الدفع بالأحسن في مواقع التحدي

الدفع بالأحسن في مواقع التحدي

الدفع بالأحسن في مواقع التحدي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، وقال في آيةٍ أخرى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، يريد الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أن يربّي الناس تربية أخلاقية اجتماعية سليمة، حتّى يواجهوا كلّ المشاكل الفردية والاجتماعية بحظٍّ كبير من الوعي ومن الانفتاح على دراسة كلّ الأوضاع والقضايا السلبية والإيجابية المحيطة بهم، وعلى أساس أن ينطلقوا في حياتهم من موقع الصبر على الانفعالات السريعة، وعلى التشنُّجات الطارئة في حياتهم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا وخلق الحياة من حولنا، أراد أن يعرِّفنا أنّ كثيراً من الأمور لا يمكن أن تحلّها، إلاّ إذا صبرت طويلاً قبل أن تصل إلى نهايتها، وأنَّ كثيراً من القضايا التي تثيرك لا يمكن أن تفهمها إلاّ إذا عرفت خلفيّاتها، وعرفت عمقها.
كيف نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء
إنّ الله لا يريد للإنسان أن يبادر إلى أيّ ردّ فعل قبل أن يدرسه قبل أن يعرف طبيعته وخلفيّاته؛ فربّما يأتيك إنسان ليثيرك بأيّة وسيلة من وسائل الإثارة، يسبّك من دون مناسبة، أو يسبّ مقدّساتك من دون أيّ سبب، أو يُعرِّضك لموقف صعب، يطلق عليك رصاصة في الهواء أو يقوم بأيّ عمل من هذه الأعمال التي يتشنَّج الناس فيها، والتي يغضب الناس منها، والتي تحرّك كلّ الانفعالات في عملية ردّ الفعل عليها، فيندفع الناس ليواجهوا الشتيمة بالشتيمة، أو بأقسى منها، وليندفع الناس ليواجهوا كلمات سبّ المقدّسات بكلمات أخرى تسبّ مقدّسات الآخرين، أو يواجه رصاصة برصاصة، أو عصاً بعصا.
وفي الإطار العام، قد يكون هناك وضع ينطلق من خطّة مرسومة مدروسة، لإثارة فتنة أو لإثارة مشكلة أو لإسقاط موقف أو لإسقاط موقع أو لتحضير بعض الأوضاع السياسية التي تحتاج إلى فتنة هنا، وفتنة هناك. لهذا جعل الله مسألة الدفع بالتي هي أحسن في المشاكل التي تُثار، سواء على مستوى فردي في حياتك العائلية، أو على مستوى اجتماعي في حياتك وفي محلّتك، وفي بلدك، وفي وطنك، وفي أُمّتك، أن تدرس الأشياء بعقلية واسعة، وأن تكون روحيّتك روحية الإنسان الذي يبحث عن الصداقة كيف يعمّقها، لا عن العداوة كيف يثيرها، وكيف يؤكّدها، وكيف يعمّقها.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} والمراد بالحسنة أسلوب الرّفق، والمراد بالسيّئة أسلوب العنف {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إذا استطعت أن تحلّ المشكلة بالتي هي أحسن، والتي هي أقوم والتي هي أقرب إلى أن تجلب إليك الأصدقاء وتقلّل الأعداء وتحوِّل أعداءك إلى أصدقاء، فإنَّ هذه من الأمور التي يحبّها الله ويرضاها {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] وأنت تفكّر في الأسلوب وأنتَ تفكّر في الطريقة. ادرس لماذا صار هذا عدوّاً لي، ما الذي حدث بيني وبينه حتّى صار هذا عدوّاً، هل أخطأت معه؟ وادرس سلوكك في مواجهتك له، هل أخطأ معي؟ وادرس خطأه في مواجهته لك، هل كان خاضعاً لدعايات مضلّلة أو لتوجيه منحرف، كيف ذلك؟ ادرس كلّ هذا قبل أن تتصرّف وقبل أن تقرّر، وقبل أن تقوم بأيّ ردّ فعل في حياتك. ادرس هذا حتّى يكون أسلوبك في التعامل مع هذا الإنسان أو مع أولئك الناس، إنْ كانوا جماعة، بالأسلوب الذي يحوِّل عدوّك إلى وليّ حميم. والله يقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صبر، لأنَّ من الصعب جداً أن يمسك الإنسان أعصابه أو يبرِّد مشاعره أو يخفّف انفعاله، لاسيّما إذا كان الإنسان يملك القوّة التي يستطيع أن يواجه من خلالها القوّة بقوّة أعلى. إنَّ الصبر عند ذلك يكلّف الإنسان جهداً كبيراً فوق العادة، لأنّك تشعر أنّك قادر على أن تفجِّر غيظك وقادر على أن تحلّ المشكلة بأقرب طريق، لكنّك تردع نفسك إنَّ هذا يحتاج إلى صبر كبير، وإلى حظٍّ عظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] من الإيمان ومن الفهم ومن الوعي لكلّ الواقع الذي يعيش فيه الناس.
كيف نتعاطى مع الجاهلين
لاحظنا في آيةٍ أخرى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199] إنّ هناك أُناساً يعيشون الجهل؛ جاهلون لأنّهم لم يأخذوا بأسباب العلم، سفهاء لأنّهم لم يأخذوا بأسباب الرشد. هناك أُناس في كلّ موقع من مواقع المجتمع، يستفيد منهم الكثيرون ممّن يبحثون عن أُناس ينفعلون ولا يفكِّرون، وعن أُناس يتعصَّبون ولا يعقلون، حتّى يسخّروهم لخدمة أطماعهم أو طموحاتهم أو أوضاعهم. ولهذا فهم يدفعون إنساناً ليتعرّض لك كشخص أو كمجموعة أو كمجتمع حتّى يثيرك، فإذا أثارك كانت الخطّة جاهزة، ليدخل هذا ويدخل ذاك، حتّى تتمّ المخطَّطات المزروعة. {خُذِ الْعَفْوَ} اجعله شعارك كيف يكون العفو مصلحة، لا تأخذه بسذاجة ولكن خذه بوعي {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} بالخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أعرض عنهم لأنّهم يريدون أن يقابلوك لتمارس جهلاً بجهل وانفعالاً بانفعال، وهكذا رأينا أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]، لأنّهم يعرفون أنّ الجاهلين لا يخاطبونهم ليتحدّثوا معهم من موقع التفاهم ومن موقع الوصول بالحوار إلى نتيجة، ولكنّ الجاهلين يتحدّثون بلغة السباب والشتائم والإثارة والانفعال. والإنسان العاقل لا يعيش ردّ الفعل في ما يثيره الجاهلون بطريقة مماثلة. وفي التعبير الشعبي "لستُ مستعدّاً لأنْ أنزل إلى مستواك" أن يتبدَّل عقلي إلى حالة جهل، هذا المعنى نحتاجه في كلّ المجالات العامّة.
الرّفق أصل والعنف استثناء
لقد ورد عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كثيرٍ من الكلمات التي صدرت عنه، ووردت عن طريق السُنّة والشيعة، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان جالساً ذات يوم فجاءه يهودي وقال له السام عليك (السام يعني الموت) فهو يدعو على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولكن بلغة قد يخيّل فيها، إذا لم يسمع الإنسان الكلمات بطريقة دقيقة، أنّه قال السلام عليك. ثمّ يذهب اليهودي ضاحكاً إلى جماعته ليقول لهم، لقد مررت على رسول الله وضحكت عليه، قلتُ له: السام عليك، قال لي: وعليك السلام، فكيف ترون هذا الرجل الساذج الذي تنطوي عليه الحيل؟
وحاولت عائشة أن تسبّه وتلعنه فقال لها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "يا عائشة إنَّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال السوء"(1) الرّفق يعني الردّ بأسلوب هادئ"، "إنَّ الرِّفقَ ما وُضِعَ على شيءٍ إلاَّ زانَه ولا رُفِعَ عنه قط إلاّ شانه"(2)، وإنّ الله رفيق يحسب الرفق وأنّه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
إذاً الفكرة الإسلامية تريد من الإنسان المسلم أن يتربّى على أن يواجه الأمور بالرّفق، ولكن ليس بالمطلق، إذ في بعض المواقف والأوضاع التي لا يفهم الناس فيها معنى الرفق، وإنّما يريدون أن يفرضوا عليك العنف فلا يخاطبوك إلاّ بلغة العنف، جعل الله أسلوباً للمواجهة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]. إذاً هناك مجال للعفو ومجال للصبر، ولكنّ الأصل في الخلق الإسلامي أنّ الإنسان يواجه المشاكل بعقلٍ بارد وبصدرٍ واسع وبروح تمتصّ السلبيات وتمتصّ المشاكل، لأنَّ الفرق بين الإنسان المؤمن والإنسان غير المؤمن، أنّ الإنسان المؤمن يعيش إيمانه في قلبه وفي روحه وفي حياته. هو الإنسان الذي لا يحمل مسؤوليّته عن نفسه فقط ولكن يحمل مسؤوليته عن الناس، ولهذا فهو يقدّر ردّ الفعل بمقدار انسجامه مع مصلحة الناس، أو عدم انسجامه معها، أمّا غير المؤمن فهو الذي يفكّر بنفسه وبنزواته وبأوضاعه، متناسياً هموم الناس وقضايا المجتمع الأساسية. المشكلة هي هذه، لهذا يريد الله للإنسان المؤمن أن يكون الداعي الواعي والمنفتح على كلّ الحياة.

حذار من العمل المخابراتي
المطلوب أن ندرس كلّ الأمور التي تواجهنا، دراسة عميقة واسعة، من خلال كلّ خلفيّاتها ومن خلال كلّ نتائجها ومن خلال كلّ الظروف المحيطة بها، لاسيّما أنّنا نعيش في المرحلة التي أخذت تمثّل فيها المخابرات أجهزة دولية على مستوى الدول الكبرى، أو على مستوى الدول الإقليمية، أو على مستوى الواقع المحلي، حيث لم يعد العمل المخابراتي بطريقة ساذجة يرصد ماذا قال هذا وماذا فعل ذاك. إنّ الطريقة المخابراتية التي تتحرّك فيها الأجهزة تزرع أشخاصاً سياسيّين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً متديّنين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً اجتماعيين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً ليكونوا حكَّاماً على هذا البلد وذاك وتختفي وراءهم، فلا يكون دورها فقط هو دور أخذ المعلومات، بل صنع الواقع وصنع الأحداث والقضايا والفتن والحروب.
إنَّ الأجهزة المخابراتية أصبحت تدخل في الواقع الشعبي، وفي كلّ المواقع السياسية من أجل أن تدرس الحساسيّات العائلية، لأنَّ معرفتها تجعلها تصنع الفتن العائلية، وتدرس الحساسيّات المذهبية والطائفية والحزبية والقومية والذاتية وبذلك تعمل على أن تحرّك هذه الحساسيّات، حتّى يخيَّل للنّاس أنّها تحرَّكت بشكلٍ طبيعي. إنّها تولِّد الأفعال وتخلق الأجواء وتستنفر الصفوف؛ وما بين الفعل وردّ الفعل تطبخ المؤامرات والفتن.
إنَّ ما عشناه في كلّ الواقع الإسلامي، الذي لو درسنا خلفيّاته لرأينا أنَّ المخابرات الدولية تقف وراءه تخطيطاً وتوجيهاً، ولكن يخيّل للناس أنّها مسألة طبيعيّة.
في الواقع الذي نعيشه الآن في لبنان، الناس كلّهم يقولون إنَّ المشكلة هي مشكلة الخلاف الإسلامي ـــ المسيحي، ومن شأن طبيعة هذا الخلاف أن تؤدّي إلى حروب مستمرة. إنَّ هذا الرأي ليس صحيحاً؛ فهناك مشاكل موجودة منذ زمن طويل بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، لكنَّ هذه المشاكل الواقعية الموجودة لم تؤدِّ إلى حروب من هذا النوع أبداً وإلى فتن بهذا الحجم.
إنَّ الأجهزة ـــ ولاسيّما أجهزة المخابرات الأميركية ـــ يتفرَّع عنها كثير من المخابرات الإقليمية من الواقع العربي وغير العربي، لأنَّ كثيراً من مخابرات بعض الدول السائرة في دول أميركا وغير أميركا هي فرع من المخابرات الأُمّ، وليست مخابرات محليّة مستقلّة. وهذا ما عرفناه بالنسبة إلى المخابرات اللبنانية وطريقة تعاملها مع المخابرات الأميركية، حيث يُجرى تبادل للمعلومات بشكلٍ دقيق جداً. وهذا ما عرفناه أيضاً من خلال المخابرات الأمنية الخليجية وغير الخليجية، التي تنطلق على أساس أن تكون فرعاً من المخابرات المركزية، إلى الدرجة التي باتت هذه المخابرات الأميركية توظّف مخابرات الدول.
إذا عدنا إلى الوضع اللبناني وما يسمّى بالحرب الأهلية، فنلاحظ أنّه في خلال حرب السنتين(1) وما بعدها كانت خطوط التماس تلتهب فجأة، ويتّهم الناس شخصاً أرسل قذيفة هنا وشخصاً ردّ عليه هنالك. لا، ليس الأمر كذلك، التفجير كان انطلاقاً من خطّة لتحريك وضع ما، وإلاّ لماذا تهدأ فجأة وبقدرة قادر؟
الصراع السياسي اليوم على أشدّه وقد أصبح لنا حكومتان وقائدان للجيش ورئيسان لمجلس النواب(2). وما شاء الله، تقسّم البلد ولكن لم تشتعل الحرب، لماذا لم تشتعل؟ لأنّه لا قرار بالحرب. ليس قرار اللبنانيين أنْ تتجمَّد الحرب بل قرار الأجهزة التي دفعت الفتنة الطائفية في لبنان لأنْ تأخذ دورها وقوّتها واندفاعها. لا قرار بالحرب لأنَّ الحرب لم تعد تفيد المحاور الدولية والمحاور الإقليمية أيّاً كانت. إنَّ هناك خطّاً أحمر يضبط الجميع في هذا الجانب وفي ذاك ضمن إطاره.
وهكذا نلاحظ أنّه عندما أخذت الحروب الداخلية صفة المذهبية بين المسلمين وأيضاً صفة الحزبية وبين المسيحيين في حرب الصفرا(1) وحرب القوّات في ما بينهم، حيث كان يهيّأ للنّاس أنّ هذه الحروب ستبدّل المعادلات. وراح هذا الفريق يحقّق أهدافاً كثيرة، وذاك الفريق يحقّق أهدافاً كبيرة، ولكن جاء الذين أشعلوا الحرب وأداروا اللّعبة جيّداً، جاؤوا للأطفال الصغار الذين يحسبون أنفسهم كباراً، قالوا لهم انتهت الحرب، لقد تعبتم كثيراً، لكن الآن توقّفوا لأنّ الملفّات التي فتحت للحروب التي حدثت في المنطقة الغربية بين الأفرقاء الموجودين فيها من لبنانيين ومن فلسطينيين، أو الحروب التي حصلت في المنطقة الشرقية بين الأحزاب هذه بعضها مع بعض، وبين القوّات بعضها مع بعض، كان يراد من خلالها إنتاج مشاريع سياسية معيّنة في لبنان وغيره، ثمَ وصلت إلى المجال الذي لم تعد معه تفيد أحداً. إنَّ الأجهزة هي التي كانت وراء الحروب المذهبية التي زرعت أُناساً عند السُنّة وعند الشيعة، وزرعت أُناساً عند اللبنانيين وعند الفلسطينيين، وزرعت أُناساً في هذه الجهة وتلك. نحن لا نريد أن نقول إنَّ مسألة المخابرات هي القضاء والقدر، يعني إذا أرادت المخابرات شيئاً يكون. نحن لا نتكلَّم بهذه الطريقة، لكن نريد أن نقول إنَّ الذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع السياسي، والذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع الأمني، ممّن يملكون المواقع الرسمية أو شبه الرسمية، خاضعون للعبّة المخابرات، ولذا فإنّهم يخضعون لنتائجها ولروابطها، لأنّهم جزء منها أو إنّهم فصيل يندفع في سبيل مخطّطاتها. وهذا المعنى كنّا دائماً نقوله لكلّ القيادات الإسلامية المخلصة، أو القيادات الوطنية المخلصة. كنّا نتحدّث عن ضرورة الانتباه للعبة المخابرات في إثارة العصبيّات، وفي إشعال الحساسيّات وفي تخطيط الفتن والحروب.
انظروا إلى البعيد ولا تنظروا إلى القريب. انظروا إلى العمق ولا تنظروا إلى السطح.

كلمة الحقّ وإرادة الباطل
إنَّ عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه)، عندما رفعت المصاحف، وعندما قبل بالتحكيم(1) وقال الخوارج لا حكم إلاّ لله قال: "كلمة حقّ" هذا صحيح "لا حكم إلاّ لله". البشر ليس لهم حكم، لكنَّ الله عندما يحكم لا يحكم بشكلٍ مباشر، إنّما يحكم من خلال أوليائه، من خلال الناس "كلمة حقّ يراد بها باطل". قد تنطلق المسألة كلمة صحيحة، كلمة حقّ، ولكنَّ الهدف أنْ تتحرّك في أجواء الباطل، وفي كلّ مجالاته، ولهذا فإنَّ المسألة التي نركِّز عليها في بنائنا الأخلاقي وفي بنائنا الروحي، تتحدّث عنها هذه الآية {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] يعني أنتَ تحتاج حتّى تتحرّك بوعي وبعقلٍ وبثبات في سبيل الوصول إلى النتائج الطيّبة للمجتمع، وبعيداً عمّا يحرّكه الناس من نتائج خبيثة. أنتَ تحتاج إلى صبر حتّى لا تدفعك انفعالات إلى موقف غير مدروس، وحتّى لا يثيرك الآخرون نحو تحرّك غير مدروس، فتقع في الهاوية التي حفروها لك، وأنتَ لا تعرف شيئاً.
يجب أن لا نكون ساذجين سياسياً في المسألة السياسية وحتّى عندما يشتغل الآخرون بطريقة أمنية أن لا نكون ساذجين أمنياً، بأن نفهم اللّعبة الأمنية من خلال اللّعبة السياسية، لأنّنا ندعو إلى أن تكون الأُمّة واعية سياسياً في خطّ الإسلام، وواعية أمنياً، أن نفهم لعبة المخابرات بطريقة علمية، نستطيع من خلالها أنْ نحمي أنفسنا منها. ففي اللّعبة العسكرية يمكن أن تحميَ نفسك بالسلاح وفي لعبة السياسة يمكن أن تحميَ نفسك بطريقة سياسية أيضاً، ولكن لعبة الأمن المخابراتي تحتاج إلى وعي مخابراتي حتّى تعرف عندما تجلس في مجلس وينطلق أحد من الناس بطريقة من الكلام، أو تعيش مهرجاناً وينطلق بعض الناس بطريقة مثيرة بالكلام، حتّى تعرف وتدرس كيف حرَّكت المخابرات هذا الشخص في هذه الجلسة، أو ذاك الشخص في هذا المهرجان أو الاحتفال من أجل أن يثير وضعاً، لتقابله بتخطيطك بوضعٍ آخر يبطل مخطّطاته ويجهض كلاماً يريد أن يتحرّك به. لهذا أرادنا الله سبحانه وتعالى أن لا نغضب، ليس أن لا نغضب فقط لنضعف. لا، أن لا تغضب لتملك عقلك حتّى تفكّر، لأنَّ الغضب يمثّل حالةً تحجب عن عقلك الرؤية. عندما يثور دخان مشاعرك ليجعلك لا تفكّر، عندما تتورّط في مشكلةٍ ما، وبعد أن ينتقدك الناس ألاَ تجيب "لا تلوموني، عقلي ما كان معي"؟ لماذا لم يكن عقلك معك؟ لأنّك اندفعت في غضبك ففقدت عقلك وفقدت رشدك وأصبحت تتحرّك بطريقة غير صحيحة.
إنّنا نحتاج في كثير من الحالات أن نكظم غيظنا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المرتبة العالية في الجنّة للكاظمين الغيظ {... وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى : 36] ثمّ {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] هذا خُلُق إسلامي لا بدّ من أن نبنيَ شخصيّتنا على أساسه، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ التحدّيات من موقع الصبر ومن موقع الوعي، الذي يمكننا من خلاله أن نعرف كيف نتصرّف بطريقة ردّ الفعل العنيفة، أو نتصرّف بطريقة الرّفق. هذا يحدّده صبرك ويحدّده وعيك في كلّ مجالات العمل الإسلامي على مستوى كلّ القضايا العميقة.
بين الذهنية الرساليّة والذهنية الفئوية
ولهذا فإنّنا لا بدّ في بعض الحالات من أن نصبر على كثير من الأذى هذا ما نلاحظه في سيرة الإمام الحسن (سلام الله عليه) والإمام عليّ قبل الإمام الحسن (عليهما السلام) عندما أُبعد عن الخلافة، وهو يعتقد كما نعتقد أنّها حقّه؛ فقد جاءه أبو سفيان ومعه العباس بن عبد المطّلب، وقال له: "مُدَّ يدَك لِأُبايِعَك" أنا ما زلت أبا سفيان أملك قاعدة كبيرة، أستطيع أن أُحارِب وأستطيع أن أُواجه "والله لئن شئت لأملأنَّها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً"(1) أنا مستعد لأن أملأ الخيل والرجال لمواجهة الذين أبعدوك عن الخلافة. لو عاش أحدنا هذا الظرف، في هذا الوضع الاجتماعي أو الوضع السياسي، وقال له: أحدهم أنا مستعدّ لأنْ أُخرِّب الدنيا على حسابك، ألاَ نقبله، نعم نقبله؟ باعتبار أنّ الإنسان الذي يعيش في أُفق ذاته، الإنسان الذي يفكِّر أنّه هو كلّ الدنيا، الإنسان الذي يفكّر أنّه هو الإسلام، هو الإيمان، هو كلّ شيء، يعتبر أنّ كلّ مَن يقصده هو مخلص له، والذي ينتقده هذا عدوّه، والذي يدلّه على الخير هذا عدوّه، ولكن الذي يصفّق له والذي يحاول أن يثير مشاعره ويثير زهوه يعتبره المخلص. قال له عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما مضمونه أنتَ أبو سفيان متّى أخذتك الغيرة على الإسلام؟ متى كنتَ مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان؟ لكن كأنّك قلت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ورقة رابحة أستطيع أن أدخل المجتمع الإسلامي باللّعب فيها، فأقسِّم الصفّ وأشعل الحرب فيضيع الإسلام. لا، أنا أعْرَفَ بهذه المسألة منك. ولم يقبل منه ذلك، لماذا؟ لأنَّ عليّاً كان لا يفكِّر بشخصه، ولكنّه كان يفكّر برسالته "فخشيتُ إنْ لم أنصُرِ الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدْماً تكون المصيبة عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّامٍ قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب، وكما يتقشَّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق واطْمَأنَّ الدين وتَنَهْنَه"(1).
أين نحن من حركة أمير المؤمنين ومواقفه؛ لو أنّ الكفّار جاؤوا إلينا أو جاءت جماعات من القوى المستكبرة، وقالوا للشيعة: نحن مستعدون لأن نجعل مواقعكم هي الأقوى، ننصركم على السُنّة، ألاَ يمشي بعضنا في هذا الطريق؟ أو لو جاء هؤلاء إلى السُنّة وقالوا لهم: هؤلاء الشيعة سلبوا حقوقكم تحالفوا معنا ضدّ الشيعة حتّى نضربهم، ألاَ يسير بعضهم في هذا الطريق، لماذا؟ لأنَّ عقليتنا عقلية فئوية وليست عقلية رسالية. كانت قيمة التشيّع كونه رسالة في خطّ الإسلام، وليس حالة تعصُّبيّة فارغة من المضمون، كما يفعل بعض الناس الذي ربّما لا يؤمن بالله ولا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكنّه شيعي متعصّب، لا يصلّي ولا يصوم وهو سنّي متعصّب. هذا هو التشيُّع العشائري والتسنُّن العشائري والإسلام العشائري. لكنَّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم تكن عقليّته ذاتية، الإمام الحسن (سلام الله عليه) عندما رأى مصلحة المسلمين تصبّ في إغلاق ملفّ الحرب بينه وبين معاوية، بعد أنْ رأى أنّ الحرب لا تنتج إلاّ دماراً ولا تحقّق النتائج التي يستهدفها المخلصون، فمن الطبيعي أن يغلق ملفّ الحرب، حتّى لا تأتي نتائج سلبية قد تسقط القضايا الكبيرة.
في هذا المجال، جاء شيعة الإمام الحسن (عليه السلام) إليه، وهو في منصب قائد وهو إمام مفترض الطاعة، لكن بعد الصلح(1)، ولأنَّ الناس يغلب عليهم الانفعال والحماسة وعدم الوعي وافتقاد الرؤية الشاملة، وبدل أن يقولوا له كلاماً يليق بإمامته قالوا: "السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين"، وكان يقول لهم: إنّني أردت صلاحكم، إنّني أردتُ الإبقاء عليكم، لأنّي وازنت المسألة فرأيت أنّ المرحلة ليست هي مرحلة الحسم، ولكنّها مرحلة تجميد الصراع من جهة، وتهيئة القوى وتهيئة الظروف من جديد بعد أن أصبحت الظروف في غير مصلحة الخطّ الإسلامي. والإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما اندفع، فلأنَّ طبيعة الظروف كانت تفرض هذه التضحية، وكانت تفرض تضحيته لأنّها هي التي تحقّق النتائج السياسية الكبيرة التي ستوقظ العالَم الإسلامي آنذاك من رقدته وغفلته، ليتحرّك بطريقة معيّنة. فالإمام الحسن (عليه السلام) مع ذلك صَبَرَ على كلّ هذه الكلمات وواجهها بقلبٍ مفتوح وبلطف.
الصبر مفتاح النجاح
إنَّ الصبر هو الذي يجعلنا نفهم الأشياء ونفهم الخلفيات ونفهم ما هي المصلحة في أنْ نتحرّك في هذا الاتّجاه بطريقة عنف أو نتحرّك بطريقة رفق. قد تفرض عليك المصالح المستقبلية الكبيرة أن تقدّم بعض التنازلات، وأنتَ لا تطيق هذه التنازلات من جهة انفعالاتك، لا تطيق أن تتكلَّم مع شخص يعاديك، لا تطيق أن تُسالِم شخصاً حاربك، لا تطيق أن تحسن لمن أساءَ إليك، لا تطيق أن تجمِّد بعض نشاطك وأنتَ قادر. في هذه الحالة أنتَ تحتاج إلى صبر وإلى وعي، حتّى تعرف أنَّ مَن يضحك ليس هو الذي يضحك أوّلاً ويبكي أخيراً. الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82]، باعتبار أنّ المهمّ هو النتائج، وقد حدَّثنا الله عن الذين كانوا يضحكون على المؤمنين {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} [المطففين: 30 ـــ 31]، المهمّ أنْ لا تفكّر أن تضحك أوّلاً. أنّك حقَّقت تقدُّماً أو حقَّقت نصراً في أيّ موقع سياسي أو اجتماعي أو عسكري أو أمني، ولكن عليك أن تعرف النتائج، هل أنّ انتصارك في البداية يعني انتصارك في النهاية؟ وهل أنَّ وصولك إلى نتائج كبيرة وإيجابية في بداية الموقف يوصلك إلى نتائج في نهاية الموقف، أم ماذا؟
لنتأمَّل في وصيّة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما جاءه أحد أصحابه وقال له: أوصني يا رسول الله، وأراد أن يؤكّد المسألة، هل أنتَ مستوص إذا أنا أوصيتك، قال: بلى. وكرَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القول ثانياً، لأنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعرف أنّ بعض الناس يسمع الموعظة ولا يلتزم بها، قال له هل أنتَ مستوصٍ، يعني هل ستعمل بالوصية إذا أنا أوصيتك، قال: بلى وكرَّر القول عليه ثالثاً، وكرَّر الجواب أيضاً، قال: إذاً خذ هذه الوصية الصغيرة بكلماتها الكبيرة بنتائجها "إذا أنتَ هممت بأمر فتدبَّر عاقبته" لا تنظر إلى بدايته، ولكن انظر لنهايته، "فإنْ يكن رشداً" فيه رشد ومصلحة وخير "فأمضه" يعني إمشِ فيه "وإنْ يكن غيّاً" شرّيراً نتائجه سيّئة "فانتهِ عنه"(1)، المهمّ أن ترصد دائماً العواقب على كلّ المستويات.
الله سبحانه وتعالى دائماً يقول لنا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف : 46]، لديك الأولاد وتملك المال، وضعك مريح ومؤنس، تستمتع بأوقاتك، لكن ماذا بعد ذلك، هناك الموت ومشاكل ما بعد الموت، المهمّ هو أن تفكِّر بالباقيات الصالحات {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96]، فكِّر بالباقيات أي فكِّر بالنتائج، النتائج تارّة تكون على مستوى الآخرة فقط، وتارة تكون على مستوى الآخرة ومستوى الحياة الدنيا معاً.
معالجة الاختلاف بالتكامل وليس بالقتال
إنَّ كثيراً من القضايا الإسلامية تعيش حالة جنينيّة في الوضع السياسي وتعيش حالة جنينيّة في الوضع الأمني، لهذا لا بدّ لنا من أن نتحمّل كثيراً ممّا تتحمّله الأم في الإبقاء على جنينها حتى يولَد ولادة طبيعية. بعض الأشياء لها مراحل، وبعض الأشياء لها عمر معيّن، فعلينا أن لا نستعجل المسألة، وعلينا أن لا نستعجل العمر. ربّما تفرض عليك الأوضاع الإسلامية أن لا تكون في الموضع الذي تتسلَّط فيه الأضواء، لأنَّ الأضواء تتسلَّط على كثير من الأوضاع التي يُراد إحراقها في نهاية المطاف. هذا ما أحبّ أن أُثيره ونحن نعيش الظروف الصعبة التي لا نزال نواجهها بكلّ حزن وبكلّ ألم وبكلّ أسف لكلّ هذه الضحايا التي تسقط من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، ولكلّ المواقع التي تدمّر في هذا الجانب، أو ذاك، ولكلّ الأسلحة التي تُهْدَر في هذا الجانب أو ذاك. نحن نعاني هذا الوضع، وهناك أُناس يعملون على تربية الحقد وتربية الوضع السياسي بطريقة غرائزيّة، بدلاً من أن يعملوا على تنمية المحبّة وعلى تنمية الوضع السياسي وتحريكه بطريقة عقلانية وبطريقة إيمانية. نحن نعرف أنّ ما يحدث الآن في الضاحية والذي امتدَّ في الجنوب، هو وليد وضعٍ معيّن في اختلال الوضع السياسي بين أفراد الصفّ الواحد، كما يقال في اللّغة السياسية في لبنان، وأفراد الطائفة الواحدة.
هناك مشكلة حدثت منذ أن تحرَّك الوضع، لينطلق في خطّين وتجمّعين وتنظيمين؛ وبذلك بدأت الحساسيات تنشأ وبدأت المسألة تتّخذ طابع العصبية، وبدأ كثيرون من الذين يعيشون البهلوانية في حياتهم، بدؤوا يركبون موجة التعصّب. كنّا نقول قبل أن يتحرّك الوضع السياسي في دائرتنا الخاصّة في هذا التعدّد، وكان يومها تعدُّداً من نوعٍ آخر، كنّا نقول لهم: ليكن بينكم تكامل، ليكن هناك توزيع للأدوار. إذا كنتم تؤمنون جميعاً بالإسلام، وأنتم تؤمنون بالإسلام وبالخطّ السليم في الإسلام في ما يمثّله أهل البيت (عليهم السلام) من خطٍّ سليم، إذا كانت المسألة كذلك فقد نحتاج إلى أن يطرح بعضنا شعاراً لا يستطيع الآخر أن يطرحه. تكاملوا في العمق، كونوا المسلمين المؤمنين، وتوزَّعوا الأدوار في الشكل وفي السطح، ليطرح كلّ منكم ما لا يستطيع الآخر بحسب وضعه أن يطرحه. ولم يوافق أحد على ذلك. قلناها قبل عشر سنوات، قبل أن يعطى لهذا الخطّ اسم، أو لذاك الخطّ اسم. وانطلقت الأوضاع السياسية القلقة بعد ذلك، لتدفع بالمسألة ـــ وقد أخذت هذه الدائرة اسماً ووضعاً وخطّاً ـــ بدأت اللّعبة تتحدّث في ربط كلّ جهة بخلفية سياسية. وأنتم تسمعون الأخبار: هذه الجهة موالية لإيران، وهذه موالية لسوريا. المخابرات تثير هذا لتعتبر أنّ الصراع ليس صراعاً في الدائرة الخاصّة، وإنّما هو الصراع في الدائرة الإقليمية، لتلعب لعبة إثارة الخلافات بين سوريا وبين إيران. وتطوّرت الأوضاع بطريقٍ غير مدروس وغير واعٍ للمستقبل، وهكذا امتدّت الأوضاع في الجنوب لتخلق ثغرة كبيرة، تحوَّلت إلى ما يشبه الهوة، ثمّ جاءت المأساة الفظيعة وجاءت حرب الضاحية التي جرت في شهر رمضان. ثمّ تفاعلت الأمور ودخلت المخابرات بكلّ ما عندها من جهد، لأنَّ النار جاهزة ولأنَّ البيدر لا يزال مملوءاً بالقشّ، وبدأت الحرائق الصغيرة هنا وهناك. وكنّا نقول للجميع إنَّ المسألة هي أنَّ هناك أكثر من موقع للصلح وأكثر من موقع للوحدة، وأنّ الذين ينشدون الصلح وحده في القضايا الكبيرة، يمكن أن يقدِّموا تنازلات في القضايا الصغيرة أو في المشاكل التي تحدث هنا وهناك. وتعاظمت الأمور وحدث ما حدث في اغتيال القادة الثلاثة(1). كان يقال في البداية ـــ عندما يُدعى إلى الصلح ـــ كيف يكون الصلح والدّماء في الضاحية لم تجفّ؟ وأصبحت هناك قضية أخرى، وجاءت أخيراً قضية محاولة الاغتيال التي حدثت من خلال السيارة المفخَّخة في بعلبك(2)، والجميع يتحرّكون في القضايا باللّغة الهادفة التي يتحدّث فيها الناس في الدوائر البعيدة عن الأضواء، بل إنَّ المنابر جاهزة لطرح اتّهاماتنا بعضنا لبعض؛ وباتت الصحف هي المجالات التي يشتم فيها البعضُ البعضَ الآخر؟ وكيف يمكن أن تتمّ وحدة أو يتمّ صلح مع كلّ عناصر الإثارة التي كانت تثار من مختلف الجهات، ومن مختلف المواقع؟ فأنتَ تخاف في كلّ يوم أن تقرأ الصحف.
فالمسؤول، إن كان بصفة دينية أو سياسية، يثير العواطف والأحاسيس ويشعل النار في المشاعر. وأصبحنا نخاف من "الأسابيع" التي تقام، حتّى لا ينطلق خطيب هنا وخطيب هناك ليثير المشاعر بعد أن تكون الحالة قد هدأت. ولعلَّ ما حدث في هذا الأسبوع من المأساة هو جزء من عملية الإثارة، وجزء من عملية شحن الغرائز.
الاحتكام إلى الشرع في حلّ المشاكل
نحن نؤمن بأنَّ أيّ فريق له الحقّ في كشف الأمور الغامضة، ليصل إلى حقوقه؛ لكن متى تكشف الغوامض؟ إنَّ الغوامض تكشف عندما يجتمع الجميع لبحث الأمور بعقلٍ هادئ وبحسابات موضوعية دقيقة، ليبحثوا لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ، وكيف يمكن حلّ هذه المشكلة، وكيف يمكن حلّ تلك المشكلة حتى نصل إلى نتيجة؟.
كيف يمكن أن تحلّ القضايا بدون أن يجتمع الأشخاص المعنيون ولو اجتماعاً تحضيرياً تمهيدياً تحت رعاية أشخاص مؤتمنين على الوضع كلّه؟ إنَّ الله يقول: {... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59]. فإذا كنّا نؤمن بالشرع فلنرجع كلّ الوضع للشرع الإسلامي، لأنّ الشرع الإسلامي لا يظلم أحداً، الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس، نرجو أن لا يكون عندنا مثل هؤلاء الناس {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ*وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} [النور: 48 ـــ 50]، فلنحتكم في كلّ القضايا التي نختلف فيها إلى الشرع؛ وإذا لم يكن في هذا البلد مَن يشرّع ومَن يثق فيه الناس فهناك بلدان أخرى يملك فيها الناس حكَّام شرع.
لنحجب الدم بين أمل وحزب الله
إنَّ هذا الاستنزاف لا يمسّ الفريقين المتقاتلين فحسب، بقطع النظر عن المعتدي والمُعتَدى عليه، لأنَّ الناس أصبحوا لا يفكِّرون بهذه الطريقة، وليسوا مستعدّين لأنْ يفهموا مَن المعتدي ومَن المُعتَدى عليه، بل يحاولون أن يعيشوا أمنهم وسلامهم وأوضاعهم.
إنَّنا نقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صلح "تبويس اللّحى" وأقول صلح "تبويس اللّحى"، حتّى يتخدَّر الوضع، ريثما تُدرَس القضايا بشكلٍ عميق. نحن لا نريد لدمٍ، أيّ دم، سواء كان الدم دم ابن أمل أو دم حزب الله أو دم أيّ إنسان، أن يذهب هدراً، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نحجب الدم، وليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نوصل صاحب الحقّ إلى حقّه.
إنَّنا نقول للجميع إنَّ هناك حروباً كانت أقسى ممّا حدث في الضاحية وفي الجنوب، وقد تعاون الموقف السياسي كلّه محلياً وإقليمياً على إغلاق ملفات تلك الحروب كلّها، وأصبح الذين تقاتلوا وقتل الكثير من كوادرهم هنا وهناك، أصبحوا حلفاء. لماذا عندما تكون المسألة في داخل الطائفة الواحدة يكون بأسنا بيننا شديداً؟ إنَّ العرب قالوا لا صلح ولا اعتراف بـــ "إسرائيل"، ثمّ وقفوا وسيقف أغلب الكادر السياسي في لبنان وفي البلاد العربية، ليقول إنّه مع الصلح ومع الاعتراف.
لماذا نقول في دائرتنا الخاصّة لا صلح ولا اعتراف؟ لماذا نحاول أن نثير الأمور بطريقة لا يجتمع فيها الناس في ما بينهم؟ الاتحاد السوفياتي وأميركا خصمان سياسيان ويجتمعان سويّة. حتّى الأطراف المتصارعة في الشرقية والغربية تلتقي من خلال الاتصالات الهاتفية والرسائل المتبادلة.


لم أُفْتِ إلاّ بقتال "إسرائيل"
لماذا نؤكّد العقدة؟ لماذا ينفضُّ حتى الاجتماع الشكلي؟ لقد دعونا بكلّ ما عندنا من طاقة، ولقد قلت لكلّ الناس، الذين جاؤوا إليَّ من علماء عراقيين وإيرانيين ولبنانيين وفاعليات، قلت لهم لا شرط لي باللّقاء مع أحد. إنّني أعطي ورقة بيضاء من أجل المصلحة الإسلامية العليا. قد يقول بعض الناس كما قالوا: إنّني أصدرت فتوى بذبح الشيعة في الضاحية، ولقد قلت إنْ كلّ مَن يقول ذلك مهما كان حجمه فهو كاذب مفتر، سأُحاسبه غداً أمام الله لا أمام الناس، لأنّي لم أصدر فتوى في أيّ قتالٍ إلاّ في قتال "إسرائيل"، وكلّ إنسان يقاتل له أسسه الشرعية التي ينطلق فيها. كنت في كلّ حرب الضاحية أسعى من أجل إغلاق الحرب واتّصلت بكلّ الناس. لستُ أيّها الإخوة في موقف الدفاع عن نفسي، لأنّي لست في هذا المجال، ولست من الناس الذين يريدون أن يخاطبوا غرائز الناس ليرضوا عنهم. قلت لكم مراراً مشكلتي هي أن أُسدِّد حسابي مع الله لا مع الناس، ليست هذه مشكلتي وإنْ كنتُ أعتزّ بثقة الناس، لكن ما أُريد أن أقوله لكم إنّه لو كان الأمر كما يذكرون، فليحاكم الإنسان في لقاء يحضره الجميع، وفي هذا الاجتماع يحاسب بعضهم بعضاً وتوضع النقاط على الحروف. السباب والشتائم والكلام لا يؤدّي إلى شيء ولا يسقط أحداً، هذا هو الشعار الذي أحمله في حياتي "إلهي إنْ وضعتني فمن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني" شعار زين العابدين (عليه السلام). أقول للناس دائماً إذا كنت مخلصاً لله فلن يخذلني، لقد أعذرت إلى الله. كنتُ أقول وسأبقى أقول إنّني في سبيل أن يغلق هذا الملف، وفي سبيل أن يغلق هذا الجرح، ليست عندي عقدة من اللّقاء بأيّ كان دون أيّ شرط. إنّ كلّ جهدي سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الشعبي في سبيل أن يغلق هذا الملفّ. وقد قلت سابقاً قبل حرب الضاحية وفي أثناء حرب الضاحية وقلتها بالأمس، لن يغلق هذا الملفّ ولو تدخّلت قوّة فاصلة وأقامت الحواجز، فهي لا تستطيع أن تجعل حاجزاً أمنياً في كلّ بيت، ففي كلّ بيت فرد من حزب الله وآخر من حركة أمل. الأب من حزب الله والابن من حركة أمل أو بالعكس. هل يمكن لأيّ قوّة أن تجعل مخفراً في كلّ بيت، وخطوط تماس بين غرف البيت؟ المسألة تتطلَّب إقامة علاقات متوازنة واعترافاً متبادلاً واحتراماً متبادلاً وأُسُساً متينة.
أنا أشعر أيُّها الإخوة بالآلام التي تفتك بجراحي. أنا أتصوّر حتى المقاتلين من هذا الفريق أو ذاك يقاتلون وهم في حالة الحزن. إنَّ هذه الدماء يجب أن تكون كلّها في مواجهة "إسرائيل"، وليس في مواجهة بعضنا بعضاً. هذا السلاح يجب أن لا يهدر في القتال الداخلي. الناس الآخرون يتفرَّجون ويقولون هذا الشعب متخلّف ولا يستطيع أن يحلّ مشاكله بالحوار. علينا أن نتعاون بكلّ ما عندنا من طاقة ومن قوّة على إغلاق هذا الملفّ.
إنّني أُنادي كلّ الفاعليات سواء كانت إسلامية أو شيعية أو وطنية، وأُنادي كلّ الأُمّة وكلّ الأكثرية الصامتة، أن تضغط بكلّ قواها لوقف القتال، وأُنادي كلّ الفاعليات التي تريد أن تعقِّد الأمور، وتريد أن تمنع الصلح باسم الصلح أو غيره، أدعوها لتتّقي الله. إنَّ كلّ مشكلة يمكن أن تُحَلّ بالحوار ويمكن أن تُحَلّ أمام الشرع. نحن لا نريد أن يفقد كلّ إنسان حقّه، ولكن كيف نصل إلى معرفة الحقّ. لا يكفي أن تكون مقتنعاً بأنَّ فلاناً قام بهذه الجريمة أو تلك، بل لا بدّ من أن يثبت ذلك على أُسس شرعية.
كيف نصل إلى معرفة الحقّ
ارفعوا أصواتكم عالياً حتّى تطفئ الفتنة وحتّى يقف إطلاق النار، وإنّني أقول لكلّ المسؤولين الذين يتحرّكون في هذه الساحة وفي هذه الدائرة الخاصّة، أقول لهم لا تعقِّدوا الأمور؛ إنَّ المسؤول هو الذي يبسِّط الأمور ولا يعقِّدها. هناك قضايا أساسية في داخل البلد وخارجه تمثّل القضايا المصيرية بالنسبة إلينا، ولذلك فلا بدّ من أن نعمل على أساس أنْ نتحمّل مسؤوليّتنا كاملة. قد يستطيع بعضنا أن يستعرض عضلاته الكلامية، أو يستعرض أوضاعه السياسية أو الاجتماعية أمام الناس، ليبرّر نفسه أو ليبرّر موقعه، لكن هل نستطيع أن نبرِّر ما لا يبرَّر أمام الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، "اتّقوا الله عباد الله في عباده وبلاده إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم"(1) إنّنا ندعو القاعدة كلّها إلى الوحدة، وإلى التكامل وإلى تضميد الجراح وإلى أن لا نفتح جراحاً جديدة.
والحمد لله ربّ العالمين
الدفع بالأحسن في مواقع التحدي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، وقال في آيةٍ أخرى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، يريد الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أن يربّي الناس تربية أخلاقية اجتماعية سليمة، حتّى يواجهوا كلّ المشاكل الفردية والاجتماعية بحظٍّ كبير من الوعي ومن الانفتاح على دراسة كلّ الأوضاع والقضايا السلبية والإيجابية المحيطة بهم، وعلى أساس أن ينطلقوا في حياتهم من موقع الصبر على الانفعالات السريعة، وعلى التشنُّجات الطارئة في حياتهم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا وخلق الحياة من حولنا، أراد أن يعرِّفنا أنّ كثيراً من الأمور لا يمكن أن تحلّها، إلاّ إذا صبرت طويلاً قبل أن تصل إلى نهايتها، وأنَّ كثيراً من القضايا التي تثيرك لا يمكن أن تفهمها إلاّ إذا عرفت خلفيّاتها، وعرفت عمقها.
كيف نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء
إنّ الله لا يريد للإنسان أن يبادر إلى أيّ ردّ فعل قبل أن يدرسه قبل أن يعرف طبيعته وخلفيّاته؛ فربّما يأتيك إنسان ليثيرك بأيّة وسيلة من وسائل الإثارة، يسبّك من دون مناسبة، أو يسبّ مقدّساتك من دون أيّ سبب، أو يُعرِّضك لموقف صعب، يطلق عليك رصاصة في الهواء أو يقوم بأيّ عمل من هذه الأعمال التي يتشنَّج الناس فيها، والتي يغضب الناس منها، والتي تحرّك كلّ الانفعالات في عملية ردّ الفعل عليها، فيندفع الناس ليواجهوا الشتيمة بالشتيمة، أو بأقسى منها، وليندفع الناس ليواجهوا كلمات سبّ المقدّسات بكلمات أخرى تسبّ مقدّسات الآخرين، أو يواجه رصاصة برصاصة، أو عصاً بعصا.
وفي الإطار العام، قد يكون هناك وضع ينطلق من خطّة مرسومة مدروسة، لإثارة فتنة أو لإثارة مشكلة أو لإسقاط موقف أو لإسقاط موقع أو لتحضير بعض الأوضاع السياسية التي تحتاج إلى فتنة هنا، وفتنة هناك. لهذا جعل الله مسألة الدفع بالتي هي أحسن في المشاكل التي تُثار، سواء على مستوى فردي في حياتك العائلية، أو على مستوى اجتماعي في حياتك وفي محلّتك، وفي بلدك، وفي وطنك، وفي أُمّتك، أن تدرس الأشياء بعقلية واسعة، وأن تكون روحيّتك روحية الإنسان الذي يبحث عن الصداقة كيف يعمّقها، لا عن العداوة كيف يثيرها، وكيف يؤكّدها، وكيف يعمّقها.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} والمراد بالحسنة أسلوب الرّفق، والمراد بالسيّئة أسلوب العنف {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إذا استطعت أن تحلّ المشكلة بالتي هي أحسن، والتي هي أقوم والتي هي أقرب إلى أن تجلب إليك الأصدقاء وتقلّل الأعداء وتحوِّل أعداءك إلى أصدقاء، فإنَّ هذه من الأمور التي يحبّها الله ويرضاها {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] وأنت تفكّر في الأسلوب وأنتَ تفكّر في الطريقة. ادرس لماذا صار هذا عدوّاً لي، ما الذي حدث بيني وبينه حتّى صار هذا عدوّاً، هل أخطأت معه؟ وادرس سلوكك في مواجهتك له، هل أخطأ معي؟ وادرس خطأه في مواجهته لك، هل كان خاضعاً لدعايات مضلّلة أو لتوجيه منحرف، كيف ذلك؟ ادرس كلّ هذا قبل أن تتصرّف وقبل أن تقرّر، وقبل أن تقوم بأيّ ردّ فعل في حياتك. ادرس هذا حتّى يكون أسلوبك في التعامل مع هذا الإنسان أو مع أولئك الناس، إنْ كانوا جماعة، بالأسلوب الذي يحوِّل عدوّك إلى وليّ حميم. والله يقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صبر، لأنَّ من الصعب جداً أن يمسك الإنسان أعصابه أو يبرِّد مشاعره أو يخفّف انفعاله، لاسيّما إذا كان الإنسان يملك القوّة التي يستطيع أن يواجه من خلالها القوّة بقوّة أعلى. إنَّ الصبر عند ذلك يكلّف الإنسان جهداً كبيراً فوق العادة، لأنّك تشعر أنّك قادر على أن تفجِّر غيظك وقادر على أن تحلّ المشكلة بأقرب طريق، لكنّك تردع نفسك إنَّ هذا يحتاج إلى صبر كبير، وإلى حظٍّ عظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] من الإيمان ومن الفهم ومن الوعي لكلّ الواقع الذي يعيش فيه الناس.
كيف نتعاطى مع الجاهلين
لاحظنا في آيةٍ أخرى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199] إنّ هناك أُناساً يعيشون الجهل؛ جاهلون لأنّهم لم يأخذوا بأسباب العلم، سفهاء لأنّهم لم يأخذوا بأسباب الرشد. هناك أُناس في كلّ موقع من مواقع المجتمع، يستفيد منهم الكثيرون ممّن يبحثون عن أُناس ينفعلون ولا يفكِّرون، وعن أُناس يتعصَّبون ولا يعقلون، حتّى يسخّروهم لخدمة أطماعهم أو طموحاتهم أو أوضاعهم. ولهذا فهم يدفعون إنساناً ليتعرّض لك كشخص أو كمجموعة أو كمجتمع حتّى يثيرك، فإذا أثارك كانت الخطّة جاهزة، ليدخل هذا ويدخل ذاك، حتّى تتمّ المخطَّطات المزروعة. {خُذِ الْعَفْوَ} اجعله شعارك كيف يكون العفو مصلحة، لا تأخذه بسذاجة ولكن خذه بوعي {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} بالخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أعرض عنهم لأنّهم يريدون أن يقابلوك لتمارس جهلاً بجهل وانفعالاً بانفعال، وهكذا رأينا أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]، لأنّهم يعرفون أنّ الجاهلين لا يخاطبونهم ليتحدّثوا معهم من موقع التفاهم ومن موقع الوصول بالحوار إلى نتيجة، ولكنّ الجاهلين يتحدّثون بلغة السباب والشتائم والإثارة والانفعال. والإنسان العاقل لا يعيش ردّ الفعل في ما يثيره الجاهلون بطريقة مماثلة. وفي التعبير الشعبي "لستُ مستعدّاً لأنْ أنزل إلى مستواك" أن يتبدَّل عقلي إلى حالة جهل، هذا المعنى نحتاجه في كلّ المجالات العامّة.
الرّفق أصل والعنف استثناء
لقد ورد عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كثيرٍ من الكلمات التي صدرت عنه، ووردت عن طريق السُنّة والشيعة، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان جالساً ذات يوم فجاءه يهودي وقال له السام عليك (السام يعني الموت) فهو يدعو على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولكن بلغة قد يخيّل فيها، إذا لم يسمع الإنسان الكلمات بطريقة دقيقة، أنّه قال السلام عليك. ثمّ يذهب اليهودي ضاحكاً إلى جماعته ليقول لهم، لقد مررت على رسول الله وضحكت عليه، قلتُ له: السام عليك، قال لي: وعليك السلام، فكيف ترون هذا الرجل الساذج الذي تنطوي عليه الحيل؟
وحاولت عائشة أن تسبّه وتلعنه فقال لها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "يا عائشة إنَّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال السوء"(1) الرّفق يعني الردّ بأسلوب هادئ"، "إنَّ الرِّفقَ ما وُضِعَ على شيءٍ إلاَّ زانَه ولا رُفِعَ عنه قط إلاّ شانه"(2)، وإنّ الله رفيق يحسب الرفق وأنّه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
إذاً الفكرة الإسلامية تريد من الإنسان المسلم أن يتربّى على أن يواجه الأمور بالرّفق، ولكن ليس بالمطلق، إذ في بعض المواقف والأوضاع التي لا يفهم الناس فيها معنى الرفق، وإنّما يريدون أن يفرضوا عليك العنف فلا يخاطبوك إلاّ بلغة العنف، جعل الله أسلوباً للمواجهة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]. إذاً هناك مجال للعفو ومجال للصبر، ولكنّ الأصل في الخلق الإسلامي أنّ الإنسان يواجه المشاكل بعقلٍ بارد وبصدرٍ واسع وبروح تمتصّ السلبيات وتمتصّ المشاكل، لأنَّ الفرق بين الإنسان المؤمن والإنسان غير المؤمن، أنّ الإنسان المؤمن يعيش إيمانه في قلبه وفي روحه وفي حياته. هو الإنسان الذي لا يحمل مسؤوليّته عن نفسه فقط ولكن يحمل مسؤوليته عن الناس، ولهذا فهو يقدّر ردّ الفعل بمقدار انسجامه مع مصلحة الناس، أو عدم انسجامه معها، أمّا غير المؤمن فهو الذي يفكّر بنفسه وبنزواته وبأوضاعه، متناسياً هموم الناس وقضايا المجتمع الأساسية. المشكلة هي هذه، لهذا يريد الله للإنسان المؤمن أن يكون الداعي الواعي والمنفتح على كلّ الحياة.

حذار من العمل المخابراتي
المطلوب أن ندرس كلّ الأمور التي تواجهنا، دراسة عميقة واسعة، من خلال كلّ خلفيّاتها ومن خلال كلّ نتائجها ومن خلال كلّ الظروف المحيطة بها، لاسيّما أنّنا نعيش في المرحلة التي أخذت تمثّل فيها المخابرات أجهزة دولية على مستوى الدول الكبرى، أو على مستوى الدول الإقليمية، أو على مستوى الواقع المحلي، حيث لم يعد العمل المخابراتي بطريقة ساذجة يرصد ماذا قال هذا وماذا فعل ذاك. إنّ الطريقة المخابراتية التي تتحرّك فيها الأجهزة تزرع أشخاصاً سياسيّين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً متديّنين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً اجتماعيين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً ليكونوا حكَّاماً على هذا البلد وذاك وتختفي وراءهم، فلا يكون دورها فقط هو دور أخذ المعلومات، بل صنع الواقع وصنع الأحداث والقضايا والفتن والحروب.
إنَّ الأجهزة المخابراتية أصبحت تدخل في الواقع الشعبي، وفي كلّ المواقع السياسية من أجل أن تدرس الحساسيّات العائلية، لأنَّ معرفتها تجعلها تصنع الفتن العائلية، وتدرس الحساسيّات المذهبية والطائفية والحزبية والقومية والذاتية وبذلك تعمل على أن تحرّك هذه الحساسيّات، حتّى يخيَّل للنّاس أنّها تحرَّكت بشكلٍ طبيعي. إنّها تولِّد الأفعال وتخلق الأجواء وتستنفر الصفوف؛ وما بين الفعل وردّ الفعل تطبخ المؤامرات والفتن.
إنَّ ما عشناه في كلّ الواقع الإسلامي، الذي لو درسنا خلفيّاته لرأينا أنَّ المخابرات الدولية تقف وراءه تخطيطاً وتوجيهاً، ولكن يخيّل للناس أنّها مسألة طبيعيّة.
في الواقع الذي نعيشه الآن في لبنان، الناس كلّهم يقولون إنَّ المشكلة هي مشكلة الخلاف الإسلامي ـــ المسيحي، ومن شأن طبيعة هذا الخلاف أن تؤدّي إلى حروب مستمرة. إنَّ هذا الرأي ليس صحيحاً؛ فهناك مشاكل موجودة منذ زمن طويل بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، لكنَّ هذه المشاكل الواقعية الموجودة لم تؤدِّ إلى حروب من هذا النوع أبداً وإلى فتن بهذا الحجم.
إنَّ الأجهزة ـــ ولاسيّما أجهزة المخابرات الأميركية ـــ يتفرَّع عنها كثير من المخابرات الإقليمية من الواقع العربي وغير العربي، لأنَّ كثيراً من مخابرات بعض الدول السائرة في دول أميركا وغير أميركا هي فرع من المخابرات الأُمّ، وليست مخابرات محليّة مستقلّة. وهذا ما عرفناه بالنسبة إلى المخابرات اللبنانية وطريقة تعاملها مع المخابرات الأميركية، حيث يُجرى تبادل للمعلومات بشكلٍ دقيق جداً. وهذا ما عرفناه أيضاً من خلال المخابرات الأمنية الخليجية وغير الخليجية، التي تنطلق على أساس أن تكون فرعاً من المخابرات المركزية، إلى الدرجة التي باتت هذه المخابرات الأميركية توظّف مخابرات الدول.
إذا عدنا إلى الوضع اللبناني وما يسمّى بالحرب الأهلية، فنلاحظ أنّه في خلال حرب السنتين(1) وما بعدها كانت خطوط التماس تلتهب فجأة، ويتّهم الناس شخصاً أرسل قذيفة هنا وشخصاً ردّ عليه هنالك. لا، ليس الأمر كذلك، التفجير كان انطلاقاً من خطّة لتحريك وضع ما، وإلاّ لماذا تهدأ فجأة وبقدرة قادر؟
الصراع السياسي اليوم على أشدّه وقد أصبح لنا حكومتان وقائدان للجيش ورئيسان لمجلس النواب(2). وما شاء الله، تقسّم البلد ولكن لم تشتعل الحرب، لماذا لم تشتعل؟ لأنّه لا قرار بالحرب. ليس قرار اللبنانيين أنْ تتجمَّد الحرب بل قرار الأجهزة التي دفعت الفتنة الطائفية في لبنان لأنْ تأخذ دورها وقوّتها واندفاعها. لا قرار بالحرب لأنَّ الحرب لم تعد تفيد المحاور الدولية والمحاور الإقليمية أيّاً كانت. إنَّ هناك خطّاً أحمر يضبط الجميع في هذا الجانب وفي ذاك ضمن إطاره.
وهكذا نلاحظ أنّه عندما أخذت الحروب الداخلية صفة المذهبية بين المسلمين وأيضاً صفة الحزبية وبين المسيحيين في حرب الصفرا(1) وحرب القوّات في ما بينهم، حيث كان يهيّأ للنّاس أنّ هذه الحروب ستبدّل المعادلات. وراح هذا الفريق يحقّق أهدافاً كثيرة، وذاك الفريق يحقّق أهدافاً كبيرة، ولكن جاء الذين أشعلوا الحرب وأداروا اللّعبة جيّداً، جاؤوا للأطفال الصغار الذين يحسبون أنفسهم كباراً، قالوا لهم انتهت الحرب، لقد تعبتم كثيراً، لكن الآن توقّفوا لأنّ الملفّات التي فتحت للحروب التي حدثت في المنطقة الغربية بين الأفرقاء الموجودين فيها من لبنانيين ومن فلسطينيين، أو الحروب التي حصلت في المنطقة الشرقية بين الأحزاب هذه بعضها مع بعض، وبين القوّات بعضها مع بعض، كان يراد من خلالها إنتاج مشاريع سياسية معيّنة في لبنان وغيره، ثمَ وصلت إلى المجال الذي لم تعد معه تفيد أحداً. إنَّ الأجهزة هي التي كانت وراء الحروب المذهبية التي زرعت أُناساً عند السُنّة وعند الشيعة، وزرعت أُناساً عند اللبنانيين وعند الفلسطينيين، وزرعت أُناساً في هذه الجهة وتلك. نحن لا نريد أن نقول إنَّ مسألة المخابرات هي القضاء والقدر، يعني إذا أرادت المخابرات شيئاً يكون. نحن لا نتكلَّم بهذه الطريقة، لكن نريد أن نقول إنَّ الذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع السياسي، والذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع الأمني، ممّن يملكون المواقع الرسمية أو شبه الرسمية، خاضعون للعبّة المخابرات، ولذا فإنّهم يخضعون لنتائجها ولروابطها، لأنّهم جزء منها أو إنّهم فصيل يندفع في سبيل مخطّطاتها. وهذا المعنى كنّا دائماً نقوله لكلّ القيادات الإسلامية المخلصة، أو القيادات الوطنية المخلصة. كنّا نتحدّث عن ضرورة الانتباه للعبة المخابرات في إثارة العصبيّات، وفي إشعال الحساسيّات وفي تخطيط الفتن والحروب.
انظروا إلى البعيد ولا تنظروا إلى القريب. انظروا إلى العمق ولا تنظروا إلى السطح.

كلمة الحقّ وإرادة الباطل
إنَّ عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه)، عندما رفعت المصاحف، وعندما قبل بالتحكيم(1) وقال الخوارج لا حكم إلاّ لله قال: "كلمة حقّ" هذا صحيح "لا حكم إلاّ لله". البشر ليس لهم حكم، لكنَّ الله عندما يحكم لا يحكم بشكلٍ مباشر، إنّما يحكم من خلال أوليائه، من خلال الناس "كلمة حقّ يراد بها باطل". قد تنطلق المسألة كلمة صحيحة، كلمة حقّ، ولكنَّ الهدف أنْ تتحرّك في أجواء الباطل، وفي كلّ مجالاته، ولهذا فإنَّ المسألة التي نركِّز عليها في بنائنا الأخلاقي وفي بنائنا الروحي، تتحدّث عنها هذه الآية {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] يعني أنتَ تحتاج حتّى تتحرّك بوعي وبعقلٍ وبثبات في سبيل الوصول إلى النتائج الطيّبة للمجتمع، وبعيداً عمّا يحرّكه الناس من نتائج خبيثة. أنتَ تحتاج إلى صبر حتّى لا تدفعك انفعالات إلى موقف غير مدروس، وحتّى لا يثيرك الآخرون نحو تحرّك غير مدروس، فتقع في الهاوية التي حفروها لك، وأنتَ لا تعرف شيئاً.
يجب أن لا نكون ساذجين سياسياً في المسألة السياسية وحتّى عندما يشتغل الآخرون بطريقة أمنية أن لا نكون ساذجين أمنياً، بأن نفهم اللّعبة الأمنية من خلال اللّعبة السياسية، لأنّنا ندعو إلى أن تكون الأُمّة واعية سياسياً في خطّ الإسلام، وواعية أمنياً، أن نفهم لعبة المخابرات بطريقة علمية، نستطيع من خلالها أنْ نحمي أنفسنا منها. ففي اللّعبة العسكرية يمكن أن تحميَ نفسك بالسلاح وفي لعبة السياسة يمكن أن تحميَ نفسك بطريقة سياسية أيضاً، ولكن لعبة الأمن المخابراتي تحتاج إلى وعي مخابراتي حتّى تعرف عندما تجلس في مجلس وينطلق أحد من الناس بطريقة من الكلام، أو تعيش مهرجاناً وينطلق بعض الناس بطريقة مثيرة بالكلام، حتّى تعرف وتدرس كيف حرَّكت المخابرات هذا الشخص في هذه الجلسة، أو ذاك الشخص في هذا المهرجان أو الاحتفال من أجل أن يثير وضعاً، لتقابله بتخطيطك بوضعٍ آخر يبطل مخطّطاته ويجهض كلاماً يريد أن يتحرّك به. لهذا أرادنا الله سبحانه وتعالى أن لا نغضب، ليس أن لا نغضب فقط لنضعف. لا، أن لا تغضب لتملك عقلك حتّى تفكّر، لأنَّ الغضب يمثّل حالةً تحجب عن عقلك الرؤية. عندما يثور دخان مشاعرك ليجعلك لا تفكّر، عندما تتورّط في مشكلةٍ ما، وبعد أن ينتقدك الناس ألاَ تجيب "لا تلوموني، عقلي ما كان معي"؟ لماذا لم يكن عقلك معك؟ لأنّك اندفعت في غضبك ففقدت عقلك وفقدت رشدك وأصبحت تتحرّك بطريقة غير صحيحة.
إنّنا نحتاج في كثير من الحالات أن نكظم غيظنا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المرتبة العالية في الجنّة للكاظمين الغيظ {... وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى : 36] ثمّ {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] هذا خُلُق إسلامي لا بدّ من أن نبنيَ شخصيّتنا على أساسه، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ التحدّيات من موقع الصبر ومن موقع الوعي، الذي يمكننا من خلاله أن نعرف كيف نتصرّف بطريقة ردّ الفعل العنيفة، أو نتصرّف بطريقة الرّفق. هذا يحدّده صبرك ويحدّده وعيك في كلّ مجالات العمل الإسلامي على مستوى كلّ القضايا العميقة.
بين الذهنية الرساليّة والذهنية الفئوية
ولهذا فإنّنا لا بدّ في بعض الحالات من أن نصبر على كثير من الأذى هذا ما نلاحظه في سيرة الإمام الحسن (سلام الله عليه) والإمام عليّ قبل الإمام الحسن (عليهما السلام) عندما أُبعد عن الخلافة، وهو يعتقد كما نعتقد أنّها حقّه؛ فقد جاءه أبو سفيان ومعه العباس بن عبد المطّلب، وقال له: "مُدَّ يدَك لِأُبايِعَك" أنا ما زلت أبا سفيان أملك قاعدة كبيرة، أستطيع أن أُحارِب وأستطيع أن أُواجه "والله لئن شئت لأملأنَّها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً"(1) أنا مستعد لأن أملأ الخيل والرجال لمواجهة الذين أبعدوك عن الخلافة. لو عاش أحدنا هذا الظرف، في هذا الوضع الاجتماعي أو الوضع السياسي، وقال له: أحدهم أنا مستعدّ لأنْ أُخرِّب الدنيا على حسابك، ألاَ نقبله، نعم نقبله؟ باعتبار أنّ الإنسان الذي يعيش في أُفق ذاته، الإنسان الذي يفكِّر أنّه هو كلّ الدنيا، الإنسان الذي يفكّر أنّه هو الإسلام، هو الإيمان، هو كلّ شيء، يعتبر أنّ كلّ مَن يقصده هو مخلص له، والذي ينتقده هذا عدوّه، والذي يدلّه على الخير هذا عدوّه، ولكن الذي يصفّق له والذي يحاول أن يثير مشاعره ويثير زهوه يعتبره المخلص. قال له عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما مضمونه أنتَ أبو سفيان متّى أخذتك الغيرة على الإسلام؟ متى كنتَ مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان؟ لكن كأنّك قلت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ورقة رابحة أستطيع أن أدخل المجتمع الإسلامي باللّعب فيها، فأقسِّم الصفّ وأشعل الحرب فيضيع الإسلام. لا، أنا أعْرَفَ بهذه المسألة منك. ولم يقبل منه ذلك، لماذا؟ لأنَّ عليّاً كان لا يفكِّر بشخصه، ولكنّه كان يفكّر برسالته "فخشيتُ إنْ لم أنصُرِ الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدْماً تكون المصيبة عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّامٍ قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب، وكما يتقشَّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق واطْمَأنَّ الدين وتَنَهْنَه"(1).
أين نحن من حركة أمير المؤمنين ومواقفه؛ لو أنّ الكفّار جاؤوا إلينا أو جاءت جماعات من القوى المستكبرة، وقالوا للشيعة: نحن مستعدون لأن نجعل مواقعكم هي الأقوى، ننصركم على السُنّة، ألاَ يمشي بعضنا في هذا الطريق؟ أو لو جاء هؤلاء إلى السُنّة وقالوا لهم: هؤلاء الشيعة سلبوا حقوقكم تحالفوا معنا ضدّ الشيعة حتّى نضربهم، ألاَ يسير بعضهم في هذا الطريق، لماذا؟ لأنَّ عقليتنا عقلية فئوية وليست عقلية رسالية. كانت قيمة التشيّع كونه رسالة في خطّ الإسلام، وليس حالة تعصُّبيّة فارغة من المضمون، كما يفعل بعض الناس الذي ربّما لا يؤمن بالله ولا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكنّه شيعي متعصّب، لا يصلّي ولا يصوم وهو سنّي متعصّب. هذا هو التشيُّع العشائري والتسنُّن العشائري والإسلام العشائري. لكنَّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم تكن عقليّته ذاتية، الإمام الحسن (سلام الله عليه) عندما رأى مصلحة المسلمين تصبّ في إغلاق ملفّ الحرب بينه وبين معاوية، بعد أنْ رأى أنّ الحرب لا تنتج إلاّ دماراً ولا تحقّق النتائج التي يستهدفها المخلصون، فمن الطبيعي أن يغلق ملفّ الحرب، حتّى لا تأتي نتائج سلبية قد تسقط القضايا الكبيرة.
في هذا المجال، جاء شيعة الإمام الحسن (عليه السلام) إليه، وهو في منصب قائد وهو إمام مفترض الطاعة، لكن بعد الصلح(1)، ولأنَّ الناس يغلب عليهم الانفعال والحماسة وعدم الوعي وافتقاد الرؤية الشاملة، وبدل أن يقولوا له كلاماً يليق بإمامته قالوا: "السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين"، وكان يقول لهم: إنّني أردت صلاحكم، إنّني أردتُ الإبقاء عليكم، لأنّي وازنت المسألة فرأيت أنّ المرحلة ليست هي مرحلة الحسم، ولكنّها مرحلة تجميد الصراع من جهة، وتهيئة القوى وتهيئة الظروف من جديد بعد أن أصبحت الظروف في غير مصلحة الخطّ الإسلامي. والإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما اندفع، فلأنَّ طبيعة الظروف كانت تفرض هذه التضحية، وكانت تفرض تضحيته لأنّها هي التي تحقّق النتائج السياسية الكبيرة التي ستوقظ العالَم الإسلامي آنذاك من رقدته وغفلته، ليتحرّك بطريقة معيّنة. فالإمام الحسن (عليه السلام) مع ذلك صَبَرَ على كلّ هذه الكلمات وواجهها بقلبٍ مفتوح وبلطف.
الصبر مفتاح النجاح
إنَّ الصبر هو الذي يجعلنا نفهم الأشياء ونفهم الخلفيات ونفهم ما هي المصلحة في أنْ نتحرّك في هذا الاتّجاه بطريقة عنف أو نتحرّك بطريقة رفق. قد تفرض عليك المصالح المستقبلية الكبيرة أن تقدّم بعض التنازلات، وأنتَ لا تطيق هذه التنازلات من جهة انفعالاتك، لا تطيق أن تتكلَّم مع شخص يعاديك، لا تطيق أن تُسالِم شخصاً حاربك، لا تطيق أن تحسن لمن أساءَ إليك، لا تطيق أن تجمِّد بعض نشاطك وأنتَ قادر. في هذه الحالة أنتَ تحتاج إلى صبر وإلى وعي، حتّى تعرف أنَّ مَن يضحك ليس هو الذي يضحك أوّلاً ويبكي أخيراً. الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82]، باعتبار أنّ المهمّ هو النتائج، وقد حدَّثنا الله عن الذين كانوا يضحكون على المؤمنين {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} [المطففين: 30 ـــ 31]، المهمّ أنْ لا تفكّر أن تضحك أوّلاً. أنّك حقَّقت تقدُّماً أو حقَّقت نصراً في أيّ موقع سياسي أو اجتماعي أو عسكري أو أمني، ولكن عليك أن تعرف النتائج، هل أنّ انتصارك في البداية يعني انتصارك في النهاية؟ وهل أنَّ وصولك إلى نتائج كبيرة وإيجابية في بداية الموقف يوصلك إلى نتائج في نهاية الموقف، أم ماذا؟
لنتأمَّل في وصيّة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما جاءه أحد أصحابه وقال له: أوصني يا رسول الله، وأراد أن يؤكّد المسألة، هل أنتَ مستوص إذا أنا أوصيتك، قال: بلى. وكرَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القول ثانياً، لأنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعرف أنّ بعض الناس يسمع الموعظة ولا يلتزم بها، قال له هل أنتَ مستوصٍ، يعني هل ستعمل بالوصية إذا أنا أوصيتك، قال: بلى وكرَّر القول عليه ثالثاً، وكرَّر الجواب أيضاً، قال: إذاً خذ هذه الوصية الصغيرة بكلماتها الكبيرة بنتائجها "إذا أنتَ هممت بأمر فتدبَّر عاقبته" لا تنظر إلى بدايته، ولكن انظر لنهايته، "فإنْ يكن رشداً" فيه رشد ومصلحة وخير "فأمضه" يعني إمشِ فيه "وإنْ يكن غيّاً" شرّيراً نتائجه سيّئة "فانتهِ عنه"(1)، المهمّ أن ترصد دائماً العواقب على كلّ المستويات.
الله سبحانه وتعالى دائماً يقول لنا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف : 46]، لديك الأولاد وتملك المال، وضعك مريح ومؤنس، تستمتع بأوقاتك، لكن ماذا بعد ذلك، هناك الموت ومشاكل ما بعد الموت، المهمّ هو أن تفكِّر بالباقيات الصالحات {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96]، فكِّر بالباقيات أي فكِّر بالنتائج، النتائج تارّة تكون على مستوى الآخرة فقط، وتارة تكون على مستوى الآخرة ومستوى الحياة الدنيا معاً.
معالجة الاختلاف بالتكامل وليس بالقتال
إنَّ كثيراً من القضايا الإسلامية تعيش حالة جنينيّة في الوضع السياسي وتعيش حالة جنينيّة في الوضع الأمني، لهذا لا بدّ لنا من أن نتحمّل كثيراً ممّا تتحمّله الأم في الإبقاء على جنينها حتى يولَد ولادة طبيعية. بعض الأشياء لها مراحل، وبعض الأشياء لها عمر معيّن، فعلينا أن لا نستعجل المسألة، وعلينا أن لا نستعجل العمر. ربّما تفرض عليك الأوضاع الإسلامية أن لا تكون في الموضع الذي تتسلَّط فيه الأضواء، لأنَّ الأضواء تتسلَّط على كثير من الأوضاع التي يُراد إحراقها في نهاية المطاف. هذا ما أحبّ أن أُثيره ونحن نعيش الظروف الصعبة التي لا نزال نواجهها بكلّ حزن وبكلّ ألم وبكلّ أسف لكلّ هذه الضحايا التي تسقط من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، ولكلّ المواقع التي تدمّر في هذا الجانب، أو ذاك، ولكلّ الأسلحة التي تُهْدَر في هذا الجانب أو ذاك. نحن نعاني هذا الوضع، وهناك أُناس يعملون على تربية الحقد وتربية الوضع السياسي بطريقة غرائزيّة، بدلاً من أن يعملوا على تنمية المحبّة وعلى تنمية الوضع السياسي وتحريكه بطريقة عقلانية وبطريقة إيمانية. نحن نعرف أنّ ما يحدث الآن في الضاحية والذي امتدَّ في الجنوب، هو وليد وضعٍ معيّن في اختلال الوضع السياسي بين أفراد الصفّ الواحد، كما يقال في اللّغة السياسية في لبنان، وأفراد الطائفة الواحدة.
هناك مشكلة حدثت منذ أن تحرَّك الوضع، لينطلق في خطّين وتجمّعين وتنظيمين؛ وبذلك بدأت الحساسيات تنشأ وبدأت المسألة تتّخذ طابع العصبية، وبدأ كثيرون من الذين يعيشون البهلوانية في حياتهم، بدؤوا يركبون موجة التعصّب. كنّا نقول قبل أن يتحرّك الوضع السياسي في دائرتنا الخاصّة في هذا التعدّد، وكان يومها تعدُّداً من نوعٍ آخر، كنّا نقول لهم: ليكن بينكم تكامل، ليكن هناك توزيع للأدوار. إذا كنتم تؤمنون جميعاً بالإسلام، وأنتم تؤمنون بالإسلام وبالخطّ السليم في الإسلام في ما يمثّله أهل البيت (عليهم السلام) من خطٍّ سليم، إذا كانت المسألة كذلك فقد نحتاج إلى أن يطرح بعضنا شعاراً لا يستطيع الآخر أن يطرحه. تكاملوا في العمق، كونوا المسلمين المؤمنين، وتوزَّعوا الأدوار في الشكل وفي السطح، ليطرح كلّ منكم ما لا يستطيع الآخر بحسب وضعه أن يطرحه. ولم يوافق أحد على ذلك. قلناها قبل عشر سنوات، قبل أن يعطى لهذا الخطّ اسم، أو لذاك الخطّ اسم. وانطلقت الأوضاع السياسية القلقة بعد ذلك، لتدفع بالمسألة ـــ وقد أخذت هذه الدائرة اسماً ووضعاً وخطّاً ـــ بدأت اللّعبة تتحدّث في ربط كلّ جهة بخلفية سياسية. وأنتم تسمعون الأخبار: هذه الجهة موالية لإيران، وهذه موالية لسوريا. المخابرات تثير هذا لتعتبر أنّ الصراع ليس صراعاً في الدائرة الخاصّة، وإنّما هو الصراع في الدائرة الإقليمية، لتلعب لعبة إثارة الخلافات بين سوريا وبين إيران. وتطوّرت الأوضاع بطريقٍ غير مدروس وغير واعٍ للمستقبل، وهكذا امتدّت الأوضاع في الجنوب لتخلق ثغرة كبيرة، تحوَّلت إلى ما يشبه الهوة، ثمّ جاءت المأساة الفظيعة وجاءت حرب الضاحية التي جرت في شهر رمضان. ثمّ تفاعلت الأمور ودخلت المخابرات بكلّ ما عندها من جهد، لأنَّ النار جاهزة ولأنَّ البيدر لا يزال مملوءاً بالقشّ، وبدأت الحرائق الصغيرة هنا وهناك. وكنّا نقول للجميع إنَّ المسألة هي أنَّ هناك أكثر من موقع للصلح وأكثر من موقع للوحدة، وأنّ الذين ينشدون الصلح وحده في القضايا الكبيرة، يمكن أن يقدِّموا تنازلات في القضايا الصغيرة أو في المشاكل التي تحدث هنا وهناك. وتعاظمت الأمور وحدث ما حدث في اغتيال القادة الثلاثة(1). كان يقال في البداية ـــ عندما يُدعى إلى الصلح ـــ كيف يكون الصلح والدّماء في الضاحية لم تجفّ؟ وأصبحت هناك قضية أخرى، وجاءت أخيراً قضية محاولة الاغتيال التي حدثت من خلال السيارة المفخَّخة في بعلبك(2)، والجميع يتحرّكون في القضايا باللّغة الهادفة التي يتحدّث فيها الناس في الدوائر البعيدة عن الأضواء، بل إنَّ المنابر جاهزة لطرح اتّهاماتنا بعضنا لبعض؛ وباتت الصحف هي المجالات التي يشتم فيها البعضُ البعضَ الآخر؟ وكيف يمكن أن تتمّ وحدة أو يتمّ صلح مع كلّ عناصر الإثارة التي كانت تثار من مختلف الجهات، ومن مختلف المواقع؟ فأنتَ تخاف في كلّ يوم أن تقرأ الصحف.
فالمسؤول، إن كان بصفة دينية أو سياسية، يثير العواطف والأحاسيس ويشعل النار في المشاعر. وأصبحنا نخاف من "الأسابيع" التي تقام، حتّى لا ينطلق خطيب هنا وخطيب هناك ليثير المشاعر بعد أن تكون الحالة قد هدأت. ولعلَّ ما حدث في هذا الأسبوع من المأساة هو جزء من عملية الإثارة، وجزء من عملية شحن الغرائز.
الاحتكام إلى الشرع في حلّ المشاكل
نحن نؤمن بأنَّ أيّ فريق له الحقّ في كشف الأمور الغامضة، ليصل إلى حقوقه؛ لكن متى تكشف الغوامض؟ إنَّ الغوامض تكشف عندما يجتمع الجميع لبحث الأمور بعقلٍ هادئ وبحسابات موضوعية دقيقة، ليبحثوا لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ، وكيف يمكن حلّ هذه المشكلة، وكيف يمكن حلّ تلك المشكلة حتى نصل إلى نتيجة؟.
كيف يمكن أن تحلّ القضايا بدون أن يجتمع الأشخاص المعنيون ولو اجتماعاً تحضيرياً تمهيدياً تحت رعاية أشخاص مؤتمنين على الوضع كلّه؟ إنَّ الله يقول: {... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59]. فإذا كنّا نؤمن بالشرع فلنرجع كلّ الوضع للشرع الإسلامي، لأنّ الشرع الإسلامي لا يظلم أحداً، الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس، نرجو أن لا يكون عندنا مثل هؤلاء الناس {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ*وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} [النور: 48 ـــ 50]، فلنحتكم في كلّ القضايا التي نختلف فيها إلى الشرع؛ وإذا لم يكن في هذا البلد مَن يشرّع ومَن يثق فيه الناس فهناك بلدان أخرى يملك فيها الناس حكَّام شرع.
لنحجب الدم بين أمل وحزب الله
إنَّ هذا الاستنزاف لا يمسّ الفريقين المتقاتلين فحسب، بقطع النظر عن المعتدي والمُعتَدى عليه، لأنَّ الناس أصبحوا لا يفكِّرون بهذه الطريقة، وليسوا مستعدّين لأنْ يفهموا مَن المعتدي ومَن المُعتَدى عليه، بل يحاولون أن يعيشوا أمنهم وسلامهم وأوضاعهم.
إنَّنا نقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صلح "تبويس اللّحى" وأقول صلح "تبويس اللّحى"، حتّى يتخدَّر الوضع، ريثما تُدرَس القضايا بشكلٍ عميق. نحن لا نريد لدمٍ، أيّ دم، سواء كان الدم دم ابن أمل أو دم حزب الله أو دم أيّ إنسان، أن يذهب هدراً، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نحجب الدم، وليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نوصل صاحب الحقّ إلى حقّه.
إنَّنا نقول للجميع إنَّ هناك حروباً كانت أقسى ممّا حدث في الضاحية وفي الجنوب، وقد تعاون الموقف السياسي كلّه محلياً وإقليمياً على إغلاق ملفات تلك الحروب كلّها، وأصبح الذين تقاتلوا وقتل الكثير من كوادرهم هنا وهناك، أصبحوا حلفاء. لماذا عندما تكون المسألة في داخل الطائفة الواحدة يكون بأسنا بيننا شديداً؟ إنَّ العرب قالوا لا صلح ولا اعتراف بـــ "إسرائيل"، ثمّ وقفوا وسيقف أغلب الكادر السياسي في لبنان وفي البلاد العربية، ليقول إنّه مع الصلح ومع الاعتراف.
لماذا نقول في دائرتنا الخاصّة لا صلح ولا اعتراف؟ لماذا نحاول أن نثير الأمور بطريقة لا يجتمع فيها الناس في ما بينهم؟ الاتحاد السوفياتي وأميركا خصمان سياسيان ويجتمعان سويّة. حتّى الأطراف المتصارعة في الشرقية والغربية تلتقي من خلال الاتصالات الهاتفية والرسائل المتبادلة.


لم أُفْتِ إلاّ بقتال "إسرائيل"
لماذا نؤكّد العقدة؟ لماذا ينفضُّ حتى الاجتماع الشكلي؟ لقد دعونا بكلّ ما عندنا من طاقة، ولقد قلت لكلّ الناس، الذين جاؤوا إليَّ من علماء عراقيين وإيرانيين ولبنانيين وفاعليات، قلت لهم لا شرط لي باللّقاء مع أحد. إنّني أعطي ورقة بيضاء من أجل المصلحة الإسلامية العليا. قد يقول بعض الناس كما قالوا: إنّني أصدرت فتوى بذبح الشيعة في الضاحية، ولقد قلت إنْ كلّ مَن يقول ذلك مهما كان حجمه فهو كاذب مفتر، سأُحاسبه غداً أمام الله لا أمام الناس، لأنّي لم أصدر فتوى في أيّ قتالٍ إلاّ في قتال "إسرائيل"، وكلّ إنسان يقاتل له أسسه الشرعية التي ينطلق فيها. كنت في كلّ حرب الضاحية أسعى من أجل إغلاق الحرب واتّصلت بكلّ الناس. لستُ أيّها الإخوة في موقف الدفاع عن نفسي، لأنّي لست في هذا المجال، ولست من الناس الذين يريدون أن يخاطبوا غرائز الناس ليرضوا عنهم. قلت لكم مراراً مشكلتي هي أن أُسدِّد حسابي مع الله لا مع الناس، ليست هذه مشكلتي وإنْ كنتُ أعتزّ بثقة الناس، لكن ما أُريد أن أقوله لكم إنّه لو كان الأمر كما يذكرون، فليحاكم الإنسان في لقاء يحضره الجميع، وفي هذا الاجتماع يحاسب بعضهم بعضاً وتوضع النقاط على الحروف. السباب والشتائم والكلام لا يؤدّي إلى شيء ولا يسقط أحداً، هذا هو الشعار الذي أحمله في حياتي "إلهي إنْ وضعتني فمن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني" شعار زين العابدين (عليه السلام). أقول للناس دائماً إذا كنت مخلصاً لله فلن يخذلني، لقد أعذرت إلى الله. كنتُ أقول وسأبقى أقول إنّني في سبيل أن يغلق هذا الملف، وفي سبيل أن يغلق هذا الجرح، ليست عندي عقدة من اللّقاء بأيّ كان دون أيّ شرط. إنّ كلّ جهدي سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الشعبي في سبيل أن يغلق هذا الملفّ. وقد قلت سابقاً قبل حرب الضاحية وفي أثناء حرب الضاحية وقلتها بالأمس، لن يغلق هذا الملفّ ولو تدخّلت قوّة فاصلة وأقامت الحواجز، فهي لا تستطيع أن تجعل حاجزاً أمنياً في كلّ بيت، ففي كلّ بيت فرد من حزب الله وآخر من حركة أمل. الأب من حزب الله والابن من حركة أمل أو بالعكس. هل يمكن لأيّ قوّة أن تجعل مخفراً في كلّ بيت، وخطوط تماس بين غرف البيت؟ المسألة تتطلَّب إقامة علاقات متوازنة واعترافاً متبادلاً واحتراماً متبادلاً وأُسُساً متينة.
أنا أشعر أيُّها الإخوة بالآلام التي تفتك بجراحي. أنا أتصوّر حتى المقاتلين من هذا الفريق أو ذاك يقاتلون وهم في حالة الحزن. إنَّ هذه الدماء يجب أن تكون كلّها في مواجهة "إسرائيل"، وليس في مواجهة بعضنا بعضاً. هذا السلاح يجب أن لا يهدر في القتال الداخلي. الناس الآخرون يتفرَّجون ويقولون هذا الشعب متخلّف ولا يستطيع أن يحلّ مشاكله بالحوار. علينا أن نتعاون بكلّ ما عندنا من طاقة ومن قوّة على إغلاق هذا الملفّ.
إنّني أُنادي كلّ الفاعليات سواء كانت إسلامية أو شيعية أو وطنية، وأُنادي كلّ الأُمّة وكلّ الأكثرية الصامتة، أن تضغط بكلّ قواها لوقف القتال، وأُنادي كلّ الفاعليات التي تريد أن تعقِّد الأمور، وتريد أن تمنع الصلح باسم الصلح أو غيره، أدعوها لتتّقي الله. إنَّ كلّ مشكلة يمكن أن تُحَلّ بالحوار ويمكن أن تُحَلّ أمام الشرع. نحن لا نريد أن يفقد كلّ إنسان حقّه، ولكن كيف نصل إلى معرفة الحقّ. لا يكفي أن تكون مقتنعاً بأنَّ فلاناً قام بهذه الجريمة أو تلك، بل لا بدّ من أن يثبت ذلك على أُسس شرعية.
كيف نصل إلى معرفة الحقّ
ارفعوا أصواتكم عالياً حتّى تطفئ الفتنة وحتّى يقف إطلاق النار، وإنّني أقول لكلّ المسؤولين الذين يتحرّكون في هذه الساحة وفي هذه الدائرة الخاصّة، أقول لهم لا تعقِّدوا الأمور؛ إنَّ المسؤول هو الذي يبسِّط الأمور ولا يعقِّدها. هناك قضايا أساسية في داخل البلد وخارجه تمثّل القضايا المصيرية بالنسبة إلينا، ولذلك فلا بدّ من أن نعمل على أساس أنْ نتحمّل مسؤوليّتنا كاملة. قد يستطيع بعضنا أن يستعرض عضلاته الكلامية، أو يستعرض أوضاعه السياسية أو الاجتماعية أمام الناس، ليبرّر نفسه أو ليبرّر موقعه، لكن هل نستطيع أن نبرِّر ما لا يبرَّر أمام الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، "اتّقوا الله عباد الله في عباده وبلاده إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم"(1) إنّنا ندعو القاعدة كلّها إلى الوحدة، وإلى التكامل وإلى تضميد الجراح وإلى أن لا نفتح جراحاً جديدة.
والحمد لله ربّ العالمين
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية