الإمام الصادق (عليه السلام) ومفهوم التشيّع

الإمام الصادق (عليه السلام) ومفهوم التشيّع

الإمام الصادق (عليه السلام) ومفهوم التشيّع(*)
الاستقامة في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)
في الخامس والعشرين من شهر شوّال، نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، الإمام السادس من أئمّة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً. ونحن في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) ننطلق من علاقتنا العميقة بالإسلام، لأنَّ أهل البيت انطلقوا منذ أن انطلق جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرسالة، ليكونوا المخلصين للرسالة، الملتزمين بها، المجاهدين في سبيلها، العاملين على أساس إيضاحها للنّاس وإبعادها عن كلّ تحريف. ومن هنا فإنّنا عندما نتحرّك في كلّ حياتنا في تعاليمهم وفي وصاياهم وعندما ندخل إلى حياتهم، فإنَّنا نشعر بأنّنا نعيش مع الإسلام النقي ومع الإسلام الطاهر ومع الإسلام المجاهد ومع الإسلام الذي يأخذ القوّة من الله، ليكون القويَّ أمام التحدّيات وليكون الثابت أمام الاهتزازات، وليكون المتحدّي لكلّ الذين يطلقون التحدّي في وجهه. والإمام جعفر الصادق من أئمّة أهل البيت الذين فتحوا فكرهم للنّاس كافّة، وبهذا كانت مدرسته الممتدة في الحياة الإسلامية كلّها تمثّل المدرسة المنفتحة على النّاس كلّهم، فقد كان يستقبل الملاحدة والزنادقة والفرق الضالّة في المسجد الحرام عندما كان يذهب إلى الحجّ، وفي بيته عندما كان يستقبل طلاّب المعرفة، فكان يفتح لهم قلبه ليقولوا كلّ شيء، ويحدّثهم عن رأيه في كلّ ما يقولون من دون أن يتعقَّد منهم ومن دون أن يتشنَّج. حتّى لو كانت الكلمات التي يقولونها كلمات كبيرة وصعبة وقاسية وجافّة فإنّه كان يرى أنّ على صاحب الحقّ أن يسمح لكلّ إنسان يختلف معه بأن يقول كلّ رأيه وأن يمنحه حريّة أن يقول رأيه، ليردّ عليه وليناقشه من موقع الحريّة، لا من موقع القهر والضغط. ولهذا قال أحدهم وقد سئل عن الإمام جعفر الصادق، والناس مجتمعون آنذاك في موسم الحجّ، قال: لا أجد شخصاً يستحقّ اسم الإنسانية مثل الإمام جعفر الصادق، لأنّه كان يعيش إنسانيّته بكلّ رحابة صدر وبكلّ سعة الخلق وبكلّ حريّة الرأي ويمنحها حتّى للذين يختلفون معه في أساس العقيدة، لأنّه كان يريد للنّاس أن ينفتحوا على الله من خلال ذلك كلّه.
وقد امتد الإمام الصادق حتّى كان للمسلمين جميعاً؛ فقد تتلمذ عليه سنتين أبو حنيفة النعمان إمام المذهب الحنفي، وتتلمذ عليه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي، ويُنْقَلُ عن أبي حنيفة قوله: "لولا السنتان لهلك النعمان"، لأنَّ السنتين اللّتين استفاد فيهما من الإمام جعفر (عليه السلام)، ركّزتا قواعد تفكيره وعلمه وفقاهته. وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يوصي أصحابه بأن يكونوا المنفتحين على من حولهم، حتّى على الذين يختلفون معهم في المذهب، فكان لا يريد لهم أن يتعقَّدوا بل كان يريد لهم أن ينفتحوا، لأنَّ على الإنسان الذي يحمل في حياته التزاماً بخطّ أهل البيت، أن يكون داعية للإسلام على هذا الخطّ، من خلال أخلاقه ومن خلال طلاقة وجهه ومن خلال انفتاحه على النّاس كافّة.
كان من وصيّته لأحد أصحابه، وهذه الوصية ليست لأولئك ولكنّها لكم أيضاً، ولكلّ من يعيش في السّاحة الإسلامية عقلية الانغلاق على المسلمين الآخرين، بفعل ما تحاول المخابرات الدولية الاستكبارية أن تزرعه من الحقد بين المسلمين المختلفين في مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد، استمعوا إلى الإمام جعفر الصادق كيف يوصي كلّ مَن يطيعه منهم، ومنكم إذا كنتم تريدون أن تطيعوه، قال له:(1) "أقرئ مَن يطيعني منكم السلام، أوصيكم بتقوى الله" فمن لم يكن تقيّاً فليس شيعياً، و"الورع في دينكم"، فمن لم يكن ورعاً عن الحرام في دينكم فليس ممّن يعيش وصايا أهل البيت، "والاجتهاد لله"، اجتهدوا لله بأن تكونوا له بكلّ ما تملكون من طاقة، وبكلّ ما تملكون من قوّة، معنى الاجتهاد لله أن يكون جهدكم كلّه في ما تحملون من علم وقوّة ومن كلّ الإمكانات، أن يكون جهدكم لله؛ تبذلونه له ولا تبذلونه لغيره، "وصِدْقِ الحديث"، فالكذّابون لا مكان لهم في دائرة أهل البيت، لأنَّ أهل البيت هم الصادقون ولأنَّ رسول الله سيّد أهل البيت وسيّد العالم، كان الصادق، "وأداء الأمانة"، الخائنون لأماناتهم الذين لا يحفظون أماناتهم هؤلاء ليسوا من أهل البيت في شيء، "وطول السجود" أن تكون خاشعاً لله خاضعاً له منسحقاً في شخصيّته، لا كلمة لك أمام كلمة الله ولا رأي لك أمام ما يريده الله ولا شخصية لك أمام الله، عندما تقف في كلّ الساحات ويقال لك إنَّ الله يريد منك أن تفعل كذا وتفعل كذا، طأطئ رأسك لربّك، وعندما يريد الناس منك شيئاً لا يريده الله إرفع رأسك وصَلِّبْه وقل: أنا حرّ في أن لا أفعل ما تقولون، لكن أمام الله أنا العبد الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلاّ بالله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، لأنَّ السجود يجسِّد معنى العبودية، يقال معنى الركوع أن تمدّ عنقك لربّك: يا ربّي إنّي خاضعٌ لك وهذا عنقي بين يديك حتّى لو ضربته وتسجد؛ يداك ساجدتان وجبهتك ساجدة وكلّ جسمك ساجد، لتقول له: يا ربّي سَجَدَ لك جسمي وسَجَدَ لك كلّ عقلي وتسجد لك كلّ مشاعري فأنا لا شيء أمامك، بك أصير شيئاً، بك صرتُ إنساناً، بكَ أصير قوياً، بكَ أصير حرّاً، أمامك أنا لا أُساوي شيئاً ولكن أمام الناس ـــ عندما أكون معك ـــ فإنّي أقف أمام أعظم شيء آخر. إنَّ أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، وقد قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخَفِّفوا عنها بطولِ سجودكم"(1)، تعلَّموا طول السجود الذي تستنزفون به دموعكم بين يديّ الله وتنفتحون به لكلّ حاجاتهم ولكلّ مشاعركم أمام الله، "وحُسْن الجوار" كونوا الجيران الطيّبين لكلّ من جاوركم، تحمَّلوا الأذى منهم ولا تأذوهم وأحسنوا إليهم، ثمّ قال: "أدُّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط"، لو استعرتم من أحدهم خيطاً وإبرة فإنّ رسول الله يقول أدّوها إلى صاحبها مهما كانت قليلة. "وصلوا عشائركم" ممّن تختلفون معهم في المذهب واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأَدّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرّني ذلك ويدخل على قلبي السرور، وقيل هذا أدب جعفر. وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، أتحمل بلاءه وعاره. إذاً أن تكون مسلماً شيعياً وأن تكون جعفرياً فتلك مسؤولية. أنظر ما عليه أئمّة أهل البيت وافعله، حتّى يكون انتسابك إليهم يجعلهم يعتزّون بهذا الانتساب ولا يشعرون بالحرج من ذلك. لأنَّ التشيُّع ليس تعصُّباً، والتشيّع ليس سباباً، والتشيّع ليس طائفية، التشيّع هو خطّ الإسلام الذي انطلق أئمّة أهل البيت عليه في فهمهم للإسلام، لماذا قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي من أهل بيتي"(1)؟ لأنَّ أهل البيت لا ينفصلون عن كتاب الله. كلام الله هو الوحي لكلامهم، وشريعة الله هي الأساس لما يتحرَّكون به من أحكام. مفاهيم الإسلام هي مفاهيمهم، ليس لأهل البيت حساب خاص بعيد عن حساب الإسلام، ولهذا قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "جعل أهل بيتي في أُمّتي كسفينة نوح مَن رَكِبَها نجا ومَن رغب عنها غرق وهوى"(2)، لأنّ أهل البيت يريدون أن يخرجونا من طوفان الضلال والظلم ومن طوفان الكفر والانحراف، ولهذا إذا أردتم أن تنسبوا أنفسكم لأهل البيت، فانظروا ما هو التزامكم بالإسلام وانظروا ما هو عملكم في خطّ الإسلام، وانظروا ما هو انتماؤكم إلى الإسلام، لأنَّ عليّاً يفكّر بالإسلام ولا شيء عنده غير الإسلام.
لهذا كان الإمام الصادق يريد من أتباعه وشيعته أن يعيشوا في الأُفق الإسلامي الواسع وأن يلتقوا مع كلّ المسلمين، حتّى لو اختلفوا معهم في الرأي على أساس الإسلام. ليكون هذا الجوّ المنفتح هو السبيل لأن تدخلوا في حوارٍ معهم على أساس أنَّ هناك وضعاً طبيعياً. فبإمكانكم أن تتحدَّثوا معهم بحريّة ويتحدّثوا معكم بحريّة، لتصلوا إلى الحقّ من خلال ذلك الحوار.
هكذا كان يريد لشيعته، وهكذا سأل ذات يوم أحد أصحابه وقد جاء من سفر، قال له: كيف من عندكم؟ قال: الحمد لله. أُناس طيّبون خيّرون من الشيعة. قال: أسألك كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم، هل يصل أغنياؤهم فقراءهم؟ قال: قليلاً. قال: كيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم، هل يزور الأغنياء الفقراء؟ قال: قليلاً. قال: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم في ما يحتاجون؟ قال: قليلاً. قال: كيف تقول إنّه عندنا شيعة؟ المجتمع الشيعي هو المجتمع المسلم الذي يصل فيه الأغنياء الفقراء ويساعدونهم ويزورونهم ولا يتكبَّرون عليهم، هذا المجتمع الذي كان أهل البيت (عليهم السلام)، يريدون لشيعتهم أن يلتزموا به وأن يصلوا إليه. قال الإمام جعفر (عليه السلام) لبعض الناس: "أيمدَّ أحدكم يده إلى جيب أخيه فيأخذ منها ما يشاء فيدعه؟ قال لا. فقال: كيف تقول إنّكم أخوة"؟ الأخ من يفعل ذلك من خلال التربية ومن خلال الإيمان ومن خلال أن يفتح كلّ واحدٍ قلبه للآخر وأن يشعر بأنّه يتوحَّد معه.
يمكن أن يكون هناك مجتمع مسلم. وعندما يطرح الإسلام في أصالته ونقاوته وطهارته فإنَّ الذين يدعون إلى الإسلام، ليكون الإسلام هو الدين الذي يشمل الحياة كلّها، فإنّما يريدون الوصول إلى مجتمع طاهر نقي يتعاون فيه الجميع. على هذا الأساس لا يريدون مجتمعاً يعيش العصبية ويترك العمل ويترك الخطّ. لا بدّ لنا أن نفكِّر بهذه الطريقة، عندما نتحدّث عن أهل البيت (عليهم السلام) وعندما نريد أن ننطلق لنمثّلهم ونجسّدهم. قال الإمام الصادق(1) لبعض أصحابه وكانوا حوله: "الحسن من كلّ أحد حسن ومنكم أحسن لأنّكم تنسبون إلينا والقبيح من كلّ أحد قبيح ومنكم أقبح لأنّكم تنسبون إلينا". النسبة إلى أهل البيت مسؤولية وليست مجرّد لافتة، لأنَّ اللافتة التي تضعها في أيّ موقع إذا لم تصدقها بالواقع الذي تحت اللافتة فإنَّ اللافتة تكون سوءاً عليك بدلاً من أن تكون شرفاً لك، معنى أن يضع أحدكم لافتة في بيته أو آية قرآنية أو يضع لافتة في الشارع ويكتب اسمه واسم حزبه أو اسم حركته أو أيّ شيء تحتها، معناه أنّه يقول أيُّها الناس، إنّي ألتزم أن تكون حياتي تجسيداً لهذه اللافتة. وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الحقّ وأنتَ تعيش الباطل، وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الإخلاص وأنتَ تعيش الزيف، فاللافتة تسبّك يومياً، لتقول لك. إنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] واللافتة قول صامت، لأنّها بمثابة كلامك المنطوق. وكان الصادق (عليه السلام) يقول لأصحابه: "اتّقوا الله وكونوا إخوة بَرَرَة متحابّين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا"(1). وكان يقول لهم في ما يعظهم به: اجعلوا أمركم هذا لله، أنتم شيعة، أنتم مسلمون، اجعلوه لله، ولا تجعلوه للناس، فإنَّ مَن كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، أن تجعل كلّ شيء عندك لله. مَن يزرع الشرّ يحصد الشرّ.
ثمّ يوجّهنا للأوضاع الاجتماعية التي يحدث فيها النزاع والخلاف والقتال. إنَّ كلّ واحد منكم يحاول أن يتصدّق، تخرجون كلّ يوم في الصباح، تخرجون لتتصدَّقوا لأنَّ الصدقة تقرّبكم إلى الله.
هناك صدقة من نوعٍ آخر، صدقة يحبّها الله، ما هي؟ و"إصلاح بين الناس". إذا أردت أن تتصدَّق فانطلق، لتصلح ما فسد من علاقات الناس من حولك ولتقرّب ما تباعد فيه الناس من حولك فإنَّ ذلك صدقة يمكن لها أن تقرّبك إلى الله. ثمّ كان يقول: إيّاكم والخصومة والجدل والخلافات فإنّها تشغل القلب عن الله وتورث النفاق، ومَن زرع العداوة حصد ما بذر، إذا كنت تزرع الحقد والعداوة والبغضاء، لتربّي من حولك وتربّي نفسك على ذلك، فإنّك ستحصد عداوة من الناس ضدّك. ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله، عندما تريد أن تملك عقلك برِّد غضبك ولا تجعل تصرُّفاتك تتحرّك مع خطّ غضبك أو مع نار غضبك. هذه مبادئ أهل البيت، وهي مبادئ الإسلام. أهل البيت أتوا بها من خلال القرآن، كان يقول: أمّا أنّه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم. الظلم أن تتّهم أحداً بغير الحقّ، تضربه، تشتمه، تصادر ماله، وما إلى ذلك من الأمور. ثمّ بعد ذلك ترى أنّ هذا الذي خسر المال قد أعطاه الله من حسناتك، وأعطاك من سيّئاته ما يجعله يدخل الجنّة. أخذت منه مالاً ودخل بسبب ذلك الجنّة، ودخلت أنتَ النار، فأيّكما الرابح؟ أمّا أنّه من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشرَّ إذا فُعل به. أنتَ تضرب وتسجن وتقتل وتسرق وتعمل ما تعمل، ولكن ستدور الأيام، وسيفعل بك الآخرون ما فعلتَ بهم، وتبدأ بالتحدّث عن القانون وعن الإسلام وعن الدين. إنَّ مَن يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، وإنَّ مَن يزرع الشرّ فإنّه يحصر الشرّ؛ فلنكن من زرّاع الخير، لنحصد الخير ولو بعد حين ولنكن من زرّاع المحبّة، لنحصد المحبّة ولو بعد حين. مَن أعان ظالماً على مظلوم، بكلامه أو سكوته أو بتقديمه التسهيلات له، وسار معه في خطّ الظلم، فكيف يكون موقف الله منه؟ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "مَن أعان ظالِماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتّى ينزع عن معونته"(1) يعني أنتَ حين تعاوِن الظالم، فإنَّ صلاتك لا تقرّبك إلى الله، وصومك وحجّك لا قيمة لهما في مثل هذه الحالة، فانظروا مواقفكم. هناك ظلمة صغار وهناك ظلمة كبار. قد يكون المظلوم امرأة عند زوج ظالم، أو ولداً عند أبٍ ظالم، أو أباً عند ابن ظالم، أو مجتمعاً عند حاكم ظالم، أو ما إلى ذلك ممّا يختلف فيه الظالمون والمظلومون، "مَن عَذَرَ ظالِماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه"(2)، وهذا أخطر، أنتَ قاعد، لا تحمل سلاحاً وليس عندك سجن، ولا عندك قوّة، جالس في بيتك تقرأ صحيفة وتسمع إذاعة وتسهر، جاء في الصحيفة أنَّ فلاناً قَتَلَ فلاناً. كلام سمعت به من الإذاعة أو الجريدة، تعذر القويّ في ظلمه للضعيف أيّاً كان، وتعذر من كان ينتمي إلى حزبك أو حركتك أو طائفتك أو عشيرتك. إنّك حين تعذر الظالم فسيقوى، وعندما يقوى الظلم سيصل إلى بيتك، مَن عَذَرَ ظالماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه فإنْ دعا يستجاب له. ثمّ يحمِّل الأُمّة مسؤولية الضعيف الذي يضطهد من قِبَل القويّ سواء كان الضعيف شخصاً أو جماعة، أو كان القويّ شخصاً أو حكومة أو جهة. لا قداسة ولا احترام لِأُمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بحقّه. الأُمّة المقدّسة، الأُمّة المحترمة، الأُمّة التي يرضى عنها الله، هي الأُمّة التي يؤخذ فيها من القوي حقّ الضعيف. وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).


المؤمن أعزّ من الجبل
وكان يدعو المؤمنين جميعاً إلى أن يكونوا الأعزّاء، لا تكن ذليلاً، كن العزيز في مواقعك، كن أصلب من الجبل في موقفك، واستمع إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كيف يحدّثك عن مسألة العزّة، "إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(2)، أَلَمْ تسمع الله يقول: {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} [المنافقون : 8]، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، في ثباته وفي صبره وفي قوّته. إنَّ الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيئاً، مهما كسّرت المؤمن فإنّ دينه لا يكسر، مهما اضطهدته فإنَّ دينه لا يسقط، يظلّ المؤمن قويّاً بدينه، قوياً بموقفه، قوياً بقضاياه، قوياً بكلّ تطلُّعاته وبكلّ أهدافه، لأنّه يستمدّ القوّة من الله فلا يخاف من أحد، لأنّه يعبد الله ولا يعبد الشيطان، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 175]، هذا هو الخطّ.
وهذا ما يريده الله للمؤمنين، وهذا ما نريد أن نحرِّكه، عندما نريد للنّاس أن يصيروا مؤمنين، لا بالكلمة، ولكن أن يكونوا مؤمنين بالخطّ. والإيمان ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء. الإيمان هو كلمة وعقيدة وخطّ نتحرّك به في الحياة. أن تؤمن بالله هو أن تسلم أمرك لله. أن تؤمن بالله هو أن تجعل حياتك خاضعة لأحكام الله. وهذا ما أراده الإمام الصادق (عليه السلام)، الذي يقول: "ليت السّياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام". لأنّك إذا تفقَّهت في الدين عرفت طريقك، ولا يستطيع أحد أن يضلّك، أمّا إذا كنتَ جاهلاً فمن السهل أن ينطلق بعض الناس، ليغيِّروا كلام الله وليحرِّفوه عن مواضعه؛ لهذا أن تتفقَّه في دينك، أن تعرف ما يربطك بالله وأن تعرف ما يخرجك عن دينك، هذا هو طريق السلام وهذا هو طريق الاستقامة وهذا هو الطريق الذي يؤدّي بك إلى الجنّة. أن تعرف من أيّ نقطة تبدأ وفي أيّ خطّ تسير وإلى أين تصل؛ هذه هي المسألة، لأنَّ الحياة كلّها مستمرة. رسول الله مات والأنبياء ماتوا والأئمّة ماتوا والعلماء يموتون بعدهم، فكيف نقابل ربّنا غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88 ـــ 89]، لهذا نريد أن نؤكّد الإسلام كلّه؛ لا نريد نصف إسلام، بل نريد الإسلام كلّه.
لا نريد أيّة صفة غير صفة الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ...} [الحج : 78]. لهذا فإنَّ الخطّ الإسلامي الحاسم هو الذي لا يدع حكماً شرعياً إلاّ ويدعو له، ولا يدع مفهوماً إسلامياً إلاّ ويؤكّده، ولا ينطلق في أيّ موقع إلاّ على أساس الإسلام.
كيف نكون في خطّ عليّ (عليه السلام)؟
الإسلام الذي كان أيام العثمانيين والإسلام الذي كان في عهد المستعمرين، كان إسلاماً مؤدّباً مهذَّباً طيِّعاً معتدلاً حتّى الانسحاق. الحديث الذي كان يتحدّث به المسلمون بعضهم إلى بعض هو: اصبروا ولا تقفوا أمام القوى الظالمة، وكونوا الأذلاّء. كان الناس يعيشون على أساس أنّ الدين لا دخل له بالسياسة، ما لنا وللدخول بين السلاطين، كلّما ابتعد الإنسان عن سياسة الناس أكثر، كان زاهداً مؤمناً منيباً إلى الله أكثر. ولو جاء عليّ (عليه السلام) في أيام هؤلاء وفي منطق هؤلاء، لقالوا هذا رجل يتدخّل بالسياسة، وهذا رجل يخوض الحروب، وهذا شخص يتحرّك على أساس التطرُّف..، عليّ (عليه السلام) كان حاسماً في الإسلام والحسم عندهم تطرّف؛ وعليّ (عليه السلام) كان الحاسم في مواجهة البغي وذلك عندهم تطرّف أو إرهاب؛ وعليّ (عليه السلام) كان في الوقت نفسه يدير المسألة السياسية. في ما هي سياسة الناس أيضاً. كانوا يقولون عنه أنّه سياسي، ولو جاء الحسين (عليه السلام) وقال: أنا أريد الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فكم من الناس الذين يلهجون باسمه الآن ويتبعون عند يزيد المناصب والعلاقات السياسية ولم يكن مع الحسين إلاّ أن يقول: أيّها الناس تعالوا إلى الله ورسوله. فمن يأخذ بكلامه من الناس؟ لو كان الحسين موجوداً، لكان الحديث أنّ الحسين لا شعبية له، وأنّ يزيد هو الذي يملك الشعبية؛ ولو كان عليّ موجوداً، كان الحديث أنّه لا يملك الجماهير ومعاوية هو الذي يملك الجماهير، لأنَّ معاوية هو الذي يتّقن فن السياسة الكاذبة وعليّ (عليه السلام) كان يريد السياسة الصادقة. فكِّروا لأنّكم تنتظرون صاحب الزمان، ولو جاء صاحب الزمان فإنّه سيأخذ الناس بموقف عليّ (عليه السلام) الذي هو موقف الإسلام، فدبِّروا أموركم. الذي تعوَّد على أسلوب معاوية، لا يتحمّل أسلوب عليّ (عليه السلام)، وعند ذلك سوف يقف بكلّ الوسائل التي يملكها ضدّ عليّ (عليه السلام).
لا تفكّروا بهذه الأمور التي أطرحها عليكم بالطريقة السياسية اللبنانية المبنية على "الحرتقات" و"النكرزات"، افهموها بالطريقة الإسلامية التي تجعلكم تحدّقون بواقعكم جيّداً وتحدّقون بالإسلام جيّداً، لتعرفوا هل ينطبق الواقع على الإسلام أم لا ينطبق عليه؟ لأنّكم قد يغشّ بعضكم بعضاً، ولكن ماذا تفعلون إذا وقفتم في يوم لا يملك فيه الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها؛ قد يكون البعض مجادلاً جيداً، والناس يأتون إليه ويتكلّمون معه ويسكتهم بالنكتة والسخرية أو بأيّ طريقة، ولكن هل تستطيع أن تجادل عن نفسك بين يديّ الله؟ إذا لم تكن صادقاً مع نفسك في ما تتكلَّم به وإذا لم ترَ الحقيقة، في أعماقك في ما تتكلَّم به، فإنّك سوف تقف أمام الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، ولا يبقى هناك سرّ عند عالِم السرّ، هكذا نفكّر والموت قريب. إمامنا السجّاد (عليه السلام) يقول: "أدعوك دعاء مَن ضعفت وسيلته وانقطعت حيلته واقترب أجله وتدانى في الدنيا أمله واشتدّت إلى رحمتك فاقته وعظُمَت لتفريطه حسرته وكثرت ذلّته وعسرته"، والمهمّ الأخير "وخلُصَت لوجهك توبته"(1). عندما تقف مع الله فكلّ كلام البهلوانيّات والعنتريّات والأدوار، كلّ هذا يذهب عندما تنزل إلى قبرك وتقف بين يديّ ربّك. أقول لنفسي وأقول لكم من خلال مسؤوليتي الشرعية، ليفكّر كلّ واحدٍ منّا كيف سيقف بين يديّ ربّه؟ وعلى هذا الأساس كلّنا يجب أن نكون مسلمين مئة في المئة، ونحاول أن نكون مسلمين، نطلب الإسلام كلّه ونطرح الإسلام كلّه، وننفتح على الناس من خلال الإسلام، ونقول لهم أيُّها الناس، الإسلام ليس وحشاً تخافون منه، ولكنّه دين يفتح لكم كلّ قلبه ويتعاون معكم في كلّ ما يمكن أن يلتقي فيه معكم في كلّ أمور الحياة. بعض الناس الذين تولَّعوا بالشهوات لا يحبّون الإسلام، الإسلام هو وحده طريق خلاصكم، لا تأخذوا رسول الله في حساباتكم كشخص تحبّونه، بل خذوه كرسول تتبعونه، لأنَّ علاقتنا برسول الله هي علاقة برسالته وليست علاقة بشخصيّته.. ليس من الضروري أن تزوروه في قبره ولكن زوروه في رسالته فقفوا كلّ مواقف الرسالة لتقولوا أمام كلّ حكم شرعي: السلام عليكَ يا رسول الله، الذي بلّغتنا هذا الحكم ودعوتنا إلى هذا المفهوم ودعوتنا إلى هذا الموقف وبلّغتنا هذه الآية. زوروه في مواقع رسالته، فإنَّ ذلك أحبّ إليه من أن تزوروه في قبره. لأنّك إذا زرته في قبره وابتعدت عن مفاهيم رسالته فإنّك لم تزره أبداً.
الإسلام خطر على الاستكبار
الإسلام يمثّل الخطر على الكفر كلّه وعلى الظلم كلّه وعلى الاستكبار كلّه وعلى الانحراف كلّه. قالوا جاء الخطر، اعتبروه خطراً واعتبروه يخرِّب المعادلات ويخرّب الأوضاع وأعطوه اسم "الإسلام الأصولي"، يعني الإسلام يريد أن يرجع إلى الأصول، كأنَّ هناك إسلامياً يترك الأصول، كيف يمكن أن تتركوا أصول الدين، وتتركوا التوحيد والنبوّة والمعاد، وتتركوا هذه العقائد، ماذا تعني الأصول؟ الإسلام له أصول وفروع وإلاّ لا يكون إسلاماً. رفع شعار الإسلام الأصولي مِن قِبَل الاستكبار هو شعار تهويلي، لكي يوحوا بأنَّ هناك إسلاماً معتدلاً وإسلاماً متطرِّفاً. إسلام معتدل يقول لا مانع من أن تأخذ بالشهوات، لا مانع أن تخون ربّك وتخون أُمّتك لأنّه "ليوم ربّك يهوّنها ربّك" هناك كثير من الناس يقولون هذا "ليوم الله يهوِّن الله".



رئيس طائفي لنظام طائفي
ولهذا فإنَّ رئيس النظام الطائفي اللبناني ـــ وليس لبنان، لأنّنا لا نعترف برئاسة جاءت بها الدبّابات الإسرائيلية ـــ يقف ليتحدّث أمام هؤلاء الخائفين المذعورين من الإسلام، الذي اقتحم عليه عروشهم واقتحم عليهم مواقعهم، جاء ليستغلّ غرائزهم ماذا هناك؟ إنَّ التيّار الإسلامي الأصولي أربك الواقع وجاء إلى الجنوب وجعل هناك مشكلة كبيرة وخطراً. رئيس النظام يقول، إذا نجح الإسلام الأصولي فمعنى ذلك يا عرب أنّكم ستفقدون مواقعكم، فتعجَّلوا حتى تضربوه في الداخل، ويتحدّث عن الغرباء الأصوليين ويقصد الإيرانيين، لا بدّ من إخراجهم من لبنان، هذا كلامه. لكنّنا نقول له: "مَن كان بيته من زجاج لا يرم الناس بالحجارة".. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يحرِّكوا الفتنة في عين الرمّانة سنة 1975 ولم يحرقوا البلد بالنار. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يلعبوا على أكثر من حبل كما لعبتم، يوماً تكونون أصدقاء لسوريا ويوماً تعتبرون سوريا عدوّة لكم. أنتم في الموقف الذي يلعب على الحبال. من جاء بــ "إسرائيل" حتّى ركّزت قواعدها في لبنان، واحتلت لبنان ونصَّبتكم لكي تثأروا من المسلمين فكنتم أداة لــ "إسرائيل"؟ من أنت وأبوك وأخوك وكلّ الفريق الذي تعمل به؟ أنتَ الذي تتكلَّم عن الخطر على الجنوب، مَن جاء بالخطر إلى الجنوب وجعله منطقة تمثّلها "إسرائيل"؟ مَن غيرك وغير أبيك وغير أخيك(1)؟
الأصوليّون هم الخطر؟ ماذا فعل الأصوليون، ونحن لا نشجّع هذه التسمية، نحن مسلمون، مسلمون فقط، ماذا صنعوا؟ قاتلوا "إسرائيل" التي ركَّزت احتلالها في لبنان. ماذا فعلتم بعد ذلك؟ مَن أعطى جيش حدّاد ولحد(2) الشرعية، ومَن يمدّه بالقوّة؟ أنتَ القائد الأعلى للجيش ورواتب الجيش تذهب بشكلٍ منتظم إلى هؤلاء.. هل المسلمون الأصوليون هم الذين يقاتلون الآن أهلهم ويهيّئون "لإسرائيل" تركيز احتلالها؟ هل الأصوليون أم فريقك الطائفي، الذي قد تتحدّث رسمياً عن رفضه بالعلن، ولكنّك تدعمه بكلّ القوّة الممكنة؟ "إذا لم تستحِ فافعل ما شئت"، أو تكلَّم بما شئت. الغرباء لا بدّ أن يخرجوا، لم تقل لا بدّ أن نخرج كلّ الغرباء من لبنان، لبنان هو البلد الذي تجتذبون إليه كلّ الغرباء ليتدخَّلوا بأموره إلاّ إذا كان الغرباء مسلمين؛ لا تتحدّثون عن الغرباء الأميركيين بل تقولون لهم تعالوا تولّوا أمرنا، لا تتحدّثون عن الغرباء الأوروبيين، بل تقولون لهم تعالوا وتولّوا أمرنا، لم تتحدّثوا عن أيّ غرباء من هنا وهناك إلاّ الغرباء الذين يتحدّثون عن الحرية بصدق، لأنّكم جمعتم كلّ الغرباء في لبنان، ليؤكّدوا استعدادكم لاستعباد الإنسان في لبنان، أمّا الذين يريدون الحريّة للإنسان في لبنان ويريدون للبنان أن لا يكون مقرّاً للاستعمار ولا ممرّاً، فهؤلاء الغرباء، صحيح غرباء، غرباء عن عقليّتكم، وغرباء عن طائفيّتكم، وغرباء عن كلّ الظلم الذي زرعتموه في لبنان من أجل أن تبقى لكم العروش الطائفية. لن نردّ عليك طويلاً، ولكنّنا سنقف ضدّ كلّ هذا النهج من موقعنا الإسلامي الذي ينفتح على المسيحيين وعلى كلّ الناس وليس بمنطق طائفي ولا من موقع طائفي.
إنَّ المسلمين المجاهدين لا يطلبون إذناً منك ولا من نظامك ولا من أحد، إنَّ الذين يريدون أن يعملوا بحريّة في ساحة الحريّة لا يطلبون إذناً من أحد، إنَّ الحريّة تؤخذ ولا تُعطى.
العمل على تطويق الانتفاضة
وهكذا جاءت القمّة "المباركة" لتتحدّث عن دعم الانتفاضة، كيف يفكّرون في دعم الانتفاضة، لم يتحدّثوا عن طروحاتهم، سيعطونها بضعة ملايين من الدولارات، والمهمّ أن تدفع باسمهم، لكنّهم يعملون على أن تتحوّل الانتفاضة إلى ورقة في ساحة المفاوضات، وإذا أردنا أن نعرف كيف يعملون فعلينا أن نعرف طبيعة السياسة العربية.
إنَّ طبيعة السياسة العربية الغالبة لدى كثير من هؤلاء الملوك والرؤساء، هي طبيعة السير في الخطّ الأميركي لحلّ المسألة الفلسطينية، هذا الخطّ الذي يلتقي مع الخطّ الإسرائيلي. والمشكلة الآن، إنّما هي، كما قلنا مراراً، ليست مشكلة الحلّ وإنّما مشكلة الحفاظ على ماء الوجه. إنَّ الانتفاضة استطاعت أن تربك هؤلاء وتحرجهم، لأنّها عطَّلت كثيراً من خططهم وأحرجتهم أمام شعوبهم، ولهذا فإنَّ العمل هو على تطويق الانتفاضة وليس العمل على دفعها وتزخيمها. إنَّ الذين لا يفكِّرون في حرب اليهود في فلسطين لا يمكن أن يساعدوا الذين يحاربون اليهود، لأنَّ أولئك سيتحوّلون عندهم إلى إرهابيين وإلى متطرّفين وما إلى ذلك من الكلمات. إنَّ الذين حضروا القمّة، تذكَّروا الحجّ ويمكن أن يعمل بعضهم على أن يحجّ فماذا عندهم؟ إنّهم يرفضون الشغب أو التطرّف وما إلى ذلك، الذي قامت به إيران في ساحات مكّة، ماذا فعل الإيرانيون؟ طرحوا البراءة من المشركين وطرحوا الموت لأميركا وطرحوا الموت "لإسرائيل" وطرحوا الموت للظالمين. والعرب لا يعجبهم ذلك، لأنّهم يعيشون على موائد أميركا بعد أن يملؤوا موائدها بكلّ أموالهم، ولأنّ "إسرائيل" تعمل على أن يكونوا متّحدين معها. بعض الذين لم يحضروا القمّة كانوا حاضرين في وعي المشاركين فيها وهم لا يوافقون على شعار الموت للظالمين.. ارجعوا إلى شعوبهم، لتعرفوا أيّة شعوب مظلومة يحكم هؤلاء.
هل صحيح أنّ إيران أربكت الحجّ؟ هل صحيح أنّ إيران قامت بشغب؟ هل صحيح أنّ إيران أساءت إلى قداسة الحجّ؟ كلّ الحجَّاج الذين كانوا هناك يعرفون أنّهم كانوا في غاية الانضباط، وأنّهم كانوا يريدون أن يعطوا الوعي لكلّ المسلمين هناك. أنَّ الحجّ بداية وليس نهاية، أنّك حين تحجّ إلى الله فعليك أن تفكّر بكلّ أعداء الله لتواجههم بهذه الطريقة، وبغير هذه الطريقة في المستقبل، ولكن هم يشعرون أنّ هذا النهج في توعية المسلمين في الحجّ سوف يزحف إلى بلدانهم، وسوف يحبط كثيراً من مخطَّطاتهم.
إنَّ المسألة عندهم الآن هي إيران، وليست "إسرائيل". يسوّقون في الساحة السياسية أنّ المعركة مع إيران وليست مع "إسرائيل" أو مع أيّة جهة أخرى. المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، ولذا فإنَّنا لا نأمل الكثير من هذه القمّة، ولا نزال نرقب القمّة التي عقدت في موسكو ونشعر بأنّ هناك شيئاً يخطّط، وأنَّ هناك شيئاً يركّز على تحريك بعض الأوضاع السياسية، ولكن لا بدّ لنا من الرصد، حتّى نعرف ما هناك، ولا بدّ لنا من الحذر حتّى نحترس ممّا هناك.
ثمّ لا بدّ لنا من أن نفهم أنّ المسألة في لبنان لا تزال تراوح مكانها، ولا تزال القضايا لا تحمل جديداً، ولا تحمل أيّ حلّ، بل كلّ ما عند الجميع هو أن تحصل انتخابات رئاسة الجمهورية، وقضية الإصلاح وكلّ القضايا تنتظر الرئيس الجديد، بعد ذلك كلّ ما يتحدّثون به من عناوين إصلاحية أو ما إلى ذلك، الظاهر، والله العالم، أنّ هذا ليس وقته.
الحرب العبثيّة
وفي الختام، أحبّ أن أُثير بعض الحديث عن الواقع الدامي، الذي خلق شرخاً عميقاً في النفوس... هذه الحرب العبثية المجنونة، هذه الحرب الفتنة التي تعاونت كلّ أجهزة المخابرات الموجودة في البلاد وخارجها على إذكائها، يجب العمل على تطويقها وعلى محاصرتها. وعلى كلّ الذين يسعون لوأد هذه الفتنة، أن يعوا أنّ هناك نقطتين تجب إثارتهما، الأولى أنّ أجهزة المخابرات الإعلامية والسياسية بدأت تطرح شيئاً لم يكن مطروحاً قبل حرب الضاحية، وهذا التساؤل الإعلامي والسياسي عن موعد بدء حرب الضاحية، وهذا ما نبَّهنا إليه في السابق، وكنّا نقول للناس إنّ هذا خطّ أحمر، وقالت المخابرات ومن يسير معها إنَّنا سنقلب الخطّ الأحمر خطاّ أخضر، وهيّئوا الجوّ النفسي للنّاس فتحوَّل الأمر من مشكل صغير إلى حرب كبيرة، لأنَّ الجوّ النفسي الذي تعاونت كلّ الأجهزة من إعلامية وسياسية وأمنية على أن تثيره، جعل الناس يخاف بعضهم بعضاً وتحرّك الخوف هنا والخوف هناك ممّا هيّأ الأرض للانفجار وهذا ما حدث.
أمّا الآن فقد بدأت الصحف تكتب، وبدأت أجهزة المخابرات تشيع بين الناس، وقد بدأ الحديث بين السياسيين أنّ هناك معركة في الجنوب، أنّ هناك خطّة للهجوم على الغازيّة وعلى شرق صيدا، وأنّ على هذا الفريق أن يستعد وعلى ذاك الفريق أن يستعد؛ وبدأ الناس يوضعون في هذا الجوّ، حتّى يثيروا المشاعر وحتّى يخلقوا حالة خوف وحالة خوف مضادّ، ويقولون لبعض الناس أطلقوا الشرارة ليكون الحريق. هُيِّئ لحرب الضاحية إعلامياً ويراد أن يُهيَّأ لحرب الجنوب إعلامياً وسياسياً وأمنياً. إنَّنا معنيون بملاحقة هذه المسألة، ولهذا فإنَّني أستطيع، من موقع المسؤولية الشرعية ومن موقع دراسة خفايا كلّ هذا الواقع في هذا المجال، أن أقول: ليس هناك لأيّ فريق في السّاحة الإسلامية أيّة خطّة لأيّ حرب ولأيّ احتلال لا للغازية ولا لشرق صيدا ولا لأي مكان، هذا كلام لا واقع له، وكلّ مَن يثيره بطريقة أو بأخرى هو عميل لأحد أجهزة المخابرات التي تسوّق هذا الأمر. إنَّ المسألة تتحرّك على أساس أن تثير الجوّ الانفعالي، بعدما بدأ الناس بتبريد هذا الانفعال، ولهذا لا تصدِّقوا آذانكم، ضعوا عقولكم في رؤوسكم لا في آذانكم، إنَّ هناك طبخة مخابراتية إعلامية وأمنية وسياسية تريد أن تثير الجوّ، وعلينا أن نحصِّن أنفسنا جيداً في الوعي الكامل الذي نتحرّك فيه.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنَّنا عشنا جميعاً كلّ الآلام التي واجهتنا من خلال هذه الفتنة، ولعلّي من أكثر الناس معرفة بخفايا هذه الفتنة، لأنّني عشت في قلب المحرقة، لم أترك المنطقة لحظة ولم أترك الإطلال على حركة الواقع السياسي الإقليمي والدولي والمحلّي لحظة، كنتُ أدرس المسألة تماماً، ولكن ليس الوقت هو وقت بيان الأشياء العميقة، ليتحدّث الإعلام ما يتحدّث عنّي أو عن أيّ إنسان، لأنَّنا لسنا في موقع أن نحقِّق في الأمور، وسيأتي التاريخ القريب بعد زوال كلّ هذه الأجواء الاستهلاكية والاستعراضية، ليعرف الناس كيف حدث ما حدث، الوقت هو وقت وقف النزف ولملمة الجراح وإرجاع العقل إلى مكانه.


دعوة للتعقُّل ووأد الفتنة
إنَّنا ندعو كلّ القيادات، من روحية ومن سياسية، أن تلتقي في ما بينها، لتبحث المسألة بحثاً عميقاً من أجل إيجاد مصالحة واقعية لا مصالحة عشائرية، تدرس العلاقات دراسة جديّة عمليّة فتفوّت على الذين يلعبون لعبة الدم أن يلعبوا اللّعبة مرةً أخرى. إنّنا نريد أن نقول لكلّ القيادات، لن يستطيع أيّ واحدٍ منكم أن يحلّ المسألة وحده، ولكنّ التكامل بينكم هو الذي يمكن أن يحلّ المشكلة، حتّى يضغط الجميع على الجميع، وحتّى يتعرّف الجميع على ما عند الجميع. إنَّ مسألة أن يكون هذا الفريق الواحد الأحد ويكون ذاك الفريق الواحد الأحد، تجعل المشكلة تسير بدون ضوابط وسنكون جميعاً تحت رحمة أجهزة المخابرات، وسنكون جميعاً تحت رحمة جميع الذين يقامرون بمستقبل هذه الطائفة أو بمستقبل المسلمين أو بمستقبل لبنان.
إنَّنا نقول لا بدّ من لقاء كلّ القيادات، وقد دعونا سابقاً إلى لقاء هذه القيادات، وقد اجتمعت بعض القيادات تحت مظلّة الجمهورية الإسلامية، عندما جاء الوفد الإسلامي الممثّل للإمام الخميني (حفظه الله) بعد أحداث الجنوب، ونحن ندعو، ونقول لكم، للشعب كلّه، الذي يدفع الثمن هو ولا تدفعه القيادات، إنّني أقول للجميع: اضغطوا على الجميع وإنّني أُعلِن لكم أنّي إذا كان عندي نوع من موقع قيادي ولو صغير ـــ ولا أدَّعي ذلك لنفسي ـــ إنّي مستعد للّقاء مع أيٍّ كان، وإنّي مستعد لأن أعمل على أساس أن يتكامل الوضع كلّه. لا حريّة لأحد في أن ينعزل عن الساحة وهي تحترق أو وهي مؤهّلة للاحتراق. ليتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم. إنَّ البحث في القضايا التي تثار الآن هو بحث لا يسير إلى طريق مفتوح، إذا كان بعض الناس يناقش مسألة المجلس الشيعي وبعض الناس يؤيّده، فليست هذه مشكلتنا الآن، مشكلتنا أن نمنع النار من أن تندلع من جديد، ومشكلتنا أن نطفئ كلّ نتائج الحريق الذي عشناه وبعد ذلك يمكن لنا أن نتحدّث عن كلّ شيء لا بالطريقة الإعلامية ولا بالطريقة الانفعالية، يمكن أن يجتمع الجميع ليتحدّثوا عن المجلس الشيعي وعن غير المجلس الشيعي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الإمام الصادق (عليه السلام) ومفهوم التشيّع(*)
الاستقامة في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)
في الخامس والعشرين من شهر شوّال، نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، الإمام السادس من أئمّة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً. ونحن في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) ننطلق من علاقتنا العميقة بالإسلام، لأنَّ أهل البيت انطلقوا منذ أن انطلق جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرسالة، ليكونوا المخلصين للرسالة، الملتزمين بها، المجاهدين في سبيلها، العاملين على أساس إيضاحها للنّاس وإبعادها عن كلّ تحريف. ومن هنا فإنّنا عندما نتحرّك في كلّ حياتنا في تعاليمهم وفي وصاياهم وعندما ندخل إلى حياتهم، فإنَّنا نشعر بأنّنا نعيش مع الإسلام النقي ومع الإسلام الطاهر ومع الإسلام المجاهد ومع الإسلام الذي يأخذ القوّة من الله، ليكون القويَّ أمام التحدّيات وليكون الثابت أمام الاهتزازات، وليكون المتحدّي لكلّ الذين يطلقون التحدّي في وجهه. والإمام جعفر الصادق من أئمّة أهل البيت الذين فتحوا فكرهم للنّاس كافّة، وبهذا كانت مدرسته الممتدة في الحياة الإسلامية كلّها تمثّل المدرسة المنفتحة على النّاس كلّهم، فقد كان يستقبل الملاحدة والزنادقة والفرق الضالّة في المسجد الحرام عندما كان يذهب إلى الحجّ، وفي بيته عندما كان يستقبل طلاّب المعرفة، فكان يفتح لهم قلبه ليقولوا كلّ شيء، ويحدّثهم عن رأيه في كلّ ما يقولون من دون أن يتعقَّد منهم ومن دون أن يتشنَّج. حتّى لو كانت الكلمات التي يقولونها كلمات كبيرة وصعبة وقاسية وجافّة فإنّه كان يرى أنّ على صاحب الحقّ أن يسمح لكلّ إنسان يختلف معه بأن يقول كلّ رأيه وأن يمنحه حريّة أن يقول رأيه، ليردّ عليه وليناقشه من موقع الحريّة، لا من موقع القهر والضغط. ولهذا قال أحدهم وقد سئل عن الإمام جعفر الصادق، والناس مجتمعون آنذاك في موسم الحجّ، قال: لا أجد شخصاً يستحقّ اسم الإنسانية مثل الإمام جعفر الصادق، لأنّه كان يعيش إنسانيّته بكلّ رحابة صدر وبكلّ سعة الخلق وبكلّ حريّة الرأي ويمنحها حتّى للذين يختلفون معه في أساس العقيدة، لأنّه كان يريد للنّاس أن ينفتحوا على الله من خلال ذلك كلّه.
وقد امتد الإمام الصادق حتّى كان للمسلمين جميعاً؛ فقد تتلمذ عليه سنتين أبو حنيفة النعمان إمام المذهب الحنفي، وتتلمذ عليه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي، ويُنْقَلُ عن أبي حنيفة قوله: "لولا السنتان لهلك النعمان"، لأنَّ السنتين اللّتين استفاد فيهما من الإمام جعفر (عليه السلام)، ركّزتا قواعد تفكيره وعلمه وفقاهته. وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يوصي أصحابه بأن يكونوا المنفتحين على من حولهم، حتّى على الذين يختلفون معهم في المذهب، فكان لا يريد لهم أن يتعقَّدوا بل كان يريد لهم أن ينفتحوا، لأنَّ على الإنسان الذي يحمل في حياته التزاماً بخطّ أهل البيت، أن يكون داعية للإسلام على هذا الخطّ، من خلال أخلاقه ومن خلال طلاقة وجهه ومن خلال انفتاحه على النّاس كافّة.
كان من وصيّته لأحد أصحابه، وهذه الوصية ليست لأولئك ولكنّها لكم أيضاً، ولكلّ من يعيش في السّاحة الإسلامية عقلية الانغلاق على المسلمين الآخرين، بفعل ما تحاول المخابرات الدولية الاستكبارية أن تزرعه من الحقد بين المسلمين المختلفين في مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد، استمعوا إلى الإمام جعفر الصادق كيف يوصي كلّ مَن يطيعه منهم، ومنكم إذا كنتم تريدون أن تطيعوه، قال له:(1) "أقرئ مَن يطيعني منكم السلام، أوصيكم بتقوى الله" فمن لم يكن تقيّاً فليس شيعياً، و"الورع في دينكم"، فمن لم يكن ورعاً عن الحرام في دينكم فليس ممّن يعيش وصايا أهل البيت، "والاجتهاد لله"، اجتهدوا لله بأن تكونوا له بكلّ ما تملكون من طاقة، وبكلّ ما تملكون من قوّة، معنى الاجتهاد لله أن يكون جهدكم كلّه في ما تحملون من علم وقوّة ومن كلّ الإمكانات، أن يكون جهدكم لله؛ تبذلونه له ولا تبذلونه لغيره، "وصِدْقِ الحديث"، فالكذّابون لا مكان لهم في دائرة أهل البيت، لأنَّ أهل البيت هم الصادقون ولأنَّ رسول الله سيّد أهل البيت وسيّد العالم، كان الصادق، "وأداء الأمانة"، الخائنون لأماناتهم الذين لا يحفظون أماناتهم هؤلاء ليسوا من أهل البيت في شيء، "وطول السجود" أن تكون خاشعاً لله خاضعاً له منسحقاً في شخصيّته، لا كلمة لك أمام كلمة الله ولا رأي لك أمام ما يريده الله ولا شخصية لك أمام الله، عندما تقف في كلّ الساحات ويقال لك إنَّ الله يريد منك أن تفعل كذا وتفعل كذا، طأطئ رأسك لربّك، وعندما يريد الناس منك شيئاً لا يريده الله إرفع رأسك وصَلِّبْه وقل: أنا حرّ في أن لا أفعل ما تقولون، لكن أمام الله أنا العبد الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلاّ بالله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، لأنَّ السجود يجسِّد معنى العبودية، يقال معنى الركوع أن تمدّ عنقك لربّك: يا ربّي إنّي خاضعٌ لك وهذا عنقي بين يديك حتّى لو ضربته وتسجد؛ يداك ساجدتان وجبهتك ساجدة وكلّ جسمك ساجد، لتقول له: يا ربّي سَجَدَ لك جسمي وسَجَدَ لك كلّ عقلي وتسجد لك كلّ مشاعري فأنا لا شيء أمامك، بك أصير شيئاً، بك صرتُ إنساناً، بكَ أصير قوياً، بكَ أصير حرّاً، أمامك أنا لا أُساوي شيئاً ولكن أمام الناس ـــ عندما أكون معك ـــ فإنّي أقف أمام أعظم شيء آخر. إنَّ أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، وقد قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخَفِّفوا عنها بطولِ سجودكم"(1)، تعلَّموا طول السجود الذي تستنزفون به دموعكم بين يديّ الله وتنفتحون به لكلّ حاجاتهم ولكلّ مشاعركم أمام الله، "وحُسْن الجوار" كونوا الجيران الطيّبين لكلّ من جاوركم، تحمَّلوا الأذى منهم ولا تأذوهم وأحسنوا إليهم، ثمّ قال: "أدُّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط"، لو استعرتم من أحدهم خيطاً وإبرة فإنّ رسول الله يقول أدّوها إلى صاحبها مهما كانت قليلة. "وصلوا عشائركم" ممّن تختلفون معهم في المذهب واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأَدّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرّني ذلك ويدخل على قلبي السرور، وقيل هذا أدب جعفر. وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، أتحمل بلاءه وعاره. إذاً أن تكون مسلماً شيعياً وأن تكون جعفرياً فتلك مسؤولية. أنظر ما عليه أئمّة أهل البيت وافعله، حتّى يكون انتسابك إليهم يجعلهم يعتزّون بهذا الانتساب ولا يشعرون بالحرج من ذلك. لأنَّ التشيُّع ليس تعصُّباً، والتشيّع ليس سباباً، والتشيّع ليس طائفية، التشيّع هو خطّ الإسلام الذي انطلق أئمّة أهل البيت عليه في فهمهم للإسلام، لماذا قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي من أهل بيتي"(1)؟ لأنَّ أهل البيت لا ينفصلون عن كتاب الله. كلام الله هو الوحي لكلامهم، وشريعة الله هي الأساس لما يتحرَّكون به من أحكام. مفاهيم الإسلام هي مفاهيمهم، ليس لأهل البيت حساب خاص بعيد عن حساب الإسلام، ولهذا قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "جعل أهل بيتي في أُمّتي كسفينة نوح مَن رَكِبَها نجا ومَن رغب عنها غرق وهوى"(2)، لأنّ أهل البيت يريدون أن يخرجونا من طوفان الضلال والظلم ومن طوفان الكفر والانحراف، ولهذا إذا أردتم أن تنسبوا أنفسكم لأهل البيت، فانظروا ما هو التزامكم بالإسلام وانظروا ما هو عملكم في خطّ الإسلام، وانظروا ما هو انتماؤكم إلى الإسلام، لأنَّ عليّاً يفكّر بالإسلام ولا شيء عنده غير الإسلام.
لهذا كان الإمام الصادق يريد من أتباعه وشيعته أن يعيشوا في الأُفق الإسلامي الواسع وأن يلتقوا مع كلّ المسلمين، حتّى لو اختلفوا معهم في الرأي على أساس الإسلام. ليكون هذا الجوّ المنفتح هو السبيل لأن تدخلوا في حوارٍ معهم على أساس أنَّ هناك وضعاً طبيعياً. فبإمكانكم أن تتحدَّثوا معهم بحريّة ويتحدّثوا معكم بحريّة، لتصلوا إلى الحقّ من خلال ذلك الحوار.
هكذا كان يريد لشيعته، وهكذا سأل ذات يوم أحد أصحابه وقد جاء من سفر، قال له: كيف من عندكم؟ قال: الحمد لله. أُناس طيّبون خيّرون من الشيعة. قال: أسألك كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم، هل يصل أغنياؤهم فقراءهم؟ قال: قليلاً. قال: كيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم، هل يزور الأغنياء الفقراء؟ قال: قليلاً. قال: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم في ما يحتاجون؟ قال: قليلاً. قال: كيف تقول إنّه عندنا شيعة؟ المجتمع الشيعي هو المجتمع المسلم الذي يصل فيه الأغنياء الفقراء ويساعدونهم ويزورونهم ولا يتكبَّرون عليهم، هذا المجتمع الذي كان أهل البيت (عليهم السلام)، يريدون لشيعتهم أن يلتزموا به وأن يصلوا إليه. قال الإمام جعفر (عليه السلام) لبعض الناس: "أيمدَّ أحدكم يده إلى جيب أخيه فيأخذ منها ما يشاء فيدعه؟ قال لا. فقال: كيف تقول إنّكم أخوة"؟ الأخ من يفعل ذلك من خلال التربية ومن خلال الإيمان ومن خلال أن يفتح كلّ واحدٍ قلبه للآخر وأن يشعر بأنّه يتوحَّد معه.
يمكن أن يكون هناك مجتمع مسلم. وعندما يطرح الإسلام في أصالته ونقاوته وطهارته فإنَّ الذين يدعون إلى الإسلام، ليكون الإسلام هو الدين الذي يشمل الحياة كلّها، فإنّما يريدون الوصول إلى مجتمع طاهر نقي يتعاون فيه الجميع. على هذا الأساس لا يريدون مجتمعاً يعيش العصبية ويترك العمل ويترك الخطّ. لا بدّ لنا أن نفكِّر بهذه الطريقة، عندما نتحدّث عن أهل البيت (عليهم السلام) وعندما نريد أن ننطلق لنمثّلهم ونجسّدهم. قال الإمام الصادق(1) لبعض أصحابه وكانوا حوله: "الحسن من كلّ أحد حسن ومنكم أحسن لأنّكم تنسبون إلينا والقبيح من كلّ أحد قبيح ومنكم أقبح لأنّكم تنسبون إلينا". النسبة إلى أهل البيت مسؤولية وليست مجرّد لافتة، لأنَّ اللافتة التي تضعها في أيّ موقع إذا لم تصدقها بالواقع الذي تحت اللافتة فإنَّ اللافتة تكون سوءاً عليك بدلاً من أن تكون شرفاً لك، معنى أن يضع أحدكم لافتة في بيته أو آية قرآنية أو يضع لافتة في الشارع ويكتب اسمه واسم حزبه أو اسم حركته أو أيّ شيء تحتها، معناه أنّه يقول أيُّها الناس، إنّي ألتزم أن تكون حياتي تجسيداً لهذه اللافتة. وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الحقّ وأنتَ تعيش الباطل، وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الإخلاص وأنتَ تعيش الزيف، فاللافتة تسبّك يومياً، لتقول لك. إنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] واللافتة قول صامت، لأنّها بمثابة كلامك المنطوق. وكان الصادق (عليه السلام) يقول لأصحابه: "اتّقوا الله وكونوا إخوة بَرَرَة متحابّين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا"(1). وكان يقول لهم في ما يعظهم به: اجعلوا أمركم هذا لله، أنتم شيعة، أنتم مسلمون، اجعلوه لله، ولا تجعلوه للناس، فإنَّ مَن كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، أن تجعل كلّ شيء عندك لله. مَن يزرع الشرّ يحصد الشرّ.
ثمّ يوجّهنا للأوضاع الاجتماعية التي يحدث فيها النزاع والخلاف والقتال. إنَّ كلّ واحد منكم يحاول أن يتصدّق، تخرجون كلّ يوم في الصباح، تخرجون لتتصدَّقوا لأنَّ الصدقة تقرّبكم إلى الله.
هناك صدقة من نوعٍ آخر، صدقة يحبّها الله، ما هي؟ و"إصلاح بين الناس". إذا أردت أن تتصدَّق فانطلق، لتصلح ما فسد من علاقات الناس من حولك ولتقرّب ما تباعد فيه الناس من حولك فإنَّ ذلك صدقة يمكن لها أن تقرّبك إلى الله. ثمّ كان يقول: إيّاكم والخصومة والجدل والخلافات فإنّها تشغل القلب عن الله وتورث النفاق، ومَن زرع العداوة حصد ما بذر، إذا كنت تزرع الحقد والعداوة والبغضاء، لتربّي من حولك وتربّي نفسك على ذلك، فإنّك ستحصد عداوة من الناس ضدّك. ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله، عندما تريد أن تملك عقلك برِّد غضبك ولا تجعل تصرُّفاتك تتحرّك مع خطّ غضبك أو مع نار غضبك. هذه مبادئ أهل البيت، وهي مبادئ الإسلام. أهل البيت أتوا بها من خلال القرآن، كان يقول: أمّا أنّه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم. الظلم أن تتّهم أحداً بغير الحقّ، تضربه، تشتمه، تصادر ماله، وما إلى ذلك من الأمور. ثمّ بعد ذلك ترى أنّ هذا الذي خسر المال قد أعطاه الله من حسناتك، وأعطاك من سيّئاته ما يجعله يدخل الجنّة. أخذت منه مالاً ودخل بسبب ذلك الجنّة، ودخلت أنتَ النار، فأيّكما الرابح؟ أمّا أنّه من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشرَّ إذا فُعل به. أنتَ تضرب وتسجن وتقتل وتسرق وتعمل ما تعمل، ولكن ستدور الأيام، وسيفعل بك الآخرون ما فعلتَ بهم، وتبدأ بالتحدّث عن القانون وعن الإسلام وعن الدين. إنَّ مَن يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، وإنَّ مَن يزرع الشرّ فإنّه يحصر الشرّ؛ فلنكن من زرّاع الخير، لنحصد الخير ولو بعد حين ولنكن من زرّاع المحبّة، لنحصد المحبّة ولو بعد حين. مَن أعان ظالماً على مظلوم، بكلامه أو سكوته أو بتقديمه التسهيلات له، وسار معه في خطّ الظلم، فكيف يكون موقف الله منه؟ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "مَن أعان ظالِماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتّى ينزع عن معونته"(1) يعني أنتَ حين تعاوِن الظالم، فإنَّ صلاتك لا تقرّبك إلى الله، وصومك وحجّك لا قيمة لهما في مثل هذه الحالة، فانظروا مواقفكم. هناك ظلمة صغار وهناك ظلمة كبار. قد يكون المظلوم امرأة عند زوج ظالم، أو ولداً عند أبٍ ظالم، أو أباً عند ابن ظالم، أو مجتمعاً عند حاكم ظالم، أو ما إلى ذلك ممّا يختلف فيه الظالمون والمظلومون، "مَن عَذَرَ ظالِماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه"(2)، وهذا أخطر، أنتَ قاعد، لا تحمل سلاحاً وليس عندك سجن، ولا عندك قوّة، جالس في بيتك تقرأ صحيفة وتسمع إذاعة وتسهر، جاء في الصحيفة أنَّ فلاناً قَتَلَ فلاناً. كلام سمعت به من الإذاعة أو الجريدة، تعذر القويّ في ظلمه للضعيف أيّاً كان، وتعذر من كان ينتمي إلى حزبك أو حركتك أو طائفتك أو عشيرتك. إنّك حين تعذر الظالم فسيقوى، وعندما يقوى الظلم سيصل إلى بيتك، مَن عَذَرَ ظالماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه فإنْ دعا يستجاب له. ثمّ يحمِّل الأُمّة مسؤولية الضعيف الذي يضطهد من قِبَل القويّ سواء كان الضعيف شخصاً أو جماعة، أو كان القويّ شخصاً أو حكومة أو جهة. لا قداسة ولا احترام لِأُمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بحقّه. الأُمّة المقدّسة، الأُمّة المحترمة، الأُمّة التي يرضى عنها الله، هي الأُمّة التي يؤخذ فيها من القوي حقّ الضعيف. وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).


المؤمن أعزّ من الجبل
وكان يدعو المؤمنين جميعاً إلى أن يكونوا الأعزّاء، لا تكن ذليلاً، كن العزيز في مواقعك، كن أصلب من الجبل في موقفك، واستمع إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كيف يحدّثك عن مسألة العزّة، "إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(2)، أَلَمْ تسمع الله يقول: {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} [المنافقون : 8]، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، في ثباته وفي صبره وفي قوّته. إنَّ الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيئاً، مهما كسّرت المؤمن فإنّ دينه لا يكسر، مهما اضطهدته فإنَّ دينه لا يسقط، يظلّ المؤمن قويّاً بدينه، قوياً بموقفه، قوياً بقضاياه، قوياً بكلّ تطلُّعاته وبكلّ أهدافه، لأنّه يستمدّ القوّة من الله فلا يخاف من أحد، لأنّه يعبد الله ولا يعبد الشيطان، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 175]، هذا هو الخطّ.
وهذا ما يريده الله للمؤمنين، وهذا ما نريد أن نحرِّكه، عندما نريد للنّاس أن يصيروا مؤمنين، لا بالكلمة، ولكن أن يكونوا مؤمنين بالخطّ. والإيمان ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء. الإيمان هو كلمة وعقيدة وخطّ نتحرّك به في الحياة. أن تؤمن بالله هو أن تسلم أمرك لله. أن تؤمن بالله هو أن تجعل حياتك خاضعة لأحكام الله. وهذا ما أراده الإمام الصادق (عليه السلام)، الذي يقول: "ليت السّياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام". لأنّك إذا تفقَّهت في الدين عرفت طريقك، ولا يستطيع أحد أن يضلّك، أمّا إذا كنتَ جاهلاً فمن السهل أن ينطلق بعض الناس، ليغيِّروا كلام الله وليحرِّفوه عن مواضعه؛ لهذا أن تتفقَّه في دينك، أن تعرف ما يربطك بالله وأن تعرف ما يخرجك عن دينك، هذا هو طريق السلام وهذا هو طريق الاستقامة وهذا هو الطريق الذي يؤدّي بك إلى الجنّة. أن تعرف من أيّ نقطة تبدأ وفي أيّ خطّ تسير وإلى أين تصل؛ هذه هي المسألة، لأنَّ الحياة كلّها مستمرة. رسول الله مات والأنبياء ماتوا والأئمّة ماتوا والعلماء يموتون بعدهم، فكيف نقابل ربّنا غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88 ـــ 89]، لهذا نريد أن نؤكّد الإسلام كلّه؛ لا نريد نصف إسلام، بل نريد الإسلام كلّه.
لا نريد أيّة صفة غير صفة الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ...} [الحج : 78]. لهذا فإنَّ الخطّ الإسلامي الحاسم هو الذي لا يدع حكماً شرعياً إلاّ ويدعو له، ولا يدع مفهوماً إسلامياً إلاّ ويؤكّده، ولا ينطلق في أيّ موقع إلاّ على أساس الإسلام.
كيف نكون في خطّ عليّ (عليه السلام)؟
الإسلام الذي كان أيام العثمانيين والإسلام الذي كان في عهد المستعمرين، كان إسلاماً مؤدّباً مهذَّباً طيِّعاً معتدلاً حتّى الانسحاق. الحديث الذي كان يتحدّث به المسلمون بعضهم إلى بعض هو: اصبروا ولا تقفوا أمام القوى الظالمة، وكونوا الأذلاّء. كان الناس يعيشون على أساس أنّ الدين لا دخل له بالسياسة، ما لنا وللدخول بين السلاطين، كلّما ابتعد الإنسان عن سياسة الناس أكثر، كان زاهداً مؤمناً منيباً إلى الله أكثر. ولو جاء عليّ (عليه السلام) في أيام هؤلاء وفي منطق هؤلاء، لقالوا هذا رجل يتدخّل بالسياسة، وهذا رجل يخوض الحروب، وهذا شخص يتحرّك على أساس التطرُّف..، عليّ (عليه السلام) كان حاسماً في الإسلام والحسم عندهم تطرّف؛ وعليّ (عليه السلام) كان الحاسم في مواجهة البغي وذلك عندهم تطرّف أو إرهاب؛ وعليّ (عليه السلام) كان في الوقت نفسه يدير المسألة السياسية. في ما هي سياسة الناس أيضاً. كانوا يقولون عنه أنّه سياسي، ولو جاء الحسين (عليه السلام) وقال: أنا أريد الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فكم من الناس الذين يلهجون باسمه الآن ويتبعون عند يزيد المناصب والعلاقات السياسية ولم يكن مع الحسين إلاّ أن يقول: أيّها الناس تعالوا إلى الله ورسوله. فمن يأخذ بكلامه من الناس؟ لو كان الحسين موجوداً، لكان الحديث أنّ الحسين لا شعبية له، وأنّ يزيد هو الذي يملك الشعبية؛ ولو كان عليّ موجوداً، كان الحديث أنّه لا يملك الجماهير ومعاوية هو الذي يملك الجماهير، لأنَّ معاوية هو الذي يتّقن فن السياسة الكاذبة وعليّ (عليه السلام) كان يريد السياسة الصادقة. فكِّروا لأنّكم تنتظرون صاحب الزمان، ولو جاء صاحب الزمان فإنّه سيأخذ الناس بموقف عليّ (عليه السلام) الذي هو موقف الإسلام، فدبِّروا أموركم. الذي تعوَّد على أسلوب معاوية، لا يتحمّل أسلوب عليّ (عليه السلام)، وعند ذلك سوف يقف بكلّ الوسائل التي يملكها ضدّ عليّ (عليه السلام).
لا تفكّروا بهذه الأمور التي أطرحها عليكم بالطريقة السياسية اللبنانية المبنية على "الحرتقات" و"النكرزات"، افهموها بالطريقة الإسلامية التي تجعلكم تحدّقون بواقعكم جيّداً وتحدّقون بالإسلام جيّداً، لتعرفوا هل ينطبق الواقع على الإسلام أم لا ينطبق عليه؟ لأنّكم قد يغشّ بعضكم بعضاً، ولكن ماذا تفعلون إذا وقفتم في يوم لا يملك فيه الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها؛ قد يكون البعض مجادلاً جيداً، والناس يأتون إليه ويتكلّمون معه ويسكتهم بالنكتة والسخرية أو بأيّ طريقة، ولكن هل تستطيع أن تجادل عن نفسك بين يديّ الله؟ إذا لم تكن صادقاً مع نفسك في ما تتكلَّم به وإذا لم ترَ الحقيقة، في أعماقك في ما تتكلَّم به، فإنّك سوف تقف أمام الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، ولا يبقى هناك سرّ عند عالِم السرّ، هكذا نفكّر والموت قريب. إمامنا السجّاد (عليه السلام) يقول: "أدعوك دعاء مَن ضعفت وسيلته وانقطعت حيلته واقترب أجله وتدانى في الدنيا أمله واشتدّت إلى رحمتك فاقته وعظُمَت لتفريطه حسرته وكثرت ذلّته وعسرته"، والمهمّ الأخير "وخلُصَت لوجهك توبته"(1). عندما تقف مع الله فكلّ كلام البهلوانيّات والعنتريّات والأدوار، كلّ هذا يذهب عندما تنزل إلى قبرك وتقف بين يديّ ربّك. أقول لنفسي وأقول لكم من خلال مسؤوليتي الشرعية، ليفكّر كلّ واحدٍ منّا كيف سيقف بين يديّ ربّه؟ وعلى هذا الأساس كلّنا يجب أن نكون مسلمين مئة في المئة، ونحاول أن نكون مسلمين، نطلب الإسلام كلّه ونطرح الإسلام كلّه، وننفتح على الناس من خلال الإسلام، ونقول لهم أيُّها الناس، الإسلام ليس وحشاً تخافون منه، ولكنّه دين يفتح لكم كلّ قلبه ويتعاون معكم في كلّ ما يمكن أن يلتقي فيه معكم في كلّ أمور الحياة. بعض الناس الذين تولَّعوا بالشهوات لا يحبّون الإسلام، الإسلام هو وحده طريق خلاصكم، لا تأخذوا رسول الله في حساباتكم كشخص تحبّونه، بل خذوه كرسول تتبعونه، لأنَّ علاقتنا برسول الله هي علاقة برسالته وليست علاقة بشخصيّته.. ليس من الضروري أن تزوروه في قبره ولكن زوروه في رسالته فقفوا كلّ مواقف الرسالة لتقولوا أمام كلّ حكم شرعي: السلام عليكَ يا رسول الله، الذي بلّغتنا هذا الحكم ودعوتنا إلى هذا المفهوم ودعوتنا إلى هذا الموقف وبلّغتنا هذه الآية. زوروه في مواقع رسالته، فإنَّ ذلك أحبّ إليه من أن تزوروه في قبره. لأنّك إذا زرته في قبره وابتعدت عن مفاهيم رسالته فإنّك لم تزره أبداً.
الإسلام خطر على الاستكبار
الإسلام يمثّل الخطر على الكفر كلّه وعلى الظلم كلّه وعلى الاستكبار كلّه وعلى الانحراف كلّه. قالوا جاء الخطر، اعتبروه خطراً واعتبروه يخرِّب المعادلات ويخرّب الأوضاع وأعطوه اسم "الإسلام الأصولي"، يعني الإسلام يريد أن يرجع إلى الأصول، كأنَّ هناك إسلامياً يترك الأصول، كيف يمكن أن تتركوا أصول الدين، وتتركوا التوحيد والنبوّة والمعاد، وتتركوا هذه العقائد، ماذا تعني الأصول؟ الإسلام له أصول وفروع وإلاّ لا يكون إسلاماً. رفع شعار الإسلام الأصولي مِن قِبَل الاستكبار هو شعار تهويلي، لكي يوحوا بأنَّ هناك إسلاماً معتدلاً وإسلاماً متطرِّفاً. إسلام معتدل يقول لا مانع من أن تأخذ بالشهوات، لا مانع أن تخون ربّك وتخون أُمّتك لأنّه "ليوم ربّك يهوّنها ربّك" هناك كثير من الناس يقولون هذا "ليوم الله يهوِّن الله".



رئيس طائفي لنظام طائفي
ولهذا فإنَّ رئيس النظام الطائفي اللبناني ـــ وليس لبنان، لأنّنا لا نعترف برئاسة جاءت بها الدبّابات الإسرائيلية ـــ يقف ليتحدّث أمام هؤلاء الخائفين المذعورين من الإسلام، الذي اقتحم عليه عروشهم واقتحم عليهم مواقعهم، جاء ليستغلّ غرائزهم ماذا هناك؟ إنَّ التيّار الإسلامي الأصولي أربك الواقع وجاء إلى الجنوب وجعل هناك مشكلة كبيرة وخطراً. رئيس النظام يقول، إذا نجح الإسلام الأصولي فمعنى ذلك يا عرب أنّكم ستفقدون مواقعكم، فتعجَّلوا حتى تضربوه في الداخل، ويتحدّث عن الغرباء الأصوليين ويقصد الإيرانيين، لا بدّ من إخراجهم من لبنان، هذا كلامه. لكنّنا نقول له: "مَن كان بيته من زجاج لا يرم الناس بالحجارة".. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يحرِّكوا الفتنة في عين الرمّانة سنة 1975 ولم يحرقوا البلد بالنار. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يلعبوا على أكثر من حبل كما لعبتم، يوماً تكونون أصدقاء لسوريا ويوماً تعتبرون سوريا عدوّة لكم. أنتم في الموقف الذي يلعب على الحبال. من جاء بــ "إسرائيل" حتّى ركّزت قواعدها في لبنان، واحتلت لبنان ونصَّبتكم لكي تثأروا من المسلمين فكنتم أداة لــ "إسرائيل"؟ من أنت وأبوك وأخوك وكلّ الفريق الذي تعمل به؟ أنتَ الذي تتكلَّم عن الخطر على الجنوب، مَن جاء بالخطر إلى الجنوب وجعله منطقة تمثّلها "إسرائيل"؟ مَن غيرك وغير أبيك وغير أخيك(1)؟
الأصوليّون هم الخطر؟ ماذا فعل الأصوليون، ونحن لا نشجّع هذه التسمية، نحن مسلمون، مسلمون فقط، ماذا صنعوا؟ قاتلوا "إسرائيل" التي ركَّزت احتلالها في لبنان. ماذا فعلتم بعد ذلك؟ مَن أعطى جيش حدّاد ولحد(2) الشرعية، ومَن يمدّه بالقوّة؟ أنتَ القائد الأعلى للجيش ورواتب الجيش تذهب بشكلٍ منتظم إلى هؤلاء.. هل المسلمون الأصوليون هم الذين يقاتلون الآن أهلهم ويهيّئون "لإسرائيل" تركيز احتلالها؟ هل الأصوليون أم فريقك الطائفي، الذي قد تتحدّث رسمياً عن رفضه بالعلن، ولكنّك تدعمه بكلّ القوّة الممكنة؟ "إذا لم تستحِ فافعل ما شئت"، أو تكلَّم بما شئت. الغرباء لا بدّ أن يخرجوا، لم تقل لا بدّ أن نخرج كلّ الغرباء من لبنان، لبنان هو البلد الذي تجتذبون إليه كلّ الغرباء ليتدخَّلوا بأموره إلاّ إذا كان الغرباء مسلمين؛ لا تتحدّثون عن الغرباء الأميركيين بل تقولون لهم تعالوا تولّوا أمرنا، لا تتحدّثون عن الغرباء الأوروبيين، بل تقولون لهم تعالوا وتولّوا أمرنا، لم تتحدّثوا عن أيّ غرباء من هنا وهناك إلاّ الغرباء الذين يتحدّثون عن الحرية بصدق، لأنّكم جمعتم كلّ الغرباء في لبنان، ليؤكّدوا استعدادكم لاستعباد الإنسان في لبنان، أمّا الذين يريدون الحريّة للإنسان في لبنان ويريدون للبنان أن لا يكون مقرّاً للاستعمار ولا ممرّاً، فهؤلاء الغرباء، صحيح غرباء، غرباء عن عقليّتكم، وغرباء عن طائفيّتكم، وغرباء عن كلّ الظلم الذي زرعتموه في لبنان من أجل أن تبقى لكم العروش الطائفية. لن نردّ عليك طويلاً، ولكنّنا سنقف ضدّ كلّ هذا النهج من موقعنا الإسلامي الذي ينفتح على المسيحيين وعلى كلّ الناس وليس بمنطق طائفي ولا من موقع طائفي.
إنَّ المسلمين المجاهدين لا يطلبون إذناً منك ولا من نظامك ولا من أحد، إنَّ الذين يريدون أن يعملوا بحريّة في ساحة الحريّة لا يطلبون إذناً من أحد، إنَّ الحريّة تؤخذ ولا تُعطى.
العمل على تطويق الانتفاضة
وهكذا جاءت القمّة "المباركة" لتتحدّث عن دعم الانتفاضة، كيف يفكّرون في دعم الانتفاضة، لم يتحدّثوا عن طروحاتهم، سيعطونها بضعة ملايين من الدولارات، والمهمّ أن تدفع باسمهم، لكنّهم يعملون على أن تتحوّل الانتفاضة إلى ورقة في ساحة المفاوضات، وإذا أردنا أن نعرف كيف يعملون فعلينا أن نعرف طبيعة السياسة العربية.
إنَّ طبيعة السياسة العربية الغالبة لدى كثير من هؤلاء الملوك والرؤساء، هي طبيعة السير في الخطّ الأميركي لحلّ المسألة الفلسطينية، هذا الخطّ الذي يلتقي مع الخطّ الإسرائيلي. والمشكلة الآن، إنّما هي، كما قلنا مراراً، ليست مشكلة الحلّ وإنّما مشكلة الحفاظ على ماء الوجه. إنَّ الانتفاضة استطاعت أن تربك هؤلاء وتحرجهم، لأنّها عطَّلت كثيراً من خططهم وأحرجتهم أمام شعوبهم، ولهذا فإنَّ العمل هو على تطويق الانتفاضة وليس العمل على دفعها وتزخيمها. إنَّ الذين لا يفكِّرون في حرب اليهود في فلسطين لا يمكن أن يساعدوا الذين يحاربون اليهود، لأنَّ أولئك سيتحوّلون عندهم إلى إرهابيين وإلى متطرّفين وما إلى ذلك من الكلمات. إنَّ الذين حضروا القمّة، تذكَّروا الحجّ ويمكن أن يعمل بعضهم على أن يحجّ فماذا عندهم؟ إنّهم يرفضون الشغب أو التطرّف وما إلى ذلك، الذي قامت به إيران في ساحات مكّة، ماذا فعل الإيرانيون؟ طرحوا البراءة من المشركين وطرحوا الموت لأميركا وطرحوا الموت "لإسرائيل" وطرحوا الموت للظالمين. والعرب لا يعجبهم ذلك، لأنّهم يعيشون على موائد أميركا بعد أن يملؤوا موائدها بكلّ أموالهم، ولأنّ "إسرائيل" تعمل على أن يكونوا متّحدين معها. بعض الذين لم يحضروا القمّة كانوا حاضرين في وعي المشاركين فيها وهم لا يوافقون على شعار الموت للظالمين.. ارجعوا إلى شعوبهم، لتعرفوا أيّة شعوب مظلومة يحكم هؤلاء.
هل صحيح أنّ إيران أربكت الحجّ؟ هل صحيح أنّ إيران قامت بشغب؟ هل صحيح أنّ إيران أساءت إلى قداسة الحجّ؟ كلّ الحجَّاج الذين كانوا هناك يعرفون أنّهم كانوا في غاية الانضباط، وأنّهم كانوا يريدون أن يعطوا الوعي لكلّ المسلمين هناك. أنَّ الحجّ بداية وليس نهاية، أنّك حين تحجّ إلى الله فعليك أن تفكّر بكلّ أعداء الله لتواجههم بهذه الطريقة، وبغير هذه الطريقة في المستقبل، ولكن هم يشعرون أنّ هذا النهج في توعية المسلمين في الحجّ سوف يزحف إلى بلدانهم، وسوف يحبط كثيراً من مخطَّطاتهم.
إنَّ المسألة عندهم الآن هي إيران، وليست "إسرائيل". يسوّقون في الساحة السياسية أنّ المعركة مع إيران وليست مع "إسرائيل" أو مع أيّة جهة أخرى. المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، ولذا فإنَّنا لا نأمل الكثير من هذه القمّة، ولا نزال نرقب القمّة التي عقدت في موسكو ونشعر بأنّ هناك شيئاً يخطّط، وأنَّ هناك شيئاً يركّز على تحريك بعض الأوضاع السياسية، ولكن لا بدّ لنا من الرصد، حتّى نعرف ما هناك، ولا بدّ لنا من الحذر حتّى نحترس ممّا هناك.
ثمّ لا بدّ لنا من أن نفهم أنّ المسألة في لبنان لا تزال تراوح مكانها، ولا تزال القضايا لا تحمل جديداً، ولا تحمل أيّ حلّ، بل كلّ ما عند الجميع هو أن تحصل انتخابات رئاسة الجمهورية، وقضية الإصلاح وكلّ القضايا تنتظر الرئيس الجديد، بعد ذلك كلّ ما يتحدّثون به من عناوين إصلاحية أو ما إلى ذلك، الظاهر، والله العالم، أنّ هذا ليس وقته.
الحرب العبثيّة
وفي الختام، أحبّ أن أُثير بعض الحديث عن الواقع الدامي، الذي خلق شرخاً عميقاً في النفوس... هذه الحرب العبثية المجنونة، هذه الحرب الفتنة التي تعاونت كلّ أجهزة المخابرات الموجودة في البلاد وخارجها على إذكائها، يجب العمل على تطويقها وعلى محاصرتها. وعلى كلّ الذين يسعون لوأد هذه الفتنة، أن يعوا أنّ هناك نقطتين تجب إثارتهما، الأولى أنّ أجهزة المخابرات الإعلامية والسياسية بدأت تطرح شيئاً لم يكن مطروحاً قبل حرب الضاحية، وهذا التساؤل الإعلامي والسياسي عن موعد بدء حرب الضاحية، وهذا ما نبَّهنا إليه في السابق، وكنّا نقول للناس إنّ هذا خطّ أحمر، وقالت المخابرات ومن يسير معها إنَّنا سنقلب الخطّ الأحمر خطاّ أخضر، وهيّئوا الجوّ النفسي للنّاس فتحوَّل الأمر من مشكل صغير إلى حرب كبيرة، لأنَّ الجوّ النفسي الذي تعاونت كلّ الأجهزة من إعلامية وسياسية وأمنية على أن تثيره، جعل الناس يخاف بعضهم بعضاً وتحرّك الخوف هنا والخوف هناك ممّا هيّأ الأرض للانفجار وهذا ما حدث.
أمّا الآن فقد بدأت الصحف تكتب، وبدأت أجهزة المخابرات تشيع بين الناس، وقد بدأ الحديث بين السياسيين أنّ هناك معركة في الجنوب، أنّ هناك خطّة للهجوم على الغازيّة وعلى شرق صيدا، وأنّ على هذا الفريق أن يستعد وعلى ذاك الفريق أن يستعد؛ وبدأ الناس يوضعون في هذا الجوّ، حتّى يثيروا المشاعر وحتّى يخلقوا حالة خوف وحالة خوف مضادّ، ويقولون لبعض الناس أطلقوا الشرارة ليكون الحريق. هُيِّئ لحرب الضاحية إعلامياً ويراد أن يُهيَّأ لحرب الجنوب إعلامياً وسياسياً وأمنياً. إنَّنا معنيون بملاحقة هذه المسألة، ولهذا فإنَّني أستطيع، من موقع المسؤولية الشرعية ومن موقع دراسة خفايا كلّ هذا الواقع في هذا المجال، أن أقول: ليس هناك لأيّ فريق في السّاحة الإسلامية أيّة خطّة لأيّ حرب ولأيّ احتلال لا للغازية ولا لشرق صيدا ولا لأي مكان، هذا كلام لا واقع له، وكلّ مَن يثيره بطريقة أو بأخرى هو عميل لأحد أجهزة المخابرات التي تسوّق هذا الأمر. إنَّ المسألة تتحرّك على أساس أن تثير الجوّ الانفعالي، بعدما بدأ الناس بتبريد هذا الانفعال، ولهذا لا تصدِّقوا آذانكم، ضعوا عقولكم في رؤوسكم لا في آذانكم، إنَّ هناك طبخة مخابراتية إعلامية وأمنية وسياسية تريد أن تثير الجوّ، وعلينا أن نحصِّن أنفسنا جيداً في الوعي الكامل الذي نتحرّك فيه.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنَّنا عشنا جميعاً كلّ الآلام التي واجهتنا من خلال هذه الفتنة، ولعلّي من أكثر الناس معرفة بخفايا هذه الفتنة، لأنّني عشت في قلب المحرقة، لم أترك المنطقة لحظة ولم أترك الإطلال على حركة الواقع السياسي الإقليمي والدولي والمحلّي لحظة، كنتُ أدرس المسألة تماماً، ولكن ليس الوقت هو وقت بيان الأشياء العميقة، ليتحدّث الإعلام ما يتحدّث عنّي أو عن أيّ إنسان، لأنَّنا لسنا في موقع أن نحقِّق في الأمور، وسيأتي التاريخ القريب بعد زوال كلّ هذه الأجواء الاستهلاكية والاستعراضية، ليعرف الناس كيف حدث ما حدث، الوقت هو وقت وقف النزف ولملمة الجراح وإرجاع العقل إلى مكانه.


دعوة للتعقُّل ووأد الفتنة
إنَّنا ندعو كلّ القيادات، من روحية ومن سياسية، أن تلتقي في ما بينها، لتبحث المسألة بحثاً عميقاً من أجل إيجاد مصالحة واقعية لا مصالحة عشائرية، تدرس العلاقات دراسة جديّة عمليّة فتفوّت على الذين يلعبون لعبة الدم أن يلعبوا اللّعبة مرةً أخرى. إنّنا نريد أن نقول لكلّ القيادات، لن يستطيع أيّ واحدٍ منكم أن يحلّ المسألة وحده، ولكنّ التكامل بينكم هو الذي يمكن أن يحلّ المشكلة، حتّى يضغط الجميع على الجميع، وحتّى يتعرّف الجميع على ما عند الجميع. إنَّ مسألة أن يكون هذا الفريق الواحد الأحد ويكون ذاك الفريق الواحد الأحد، تجعل المشكلة تسير بدون ضوابط وسنكون جميعاً تحت رحمة أجهزة المخابرات، وسنكون جميعاً تحت رحمة جميع الذين يقامرون بمستقبل هذه الطائفة أو بمستقبل المسلمين أو بمستقبل لبنان.
إنَّنا نقول لا بدّ من لقاء كلّ القيادات، وقد دعونا سابقاً إلى لقاء هذه القيادات، وقد اجتمعت بعض القيادات تحت مظلّة الجمهورية الإسلامية، عندما جاء الوفد الإسلامي الممثّل للإمام الخميني (حفظه الله) بعد أحداث الجنوب، ونحن ندعو، ونقول لكم، للشعب كلّه، الذي يدفع الثمن هو ولا تدفعه القيادات، إنّني أقول للجميع: اضغطوا على الجميع وإنّني أُعلِن لكم أنّي إذا كان عندي نوع من موقع قيادي ولو صغير ـــ ولا أدَّعي ذلك لنفسي ـــ إنّي مستعد للّقاء مع أيٍّ كان، وإنّي مستعد لأن أعمل على أساس أن يتكامل الوضع كلّه. لا حريّة لأحد في أن ينعزل عن الساحة وهي تحترق أو وهي مؤهّلة للاحتراق. ليتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم. إنَّ البحث في القضايا التي تثار الآن هو بحث لا يسير إلى طريق مفتوح، إذا كان بعض الناس يناقش مسألة المجلس الشيعي وبعض الناس يؤيّده، فليست هذه مشكلتنا الآن، مشكلتنا أن نمنع النار من أن تندلع من جديد، ومشكلتنا أن نطفئ كلّ نتائج الحريق الذي عشناه وبعد ذلك يمكن لنا أن نتحدّث عن كلّ شيء لا بالطريقة الإعلامية ولا بالطريقة الانفعالية، يمكن أن يجتمع الجميع ليتحدّثوا عن المجلس الشيعي وعن غير المجلس الشيعي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية