بالوعي والإخلاص نصون عزّة الأُمّة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومخاطباً كلّ المؤمنين وكلّ العاملين في خطّ الإسلام من خلال خطابه لرسوله {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً*يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً*هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً*وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 105 ـــ 112].
أساس العدل
هذه الآيات، هي من الآيات التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن يركّز في المجتمع الإسلامي كلّه أساساً من أُسس العدالة التي جعلها الله للنّاس جميعاً، فليس هناك في كلّ ما يختلف الناس فيه تمييز في العدالة بين شخصٍ وآخر، فأنتَ لا بدّ لك أن تعدل حتّى مع الكافر إذا كان له حقّ عندك فليس لك أن تضيّع على الكافر حقّه إذا جعل الله له الحقّ، وليس لكَ أن تضيّع الحقّ على عدوّك إذا كان له عليك حقّ، كن الإنسان الذي يحكم بالحقّ لأنّك تلتزم الكتاب الذي أنزله الله بالحقّ، وإذا أردت أن تحكم بين الناس في ما يختلفون فيه أمامك وكنتَ في موقع الحكم، فعليك أن تحكم بما أراك الله من خلال فهمك للحقّ، وسيسألك الله غداً على أيّ أساس حكمت، وعلى أيّ أساس عرفتَ أنّ الحقّ مع هذا وأنّ الحق ليس مع هذا، وفي جميع الأحوال، لا يجوز لك أن تكون مدافعاً عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله والذين خانوا أماناتهم وخانوا عهودهم وخانوا الناس من حولهم، ليس لكَ ذلك، لأنَّ الله يقول: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}، لا تكن مدافعاً عن الخائنين حتّى لو كان الخائن أباك أو ولدك أو من عائلتك أو من بلدك أو من طائفتك، لأنَّ المسألة ليست مسألة الأشخاص في ما يتميَّزون به من قربهم إليك ومن بعدهم عنك، ولكنَّ المسألة هي مسألة قرب الحقّ إلى موقفك وبُعد الباطل عن موقفك، لأنَّ الحقّ أقرب إليك من كلّ إنسان، {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ} إذا صدرت منك بادرة تعاطف مع الخائنين أو صدرت منك بادرة تأييد أو مساعدة للخائنين أو حكم لمصلحة الخائنين، فاستغفر الله إذا أردت أن تتراجع عن خطّك وعن مبادرتك فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً، سيغفر الله لكَ ذنبك إذا عرف منك صدق النيّة، وسيرحم الله موقفك إذا عرف أنّك ستتراجع عنه.
الله لا يحبّ الخائنين
ثمّ بعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تجادل عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم عندما يسيرون في خطّ الخيانة وفي خطّ المعصية وفي خطّ الجريمة، لا تدافع عنهم حتّى لو كانوا جماعتك حتّى وعشيرتك أو أولادك أو إخوانك، لا تجادل عنهم، لا تقف مع الخائنين في موقف دفاع عندما يتحرّكون في الحياة من موقع الخيانة لأنفسهم إذا عملوا بمعصية الله وإذا عملوا بالبغي على عباد الله {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}، لأنَّ الله لا يحبّ الخائنين ولا يحبّ الآثمين، لا يحبّ الذين يخونون أنفسهم ويخونون الحياة من حولهم ويخونون الله سبحانه وتعالى في جميع مجالات حياتهم. إنَّ الله لا يحبّ الآثمين الذين يرتكبون المحرَّمات فيتحرّكون في حياتهم على أساس أن يأخذوا بكلّ ما حرَّم الله ويتركوا كلّ ما أوجب الله، هبهم من الأغنياء، هبهم من أصحاب الوجاهة، هبهم من السياسيين، إذا أردت أن تجادل عن شخص فكِّر: هل هو في خطّ الله يسير، أم في خطّ الشيطان؟ تلك هي قصّتك كمسلم، إذا أردت أن تدافع عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الدفاع، وإذا أردت أن تجادل عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الجدال.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} فإذا كان الله لا يحبّ هؤلاء الخوّانين الآثمين فكيف تحبّهم أنت، إنَّ المؤمن هو الذي يحبّ مَن يحبّ الله، ويبغض مَن يبغض الله، قال بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لبعض أصحابه وقد سأله عن موقع الحبّ والبغض في مسألة الإيمان قال له: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"، أن تحبّ مَن أحبّ الله وأن تبغض مَن أبغض الله، أن يكون حبّك سائراً في اتّجاه ما يحبّه الله وأن يكون بغضك سائراً في اتّجاه ما يبغضه الله. ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى: {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، في المحكمة كنتم المحامين الذين يدافعون عن الخونة ويدافعون عن الباطل، في داخل المجتمع، كنتم المدافعين عن المجرمين وعن الخونة، وكانت لكم قوّة تستطيعون من خلالها أن توجّهوا الأمر إليهم وكانت عندكم إمكانات تستطيعون أن تبرِّئوهم من خلالها، يمكن أن يكون لكَ بعض القوّة من مال وجاه وما إلى ذلك لتفرض رأيك على الناس، لكن تمرّ الدنيا، تعيش أنتَ زمناً ويعيش هؤلاء الخونة زمناً، ثمّ تلتقون غداً عند الله سبحانه وتعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس : 53] ووقفتم أمام الله ووقف الخونة هناك، ووقف المجرمون هناك، هل تستطيعون أن تجادلوا، هل عندكم حجّة، هل عندكم إمكانات، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}، مَن يكون الوكيل، المحامي، هل هناك مكاتب للمحاماة، هل هناك مكاتب للشفعاء، حتّى الشفعاء الذين يشفعهم الله بالناس ليست لهم مكاتب مستقلّة وليست لهم بطاقات مستقلّة، الله يعطيهم البطاقة لمن يشفعون له والله يعطيهم الإذن لمن يشفعون له {... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 28]، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، إنّك عندما تجادل عن الخونة فإنَّك انطلقت في خطيئتين: الخطيئة الأولى؛ أنّك جادلت عن خائن وهو حرام، والخطيئة الثانية أنّك خدعت الناس عندما صوَّرت لهم هذا الخائن بصورة المخلص، أو هؤلاء الآثمين بصورة المطيعين. الله يريد منّا أن نحافظ على صورة الحقّ في أفكارنا فلا نحمل أيّة صورة مزيّفة، بل لا بدّ أن تكون الصورة حقيقية مضيئة واقعية. ثمّ يريد الله لك أن لا تشوّه للنّاس الصورة من حولك، ليس من حقّك، هذا يسمّى عدواناً على الناس، أنتَ عندما تدخل شخصاً أو جماعة في قناعات الناس على أنّهم طيّبون وهم ليسوا بطيّبين فمعنى ذلك أنّك اعتديت عليهم عندما استفدت واستغللت قدرتك على الإقناع في أنْ تجعلهم عاطفياً وشعورياً في قبضة أُناس ليسوا في مستوى المسؤولية.
ولهذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن لا نحمل الصورة المزيّفة وأن لا نحرّك هذه الصورة في حياة الناس ليبقى الناس مع الحقّ في كلّ حدوده وفي كلّ مواقعه. أتعرفون كيف نزلت هذه الآيات، نزلت لتبرّئ يهودياً، ومعروفة آنذاك طبيعة علاقات اليهود بالإسلام، وقد عبَّر عنها قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82] ومع ذلك الله أنزل آيات كثيرة ليبرّئ يهودياً ممّا أُريد أن يُلصَق به من تهمة وهو بريءٌ منها، سرق بعض الناس في المدينة، وكان السارق من بعض العائلات المهمّة، وكان مسلماً، فتجمَّع قومه وتدبَّروا في أمرهم وكيف يدبّرون هذه الفضيحة وماذا يفعلون. في الليل، اجتمعوا دون أن يسمعهم أحد، وجهاء العشيرة أو وجهاء العائلة شعروا بالعار، أخذوا هذا المال المسروق، أو عملوا طريقة ليظهر وكأنَّ اليهودي هو السارق وقالوا إنَّ اليهودي سوف يحكم عليه بشكلٍ سريع لأنَّ يهوديّته تمنع من التدقيق في أمره، وكانت المعطيات تتّجه إلى أن يكون اليهودي هو السارق لأنَّ هناك أشياء، شكليّات، قد تتجمَّع حول بريء فيخيَّل إليك أنّه المجرم، وكاد الحكم أن يصدر على اليهودي لأنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يحكم بحسب المعطيات عنده لا بعلم الغيب، نزلت هذه الآية، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} يجتمعون في اللّيل ويتداولون، ماذا نقول بحقّ هذا اليهودي، كيف نرتّب أمر اتّهامه، كيف نرتِّب التهمة له، كما يفعل بعضنا في كثيرٍ من الحالات عندما نختلف ويكون واحد من أصحابنا أو من عشيرتنا أو من طائفتنا أو من بلدنا مُداناً بشيء ونحاول أن نبرِّئه، كيف نجتمع على أساس عائليّ أو على أساس حزبيّ أو على أساس بلديّ أو على أساس طائفيّ، كيف نستطيع أن نبرّئ صاحبنا ونلصق التّهمة بإنسانٍ آخر، ألاَ نفعل ذلك كثيراً ونبرّره كثيراً، والوسط السياسي غالباً، يأخذ بمثل هذا، والوسط العشائري غالباً يأخذ بمثل هذا، والوسط الطائفي غالباً يأخذ بمثل هذا، لأنَّ المسألة لا تنطلق من خلال الارتباط بالحقّ ولكنّها ترتبط من خلال الارتباط بالعصبية في ذلك كلّه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108] نزلت هذه الآية لتبرّئ هذا اليهودي على الرغم من يهوديّته لأنَّ العدالة في الإسلام لا تنظر إلى دين الشخص، أيّ دين يلتزم، ولكنّها تنظر إلى حقّ الشخص في أيّ مجالٍ من المجالات لتعطيه مهما كان دينه ومهما كان موقعه. وعلى هذا الأساس تابعت الآية {وَمَنْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} تقول إذا صدر منكم شيء من هذا القبيل نتيجة عاطفة أو نتيجة حزبية أو نتيجة طائفية، إذا صدر منكم مثل هذا الشيء وتبتم فإنَّ الله يتوب عليكم {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} إذا تراجعت وقلتَ يا ربّ لقد أخذت بالعاطفة فدافعتُ عن مجرم على حساب بريء، يا ربّ لقد ظلمتُ نفسي ولقد عملت سوءاً وأنا أستغفرك من ذلك، فالله يقول لك إذا صدقت نيّتك في التوبة فإنّي أغفر لك {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يعني عندما يسيء شخص من العشيرة أو من العائلة أو شخص من الطائفة أو من حزب أو من أيّة جهةٍ كانت من التجمُّعات الموجودة في المجتمع، إذا كسب إثماً فلماذا تشعر العشيرة أو الطائفة أو الحزب أو الجماعة بأنَّ هذا الأمر مشكلة كبيرة لها، إنّه لا ينال العشيرة شيءٌ من إثم فرد من العشيرة، ولا ينال العائلة شيءٌ من إثم فرد من أفراد العائلة {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} لأنَّ المسؤولية في الإسلام فردية، أبوك لا يتحمّل إثمك، أنتَ تأثم، أمّا أبوك فإنسان طاهر لا يجوز لإنسان أن يتعرَّض له بكلمة سوء، وهكذا عندما يخطئ إنسان فهو مَن يتحمّل مسؤولية خطئه، هذا الشيء المتعارَف عند الناس، إذا انحرفت امرأة أو فتاة من العائلة فإنّهم يشعرون بأنَّ شرف العائلة قد تلطَّخ، ولهذا فإنّهم يعملون على قتل هذه الإنسانة من دون دراسة الظروف، الإسلام يقول: لكلّ إنسان شرفه الخاص، ليس هناك شيء اسمه شرف العائلة، أمّا إذا انحرف فرد من العائلة أو أخطأ، فشرف العائلة لم يدنَّس لكنّ شرفه هو الذي يُدَنَّس، ولهذا لا بدّ أن يعامَل معاملة على أساس المسؤولية الفردية في هذا المجال. هذه العقلية الإسلامية العادلة التي تجعلك تواجه المسألة على أساس أنّ هذا الإنسان هو مَن كَسَبَ الإثم، إذاً هو يعاقَب، ثمّ مَن الذي يعاقِب وكيف يكون العقاب؟ هذه الأمور لا بدّ أن تخضع لحدود ولا تنطلق في دائرة العصبية. ولعلَّ العصبية هي مجال عصبيّات ظالمة والسبب أنّ المجتمع العشائري الآن يعتبر أنّ شرف العشيرة يدنّس إذا أخطأت الفتاة، ولكنّ شرف العشيرة لا ينبغي أن يدافع عنه إذا أخطأ الشاب، إذا أخطأت الفتاة فمعناه أنّ هناك العار، ولكن إذا أخطأ الشاب فعلينا أن نوكل له محامياً، وعلينا أن نخوض في معركة للعشيرة ضدّ العشيرة الثانية حتّى نحميه من اعتداء أهل البنت التي اعتدى عليها، أليس كذلك؟ لأنَّ المرأة ضعيفة ولأنّ الشاب يخدم العشيرة، المرأة لا تُقاتل فإذا خسروا امرأة فإنّهم لا يخسرون بندقية ولكنَّ الشاب يخسرون معه بندقية، إذا كانت المسألة مسألة الشرف، فأيّ فرق بين أن يسيء أحد إلى شرفك أو تسيء إلى شرف الآخرين؟ لكن إذا كانت المسألة مسألة جاهلية فإنَّ الجاهلية تفرض نفسها على عقولنا حتّى لو كنّا مسلمين، يقال إنّ أبا العلاء المعرّي كان لا يأكل لحم حيوان، عنده فلسفة في الموضوع، مرِضَ ذات يوم فوَصَفَ له الطبيب دجاجاً، فجيء له به، وهو لم يكن يرى، أخذه بيده، قال له: استضعفوك فوصفوك، ألاَ وصفوا شبل الأسد، لماذا لم يطلب الطبيب أن يأتوا له بلحم ابن الأسد؟ لأنّهم لا يستطيعون أن يطالوه، لكن أنتَ ضعيف يستطيعون أن يطالوك في أيّ وقت.
وهكذا نجد في حياة الناس السياسية والاجتماعية عندما تخطئ شخصية كبيرة فإنَّ كلّ الناس يتبرّعون للدفاع عنه ولحمايته حتّى لو كان في مستوى الجريمة، وعندما يخطئ عنصر بسيط فإنّ كلّ قوانين العالَم تنزل على رأسه لتدافع عن الحرية وعن العدالة وعن الحقوق، "إِنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سَرَقَتْ فاطمة بنت محمّد لَقُطِعَت يدها".
هذا هو منطق الإسلام {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أنتَ تفعل فعلتك، أو قريبك، ثمّ تلصقها ببريء مستغلاً قوّتك المالية أو قوّتك الإعلامية أو قوّتك السياسية أو قوّتك العشائرية لأنَّ الناس يقبلون منك ولا يقبلون من الآخر فتلصق التهمة به {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً} البهتان هو أن تنسب إلى إنسان ما لم يفعله {وَإِثْماً مُّبِيناً} إثماً واضحاً يعاقبه الله عليه يوم القيامة. فهناك حقَّان؛ حقّ خاص وحقٌّ عام، حقّ هذا الإنسان لأنّك اتّهمته بدون حقّ، والحقّ العام هو حقّ الله لأنّك كذبت وظلمتَ إنساناً في ما لا يجوّز لكَ الله ذلك.
التوازن في مصلحة المجتمع
هذه المسألة نواجهها في حياتنا لأنَّ التوازن في أيّ مجتمع من المجتمعات هو في مصلحة المجتمع، ومعنى التوازن أن يكون الناس عندك على حدٍّ سواء، من يحبّك ومَن لا يحبّك، مَن يكون معك ومَن لا يكون معك، مَن يكون قريبك ومن لا يكون قريبك، لأنّك بهذا تستطيع أن تحقّق مصلحتك ومصلحة الآخرين، لأنّك في هذا اليوم عندما تتّهم بريئاً فقد تكون في الغد أنتَ من الأبرياء ويتّهمك الآخرون. ما رأيك إذا كان بعض الناس قد اتّهموك بما أنتَ بريءٌ منه، ماذا تفعل؟ ألا تستنكر ذلك، لماذا لا تقبل أن يستنكر الناس عليك أن تتّهمهم وهم أبرياء وممّا عملته أنتَ ممّا عمله بعض أصحابك، هذا الخطّ العادل علينا أن نتعلّمه. ولعلَّ مسألة تعلّمه والعمل به من أصعب المسائل في حياتنا لأنّنا نتربّى على أساس أن يكون عدلنا وظلمنا خاضعين لحبّنا وبغضنا، أن نقول في من نحبّ ما لا يستحقّ، وأن ننسب إلى مَن لا نحبّ ما لا يستحقّ، هذا أمرٌ يجب أن نواجهه. وعلينا أن نكون ضدّ الخائنين، والخيانة ليست محصورة في دائرة خاصّة لأنّ الناس غالباً يتحدّثون عن خيانتين، خيانة سياسية وخيانة الأمانات والودائع، ولكنّ الخيانة تمتدّ في كلّ موضع تمتدّ فيه الأمانة، فهناك الذين يخونون أنفسهم، أنتَ تخون نفسك لأنّ نفسك جعلت ذاتها في تصرُّفك، في تصرّف إرادتك، ولهذا فأنتَ عندما تعصي ربّك فقد خنت نفسك، لأنّك عرَّضت نفسك لعذاب ربّك سواء عصيت الله في تصرُّفاتك الذاتية أو عصيت الله في تصرّفاتك مع الناس، أَلَم يتحدّث الله عن الذين يظلمون أنفسهم، {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء : 110] ربّما لا نستطيع أن نغيِّر هذا الإنسان، لكن علينا أن لا نعذره، وأن لا نبرِّر له عمله، وأن لا ندافع عن عمله. بعض الناس يملكون المال، ولكنّهم غارقون في الخمر وغارقون في القمار وغارقون في العبث وفي المجون وغارقون في ما حرَّم الله سبحانه وتعالى، ولكنّهم وجهاء، ويتحدّث بعض الناس عنهم ويندفع المؤمنون من أصحابهم وأقربائهم ليجادلوا عنهم، فلان صحيح أنّه لا يصلّي ولا يصوم، يشرب الخمر، يلعب القمار يتاجر بالمحرّمات، لكن فلاناً تبرَّع لحسينيَّة البلد، وفلان تبرَّع لهذا الموضوع فهو من أهل الخير، ويقف الناس من مشايخ وغير مشايخ ويتحدّثون عن هؤلاء الأغنياء المحسنين الذين يعطون المشاريع الاجتماعية (1%) ويعطون القمار (99%) ويعطون الظَّلَمة (99%) علينا أن لا نغرهم بأنفسهم على الأقلّ {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء : 107] هذا صريح كلام الله سبحانه وتعالى.
لقد اعتبر الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل الأساسية في سلامة المجتمع، وفي حياته، هذا نوع من الذين اختانوا أنفسهم والله لا يريدنا أن ندافع عنه، وهكذا عندما تكون المسألة مسألة أن يخون الإنسان حقوق الناس من حوله، عندما يكون للنّاس حقوق عنده سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً مالية، أو كانت حقوقاً معنوية، ونحن نعمل على أن نبرّئه وندافع عنه ونعذره في كلّ ذلك.
إذا كنّا نريد الإسلام وهذا هو الأساس في توازن المجتمع، وفي نموّ العمل الصالح الخيِّر في المجتمع، لأنّه إذا، كان المحسن والمسيء عندنا بمنزلةٍ سواء وإذا كان الفاسق والمؤمن عندنا بمنزلةٍ سواء، فكيف يمكن أن يتشجَّع المؤمن، وكيف يمكن أن يتراجع المسيء، أو الفاسق، الله قال لكم: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة : 18] فكيف تساوون بينهما، وكيف تفضّلون الفاسق في بعض الحالات على المؤمن، وتفضِّلون المسيء في بعض الحالات على المحسن {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 35 ـــ 37] دلّوني على هذا الكتاب، إذا كان يبرّر لكم هذا الشيء. لهذا، في الواقع الذي تعيشه، الله يقول لك كن مع المسلم ولا تكن مع المجرم، والمسلم هو الذي يلتزم الإسلام في قوله وفي عمله وفي خطّه وفي نهجه بالحياة، والمجرم هو الذي يمارس الجريمة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل. الله يقول إنّ هذا الحكم الذي يساوي بين المجرم والمسلم هو حكم سيّء لا يجوز لكم، بنص القرآن، أن تعملوا عليه.
أيُّها الإخوة، قد نعتبر هذه المسائل صغيرة بسيطة، لأنّها تدخل في ثرثرتنا الاجتماعية وفي حرتقاتنا السياسية وفي كثيرٍ من أوضاعنا العامّة والخاصّة، ودائماً عندما نتحدّث على أساس عاطفتنا لا على أساس مبادئنا نبرِّر المسألة بأنّ الجوّ هكذا، وقد يقول بعض الناس إنّ الكلام ليس عليه "جمرك" أليس هذا هو حديث الكثيرين؛ لكنَّ الكلام قد يشوّه صورة إنسان، وقد يوقع إنساناً في خطر، عندما تتّهم إنساناً بما فيه فأنتَ تعرّضه للخطر، وعندما تتحدّث عن إنسان بما ليس فيه فأنتَ تشوّه صورته، مَن أجاز لك أن تشوّه صورة إنسان؟ ومَن أجاز لك أن تعرّض إنساناً للخطر؟ ثمّ قد تتكلَّم كثيراً لأنّك تملك حريّة أن تتكلَّم، ولكنّك غداً لا تملك حريّة أن تتكلَّم، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ*إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 ـــ 18]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} ليس هناك كلام، ثرثر ما تشاء الآن، تكلَّم ما تريد، أخطب بما تريد، صرِّح بما تريد، ولكن {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس : 65] وخشعت الأصوات للحيّ القيُّوم، ليس هناك كلام، ليس هناك ضوضاء، لهذا لا بدّ أن نتعوَّد أن نكون العادلين في كلامنا فذلك هو الأساس في ما نقبل عليه عند الله سبحانه وتعالى، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء : 107] في أيّ مجالٍ كانت الخيانة حتّى عندما تكون مع مجتمع، ومع جماعة، قد ترى أنّهم على خير، ولكن إذا رأيت منهم ظلماً فقل إنَّهم ظلموا، وإذا رأيت منهم انحرافاً فقل إنّهم انحرفوا، وإذا رأيت منهم خيانة فقل إنَّهم خانوا، لا تجعلك العصبية في أيّ موقعٍ من الذين يتعصَّبون للباطل لأنّهم يتعصَّبون لمحور من محاوره الاجتماعية أو السياسية. هذا خطّ الله وهذا طريق الله، وهذا هو الذي قد يوقعنا في نار جهنَّم، "وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1)، يعني ما يحصده لسانك من كلام باطل، لهذا لا بدّ أن نراقب ألسنتنا فلا نؤيّد فيها مجرماً ولا نتكلَّم فيها على بريء، ولا نعمل على أساس العصبية بل نعمل على أساس الحقّ.
وهكذا لا بدّ لنا من أن نواجه كلّ الذين يعملون على خيانة الأُمّة في قضاياها المصيريّة، وذلك عندما يتحرّكون في خطوط المشاريع السياسية التي تضغط على حريّة الأُمّة وعزّتها، أو الذين يحرّكون المشاريع العملية الاجتماعية التي تعمل على إفساد الأُمّة وعلى نشر الفوضى الأخلاقية في حياتها، كالذين يتاجرون بالمخدرات أو يتاجرون بالخمور، أو يفتحون مقاهي ومطاعم تقدِّم ما حرَّم الله سبحانه وتعالى في أيّ مجال، هؤلاء يخونون أخلاق الأُمّة ويخونون توازن الأُمّة.
شكر لإمام الأُمّة
نحن في هذا المجال، نريد في خطّ الأمانة على مصلحة الناس والمسلمين نريد أن نشكر باسمكم إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) الذي أرسل ممثّله ضمن وفد من أجل أن يطوِّق الفتنة التي حدثت بين الإخوة(2) والتي حاول الكثيرون ولا يزالون يحاولون في الداخل والخارج أن يعملوا على إعادتها من جديد، وقد استطاع وفد الجمهورية الإسلامية التي تتحسَّس آلام المسلمين ولاسيّما في لبنان والتي لم تمنعها مشاكلها الكثيرة التي تواجه فيها تحدّيات الاستكبار العالمي وجهاً لوجه من أن تهتمَّ بأمور المسلمين هنا، وقد استطاعت أن تصل إلى نتيجة جيّدة، فقد استطاعت أن تجمع الإخوة وتدفعهم إلى الحوار وإلى التعهُّد أمام الله بأن يمتنعوا عن أيّ قتال بينهم مهما كانت المشاكل، وأن يعملوا على حلّ المشاكل بطريق الحوار وأن يمتنعوا عن كلّ الحرب الإعلامية المضادّة وأن يعملوا على تأكيد المقاومة ضدّ "إسرائيل" بكلّ طاقاتهم، وأن يتحاوروا في سبيل الوصول إلى قواسم مشتركة، وما أكثر القواسم المشتركة في ما بينهم، وقد تحقَّقت هذه الروح ولا تزال الاجتماعات منعقدة في سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية في أكثر من مجال، وقد رأيتم أنّ الإعلام الذي يهمّه أن نظلّ مختلفين وأن تظلّ الساحة كلّها مختلفة، كيف يبحث عن بعض الأشياء السلبية الصغيرة ليقول لقد فشلت المبادرة الإسلامية. المبادرة الإسلامية لم تفشل ولكنّها وضعت القطار على الخطّ. ونعتقد أنّ هناك إيجابيات كبيرة في هذا المجال ونحتاج من خلال الأُمّة التي تتحسَّس الأخطار التي يمكن أن تطبق عليها إذا حدثت أن تكون القلوب المفتوحة التي تنفتح على ما يجمع الشمل ولا تنفتح على ما يعقّد. لهذا نقول: لا بدّ للكلمات في هذه المرحلة أن تكون كلمات مسؤولة على مستوى القيادات وعلى مستوى القاعدة حتّى نتحرّك جميعاً في موقع المسؤولية من أجل أن نكون المسؤولين عن حاضرنا وعن مستقبلنا في كلّ مجال من مجالات الحياة.
دعوة إلى التكامل
إنَّنا ندعو الجميع إلى التكامل في هذا المجال حتّى يمكننا أن نحافظ على كلّ مكتسباتنا وحتّى نتمكّن من أن نعمل على تأكيد المقاومة والجهاد ضدّ "إسرائيل" حتّى نطرد المحتل من أرضنا وحتّى نتكامل مع العالم الإسلامي عندما يتحرّك العالَم الإسلامي لمواجهة "إسرائيل" من أجل أن تتحرَّر القدس ونتخلَّص من هذا السرطان الذي يطبق على كلّ مقدّراتنا وعلى كلّ واقعنا.
لعدم التمييز في قضية المهجّرين
ونحبّ أن نطلّ على قضية أخرى أُثيرت بالأمس قبل أيام وهي قضية المهجرين(1)؛ فهناك حديث وتظاهرات لعودة المهجرين، مهجّري الجبل ومهجّري شرق صيدا ومهجّري الضاحية كما يقولون، هناك حديث يضع هذه القضية كقضية أساسية مصيرية قبل أيّ حلّ للبنان، بحيث لا يمرّ حلّ للبنان إلاّ من هذه القضية. إنَّنا نحبّ أن نعلّق تعليقين على هذه المسألة.
أوّلاً: أنّ مسألة المهجرين هي مسألة إنسانية على أساس أنّ هناك اضطهاداً لإنسانية أيّ إنسان تقتلعه من بيته على أساس ما تملك من القوّة، ولهذا فإنَّ قضية المهجرين إذا أُريدَ لها أن تطرح بجديّة، بعيداً عن التسويق السياسي، وبعيداً عن الإثارات الطائفية، نتمنّى أن تنطلق تظاهرة من الشرقية إلى قصر منصور لتطالب بعودة مهجّري النبعة وسنّ الفيل وغيرهما من كلّ المناطق الشرقية. كنتم تقولون إنّ مهجّري الجبل وشرق صيدا يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، إنّ مهجّري النبعة وبرج حمود وسنّ الفيل وغيرهما يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، ويحملون الجنسية اللبنانية كما تحملون. إذا كنتم تريدون أن تطرحوا قضية المهجّرين فطالِبوا بعودة مهجّري المنطقة الشرقية، ونحن نطالب بعودة مهجّري الجبل وبعودة مهجّري شرق صيدا وبعودة مهجّري المريجة وحارة حريك، كيف يمكن أن تحلّ مشكلة المهجّرين من هذه المنطقة وبيوتهم يسكنها أُناس لهم بيوت... أين يذهبون.
إذاً لن تحلّ مشكلة المهجّرين من طرفٍ واحد، بل لا بدّ أن نطرح جميعاً المسألة كقضية إنسانية لبنانية، وعند ذلك يمكن أن يتّفق الجميع، كلّ المهجّرين يسيرون في تظاهرة واحدة ولن يستطيع أحد أن يطلق عليهم الرصاص.
ثانياً: إنَّ مسألة المهجّرين كما نعلم هي جزء من المسألة اللبنانية، ولهذا فإنَّ من الخيال والوهم أن نفكّر أنّ من الممكن حلّ مشكلة المهجّرين بدون حلّ المشكلة اللبنانية، لأنّ أيّ مُهَجَّر لا يستطيع أن يرجع إلى بيته إذا لم تكن هناك دولة تحميه، كيف يمكن ذلك، لو قيل الآن لمهجّري الجبل ارجعوا ولكن من دون أن ترجع الدولة ومن دون أن ترجع الضوابط القانونية فما هي أُسس حمايتها، لا تجعلوا قضية المهجّرين تدخل بالحرتقات السياسية ولكن اجعلوها تتّجه لتكون العنصر الضاغط على أن تحلّ المشكلة اللبنانية بطريقة يتساوى فيها الناس في الحقوق وفي الواجبات.
لا تفاؤل ولا تشاؤم
ثالثاً: هي أنّ المرحلة الحالية التي يمرّ بها البلد لا تزال مرحلة ضبابية يُراد من خلالها تصعيد التوتّر السياسي ومحاولة تحريك التوتّر الأمني في سبيل اتّخاذ مناخ صالح لكثير من اللاعبين السياسيين على مستوى إقليمي وعلى مستوى دولي مع هامش صغير للاعبين على المستوى المحلي. ولهذا فإنَّ المسألة لا تزال تراوح مكانها؛ كانت هناك كلمات التفاؤل وأصبح الذين أطلقوا كلمات التفاؤل يتحدّثون بكلمات التشاؤم، ولكنَّنا نقول: ليست المسألة مسألة تفاؤل أو تشاؤم، المسألة هي أنّ المرحلة السياسية سواء على مستوى لبنان أو على مستوى المنطقة من أكثر المراحل صعوبة، ومن الطبيعي أن يكون لبنان هو الساحة التي تتحرّك فيها هذه المشاكل، وأن يكون اللبنانيون هم الوقود الطبيعي، لذلك لن نستطيع أن نحدّث الناس عن تفاؤل كبير وعن تشاؤم كبير، ولكنّنا نحبّ أن يعيشوا جوّ الحذر الكبير، أنّ هناك دخولاً إسرائيلياً على الخطّ في أحاديث المسؤولين الصهاينة عن مسألة جزّين(1) وأحاديثهم عن مسألة الإرهاب الذي لا يستطيعون أن يقضوا عليه في الساحة اللبنانية لأنّه متجذّر في هذه الساحة. وهناك تجارب في هذه المسألة، فهناك دعوة من بعض المنظّمات في المنطقة الشرقية للمسيحيين وللمهجّرين ليكونوا جزءاً من جيش لبنان الجنوبي، على أساس أن يكون هناك تصعيد يعمل على إثارة المسألة الإسرائيلية من جديد في الساحة اللبنانية لتتكامل المسألة الإسرائيلية مع المسألة الأميركية. ونحن نريد أن نقول لهم ولكلّ الناس: لن تبقى لكم "إسرائيل" ولن تفيدكم "إسرائيل" لأنّها لا تفكِّر إلاّ بنفسها، حاولوا أن تلتقوا مع الناس الذين تعيشون معهم في البلد فإنّهم أبقى لكم من أيّ عنصرٍ آخر. سواء كان إسرائيلياً أو أميركياً.
لن نوافق على رئيس تسمّيه أميركا
إنّنا في هذا المجال نريد أن نعلن، والناس يتحدّثون حديثاً طويلاً عن الاستحقاق الرئاسي(1)، إنّنا لن نوافق على أي رئيس يأتي إلينا على العربة الأميركية والإسرائيلية، ولن نوافق أيضاً، بكلّ ما نملك من إمكانات، على أن تعود هيمنة المارونية السياسية إلى هذا البلد، وحتّى الهيمنة الطائفية المسيحية في هذا البلد على المسلمين من جديد. إنّ الآخرين جرَّبوا فليجرِّب المسلمون حظَّهم في أن ينطلقوا من أجل أن يأخذوا حقوقهم كاملة في هذا البلد حتّى الحقّ الذي يتمثّل في أن يكونوا في أعلى مواقع المسؤولية. إنَّنا نريد في هذه المرحلة عزّة المسلمين وحريّتهم وأن يكونوا في الحجم السياسي الذي يمثّله حجمهم الواقعي والعددي والسياسي والاجتماعي. لقد سقطت مقولة الخوف، ولا بدّ أن تأتي مقولة الثقة المتبادلة التي يمكن أن تحلّ بها القضايا على أساس دراسة كلّ شيء بالصراحة وبالوعي وبالحوار.
الانتفاضة.. الثورة
عندما نريد أن نتّجه إلى الشأن الخارجي فإنَّ أمامنا الانتفاضة الإسلامية المباركة في فلسطين التي أثبتت أنّها تعمل على أن تتحوّل إلى ثورة، وأنّها الانتفاضة الشعبية العفوية التي تعيش الإيمان بالله والإيمان بحريّتها على أساس إيمانها الإسلامي وصلابتها في هذا الموقف، إنّ هذه الانتفاضة قد أكّدت صلابتها وقوّتها واستمرارها من خلال أطفالها ونسائها وشبابها وشيوخها، ولا يزال الكثير من الأنظمة العربية يتحرّك في عجلة السياسة الأميركية التي طرحت المبادرة السيّئة الذكر من أجل تطويق هذه الانتفاضة ومن أجل إبعاد الأنظار للعالم عن حركة هذه الانتفاضة وعن الوحشية الإسرائيلية، وقد عملت حتّى الآن على أن تسقط وهجها، ولكنَّ الانتفاضة تثبت وتؤكّد نفسها في كلّ وقت. إنَّنا نعتبر أنّ الانتفاضة تمثّل الانطلاقة الجديدة في كلّ هذا العالَم العربي الذي يعمل على أساس أن يزيد الناس خوفاً وهزيمة وجبناً بكلّ ما عنده من أساليب الإعلام وأساليب السياسة، وقد استطاعت أكثر الأنظمة العربية أن تسجن شعوبها في السجن الكبير الذي يمنعها حتّى من أن تتظاهر دعماً لهذه الانتفاضة ولغيرها من القضايا الأساسية. إنَّ الانتفاضة بدأت تثقّف الشعوب العربية وغير العربية، تثقّفها ثقافة الحريّة وتثقّفها على الجرأة وعلى أن تسقط الخوف من حساباتها من أجل أن يأتي الزلزال إلى كلّ هذه المنطقة كما جاء الزلزال في إيران الإسلام التي استطاعت أن تسقط الطاغوت عندما تمرّدت على حاجز الخوف. إنَّنا نواجه في هذه المسألة التي أقولها للفلسطينيين من إخواننا المجاهدين في الداخل ولكلّ الفلسطينيين في أيّ مكان، لقد أثبتت تجربة الانتفاضة أنّ حجراً واحداً في الداخل يقف أمام ألف صاروخ في الخارج، ويمكن ان يزلزل قواعد النظام هناك، ولهذا فلا بدّ من العمل بكلّ ما عندنا من قوّة وإمكانات من أجل أن نقويَ الانتفاضة في الداخل ثمّ إذا حدثت هناك أيّة انطلاقة في أيّ موقع من مواقع الصراع مع "إسرائيل" فإنّها تتكامل مع الانتفاضة لتقويها ولتتقوّى بها.
ومن هنا ننظر إلى الواقع السياسي الجديد الذي يتحرّك الآن في جوّ الابتعاد عن كامب ديفيد وعن الأنظمة التي تريد أن تدخل المسألة الفلسطينية في دائرة السياسة الأميركية المترابطة مع السياسة الإسرائيلية، إنّنا ننظر بجدّ وباهتمام إلى هذه العلاقات الجديدة مع سوريا، لأنّنا نجد أنّ سوريا لا تزال في كلّ الواقع العربي تطرح الاستراتيجية المواجهة للسياسة الأميركية في المنطقة، ولا تزال تطرح السياسة المواجهة للواقع الإسرائيلي والخطر الإسرائيلي في المنطقة. ولهذا فإنّنا نعتقد أنّ تقوية هذا الاتّجاه وتقوية هذه الطروحات، على أساس واقعي حقيقي لا على أساس تكتيكي، يمكن أن يفيد القضية في كلّ خطوات الاستكبار العالمي للصهيونية في المنطقة، ونحن نعتبر أنّ حركة الواقع السياسي هي حركة مواقف وليست حركة أشخاص. لهذا نقول إنّنا نبحث عن الخطوات الجهادية في المجرى السياسي وفي المجرى العسكري الأمني، لا على أساس أن يكون نقطة في دائرة المفاوضات بل أن يكون انطلاقة في خطّ التحرير الكامل. هذا من جهة.
أميركا وتطويق حركات التحرُّر
ومن جهةٍ أخرى، إنّنا نتطلَّع في هذه المرحلة بالذّات إلى خطوات السياسة الأميركية في المنطقة التي تعمل بكلّ ما عندها من إمكانات على أساس أن تطوّق كلّ حركات التحرُّر في المنطقة، ولاسيّما حركة التحرّر في داخل فلسطين المتمثّلة بالانتفاضة، ولاسيّما في مواجهتها أيضاً للجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الخطوات التصعيدية التي تعمل فيها على تصعيد الأوضاع العسكرية في الخليج لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بكلّ ما تملكه من إمكانات الضغط السياسي والضغط العسكري إضافة إلى الضغط الاقتصادي، ونحن نعتبر أنّ هناك مخطّطاً أميركياً يعمل على تطويق الحالة الإسلامية في كلّ مكان من أجل أن يُفسَح في المجال للمستقبل الذي تكون السياسة الأميركية فيه سيّدة الواقع السياسي في المنطقة.. ولكنَّ المسألة ليست في ما يخطِّطون، بل في ما نعمل نحن في كلّ مكان نستطيع فيه أن نتحرّك ضدّ هذا اللّون من السياسة الاستكبارية، لنقف جميعاً صفّاً واحداً، لندعم الانتفاضة الجهادية في فلسطين ضدّ الخطوات الأميركية وغير الأميركية، ولندعم الجمهورية الإسلامية ضدّ كلّ الخطوات التي تعمل أميركا من خلالها للضغط على الجمهورية الإسلامية، لأنّنا بمقدار ما نؤيّد فإنّ ذلك يعني إضعاف الباطل، وبمقدار ما نكون حياديّين في معركة الحقّ والباطل معنى ذلك أن نعطي الباطل قوّة ولو من ناحية سيّئة، لهذا نعتبر أنّ حماية الجمهورية الإسلامية كقاعدة إسلامية لكلّ الحركات الإسلامية في العالَم هي مسؤوليّتنا جميعاً، ونعتبر أنّ أيّ عبث وأيّ كلام وأيّ عمل يتحرّك من أجل إضعاف هيبة الجمهورية الإسلامية ومواقعها السياسية في أيّ مكان، هو إضعاف للإسلام نفسه، وعلى الجميع أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم في هذا المجال، لأنَّ أميركا عندما تضعف الجمهورية الإسلامية فإنّ إضعافنا يُصبح أمراً سهلاً في أيّ موقع وفي أيّ مكان، وإنّنا نتساءل عن معنى قطع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في هذا الوقت بالذّات، إنّهم يتحدّثون عن أنّ الجمهورية الإسلامية تعبث وتخرّب وتؤذي وتعمل ما تعمل... لكن ماذا حدث الآن، لم يحدث هناك أيّ شيء، الأشياء التي يتحدّثون عنها كانت قبل سنة أو قبل سنتين، لماذا قطع العلاقات الآن؛ فهل سعة الصدر وصلت الآن إلى الطريق المسدود، أم طبيعة التحرّك الأميركي في المنطقة تحتاج إلى بعض الواجهات الإسلامية، وتحتاج إلى بعض الأوضاع المعنوية التي تضغط على الجمهورية الإسلامية؟ فجاء التوقيت توقيتاً يعتمد على طبيعة الخطّة الموضوعة ليكون قطع العلاقات نقطة أو خطاً في هذه الفكرة. إنّنا نفهم القضية في هذا الاتجاه، ونفهم حقيقة أخرى هي أنّ قطع العلاقات لا يمكن أن يؤدّي إلى أيّة نتيجة إيجابية، بل نخشى أن يؤدّي إلى نتائج سلبية على أكثر من مستوى، ولهذا فإنّنا ننصح بالتراجع عن هذه الخطوة وإنْ كانت نصيحتنا كما نعلم لا تمثّل قوّة وستذهب في الهواء ولكنّنا نقول ما نعتقد به ونؤمن به، إِنَّ هناك الكثيرين من الذين ركبوا الموجة الأميركية في الصحف اللبنانية وفي الإذاعات وهم يتحدّثون عن المأزق الذي تعيشه إيران الإسلام ويتحدّثون عن الهزائم أيضاً، ولهذا فإنّهم يطالبونها بتصحيح مسارها، ولكنّنا نريد أن نقول لهؤلاء: إنَّ معنى أن تسقط في معركة ليس دليلاً على أنّك مخطئ في معركتك هذه أو في أسلوبك هذا، وإلاّ لكان كلّ الثائرين في العالَم ولكان كلّ الأبطال الذين يتحرّكون على مستوى وطني أو قومي أو سياسي أو ديني فاشلين، لأنّهم لم ينتصروا دائماً في معاركهم. إنَّ مسألة المعارك لا تخضع دائماً للنتائج.. الهزيمة لا تعني أنّك على باطل، ولكنّها تعني أنّ الظروف الموضوعية التي تحيط بك لم تعطك موقع قوّة في معركتك هذه، ولكنّها قد تعطيك أكثر من موقع قوّة في المستقبل لتنتصر كما انتصرت في الماضي. لقد قال عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) في معركة صفّين عندما كان جيش الإمام عليّ (عليه السلام) يصاب بنكسة في بعض مراحل المعركة، وكان بعض الناس قد شكوا في المسألة، قال: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1). إنَّنا نريد أن نقول لكلّ هؤلاء الذين يتحدّثون للإسلاميين عن ضرورة تصحيح خطّهم سواء كانوا في إيران أو في غير إيران، نقول: مِنَ الطبيعي للإسلاميين أن ينقدوا أنفسهم دائماً سواء خاضوا معركة أو لم يخوضوا لأنَّ المؤمن لا بدّ من أن يلاحق كلّ تصرّفاته لينقدها حتّى يصحّح المسيرة لأنّ مسيرته ليست مسيرة شخصية ولكنّها مسيرة الإسلام.
إنَّ من واجبنا دائماً على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي والعسكري، أن نلاحق كلّ خططنا وكلّ خطواتنا وكلّ أعمالنا في العالَم كلّه لندرسها جيّداً ولنتعرَّف نقاط الضعف فيها، ولنتعرّف نقاط القوّة فيها، حتّى نستطيع أن نقوّي ما عندنا من نقاط الضعف وأن نزيد القوّة في ما عندنا من نقاط القوّة، ولكنّ خسارتك لمعركة لا تعني أنّك على باطل، فنحن في إيران وفي العراق وفي مصر وفي كلّ مكان، عندما نواجه هزيمة المسلمين في معركة أُحُد هل نقول إنّ المسلمين كانوا على باطل، كانت طبيعة المعركة وبعض المشاكل التي حدثت فيها هي التي أدَّت إلى ذلك، وهكذا في معركة حنين، وهكذا في كلّ المعارك التي لم يكسب فيها المسلمون كثيراً. عندما نريد أن نعرف الحقّ والباطل فعلينا أن ندرس معطيات الحقّ في كلّ المواقع التي نستطيع أن نتعرَّف فيها عناصره وأن نتعرَّف الباطل أيضاً من خلال عناصر الباطل وأن نتابع السير في خطّ الله وأن نعمل دائماً كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...} [الحشر : 18] انظر من خلال خطّك ومن خلال جهدك ومن خلال عملك وصحِّح كلّ شيء على أساس تقوى الله، حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن توزن، إنَّ الإنسان الذي لا يحاسب نفسه ربّما تغلبه نفسه حتّى يعيش في اتّجاه الهلاك وفي اتّجاه النار. وهكذا لا بدّ من أن نحاسب أنفسنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد خطواتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد ساحتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد أعداءنا دائماً، ولا بدّ من أن نراقب ربّنا دائماً في ذلك كلّه، ومَن يراقب الله يَسِر في طريق الله، ومَن ينصر الله فإنَّ الله ينصره {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
بالوعي والإخلاص نصون عزّة الأُمّة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومخاطباً كلّ المؤمنين وكلّ العاملين في خطّ الإسلام من خلال خطابه لرسوله {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً*يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً*هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً*وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 105 ـــ 112].
أساس العدل
هذه الآيات، هي من الآيات التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن يركّز في المجتمع الإسلامي كلّه أساساً من أُسس العدالة التي جعلها الله للنّاس جميعاً، فليس هناك في كلّ ما يختلف الناس فيه تمييز في العدالة بين شخصٍ وآخر، فأنتَ لا بدّ لك أن تعدل حتّى مع الكافر إذا كان له حقّ عندك فليس لك أن تضيّع على الكافر حقّه إذا جعل الله له الحقّ، وليس لكَ أن تضيّع الحقّ على عدوّك إذا كان له عليك حقّ، كن الإنسان الذي يحكم بالحقّ لأنّك تلتزم الكتاب الذي أنزله الله بالحقّ، وإذا أردت أن تحكم بين الناس في ما يختلفون فيه أمامك وكنتَ في موقع الحكم، فعليك أن تحكم بما أراك الله من خلال فهمك للحقّ، وسيسألك الله غداً على أيّ أساس حكمت، وعلى أيّ أساس عرفتَ أنّ الحقّ مع هذا وأنّ الحق ليس مع هذا، وفي جميع الأحوال، لا يجوز لك أن تكون مدافعاً عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله والذين خانوا أماناتهم وخانوا عهودهم وخانوا الناس من حولهم، ليس لكَ ذلك، لأنَّ الله يقول: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}، لا تكن مدافعاً عن الخائنين حتّى لو كان الخائن أباك أو ولدك أو من عائلتك أو من بلدك أو من طائفتك، لأنَّ المسألة ليست مسألة الأشخاص في ما يتميَّزون به من قربهم إليك ومن بعدهم عنك، ولكنَّ المسألة هي مسألة قرب الحقّ إلى موقفك وبُعد الباطل عن موقفك، لأنَّ الحقّ أقرب إليك من كلّ إنسان، {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ} إذا صدرت منك بادرة تعاطف مع الخائنين أو صدرت منك بادرة تأييد أو مساعدة للخائنين أو حكم لمصلحة الخائنين، فاستغفر الله إذا أردت أن تتراجع عن خطّك وعن مبادرتك فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً، سيغفر الله لكَ ذنبك إذا عرف منك صدق النيّة، وسيرحم الله موقفك إذا عرف أنّك ستتراجع عنه.
الله لا يحبّ الخائنين
ثمّ بعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تجادل عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم عندما يسيرون في خطّ الخيانة وفي خطّ المعصية وفي خطّ الجريمة، لا تدافع عنهم حتّى لو كانوا جماعتك حتّى وعشيرتك أو أولادك أو إخوانك، لا تجادل عنهم، لا تقف مع الخائنين في موقف دفاع عندما يتحرّكون في الحياة من موقع الخيانة لأنفسهم إذا عملوا بمعصية الله وإذا عملوا بالبغي على عباد الله {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}، لأنَّ الله لا يحبّ الخائنين ولا يحبّ الآثمين، لا يحبّ الذين يخونون أنفسهم ويخونون الحياة من حولهم ويخونون الله سبحانه وتعالى في جميع مجالات حياتهم. إنَّ الله لا يحبّ الآثمين الذين يرتكبون المحرَّمات فيتحرّكون في حياتهم على أساس أن يأخذوا بكلّ ما حرَّم الله ويتركوا كلّ ما أوجب الله، هبهم من الأغنياء، هبهم من أصحاب الوجاهة، هبهم من السياسيين، إذا أردت أن تجادل عن شخص فكِّر: هل هو في خطّ الله يسير، أم في خطّ الشيطان؟ تلك هي قصّتك كمسلم، إذا أردت أن تدافع عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الدفاع، وإذا أردت أن تجادل عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الجدال.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} فإذا كان الله لا يحبّ هؤلاء الخوّانين الآثمين فكيف تحبّهم أنت، إنَّ المؤمن هو الذي يحبّ مَن يحبّ الله، ويبغض مَن يبغض الله، قال بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لبعض أصحابه وقد سأله عن موقع الحبّ والبغض في مسألة الإيمان قال له: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"، أن تحبّ مَن أحبّ الله وأن تبغض مَن أبغض الله، أن يكون حبّك سائراً في اتّجاه ما يحبّه الله وأن يكون بغضك سائراً في اتّجاه ما يبغضه الله. ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى: {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، في المحكمة كنتم المحامين الذين يدافعون عن الخونة ويدافعون عن الباطل، في داخل المجتمع، كنتم المدافعين عن المجرمين وعن الخونة، وكانت لكم قوّة تستطيعون من خلالها أن توجّهوا الأمر إليهم وكانت عندكم إمكانات تستطيعون أن تبرِّئوهم من خلالها، يمكن أن يكون لكَ بعض القوّة من مال وجاه وما إلى ذلك لتفرض رأيك على الناس، لكن تمرّ الدنيا، تعيش أنتَ زمناً ويعيش هؤلاء الخونة زمناً، ثمّ تلتقون غداً عند الله سبحانه وتعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس : 53] ووقفتم أمام الله ووقف الخونة هناك، ووقف المجرمون هناك، هل تستطيعون أن تجادلوا، هل عندكم حجّة، هل عندكم إمكانات، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}، مَن يكون الوكيل، المحامي، هل هناك مكاتب للمحاماة، هل هناك مكاتب للشفعاء، حتّى الشفعاء الذين يشفعهم الله بالناس ليست لهم مكاتب مستقلّة وليست لهم بطاقات مستقلّة، الله يعطيهم البطاقة لمن يشفعون له والله يعطيهم الإذن لمن يشفعون له {... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 28]، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، إنّك عندما تجادل عن الخونة فإنَّك انطلقت في خطيئتين: الخطيئة الأولى؛ أنّك جادلت عن خائن وهو حرام، والخطيئة الثانية أنّك خدعت الناس عندما صوَّرت لهم هذا الخائن بصورة المخلص، أو هؤلاء الآثمين بصورة المطيعين. الله يريد منّا أن نحافظ على صورة الحقّ في أفكارنا فلا نحمل أيّة صورة مزيّفة، بل لا بدّ أن تكون الصورة حقيقية مضيئة واقعية. ثمّ يريد الله لك أن لا تشوّه للنّاس الصورة من حولك، ليس من حقّك، هذا يسمّى عدواناً على الناس، أنتَ عندما تدخل شخصاً أو جماعة في قناعات الناس على أنّهم طيّبون وهم ليسوا بطيّبين فمعنى ذلك أنّك اعتديت عليهم عندما استفدت واستغللت قدرتك على الإقناع في أنْ تجعلهم عاطفياً وشعورياً في قبضة أُناس ليسوا في مستوى المسؤولية.
ولهذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن لا نحمل الصورة المزيّفة وأن لا نحرّك هذه الصورة في حياة الناس ليبقى الناس مع الحقّ في كلّ حدوده وفي كلّ مواقعه. أتعرفون كيف نزلت هذه الآيات، نزلت لتبرّئ يهودياً، ومعروفة آنذاك طبيعة علاقات اليهود بالإسلام، وقد عبَّر عنها قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82] ومع ذلك الله أنزل آيات كثيرة ليبرّئ يهودياً ممّا أُريد أن يُلصَق به من تهمة وهو بريءٌ منها، سرق بعض الناس في المدينة، وكان السارق من بعض العائلات المهمّة، وكان مسلماً، فتجمَّع قومه وتدبَّروا في أمرهم وكيف يدبّرون هذه الفضيحة وماذا يفعلون. في الليل، اجتمعوا دون أن يسمعهم أحد، وجهاء العشيرة أو وجهاء العائلة شعروا بالعار، أخذوا هذا المال المسروق، أو عملوا طريقة ليظهر وكأنَّ اليهودي هو السارق وقالوا إنَّ اليهودي سوف يحكم عليه بشكلٍ سريع لأنَّ يهوديّته تمنع من التدقيق في أمره، وكانت المعطيات تتّجه إلى أن يكون اليهودي هو السارق لأنَّ هناك أشياء، شكليّات، قد تتجمَّع حول بريء فيخيَّل إليك أنّه المجرم، وكاد الحكم أن يصدر على اليهودي لأنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يحكم بحسب المعطيات عنده لا بعلم الغيب، نزلت هذه الآية، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} يجتمعون في اللّيل ويتداولون، ماذا نقول بحقّ هذا اليهودي، كيف نرتّب أمر اتّهامه، كيف نرتِّب التهمة له، كما يفعل بعضنا في كثيرٍ من الحالات عندما نختلف ويكون واحد من أصحابنا أو من عشيرتنا أو من طائفتنا أو من بلدنا مُداناً بشيء ونحاول أن نبرِّئه، كيف نجتمع على أساس عائليّ أو على أساس حزبيّ أو على أساس بلديّ أو على أساس طائفيّ، كيف نستطيع أن نبرّئ صاحبنا ونلصق التّهمة بإنسانٍ آخر، ألاَ نفعل ذلك كثيراً ونبرّره كثيراً، والوسط السياسي غالباً، يأخذ بمثل هذا، والوسط العشائري غالباً يأخذ بمثل هذا، والوسط الطائفي غالباً يأخذ بمثل هذا، لأنَّ المسألة لا تنطلق من خلال الارتباط بالحقّ ولكنّها ترتبط من خلال الارتباط بالعصبية في ذلك كلّه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108] نزلت هذه الآية لتبرّئ هذا اليهودي على الرغم من يهوديّته لأنَّ العدالة في الإسلام لا تنظر إلى دين الشخص، أيّ دين يلتزم، ولكنّها تنظر إلى حقّ الشخص في أيّ مجالٍ من المجالات لتعطيه مهما كان دينه ومهما كان موقعه. وعلى هذا الأساس تابعت الآية {وَمَنْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} تقول إذا صدر منكم شيء من هذا القبيل نتيجة عاطفة أو نتيجة حزبية أو نتيجة طائفية، إذا صدر منكم مثل هذا الشيء وتبتم فإنَّ الله يتوب عليكم {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} إذا تراجعت وقلتَ يا ربّ لقد أخذت بالعاطفة فدافعتُ عن مجرم على حساب بريء، يا ربّ لقد ظلمتُ نفسي ولقد عملت سوءاً وأنا أستغفرك من ذلك، فالله يقول لك إذا صدقت نيّتك في التوبة فإنّي أغفر لك {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يعني عندما يسيء شخص من العشيرة أو من العائلة أو شخص من الطائفة أو من حزب أو من أيّة جهةٍ كانت من التجمُّعات الموجودة في المجتمع، إذا كسب إثماً فلماذا تشعر العشيرة أو الطائفة أو الحزب أو الجماعة بأنَّ هذا الأمر مشكلة كبيرة لها، إنّه لا ينال العشيرة شيءٌ من إثم فرد من العشيرة، ولا ينال العائلة شيءٌ من إثم فرد من أفراد العائلة {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} لأنَّ المسؤولية في الإسلام فردية، أبوك لا يتحمّل إثمك، أنتَ تأثم، أمّا أبوك فإنسان طاهر لا يجوز لإنسان أن يتعرَّض له بكلمة سوء، وهكذا عندما يخطئ إنسان فهو مَن يتحمّل مسؤولية خطئه، هذا الشيء المتعارَف عند الناس، إذا انحرفت امرأة أو فتاة من العائلة فإنّهم يشعرون بأنَّ شرف العائلة قد تلطَّخ، ولهذا فإنّهم يعملون على قتل هذه الإنسانة من دون دراسة الظروف، الإسلام يقول: لكلّ إنسان شرفه الخاص، ليس هناك شيء اسمه شرف العائلة، أمّا إذا انحرف فرد من العائلة أو أخطأ، فشرف العائلة لم يدنَّس لكنّ شرفه هو الذي يُدَنَّس، ولهذا لا بدّ أن يعامَل معاملة على أساس المسؤولية الفردية في هذا المجال. هذه العقلية الإسلامية العادلة التي تجعلك تواجه المسألة على أساس أنّ هذا الإنسان هو مَن كَسَبَ الإثم، إذاً هو يعاقَب، ثمّ مَن الذي يعاقِب وكيف يكون العقاب؟ هذه الأمور لا بدّ أن تخضع لحدود ولا تنطلق في دائرة العصبية. ولعلَّ العصبية هي مجال عصبيّات ظالمة والسبب أنّ المجتمع العشائري الآن يعتبر أنّ شرف العشيرة يدنّس إذا أخطأت الفتاة، ولكنّ شرف العشيرة لا ينبغي أن يدافع عنه إذا أخطأ الشاب، إذا أخطأت الفتاة فمعناه أنّ هناك العار، ولكن إذا أخطأ الشاب فعلينا أن نوكل له محامياً، وعلينا أن نخوض في معركة للعشيرة ضدّ العشيرة الثانية حتّى نحميه من اعتداء أهل البنت التي اعتدى عليها، أليس كذلك؟ لأنَّ المرأة ضعيفة ولأنّ الشاب يخدم العشيرة، المرأة لا تُقاتل فإذا خسروا امرأة فإنّهم لا يخسرون بندقية ولكنَّ الشاب يخسرون معه بندقية، إذا كانت المسألة مسألة الشرف، فأيّ فرق بين أن يسيء أحد إلى شرفك أو تسيء إلى شرف الآخرين؟ لكن إذا كانت المسألة مسألة جاهلية فإنَّ الجاهلية تفرض نفسها على عقولنا حتّى لو كنّا مسلمين، يقال إنّ أبا العلاء المعرّي كان لا يأكل لحم حيوان، عنده فلسفة في الموضوع، مرِضَ ذات يوم فوَصَفَ له الطبيب دجاجاً، فجيء له به، وهو لم يكن يرى، أخذه بيده، قال له: استضعفوك فوصفوك، ألاَ وصفوا شبل الأسد، لماذا لم يطلب الطبيب أن يأتوا له بلحم ابن الأسد؟ لأنّهم لا يستطيعون أن يطالوه، لكن أنتَ ضعيف يستطيعون أن يطالوك في أيّ وقت.
وهكذا نجد في حياة الناس السياسية والاجتماعية عندما تخطئ شخصية كبيرة فإنَّ كلّ الناس يتبرّعون للدفاع عنه ولحمايته حتّى لو كان في مستوى الجريمة، وعندما يخطئ عنصر بسيط فإنّ كلّ قوانين العالَم تنزل على رأسه لتدافع عن الحرية وعن العدالة وعن الحقوق، "إِنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سَرَقَتْ فاطمة بنت محمّد لَقُطِعَت يدها".
هذا هو منطق الإسلام {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أنتَ تفعل فعلتك، أو قريبك، ثمّ تلصقها ببريء مستغلاً قوّتك المالية أو قوّتك الإعلامية أو قوّتك السياسية أو قوّتك العشائرية لأنَّ الناس يقبلون منك ولا يقبلون من الآخر فتلصق التهمة به {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً} البهتان هو أن تنسب إلى إنسان ما لم يفعله {وَإِثْماً مُّبِيناً} إثماً واضحاً يعاقبه الله عليه يوم القيامة. فهناك حقَّان؛ حقّ خاص وحقٌّ عام، حقّ هذا الإنسان لأنّك اتّهمته بدون حقّ، والحقّ العام هو حقّ الله لأنّك كذبت وظلمتَ إنساناً في ما لا يجوّز لكَ الله ذلك.
التوازن في مصلحة المجتمع
هذه المسألة نواجهها في حياتنا لأنَّ التوازن في أيّ مجتمع من المجتمعات هو في مصلحة المجتمع، ومعنى التوازن أن يكون الناس عندك على حدٍّ سواء، من يحبّك ومَن لا يحبّك، مَن يكون معك ومَن لا يكون معك، مَن يكون قريبك ومن لا يكون قريبك، لأنّك بهذا تستطيع أن تحقّق مصلحتك ومصلحة الآخرين، لأنّك في هذا اليوم عندما تتّهم بريئاً فقد تكون في الغد أنتَ من الأبرياء ويتّهمك الآخرون. ما رأيك إذا كان بعض الناس قد اتّهموك بما أنتَ بريءٌ منه، ماذا تفعل؟ ألا تستنكر ذلك، لماذا لا تقبل أن يستنكر الناس عليك أن تتّهمهم وهم أبرياء وممّا عملته أنتَ ممّا عمله بعض أصحابك، هذا الخطّ العادل علينا أن نتعلّمه. ولعلَّ مسألة تعلّمه والعمل به من أصعب المسائل في حياتنا لأنّنا نتربّى على أساس أن يكون عدلنا وظلمنا خاضعين لحبّنا وبغضنا، أن نقول في من نحبّ ما لا يستحقّ، وأن ننسب إلى مَن لا نحبّ ما لا يستحقّ، هذا أمرٌ يجب أن نواجهه. وعلينا أن نكون ضدّ الخائنين، والخيانة ليست محصورة في دائرة خاصّة لأنّ الناس غالباً يتحدّثون عن خيانتين، خيانة سياسية وخيانة الأمانات والودائع، ولكنّ الخيانة تمتدّ في كلّ موضع تمتدّ فيه الأمانة، فهناك الذين يخونون أنفسهم، أنتَ تخون نفسك لأنّ نفسك جعلت ذاتها في تصرُّفك، في تصرّف إرادتك، ولهذا فأنتَ عندما تعصي ربّك فقد خنت نفسك، لأنّك عرَّضت نفسك لعذاب ربّك سواء عصيت الله في تصرُّفاتك الذاتية أو عصيت الله في تصرّفاتك مع الناس، أَلَم يتحدّث الله عن الذين يظلمون أنفسهم، {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء : 110] ربّما لا نستطيع أن نغيِّر هذا الإنسان، لكن علينا أن لا نعذره، وأن لا نبرِّر له عمله، وأن لا ندافع عن عمله. بعض الناس يملكون المال، ولكنّهم غارقون في الخمر وغارقون في القمار وغارقون في العبث وفي المجون وغارقون في ما حرَّم الله سبحانه وتعالى، ولكنّهم وجهاء، ويتحدّث بعض الناس عنهم ويندفع المؤمنون من أصحابهم وأقربائهم ليجادلوا عنهم، فلان صحيح أنّه لا يصلّي ولا يصوم، يشرب الخمر، يلعب القمار يتاجر بالمحرّمات، لكن فلاناً تبرَّع لحسينيَّة البلد، وفلان تبرَّع لهذا الموضوع فهو من أهل الخير، ويقف الناس من مشايخ وغير مشايخ ويتحدّثون عن هؤلاء الأغنياء المحسنين الذين يعطون المشاريع الاجتماعية (1%) ويعطون القمار (99%) ويعطون الظَّلَمة (99%) علينا أن لا نغرهم بأنفسهم على الأقلّ {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء : 107] هذا صريح كلام الله سبحانه وتعالى.
لقد اعتبر الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل الأساسية في سلامة المجتمع، وفي حياته، هذا نوع من الذين اختانوا أنفسهم والله لا يريدنا أن ندافع عنه، وهكذا عندما تكون المسألة مسألة أن يخون الإنسان حقوق الناس من حوله، عندما يكون للنّاس حقوق عنده سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً مالية، أو كانت حقوقاً معنوية، ونحن نعمل على أن نبرّئه وندافع عنه ونعذره في كلّ ذلك.
إذا كنّا نريد الإسلام وهذا هو الأساس في توازن المجتمع، وفي نموّ العمل الصالح الخيِّر في المجتمع، لأنّه إذا، كان المحسن والمسيء عندنا بمنزلةٍ سواء وإذا كان الفاسق والمؤمن عندنا بمنزلةٍ سواء، فكيف يمكن أن يتشجَّع المؤمن، وكيف يمكن أن يتراجع المسيء، أو الفاسق، الله قال لكم: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة : 18] فكيف تساوون بينهما، وكيف تفضّلون الفاسق في بعض الحالات على المؤمن، وتفضِّلون المسيء في بعض الحالات على المحسن {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 35 ـــ 37] دلّوني على هذا الكتاب، إذا كان يبرّر لكم هذا الشيء. لهذا، في الواقع الذي تعيشه، الله يقول لك كن مع المسلم ولا تكن مع المجرم، والمسلم هو الذي يلتزم الإسلام في قوله وفي عمله وفي خطّه وفي نهجه بالحياة، والمجرم هو الذي يمارس الجريمة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل. الله يقول إنّ هذا الحكم الذي يساوي بين المجرم والمسلم هو حكم سيّء لا يجوز لكم، بنص القرآن، أن تعملوا عليه.
أيُّها الإخوة، قد نعتبر هذه المسائل صغيرة بسيطة، لأنّها تدخل في ثرثرتنا الاجتماعية وفي حرتقاتنا السياسية وفي كثيرٍ من أوضاعنا العامّة والخاصّة، ودائماً عندما نتحدّث على أساس عاطفتنا لا على أساس مبادئنا نبرِّر المسألة بأنّ الجوّ هكذا، وقد يقول بعض الناس إنّ الكلام ليس عليه "جمرك" أليس هذا هو حديث الكثيرين؛ لكنَّ الكلام قد يشوّه صورة إنسان، وقد يوقع إنساناً في خطر، عندما تتّهم إنساناً بما فيه فأنتَ تعرّضه للخطر، وعندما تتحدّث عن إنسان بما ليس فيه فأنتَ تشوّه صورته، مَن أجاز لك أن تشوّه صورة إنسان؟ ومَن أجاز لك أن تعرّض إنساناً للخطر؟ ثمّ قد تتكلَّم كثيراً لأنّك تملك حريّة أن تتكلَّم، ولكنّك غداً لا تملك حريّة أن تتكلَّم، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ*إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 ـــ 18]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} ليس هناك كلام، ثرثر ما تشاء الآن، تكلَّم ما تريد، أخطب بما تريد، صرِّح بما تريد، ولكن {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس : 65] وخشعت الأصوات للحيّ القيُّوم، ليس هناك كلام، ليس هناك ضوضاء، لهذا لا بدّ أن نتعوَّد أن نكون العادلين في كلامنا فذلك هو الأساس في ما نقبل عليه عند الله سبحانه وتعالى، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء : 107] في أيّ مجالٍ كانت الخيانة حتّى عندما تكون مع مجتمع، ومع جماعة، قد ترى أنّهم على خير، ولكن إذا رأيت منهم ظلماً فقل إنَّهم ظلموا، وإذا رأيت منهم انحرافاً فقل إنّهم انحرفوا، وإذا رأيت منهم خيانة فقل إنَّهم خانوا، لا تجعلك العصبية في أيّ موقعٍ من الذين يتعصَّبون للباطل لأنّهم يتعصَّبون لمحور من محاوره الاجتماعية أو السياسية. هذا خطّ الله وهذا طريق الله، وهذا هو الذي قد يوقعنا في نار جهنَّم، "وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1)، يعني ما يحصده لسانك من كلام باطل، لهذا لا بدّ أن نراقب ألسنتنا فلا نؤيّد فيها مجرماً ولا نتكلَّم فيها على بريء، ولا نعمل على أساس العصبية بل نعمل على أساس الحقّ.
وهكذا لا بدّ لنا من أن نواجه كلّ الذين يعملون على خيانة الأُمّة في قضاياها المصيريّة، وذلك عندما يتحرّكون في خطوط المشاريع السياسية التي تضغط على حريّة الأُمّة وعزّتها، أو الذين يحرّكون المشاريع العملية الاجتماعية التي تعمل على إفساد الأُمّة وعلى نشر الفوضى الأخلاقية في حياتها، كالذين يتاجرون بالمخدرات أو يتاجرون بالخمور، أو يفتحون مقاهي ومطاعم تقدِّم ما حرَّم الله سبحانه وتعالى في أيّ مجال، هؤلاء يخونون أخلاق الأُمّة ويخونون توازن الأُمّة.
شكر لإمام الأُمّة
نحن في هذا المجال، نريد في خطّ الأمانة على مصلحة الناس والمسلمين نريد أن نشكر باسمكم إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) الذي أرسل ممثّله ضمن وفد من أجل أن يطوِّق الفتنة التي حدثت بين الإخوة(2) والتي حاول الكثيرون ولا يزالون يحاولون في الداخل والخارج أن يعملوا على إعادتها من جديد، وقد استطاع وفد الجمهورية الإسلامية التي تتحسَّس آلام المسلمين ولاسيّما في لبنان والتي لم تمنعها مشاكلها الكثيرة التي تواجه فيها تحدّيات الاستكبار العالمي وجهاً لوجه من أن تهتمَّ بأمور المسلمين هنا، وقد استطاعت أن تصل إلى نتيجة جيّدة، فقد استطاعت أن تجمع الإخوة وتدفعهم إلى الحوار وإلى التعهُّد أمام الله بأن يمتنعوا عن أيّ قتال بينهم مهما كانت المشاكل، وأن يعملوا على حلّ المشاكل بطريق الحوار وأن يمتنعوا عن كلّ الحرب الإعلامية المضادّة وأن يعملوا على تأكيد المقاومة ضدّ "إسرائيل" بكلّ طاقاتهم، وأن يتحاوروا في سبيل الوصول إلى قواسم مشتركة، وما أكثر القواسم المشتركة في ما بينهم، وقد تحقَّقت هذه الروح ولا تزال الاجتماعات منعقدة في سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية في أكثر من مجال، وقد رأيتم أنّ الإعلام الذي يهمّه أن نظلّ مختلفين وأن تظلّ الساحة كلّها مختلفة، كيف يبحث عن بعض الأشياء السلبية الصغيرة ليقول لقد فشلت المبادرة الإسلامية. المبادرة الإسلامية لم تفشل ولكنّها وضعت القطار على الخطّ. ونعتقد أنّ هناك إيجابيات كبيرة في هذا المجال ونحتاج من خلال الأُمّة التي تتحسَّس الأخطار التي يمكن أن تطبق عليها إذا حدثت أن تكون القلوب المفتوحة التي تنفتح على ما يجمع الشمل ولا تنفتح على ما يعقّد. لهذا نقول: لا بدّ للكلمات في هذه المرحلة أن تكون كلمات مسؤولة على مستوى القيادات وعلى مستوى القاعدة حتّى نتحرّك جميعاً في موقع المسؤولية من أجل أن نكون المسؤولين عن حاضرنا وعن مستقبلنا في كلّ مجال من مجالات الحياة.
دعوة إلى التكامل
إنَّنا ندعو الجميع إلى التكامل في هذا المجال حتّى يمكننا أن نحافظ على كلّ مكتسباتنا وحتّى نتمكّن من أن نعمل على تأكيد المقاومة والجهاد ضدّ "إسرائيل" حتّى نطرد المحتل من أرضنا وحتّى نتكامل مع العالم الإسلامي عندما يتحرّك العالَم الإسلامي لمواجهة "إسرائيل" من أجل أن تتحرَّر القدس ونتخلَّص من هذا السرطان الذي يطبق على كلّ مقدّراتنا وعلى كلّ واقعنا.
لعدم التمييز في قضية المهجّرين
ونحبّ أن نطلّ على قضية أخرى أُثيرت بالأمس قبل أيام وهي قضية المهجرين(1)؛ فهناك حديث وتظاهرات لعودة المهجرين، مهجّري الجبل ومهجّري شرق صيدا ومهجّري الضاحية كما يقولون، هناك حديث يضع هذه القضية كقضية أساسية مصيرية قبل أيّ حلّ للبنان، بحيث لا يمرّ حلّ للبنان إلاّ من هذه القضية. إنَّنا نحبّ أن نعلّق تعليقين على هذه المسألة.
أوّلاً: أنّ مسألة المهجرين هي مسألة إنسانية على أساس أنّ هناك اضطهاداً لإنسانية أيّ إنسان تقتلعه من بيته على أساس ما تملك من القوّة، ولهذا فإنَّ قضية المهجرين إذا أُريدَ لها أن تطرح بجديّة، بعيداً عن التسويق السياسي، وبعيداً عن الإثارات الطائفية، نتمنّى أن تنطلق تظاهرة من الشرقية إلى قصر منصور لتطالب بعودة مهجّري النبعة وسنّ الفيل وغيرهما من كلّ المناطق الشرقية. كنتم تقولون إنّ مهجّري الجبل وشرق صيدا يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، إنّ مهجّري النبعة وبرج حمود وسنّ الفيل وغيرهما يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، ويحملون الجنسية اللبنانية كما تحملون. إذا كنتم تريدون أن تطرحوا قضية المهجّرين فطالِبوا بعودة مهجّري المنطقة الشرقية، ونحن نطالب بعودة مهجّري الجبل وبعودة مهجّري شرق صيدا وبعودة مهجّري المريجة وحارة حريك، كيف يمكن أن تحلّ مشكلة المهجّرين من هذه المنطقة وبيوتهم يسكنها أُناس لهم بيوت... أين يذهبون.
إذاً لن تحلّ مشكلة المهجّرين من طرفٍ واحد، بل لا بدّ أن نطرح جميعاً المسألة كقضية إنسانية لبنانية، وعند ذلك يمكن أن يتّفق الجميع، كلّ المهجّرين يسيرون في تظاهرة واحدة ولن يستطيع أحد أن يطلق عليهم الرصاص.
ثانياً: إنَّ مسألة المهجّرين كما نعلم هي جزء من المسألة اللبنانية، ولهذا فإنَّ من الخيال والوهم أن نفكّر أنّ من الممكن حلّ مشكلة المهجّرين بدون حلّ المشكلة اللبنانية، لأنّ أيّ مُهَجَّر لا يستطيع أن يرجع إلى بيته إذا لم تكن هناك دولة تحميه، كيف يمكن ذلك، لو قيل الآن لمهجّري الجبل ارجعوا ولكن من دون أن ترجع الدولة ومن دون أن ترجع الضوابط القانونية فما هي أُسس حمايتها، لا تجعلوا قضية المهجّرين تدخل بالحرتقات السياسية ولكن اجعلوها تتّجه لتكون العنصر الضاغط على أن تحلّ المشكلة اللبنانية بطريقة يتساوى فيها الناس في الحقوق وفي الواجبات.
لا تفاؤل ولا تشاؤم
ثالثاً: هي أنّ المرحلة الحالية التي يمرّ بها البلد لا تزال مرحلة ضبابية يُراد من خلالها تصعيد التوتّر السياسي ومحاولة تحريك التوتّر الأمني في سبيل اتّخاذ مناخ صالح لكثير من اللاعبين السياسيين على مستوى إقليمي وعلى مستوى دولي مع هامش صغير للاعبين على المستوى المحلي. ولهذا فإنَّ المسألة لا تزال تراوح مكانها؛ كانت هناك كلمات التفاؤل وأصبح الذين أطلقوا كلمات التفاؤل يتحدّثون بكلمات التشاؤم، ولكنَّنا نقول: ليست المسألة مسألة تفاؤل أو تشاؤم، المسألة هي أنّ المرحلة السياسية سواء على مستوى لبنان أو على مستوى المنطقة من أكثر المراحل صعوبة، ومن الطبيعي أن يكون لبنان هو الساحة التي تتحرّك فيها هذه المشاكل، وأن يكون اللبنانيون هم الوقود الطبيعي، لذلك لن نستطيع أن نحدّث الناس عن تفاؤل كبير وعن تشاؤم كبير، ولكنّنا نحبّ أن يعيشوا جوّ الحذر الكبير، أنّ هناك دخولاً إسرائيلياً على الخطّ في أحاديث المسؤولين الصهاينة عن مسألة جزّين(1) وأحاديثهم عن مسألة الإرهاب الذي لا يستطيعون أن يقضوا عليه في الساحة اللبنانية لأنّه متجذّر في هذه الساحة. وهناك تجارب في هذه المسألة، فهناك دعوة من بعض المنظّمات في المنطقة الشرقية للمسيحيين وللمهجّرين ليكونوا جزءاً من جيش لبنان الجنوبي، على أساس أن يكون هناك تصعيد يعمل على إثارة المسألة الإسرائيلية من جديد في الساحة اللبنانية لتتكامل المسألة الإسرائيلية مع المسألة الأميركية. ونحن نريد أن نقول لهم ولكلّ الناس: لن تبقى لكم "إسرائيل" ولن تفيدكم "إسرائيل" لأنّها لا تفكِّر إلاّ بنفسها، حاولوا أن تلتقوا مع الناس الذين تعيشون معهم في البلد فإنّهم أبقى لكم من أيّ عنصرٍ آخر. سواء كان إسرائيلياً أو أميركياً.
لن نوافق على رئيس تسمّيه أميركا
إنّنا في هذا المجال نريد أن نعلن، والناس يتحدّثون حديثاً طويلاً عن الاستحقاق الرئاسي(1)، إنّنا لن نوافق على أي رئيس يأتي إلينا على العربة الأميركية والإسرائيلية، ولن نوافق أيضاً، بكلّ ما نملك من إمكانات، على أن تعود هيمنة المارونية السياسية إلى هذا البلد، وحتّى الهيمنة الطائفية المسيحية في هذا البلد على المسلمين من جديد. إنّ الآخرين جرَّبوا فليجرِّب المسلمون حظَّهم في أن ينطلقوا من أجل أن يأخذوا حقوقهم كاملة في هذا البلد حتّى الحقّ الذي يتمثّل في أن يكونوا في أعلى مواقع المسؤولية. إنَّنا نريد في هذه المرحلة عزّة المسلمين وحريّتهم وأن يكونوا في الحجم السياسي الذي يمثّله حجمهم الواقعي والعددي والسياسي والاجتماعي. لقد سقطت مقولة الخوف، ولا بدّ أن تأتي مقولة الثقة المتبادلة التي يمكن أن تحلّ بها القضايا على أساس دراسة كلّ شيء بالصراحة وبالوعي وبالحوار.
الانتفاضة.. الثورة
عندما نريد أن نتّجه إلى الشأن الخارجي فإنَّ أمامنا الانتفاضة الإسلامية المباركة في فلسطين التي أثبتت أنّها تعمل على أن تتحوّل إلى ثورة، وأنّها الانتفاضة الشعبية العفوية التي تعيش الإيمان بالله والإيمان بحريّتها على أساس إيمانها الإسلامي وصلابتها في هذا الموقف، إنّ هذه الانتفاضة قد أكّدت صلابتها وقوّتها واستمرارها من خلال أطفالها ونسائها وشبابها وشيوخها، ولا يزال الكثير من الأنظمة العربية يتحرّك في عجلة السياسة الأميركية التي طرحت المبادرة السيّئة الذكر من أجل تطويق هذه الانتفاضة ومن أجل إبعاد الأنظار للعالم عن حركة هذه الانتفاضة وعن الوحشية الإسرائيلية، وقد عملت حتّى الآن على أن تسقط وهجها، ولكنَّ الانتفاضة تثبت وتؤكّد نفسها في كلّ وقت. إنَّنا نعتبر أنّ الانتفاضة تمثّل الانطلاقة الجديدة في كلّ هذا العالَم العربي الذي يعمل على أساس أن يزيد الناس خوفاً وهزيمة وجبناً بكلّ ما عنده من أساليب الإعلام وأساليب السياسة، وقد استطاعت أكثر الأنظمة العربية أن تسجن شعوبها في السجن الكبير الذي يمنعها حتّى من أن تتظاهر دعماً لهذه الانتفاضة ولغيرها من القضايا الأساسية. إنَّ الانتفاضة بدأت تثقّف الشعوب العربية وغير العربية، تثقّفها ثقافة الحريّة وتثقّفها على الجرأة وعلى أن تسقط الخوف من حساباتها من أجل أن يأتي الزلزال إلى كلّ هذه المنطقة كما جاء الزلزال في إيران الإسلام التي استطاعت أن تسقط الطاغوت عندما تمرّدت على حاجز الخوف. إنَّنا نواجه في هذه المسألة التي أقولها للفلسطينيين من إخواننا المجاهدين في الداخل ولكلّ الفلسطينيين في أيّ مكان، لقد أثبتت تجربة الانتفاضة أنّ حجراً واحداً في الداخل يقف أمام ألف صاروخ في الخارج، ويمكن ان يزلزل قواعد النظام هناك، ولهذا فلا بدّ من العمل بكلّ ما عندنا من قوّة وإمكانات من أجل أن نقويَ الانتفاضة في الداخل ثمّ إذا حدثت هناك أيّة انطلاقة في أيّ موقع من مواقع الصراع مع "إسرائيل" فإنّها تتكامل مع الانتفاضة لتقويها ولتتقوّى بها.
ومن هنا ننظر إلى الواقع السياسي الجديد الذي يتحرّك الآن في جوّ الابتعاد عن كامب ديفيد وعن الأنظمة التي تريد أن تدخل المسألة الفلسطينية في دائرة السياسة الأميركية المترابطة مع السياسة الإسرائيلية، إنّنا ننظر بجدّ وباهتمام إلى هذه العلاقات الجديدة مع سوريا، لأنّنا نجد أنّ سوريا لا تزال في كلّ الواقع العربي تطرح الاستراتيجية المواجهة للسياسة الأميركية في المنطقة، ولا تزال تطرح السياسة المواجهة للواقع الإسرائيلي والخطر الإسرائيلي في المنطقة. ولهذا فإنّنا نعتقد أنّ تقوية هذا الاتّجاه وتقوية هذه الطروحات، على أساس واقعي حقيقي لا على أساس تكتيكي، يمكن أن يفيد القضية في كلّ خطوات الاستكبار العالمي للصهيونية في المنطقة، ونحن نعتبر أنّ حركة الواقع السياسي هي حركة مواقف وليست حركة أشخاص. لهذا نقول إنّنا نبحث عن الخطوات الجهادية في المجرى السياسي وفي المجرى العسكري الأمني، لا على أساس أن يكون نقطة في دائرة المفاوضات بل أن يكون انطلاقة في خطّ التحرير الكامل. هذا من جهة.
أميركا وتطويق حركات التحرُّر
ومن جهةٍ أخرى، إنّنا نتطلَّع في هذه المرحلة بالذّات إلى خطوات السياسة الأميركية في المنطقة التي تعمل بكلّ ما عندها من إمكانات على أساس أن تطوّق كلّ حركات التحرُّر في المنطقة، ولاسيّما حركة التحرّر في داخل فلسطين المتمثّلة بالانتفاضة، ولاسيّما في مواجهتها أيضاً للجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الخطوات التصعيدية التي تعمل فيها على تصعيد الأوضاع العسكرية في الخليج لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بكلّ ما تملكه من إمكانات الضغط السياسي والضغط العسكري إضافة إلى الضغط الاقتصادي، ونحن نعتبر أنّ هناك مخطّطاً أميركياً يعمل على تطويق الحالة الإسلامية في كلّ مكان من أجل أن يُفسَح في المجال للمستقبل الذي تكون السياسة الأميركية فيه سيّدة الواقع السياسي في المنطقة.. ولكنَّ المسألة ليست في ما يخطِّطون، بل في ما نعمل نحن في كلّ مكان نستطيع فيه أن نتحرّك ضدّ هذا اللّون من السياسة الاستكبارية، لنقف جميعاً صفّاً واحداً، لندعم الانتفاضة الجهادية في فلسطين ضدّ الخطوات الأميركية وغير الأميركية، ولندعم الجمهورية الإسلامية ضدّ كلّ الخطوات التي تعمل أميركا من خلالها للضغط على الجمهورية الإسلامية، لأنّنا بمقدار ما نؤيّد فإنّ ذلك يعني إضعاف الباطل، وبمقدار ما نكون حياديّين في معركة الحقّ والباطل معنى ذلك أن نعطي الباطل قوّة ولو من ناحية سيّئة، لهذا نعتبر أنّ حماية الجمهورية الإسلامية كقاعدة إسلامية لكلّ الحركات الإسلامية في العالَم هي مسؤوليّتنا جميعاً، ونعتبر أنّ أيّ عبث وأيّ كلام وأيّ عمل يتحرّك من أجل إضعاف هيبة الجمهورية الإسلامية ومواقعها السياسية في أيّ مكان، هو إضعاف للإسلام نفسه، وعلى الجميع أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم في هذا المجال، لأنَّ أميركا عندما تضعف الجمهورية الإسلامية فإنّ إضعافنا يُصبح أمراً سهلاً في أيّ موقع وفي أيّ مكان، وإنّنا نتساءل عن معنى قطع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في هذا الوقت بالذّات، إنّهم يتحدّثون عن أنّ الجمهورية الإسلامية تعبث وتخرّب وتؤذي وتعمل ما تعمل... لكن ماذا حدث الآن، لم يحدث هناك أيّ شيء، الأشياء التي يتحدّثون عنها كانت قبل سنة أو قبل سنتين، لماذا قطع العلاقات الآن؛ فهل سعة الصدر وصلت الآن إلى الطريق المسدود، أم طبيعة التحرّك الأميركي في المنطقة تحتاج إلى بعض الواجهات الإسلامية، وتحتاج إلى بعض الأوضاع المعنوية التي تضغط على الجمهورية الإسلامية؟ فجاء التوقيت توقيتاً يعتمد على طبيعة الخطّة الموضوعة ليكون قطع العلاقات نقطة أو خطاً في هذه الفكرة. إنّنا نفهم القضية في هذا الاتجاه، ونفهم حقيقة أخرى هي أنّ قطع العلاقات لا يمكن أن يؤدّي إلى أيّة نتيجة إيجابية، بل نخشى أن يؤدّي إلى نتائج سلبية على أكثر من مستوى، ولهذا فإنّنا ننصح بالتراجع عن هذه الخطوة وإنْ كانت نصيحتنا كما نعلم لا تمثّل قوّة وستذهب في الهواء ولكنّنا نقول ما نعتقد به ونؤمن به، إِنَّ هناك الكثيرين من الذين ركبوا الموجة الأميركية في الصحف اللبنانية وفي الإذاعات وهم يتحدّثون عن المأزق الذي تعيشه إيران الإسلام ويتحدّثون عن الهزائم أيضاً، ولهذا فإنّهم يطالبونها بتصحيح مسارها، ولكنّنا نريد أن نقول لهؤلاء: إنَّ معنى أن تسقط في معركة ليس دليلاً على أنّك مخطئ في معركتك هذه أو في أسلوبك هذا، وإلاّ لكان كلّ الثائرين في العالَم ولكان كلّ الأبطال الذين يتحرّكون على مستوى وطني أو قومي أو سياسي أو ديني فاشلين، لأنّهم لم ينتصروا دائماً في معاركهم. إنَّ مسألة المعارك لا تخضع دائماً للنتائج.. الهزيمة لا تعني أنّك على باطل، ولكنّها تعني أنّ الظروف الموضوعية التي تحيط بك لم تعطك موقع قوّة في معركتك هذه، ولكنّها قد تعطيك أكثر من موقع قوّة في المستقبل لتنتصر كما انتصرت في الماضي. لقد قال عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) في معركة صفّين عندما كان جيش الإمام عليّ (عليه السلام) يصاب بنكسة في بعض مراحل المعركة، وكان بعض الناس قد شكوا في المسألة، قال: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1). إنَّنا نريد أن نقول لكلّ هؤلاء الذين يتحدّثون للإسلاميين عن ضرورة تصحيح خطّهم سواء كانوا في إيران أو في غير إيران، نقول: مِنَ الطبيعي للإسلاميين أن ينقدوا أنفسهم دائماً سواء خاضوا معركة أو لم يخوضوا لأنَّ المؤمن لا بدّ من أن يلاحق كلّ تصرّفاته لينقدها حتّى يصحّح المسيرة لأنّ مسيرته ليست مسيرة شخصية ولكنّها مسيرة الإسلام.
إنَّ من واجبنا دائماً على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي والعسكري، أن نلاحق كلّ خططنا وكلّ خطواتنا وكلّ أعمالنا في العالَم كلّه لندرسها جيّداً ولنتعرَّف نقاط الضعف فيها، ولنتعرّف نقاط القوّة فيها، حتّى نستطيع أن نقوّي ما عندنا من نقاط الضعف وأن نزيد القوّة في ما عندنا من نقاط القوّة، ولكنّ خسارتك لمعركة لا تعني أنّك على باطل، فنحن في إيران وفي العراق وفي مصر وفي كلّ مكان، عندما نواجه هزيمة المسلمين في معركة أُحُد هل نقول إنّ المسلمين كانوا على باطل، كانت طبيعة المعركة وبعض المشاكل التي حدثت فيها هي التي أدَّت إلى ذلك، وهكذا في معركة حنين، وهكذا في كلّ المعارك التي لم يكسب فيها المسلمون كثيراً. عندما نريد أن نعرف الحقّ والباطل فعلينا أن ندرس معطيات الحقّ في كلّ المواقع التي نستطيع أن نتعرَّف فيها عناصره وأن نتعرَّف الباطل أيضاً من خلال عناصر الباطل وأن نتابع السير في خطّ الله وأن نعمل دائماً كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...} [الحشر : 18] انظر من خلال خطّك ومن خلال جهدك ومن خلال عملك وصحِّح كلّ شيء على أساس تقوى الله، حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن توزن، إنَّ الإنسان الذي لا يحاسب نفسه ربّما تغلبه نفسه حتّى يعيش في اتّجاه الهلاك وفي اتّجاه النار. وهكذا لا بدّ من أن نحاسب أنفسنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد خطواتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد ساحتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد أعداءنا دائماً، ولا بدّ من أن نراقب ربّنا دائماً في ذلك كلّه، ومَن يراقب الله يَسِر في طريق الله، ومَن ينصر الله فإنَّ الله ينصره {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين