج إرادتنا وعقولنا.
ولذا، فإنَّ دعوة الله لنا أن نفكّر فيما عند آبائنا وأجدادنا والناس من حولنا، لأنَّ لنا فكراً، فلماذا نجمّده؟ وإنّ لنا إرادةً، فلماذا نسحقها؟ وإنَّ لنا آذاناً، فلماذا نسدُّها؟ وإنَّ لنا ألسنةً، فلماذا لا ننطق بها؟
ومن هنا، فإنّ مسألة التقليد بالفكر والاتجاه والتيّار مرفوضةٌ إسلاميّاً، أمّا تقليد المجتهدين في الفقه، فهذا من قبيل الرّجوع إلى أهل الخبرة، تماماً كما نرجع إلى المهندس في شؤون البناء، وإلى الطّبيب في أمور الصحّة، ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النّحل: 43]. فهذا يعني أخذ العلم من ذي علم، وليس معناه تقليداً.
أمّا أن يسوق الإنسان شخصيّته وعقله وأوضاعه مع التيّار، سواء كان تيّاراً اجتماعياً أو سياسيّاً أو أخلاقياً أو ثقافياً، فهذا تعطيل لإرادة الإنسانوعقله، لأنَّ عليه قبل أن يندفع مع التيّار وينجذب معه، أن يدرس اندفاعات هذا التيّار والمدى الذي يمكن أن يصل إليه.
ولذا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ} فكّروا فيما أنزله واقتنعوا به، لأنَّه الحقّ {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ} في حياتنا الآن الآباء والأجداد أكثر ما نتَّبع الله، وعلاقتنا بالمستكبرين والظالمين أكثر من علاقتنا بالله، فالله ينهانا عن فعل أمر فلا نلتزم به، أمّا "الحضارة" الغربيّة والأوضاع الاجتماعيّة والزعماء الفاسدون، عندما يأمروننا بشيء، فإنّنا نتّبع هؤلاء ونتمرَّد على الله.
{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}.ويردّ عليهم بأنَّ هذا المنطق هو منطق الشّيطان، لأنَّ قضيّة ما وجدتم عليه آباءكم يتَّصل بالجانب الغريزيّ والعاطفيّ، ولا يتّصل بالجانب الفكريّ.. فآباؤكم ليسوا حُجّة من الله عليكم، وأنتم بهذا التقليد تسيرون إلى النّار {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}. أنتم تتّبعون خطوات الشيطان الذي سيُرْديكم في العذاب، لأنَّكم جمّدتم عقولكم، وانطلقتم في خطِّ تقليد آبائكم وأجدادكم الذين فسقوا وكفروا وضلّوا سواء السبيل.
العروة الوثقى
ثمّ يعطينا القرآن الكريم الفكرة التي تُطمئِن القلب وتريح النفس، ويعيش فيها الإنسان الجوَّ الذي ينفتح به على الله، فيقول سبحانه: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[لقمان: 22].
فكّر أيّها الإنسان بالذي خلقك وسخَّر لك ما في السَّموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، فكّر في من يملك حياتك وموتك، ويملك ضرَّك ونفعَك، فهل هناك غير الله؟ فالله تعالى بيده حركة وجودنا كلُّها، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام زين العابدين (ع)، حيث أُوصي نفسي وإخواني وأخواتي بقراءته في كلِّ صباحٍ ومساء: "أصبحنا وأصبحت الأشياء كلُّها بجملتها لك؛ سماؤها وأرضها وما بثثت في كلِّ واحد منهما، ساكنه ومتحرّكه، مقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كَنَّ تحت الثَّرى، أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكُك وسلطانُك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس من الأمر إلّا ما قضيت، ولا من الخير إلّا ما أعطيت". فهو سبحانه يرعانا في كلّ شيء، والحكيم في كلِّ ما يفعل ويقضي ويدبّر.
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ}.والوجه هنا يعني الذّات والكيان، والمؤمن هو الذي يقدّم خضوعه لله، مُسلّماً وجودَه له، معترفاً بأنَّه في إرادته وقبضته، وهو بذلك يعيش الإسلامَ بقلبه وعقله وحياته، على اعتبار أنّه عبدٌ لله، لا يملك شيئاً أمامه، ولا يقدر على شيء خارج إرادته، يعيش هذا الإيمان والتسليم له،{وَهُوَ مُحْسِنٌ} ويُحسن في عبادته وعمله وعلاقاته ومواقفه ومواقعه {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}،لا تأتيه حالات الاهتزاز على الإطلاق، بل يشعر على الدوام بالثبات والقوّة، لأنَّه حقَّق لنفسه التسليم في كلّ شيء لله مقروناً بالعمل والطاعة، {وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}،وسيعود إلى ربِّه ويقف بين يديه، ليعطيه جزاء تسليمه له وإحسانه في حياته، جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، ورضواناً من الله أكبر.
* من كتاب "من عرفان القرآن".