تفسير
25/01/2024

s-2-a-130-131-132-133-134

s-2-a-130-131-132-133-134

‏ ‏

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{ يرْغبُ } : الرّغبة: المحبّة لما فيه منفعةٌ للنّفس. ورغبت عن الشّي‏ء: إذا لم ترده وزهدت فيه. ‏

{ مِلّةِ } : «الملّة كالدِّين، وهو اسمٌ لما شرّع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء... وتُقال الملّة اعتبارًا بالشّي‏ء الّذي شرّعه الله، والدِّين يُقال اعتبارًا بمن يقيمه؛ إذ كان معناه الطّاعة» - كما يقول الرّاغب الأصفهانيُ‏‏1‏-. ‏

{ سفِه } : السّفه: خفّةٌ في البدن، واستُعمل في خفّة النّفس لنقصان العقل، وفى الأمور الدُّنيويّة والأخرويّة. والسّفيه هو الأحمق الّذي لا يميِّز ما ينفع نفسه وما يضرُّها، فهو قد أضلّ نفسه وجهل قدره وضيّع طاقاته. ومعنى: {سفِه نفْسهُ} حملها على السّفه. والسّفيه يختلف عن المجنون؛ من حيث وقوع الحساب عليه والمسؤوليّة على هذا التّضييع والامتهان. ‏

{اِصْطفيْناهُ} : اخترناه. والاصطفاء: الاختيار والاجتباء والانتقاء. ‏

{ شُهداء } : حاضرين، من: شهِده شُهودًا، أي: حضره. ‏

{حضر يعْقُوب الْموْتُ} : المقصود بحضور الموت حضور دلائله وشواهده. ‏

{ أُمّةٌ } : جماعة. ‏

{ خلتْ } : مضت. ‏

‏ ‏

‏ الإسلام ملّة إبراهيم ‏

‏وتبدأ مسيرة الرِّسالات الواحدة من إبراهيم عليه السلام ، فليس هناك تنافٍ بين طبيعة رسالةٍ ورسالة، بل هو التّنوُّع في التّفاصيل في النِّطاق الموحّد الّذي تمثِّله كلمة الإسلام، فكلُّ الرِّسالات السّماويّة الّتي جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام تُعتبر خطوةً متقدِّمةً في طريق إبراهيم نحو الهدف الواحد؛ لأنّ الحياة لا بُدّ من أن تخضع لله في كلِّ مجالاتها وخطواتها وتطلُّعاتها، ولا بُدّ للإنسان من أن يخشع لله في قلبه وفي فكره وحياته، فيُسلم كلّ وجهه لله، فلا كلمة له أمام كلمة الله، ولا شريعة له أمام شريعة الله. ‏

‏إنّها الإيجابيّة الإيمانيّة الّتي ترتكز على السّلبيّة المطلقة أمام الله؛ لأنّها تتمثّل في تركيز الإرادة على ما يريده الله، لا على ما تريده النّفس الأمّارة بالسُّوء. ‏

‏إنّها الانتظار الدّائم لاستقبال كلمة الله ورسالاته، كلّما غابت كلمةٌ أو انتهت مدّة رسالة، فلا عصبيّة لشخصٍ - حتّى لو كان نبيًّا - على حساب نبيٍّ آخر، ولا استغراق في الارتباط برسالةٍ على حساب رسالةٍ أخرى؛ فإنّ الإسلام لله يمثِّل مواجهة الإنسان للحياة من خلال خضوعه لله في كلِّ أمر، فالقضيّة -كلُّ القضيّة لديه - هي أن يثبت له أنّ هذه هي رسالة الله، وأنّ هذا رسول الله، ليؤمن بالرِّسالة وبالرّسول، ويخضع لكلِّ ما يفرضه عليه ذلك من أقوال وأفعال. ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم التقاء الرِّسالات كلِّها على القاعدة الأساسيّة في ملّة إبراهيم عليه السلام ، الّتي تمثِّل الموقف الدّاخليّ للإنسان المنفتح على الله، في استسلامٍ إيمانيٍّ خاشعٍ، ونكتشف - في هذا الخطِّ - معنى الإيمان بجميع الأنبياء في العقيدة الإسلاميّة؛ لأنّهم يمثِّلون العقيدة الواحدة في خطِّ الإسلام الحقِّ لله، فلا معنى للإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر ما دامت الرِّسالات واحدةً في جميع الحالات. ‏

‏ولعلّ هذا ما توحي به هذه الآيات، الّتي تعتبر الإنسان الّذي يرغب عن ملّة إبراهيم عليه السلام أو يرفضها سفيهًا، يقود نفسه إلى السّفه؛ لأنّ إبراهيم عليه السلام لا يمثِّلُ نفسه في ما يدعو إليه، كمن ينطلق من الشُّعور بالكفاءة الذّاتيّة في دعوته وقيادته العامّة، بل يمثِّل الإنسان الّذي اصطفاه الله واختاره في الدُّنيا من بين النّاس ليكون رسولاً له، يحمل رسالته ويبلِّغها للنّاس، ليهديهم إلى صراطه المستقيم، وجعله في الآخرة من الصّالحين الّذين ينالون رضاه، جزاءً لعمله وجهاده في سبيله واستسلامه له في كلِّ شي‏ءٍ. ‏

{و منْ يرْغبُ عنْ مِلّةِ إِبْراهِيم} ، الّتي ترتكز على التّوحيد الخالص والإسلام الشّامل لله المنفتح على كلِّ قيم الرُّوح، وخصال الخير، واستقامة الخطِّ، وطهارة القلب، وصفاء السّريرة، والّتي تلتقي مع كلِّ الرِّسالات في خطوطها العامّة؛ لأنّها أصل الرِّسالات، فكلُّ رسالةٍ منفتحةٌ على ملّته، وكلُّ نبيٍّ يستوحي منه، فهل يبتعد عنها ويعرض عن الالتزام بها {إِلاّ منْ سفِه نفْسهُ} من هؤلاء الجاهلين، الّذين لا يميِّزون بين الحسن والقبيح، والخير والشّرِّ، فينحرفون بها عن خطِّ الاستقامة إلى خطِّ الانحراف؟ ‏

{و لقدِ اِصْطفيْناهُ فِي الدُّنْيا} ، نبيًّا ورسولاً وإمامًا وداعيًا إلى الحقِّ، واخترناه من بين النّاس لذلك كلِّه؛ لتميُّزه عنهم في عقله وروحه واستقامته وإخلاصه لله. وهكذا أردنا له أن يملك الموقع القويّ الّذي يملك زمام الحياة في مسؤوليّته الشّاملة، ليكون رسول الله إلى الإنسان، ليخرجه من الظُّلمات إلى النُّور. {و إِنّهُ فِي الْآخِرةِ لمِن الصّالِحِين} ، فهو في هذه الزّمرة الطّيِّبة الطّاهرة الّتي انطلقت في الدُّنيا لتجسِّد الصّلاح في روحيّتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطِّ الله، وقد تمنّى، وهو في الحياة، أن يُلحقه الله بهؤلاء لينال الدّرجة العليا الّتي ينالونها، وليعيش القرب إلى الله الّذي عاشوه، وليبلغ النّعيم الّذي بلغوه. وهذا هو التّعبير الكنائيُّ عن صلاحه في الدُّنيا الّذي يجعله من الصّالحين في الآخرة، وقد ارتفع في هذه الدّرجة حتّى جعله الله خليلاً. ‏

{إِذْ قال لهُ ربُّهُ أسْلِمْ} . ربّما كان القول من الله وحيًا أو إلهامًا، وربّما كان فكرًا وشعورًا وإحساسًا يتحسّس الإنسان فيه من داخل روحيّته الذّاتيّة وفكره الإيمانيِّ أنّ الله يريد منه أن يسلم أمره إليه، فلا تكون له كلمةٌ أمام كلمته، ولا خطٌّ غير خطِّه، ولا قضاءٌ إلاّ قضاؤه، ولا منهجٌ إلاّ منهجه؛ فإنّ ذلك من وحي الإيمان الصّافي النّقيِّ، والعقل المنفتح على الحقيقة، الّذي يسمع - من خلاله - أوامر الله ونهيه ووحيه إليه. وقد عُبِّر في بعض الكلمات عن العقل بأنّه «الرّسول الباطنيُّ»‏2‏ . ‏

{قال أسْلمْتُ لِربِّ الْعالمِين} . فعاش الإسلام لله بكلِّ عمق الإيمان، وبكلِّ استقامة الطّريق، ووضوح المنهج وصفاء الشُّعور، وانفتاح الرُّوح. ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللِّسان البعيدة عن القلب، أو إسلام الرّغبة والرّهبة من دون قناعة، أو إسلام الشّكل من غير مضمون. فذلك هو الإسلام الّذي لا يعيش حركة الوجود في الذّات، وهو الصُّورة في الظّاهر لا الحقيقة في الباطن. أمّا إسلام إبراهيم فهو الإسلام الكلِّيُّ؛ لأنّ الله يريد من الإنسان أن يخلص له بكلِّه، ويستغرق في عبوديّته له حتّى لا يبقى لأحدٍ منه شي‏ءٌ، حتّى لنفسه، ليكون محياه لله ومماته له. ‏

‏ الاصطفاء بعد الإسلام أو قبله؟ ‏

‏وهناك سؤالٌ: هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره الله بأن يُسلم، باعتبار أنّ كلمة «إذ» هي في موضع نصب بـ- «اصطفيناه»؟ ‏

‏قد يكون الأمر كذلك؛ على أساس الجانب التّعبيريِّ، ولكنّ ذلك ليس ضروريًّا؛ فربّما كانت المسألة منطلقةً من الإشارة إلى السّبب في هذا الاصطفاء، من خلال إخلاصه لله في إسلامه المطلق له؛ لأنّ الله يختار لرسالته الإنسان الّذي يعيش عمق الصّفاء الرُّوحيِّ الّذي يؤهِّله لاحتضان روح الرِّسالة بفكره، وكلِّ كيانه. وربّما كان ذلك بدايةً للحديث عن حركته الرِّساليّة الّتي ابتدأت من إحساسه الذّاتيِّ لتمتدّ في بنيه، ما يوحي بأنّه استطاع أن يجذِّرها في الجيل الّذي جاء بعده من خلال تجذُّرها في مهمّته الرِّساليّة. ‏

‏ ‏

‏الإسلام وصيّة الآباء للأبناء ‏

‏ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا، بل وصّى بها بنيه؛ لأنّ الإسلام هو الّذي اصطفاه الله للنّاس، فلا بُدّ لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته. ‏

‏وحملها يعقوب - حفيد إبراهيم - وصيّةً يختم بها حياته، فلم يقف في اللّحظات الأخيرة منها ليتحدّث عن شؤونه الحياتيّة في ما يخلِّفه لهم من إرثٍ ماليٍّ، كما يتحدّث النّاس إلى ورثتِهم في ذلك عندما يفكِّرون بالوصيّة إليهم، بل وقف ليطمئنّ على انسجامهم مع الخطِّ العباديِّ المتمثِّل في هذا الإسلام لله. ‏

{و وصّى بِها إِبْراهِيمُ بنِيهِ و يعْقُوبُ}، فقد انطلقت هذه التّجربة في حياة الجدِّ في حديثه مع بنيه وفي حياة الحفيد في وصيّته لأولاده، في دلالةٍ على أنّ الرِّسالة كانت كلّ اهتماماتهما الرُّوحيّة، فلم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما؛ لأنّ الوصيّة تعبِّر - في مضمونها - عن القلق النّفسيِّ الّذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له. ‏

{يا بنِيّ إِنّ اللّه اِصْطفى‏ لكُمُ الدِّين}، واختاره منهجًا للنّجاة في الحياة ووسيلةً للسّعادة في الآخرة، من خلال برامجه الّتي تكفل لكم العيش الرّغيد والسّلامة المريحة، وانفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من قاعدةٍ واحدةٍ، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلِّها لله، ليلتقي الإسلام بمعنى العبوديّة الحقّة الخاضعة للألوهيّة المطلقة. فليكن هذا الدِّين - الإسلام - هو الخطُّ المستقيم الّذي تتحرّكون فيه في كلِّ حياتكم، فلا تنحرفوا عنه، أو تتركوه إلى غيره، مهما اشتدّت الضُّغوط واهتزّت الأرض من تحت أقدامكم وتنوّعت الإغراءات حتّى نهاية حياتكم، {فلا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون} ، لتلتقوا بالله على خطِّ الإسلام عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين. ‏

{أمْ كُنْتُمْ شُهداء} أيُّها النّاس. قال في (مجمع البيان) إنّ «أم ها هنا منقطعةٌ، وهي لا تجي‏ء إلاّ وقد تقدّمها كلامٌ؛ لأنّها الّتي تكون بمعنى «بل»، وهمزة الاستفهام، كأنّه قيل: بل أكنتم شهداء. ومعنى «أم» ها هنا الجحد، أي ما كنتم شهداء، وإنّما كان اللّفظ على الاستفهام، والمعنى على خلافه؛ لأنّ إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام وأشدُّ مظاهرةً في الحِجاج؛ إذ يخرج الكلام مخرج التّقرير بالحقِّ، فيلزم الحجّة أو الإنكار له، فتظهر الفضيحة»‏3‏. {إِذْ حضر يعْقُوب الْموْتُ}، واجتمع إليه بنوه الاثنا عشر وهم الأسباط، {إِذْ قال لِبنِيهِ}، سائلاً سؤال الإنسان الّذي يُبدي لهم رغبته الأخيرة في سلوكهم مستقبلاً في الخطِّ الّذي بدأه جدُّه النّبيُّ إبراهيم عليه السلام، في إسلام الرُّوح لله، وحمله كمسؤوليّةٍ رساليّةٍ يبلِّغه للنّاس كافّةً: {ما تعْبُدُون مِنْ بعْدِي}؟ هل تتراجعون عن الخطِّ المستقيم، لتتّبعوا مجتمعاتكم الوثنيّة؛ أم تستمرُّون في السّير عليه، لتنسجموا مع آبائكم وأجدادكم من الرُّسل؟ ‏

‏فكان الجواب الّذي يبعث الاطمئنان في نفسه، ليموت وهو قرير العين باستمرار الخطِّ الرِّساليِّ في التّوحيد الخالص من بعده: {قالُوا نعْبُدُ إِلهك و إِله آبائِك إِبْراهِيم و إِسْماعِيل و إِسْحاق إِلهاً واحِداً}، فلن نشرك بعبادة غيره، ولن نؤمن بإلهٍ سواه. هي العبادة الخالصة لله الواحد الأحد الّتي تجعل الحياة في نطاق الإسلام، ليكون الإسلام هو الطّابع الّذي يطبع شخصيّتهم في كلِّ مجالاتهم العمليّة. {و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون} ، في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وفي جميع مجالات حياتنا العامّة والخاصّة. ‏

‏ الماضي مسؤوليّة صانعيه ‏

‏وتنتهي قصّة التّاريخ في هذه الآيات، بالآية الّتي تتوجّه إلى النّاس بالنِّداء الّذي يقول: إنّ هذا التّاريخ هو تاريخ الأُمم السّابقة، في ما عملت وفي ما كسبت، ولستم مسؤولين عن كلِّ أعمالهم، في قليلٍ أو في كثيرٍ، بل هم المسؤولون عن ذلك كلِّه، في ما استقاموا به، وفي ما انحرفوا عنه. أمّا أنتم، فلكم تاريخكم المستقلُّ المتمثِّل في أعمالكم الّتي تكسبون بها الجنّة أو النّار؛ فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك، وتحدِّدوا خطواتكم العمليّة من خلال دراستكم للنّتائج المصيريّة لخطوات الآخرين، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كلِّ المجالات. ‏

{تِلْك أُمّةٌ قدْ خلتْ} ، وذهبت مع التّاريخ بعد أن عاشت تجاربها وقامت بمسؤوليّاتها، وأدّت رسالاتها، وتحرّكت في الدُّروب الّتي فتحتها أو كانت مفتوحةً لها، {لها ما كسبتْ} من نتائج أعمالها، {و لكُمْ ما كسبْتُمْ} ممّا تحملون من مسؤوليّتكم في كلِّ التّكاليف الموجّهة إليكم، والمهمّات الموكولة إليكم في ساحات الخير والشّرِّ، والحقِّ والباطل، وفي كلِّ مجالات حركيّة الصِّراع مع الآخرين، {و لا تُسْئلُون عمّا كانُوا يعْملُون} ؛ لأنّ الجيل الجديد لا يتحمّل أوزار الجيل القديم، ولا علاقة له بحسناته؛ لأنّ التّجربة السّلبيّة أو الإيجابيّة مختصّةٌ به من خلال حركة إرادته الذّاتيّة. وفي ضوء هذا لا معنى للقول بأنّ الأبناء يتحمّلون المسؤوليّة السّلبيّة تجاه ما قام به الآباء من السّيِّئات. ‏

‏وربّما يُطرح سؤالٌ: لماذا لم يتحدّث الله عن مسؤوليّة الآباء عن عمل الأبناء؟ ‏

‏والجواب: إنّ الخطاب هو للأبناء الّذين يُراد لهم أن ينفتحوا على التّاريخ كعبرةٍ يعتبرون بها، لا كمسؤوليّةٍ يتحمّلونها. مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أنّ الآباء قد يتحمّلون مسؤوليّة الأبناء عندما يتحرّكون ببعض الأوضاع التّربويّة أو البرامج التّعليميّة الّتي قد تؤدِّي إلى ضلال الأبناء بنحو التّسبيب العمليِّ. ‏

‏وفي هذه الآية إيحاءٌ بأنّ على الأُمّة - في أجيالها الجديدة - أن لا تستغرق في تاريخها القديم، ليغيب وعيها في داخله، وليشغلها ذلك عن عمليّة صنع التّاريخ في الحاضر، كالكثيرين الّذين يتحدّثون عن أمجاد الآباء القديمة من دون أن يشغلوا أنفسهم بصنع الأمجاد الجديدة. فلا بُدّ للأُمّة أن تعرف أنّ الماضي لا يمثِّل مسؤوليّتها بل مسؤوليّة الّذين صنعوه، وأنّ عليها أن تأخذ منه الدُّروس والعبر، ثمّ تتابع سيرها وتحرِّك تجربتها في صنع التّاريخ الجديد الّذي تتحمّل مسؤوليّة إيجاده ومسؤوليّة كلِّ تفاصيله أمام الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك، لا تكون الأُمّة مشدودةً إلى الماضي لتتابع خلافاته وأحقاده ومشاكله، لتكون أحقادًا وخلافات ومشاكل لها في الحاضر، فتتجدّد الحروب والنِّزاعات، على أساس حروب الماضي ونزاعاته، بل تكون المسألة مسألة قضايا الواقع الجديد في ما يتحرّك به الإنسان في أفكاره وهمومه وغاياته، سواءً كانت متأثِّرةً ببعض ما في الماضي من خطوط ومبادئ عامّة، أو كانت منطلقةً من خلال مبادئ الحاضر وخطوطه. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 471 - 472.‏

‏2.‏‏وهو ما يُستفاد من حديث الإمام الكاظم عليه السلام مع هشام بن الحكم: «يا هشام، إنّ لله على النّاس حجّتين: حُجّةً ظاهرةً وحُجّةً باطنة، فأمّا الظّاهرة فالرُّسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول». انظر: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 16.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 399.‏

‎ ‎

‏ ‏

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{ يرْغبُ } : الرّغبة: المحبّة لما فيه منفعةٌ للنّفس. ورغبت عن الشّي‏ء: إذا لم ترده وزهدت فيه. ‏

{ مِلّةِ } : «الملّة كالدِّين، وهو اسمٌ لما شرّع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء... وتُقال الملّة اعتبارًا بالشّي‏ء الّذي شرّعه الله، والدِّين يُقال اعتبارًا بمن يقيمه؛ إذ كان معناه الطّاعة» - كما يقول الرّاغب الأصفهانيُ‏‏1‏-. ‏

{ سفِه } : السّفه: خفّةٌ في البدن، واستُعمل في خفّة النّفس لنقصان العقل، وفى الأمور الدُّنيويّة والأخرويّة. والسّفيه هو الأحمق الّذي لا يميِّز ما ينفع نفسه وما يضرُّها، فهو قد أضلّ نفسه وجهل قدره وضيّع طاقاته. ومعنى: {سفِه نفْسهُ} حملها على السّفه. والسّفيه يختلف عن المجنون؛ من حيث وقوع الحساب عليه والمسؤوليّة على هذا التّضييع والامتهان. ‏

{اِصْطفيْناهُ} : اخترناه. والاصطفاء: الاختيار والاجتباء والانتقاء. ‏

{ شُهداء } : حاضرين، من: شهِده شُهودًا، أي: حضره. ‏

{حضر يعْقُوب الْموْتُ} : المقصود بحضور الموت حضور دلائله وشواهده. ‏

{ أُمّةٌ } : جماعة. ‏

{ خلتْ } : مضت. ‏

‏ ‏

‏ الإسلام ملّة إبراهيم ‏

‏وتبدأ مسيرة الرِّسالات الواحدة من إبراهيم عليه السلام ، فليس هناك تنافٍ بين طبيعة رسالةٍ ورسالة، بل هو التّنوُّع في التّفاصيل في النِّطاق الموحّد الّذي تمثِّله كلمة الإسلام، فكلُّ الرِّسالات السّماويّة الّتي جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام تُعتبر خطوةً متقدِّمةً في طريق إبراهيم نحو الهدف الواحد؛ لأنّ الحياة لا بُدّ من أن تخضع لله في كلِّ مجالاتها وخطواتها وتطلُّعاتها، ولا بُدّ للإنسان من أن يخشع لله في قلبه وفي فكره وحياته، فيُسلم كلّ وجهه لله، فلا كلمة له أمام كلمة الله، ولا شريعة له أمام شريعة الله. ‏

‏إنّها الإيجابيّة الإيمانيّة الّتي ترتكز على السّلبيّة المطلقة أمام الله؛ لأنّها تتمثّل في تركيز الإرادة على ما يريده الله، لا على ما تريده النّفس الأمّارة بالسُّوء. ‏

‏إنّها الانتظار الدّائم لاستقبال كلمة الله ورسالاته، كلّما غابت كلمةٌ أو انتهت مدّة رسالة، فلا عصبيّة لشخصٍ - حتّى لو كان نبيًّا - على حساب نبيٍّ آخر، ولا استغراق في الارتباط برسالةٍ على حساب رسالةٍ أخرى؛ فإنّ الإسلام لله يمثِّل مواجهة الإنسان للحياة من خلال خضوعه لله في كلِّ أمر، فالقضيّة -كلُّ القضيّة لديه - هي أن يثبت له أنّ هذه هي رسالة الله، وأنّ هذا رسول الله، ليؤمن بالرِّسالة وبالرّسول، ويخضع لكلِّ ما يفرضه عليه ذلك من أقوال وأفعال. ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم التقاء الرِّسالات كلِّها على القاعدة الأساسيّة في ملّة إبراهيم عليه السلام ، الّتي تمثِّل الموقف الدّاخليّ للإنسان المنفتح على الله، في استسلامٍ إيمانيٍّ خاشعٍ، ونكتشف - في هذا الخطِّ - معنى الإيمان بجميع الأنبياء في العقيدة الإسلاميّة؛ لأنّهم يمثِّلون العقيدة الواحدة في خطِّ الإسلام الحقِّ لله، فلا معنى للإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر ما دامت الرِّسالات واحدةً في جميع الحالات. ‏

‏ولعلّ هذا ما توحي به هذه الآيات، الّتي تعتبر الإنسان الّذي يرغب عن ملّة إبراهيم عليه السلام أو يرفضها سفيهًا، يقود نفسه إلى السّفه؛ لأنّ إبراهيم عليه السلام لا يمثِّلُ نفسه في ما يدعو إليه، كمن ينطلق من الشُّعور بالكفاءة الذّاتيّة في دعوته وقيادته العامّة، بل يمثِّل الإنسان الّذي اصطفاه الله واختاره في الدُّنيا من بين النّاس ليكون رسولاً له، يحمل رسالته ويبلِّغها للنّاس، ليهديهم إلى صراطه المستقيم، وجعله في الآخرة من الصّالحين الّذين ينالون رضاه، جزاءً لعمله وجهاده في سبيله واستسلامه له في كلِّ شي‏ءٍ. ‏

{و منْ يرْغبُ عنْ مِلّةِ إِبْراهِيم} ، الّتي ترتكز على التّوحيد الخالص والإسلام الشّامل لله المنفتح على كلِّ قيم الرُّوح، وخصال الخير، واستقامة الخطِّ، وطهارة القلب، وصفاء السّريرة، والّتي تلتقي مع كلِّ الرِّسالات في خطوطها العامّة؛ لأنّها أصل الرِّسالات، فكلُّ رسالةٍ منفتحةٌ على ملّته، وكلُّ نبيٍّ يستوحي منه، فهل يبتعد عنها ويعرض عن الالتزام بها {إِلاّ منْ سفِه نفْسهُ} من هؤلاء الجاهلين، الّذين لا يميِّزون بين الحسن والقبيح، والخير والشّرِّ، فينحرفون بها عن خطِّ الاستقامة إلى خطِّ الانحراف؟ ‏

{و لقدِ اِصْطفيْناهُ فِي الدُّنْيا} ، نبيًّا ورسولاً وإمامًا وداعيًا إلى الحقِّ، واخترناه من بين النّاس لذلك كلِّه؛ لتميُّزه عنهم في عقله وروحه واستقامته وإخلاصه لله. وهكذا أردنا له أن يملك الموقع القويّ الّذي يملك زمام الحياة في مسؤوليّته الشّاملة، ليكون رسول الله إلى الإنسان، ليخرجه من الظُّلمات إلى النُّور. {و إِنّهُ فِي الْآخِرةِ لمِن الصّالِحِين} ، فهو في هذه الزّمرة الطّيِّبة الطّاهرة الّتي انطلقت في الدُّنيا لتجسِّد الصّلاح في روحيّتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطِّ الله، وقد تمنّى، وهو في الحياة، أن يُلحقه الله بهؤلاء لينال الدّرجة العليا الّتي ينالونها، وليعيش القرب إلى الله الّذي عاشوه، وليبلغ النّعيم الّذي بلغوه. وهذا هو التّعبير الكنائيُّ عن صلاحه في الدُّنيا الّذي يجعله من الصّالحين في الآخرة، وقد ارتفع في هذه الدّرجة حتّى جعله الله خليلاً. ‏

{إِذْ قال لهُ ربُّهُ أسْلِمْ} . ربّما كان القول من الله وحيًا أو إلهامًا، وربّما كان فكرًا وشعورًا وإحساسًا يتحسّس الإنسان فيه من داخل روحيّته الذّاتيّة وفكره الإيمانيِّ أنّ الله يريد منه أن يسلم أمره إليه، فلا تكون له كلمةٌ أمام كلمته، ولا خطٌّ غير خطِّه، ولا قضاءٌ إلاّ قضاؤه، ولا منهجٌ إلاّ منهجه؛ فإنّ ذلك من وحي الإيمان الصّافي النّقيِّ، والعقل المنفتح على الحقيقة، الّذي يسمع - من خلاله - أوامر الله ونهيه ووحيه إليه. وقد عُبِّر في بعض الكلمات عن العقل بأنّه «الرّسول الباطنيُّ»‏2‏ . ‏

{قال أسْلمْتُ لِربِّ الْعالمِين} . فعاش الإسلام لله بكلِّ عمق الإيمان، وبكلِّ استقامة الطّريق، ووضوح المنهج وصفاء الشُّعور، وانفتاح الرُّوح. ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللِّسان البعيدة عن القلب، أو إسلام الرّغبة والرّهبة من دون قناعة، أو إسلام الشّكل من غير مضمون. فذلك هو الإسلام الّذي لا يعيش حركة الوجود في الذّات، وهو الصُّورة في الظّاهر لا الحقيقة في الباطن. أمّا إسلام إبراهيم فهو الإسلام الكلِّيُّ؛ لأنّ الله يريد من الإنسان أن يخلص له بكلِّه، ويستغرق في عبوديّته له حتّى لا يبقى لأحدٍ منه شي‏ءٌ، حتّى لنفسه، ليكون محياه لله ومماته له. ‏

‏ الاصطفاء بعد الإسلام أو قبله؟ ‏

‏وهناك سؤالٌ: هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره الله بأن يُسلم، باعتبار أنّ كلمة «إذ» هي في موضع نصب بـ- «اصطفيناه»؟ ‏

‏قد يكون الأمر كذلك؛ على أساس الجانب التّعبيريِّ، ولكنّ ذلك ليس ضروريًّا؛ فربّما كانت المسألة منطلقةً من الإشارة إلى السّبب في هذا الاصطفاء، من خلال إخلاصه لله في إسلامه المطلق له؛ لأنّ الله يختار لرسالته الإنسان الّذي يعيش عمق الصّفاء الرُّوحيِّ الّذي يؤهِّله لاحتضان روح الرِّسالة بفكره، وكلِّ كيانه. وربّما كان ذلك بدايةً للحديث عن حركته الرِّساليّة الّتي ابتدأت من إحساسه الذّاتيِّ لتمتدّ في بنيه، ما يوحي بأنّه استطاع أن يجذِّرها في الجيل الّذي جاء بعده من خلال تجذُّرها في مهمّته الرِّساليّة. ‏

‏ ‏

‏الإسلام وصيّة الآباء للأبناء ‏

‏ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا، بل وصّى بها بنيه؛ لأنّ الإسلام هو الّذي اصطفاه الله للنّاس، فلا بُدّ لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته. ‏

‏وحملها يعقوب - حفيد إبراهيم - وصيّةً يختم بها حياته، فلم يقف في اللّحظات الأخيرة منها ليتحدّث عن شؤونه الحياتيّة في ما يخلِّفه لهم من إرثٍ ماليٍّ، كما يتحدّث النّاس إلى ورثتِهم في ذلك عندما يفكِّرون بالوصيّة إليهم، بل وقف ليطمئنّ على انسجامهم مع الخطِّ العباديِّ المتمثِّل في هذا الإسلام لله. ‏

{و وصّى بِها إِبْراهِيمُ بنِيهِ و يعْقُوبُ}، فقد انطلقت هذه التّجربة في حياة الجدِّ في حديثه مع بنيه وفي حياة الحفيد في وصيّته لأولاده، في دلالةٍ على أنّ الرِّسالة كانت كلّ اهتماماتهما الرُّوحيّة، فلم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما؛ لأنّ الوصيّة تعبِّر - في مضمونها - عن القلق النّفسيِّ الّذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له. ‏

{يا بنِيّ إِنّ اللّه اِصْطفى‏ لكُمُ الدِّين}، واختاره منهجًا للنّجاة في الحياة ووسيلةً للسّعادة في الآخرة، من خلال برامجه الّتي تكفل لكم العيش الرّغيد والسّلامة المريحة، وانفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من قاعدةٍ واحدةٍ، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلِّها لله، ليلتقي الإسلام بمعنى العبوديّة الحقّة الخاضعة للألوهيّة المطلقة. فليكن هذا الدِّين - الإسلام - هو الخطُّ المستقيم الّذي تتحرّكون فيه في كلِّ حياتكم، فلا تنحرفوا عنه، أو تتركوه إلى غيره، مهما اشتدّت الضُّغوط واهتزّت الأرض من تحت أقدامكم وتنوّعت الإغراءات حتّى نهاية حياتكم، {فلا تمُوتُنّ إِلاّ و أنْتُمْ مُسْلِمُون} ، لتلتقوا بالله على خطِّ الإسلام عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين. ‏

{أمْ كُنْتُمْ شُهداء} أيُّها النّاس. قال في (مجمع البيان) إنّ «أم ها هنا منقطعةٌ، وهي لا تجي‏ء إلاّ وقد تقدّمها كلامٌ؛ لأنّها الّتي تكون بمعنى «بل»، وهمزة الاستفهام، كأنّه قيل: بل أكنتم شهداء. ومعنى «أم» ها هنا الجحد، أي ما كنتم شهداء، وإنّما كان اللّفظ على الاستفهام، والمعنى على خلافه؛ لأنّ إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام وأشدُّ مظاهرةً في الحِجاج؛ إذ يخرج الكلام مخرج التّقرير بالحقِّ، فيلزم الحجّة أو الإنكار له، فتظهر الفضيحة»‏3‏. {إِذْ حضر يعْقُوب الْموْتُ}، واجتمع إليه بنوه الاثنا عشر وهم الأسباط، {إِذْ قال لِبنِيهِ}، سائلاً سؤال الإنسان الّذي يُبدي لهم رغبته الأخيرة في سلوكهم مستقبلاً في الخطِّ الّذي بدأه جدُّه النّبيُّ إبراهيم عليه السلام، في إسلام الرُّوح لله، وحمله كمسؤوليّةٍ رساليّةٍ يبلِّغه للنّاس كافّةً: {ما تعْبُدُون مِنْ بعْدِي}؟ هل تتراجعون عن الخطِّ المستقيم، لتتّبعوا مجتمعاتكم الوثنيّة؛ أم تستمرُّون في السّير عليه، لتنسجموا مع آبائكم وأجدادكم من الرُّسل؟ ‏

‏فكان الجواب الّذي يبعث الاطمئنان في نفسه، ليموت وهو قرير العين باستمرار الخطِّ الرِّساليِّ في التّوحيد الخالص من بعده: {قالُوا نعْبُدُ إِلهك و إِله آبائِك إِبْراهِيم و إِسْماعِيل و إِسْحاق إِلهاً واحِداً}، فلن نشرك بعبادة غيره، ولن نؤمن بإلهٍ سواه. هي العبادة الخالصة لله الواحد الأحد الّتي تجعل الحياة في نطاق الإسلام، ليكون الإسلام هو الطّابع الّذي يطبع شخصيّتهم في كلِّ مجالاتهم العمليّة. {و نحْنُ لهُ مُسْلِمُون} ، في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وفي جميع مجالات حياتنا العامّة والخاصّة. ‏

‏ الماضي مسؤوليّة صانعيه ‏

‏وتنتهي قصّة التّاريخ في هذه الآيات، بالآية الّتي تتوجّه إلى النّاس بالنِّداء الّذي يقول: إنّ هذا التّاريخ هو تاريخ الأُمم السّابقة، في ما عملت وفي ما كسبت، ولستم مسؤولين عن كلِّ أعمالهم، في قليلٍ أو في كثيرٍ، بل هم المسؤولون عن ذلك كلِّه، في ما استقاموا به، وفي ما انحرفوا عنه. أمّا أنتم، فلكم تاريخكم المستقلُّ المتمثِّل في أعمالكم الّتي تكسبون بها الجنّة أو النّار؛ فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك، وتحدِّدوا خطواتكم العمليّة من خلال دراستكم للنّتائج المصيريّة لخطوات الآخرين، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كلِّ المجالات. ‏

{تِلْك أُمّةٌ قدْ خلتْ} ، وذهبت مع التّاريخ بعد أن عاشت تجاربها وقامت بمسؤوليّاتها، وأدّت رسالاتها، وتحرّكت في الدُّروب الّتي فتحتها أو كانت مفتوحةً لها، {لها ما كسبتْ} من نتائج أعمالها، {و لكُمْ ما كسبْتُمْ} ممّا تحملون من مسؤوليّتكم في كلِّ التّكاليف الموجّهة إليكم، والمهمّات الموكولة إليكم في ساحات الخير والشّرِّ، والحقِّ والباطل، وفي كلِّ مجالات حركيّة الصِّراع مع الآخرين، {و لا تُسْئلُون عمّا كانُوا يعْملُون} ؛ لأنّ الجيل الجديد لا يتحمّل أوزار الجيل القديم، ولا علاقة له بحسناته؛ لأنّ التّجربة السّلبيّة أو الإيجابيّة مختصّةٌ به من خلال حركة إرادته الذّاتيّة. وفي ضوء هذا لا معنى للقول بأنّ الأبناء يتحمّلون المسؤوليّة السّلبيّة تجاه ما قام به الآباء من السّيِّئات. ‏

‏وربّما يُطرح سؤالٌ: لماذا لم يتحدّث الله عن مسؤوليّة الآباء عن عمل الأبناء؟ ‏

‏والجواب: إنّ الخطاب هو للأبناء الّذين يُراد لهم أن ينفتحوا على التّاريخ كعبرةٍ يعتبرون بها، لا كمسؤوليّةٍ يتحمّلونها. مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أنّ الآباء قد يتحمّلون مسؤوليّة الأبناء عندما يتحرّكون ببعض الأوضاع التّربويّة أو البرامج التّعليميّة الّتي قد تؤدِّي إلى ضلال الأبناء بنحو التّسبيب العمليِّ. ‏

‏وفي هذه الآية إيحاءٌ بأنّ على الأُمّة - في أجيالها الجديدة - أن لا تستغرق في تاريخها القديم، ليغيب وعيها في داخله، وليشغلها ذلك عن عمليّة صنع التّاريخ في الحاضر، كالكثيرين الّذين يتحدّثون عن أمجاد الآباء القديمة من دون أن يشغلوا أنفسهم بصنع الأمجاد الجديدة. فلا بُدّ للأُمّة أن تعرف أنّ الماضي لا يمثِّل مسؤوليّتها بل مسؤوليّة الّذين صنعوه، وأنّ عليها أن تأخذ منه الدُّروس والعبر، ثمّ تتابع سيرها وتحرِّك تجربتها في صنع التّاريخ الجديد الّذي تتحمّل مسؤوليّة إيجاده ومسؤوليّة كلِّ تفاصيله أمام الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك، لا تكون الأُمّة مشدودةً إلى الماضي لتتابع خلافاته وأحقاده ومشاكله، لتكون أحقادًا وخلافات ومشاكل لها في الحاضر، فتتجدّد الحروب والنِّزاعات، على أساس حروب الماضي ونزاعاته، بل تكون المسألة مسألة قضايا الواقع الجديد في ما يتحرّك به الإنسان في أفكاره وهمومه وغاياته، سواءً كانت متأثِّرةً ببعض ما في الماضي من خطوط ومبادئ عامّة، أو كانت منطلقةً من خلال مبادئ الحاضر وخطوطه. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 471 - 472.‏

‏2.‏‏وهو ما يُستفاد من حديث الإمام الكاظم عليه السلام مع هشام بن الحكم: «يا هشام، إنّ لله على النّاس حجّتين: حُجّةً ظاهرةً وحُجّةً باطنة، فأمّا الظّاهرة فالرُّسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول». انظر: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 16.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 399.‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية