بينَ رقابَةِ اللهِ ووحدَةِ الأمَّةِ: مسؤوليَّتُنا في زَمَنِ التَّحدّيَات

بينَ رقابَةِ اللهِ ووحدَةِ الأمَّةِ: مسؤوليَّتُنا في زَمَنِ التَّحدّيَات

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
التّقوى ورقابة الله
وهناك أكثر من آية في التَّقوى، وهي تعبّر عن إحساس الإنسان برقابة الله عليه، بحيث يتحرَّك في الحياة، وهو يشعر بأنَّ الله مطَّلع على كلّ شيء في داخله.
فنحن قد نكون مستورين عن النَّاس من حولنا، فلا يطَّلعون على ما نخفي في عقولنا وقلوبنا مما نفكّر فيه أو نشعر به، فأفكارنا ملكنا، ونشعر بأنَّنا قادرون على أن نخفيها، سواء كانت أفكاراً طيّبة أو خبيثة، وكذلك نحن نملك عواطفنا، ويمكن لنا أن نخفيها، ونملك أيضاً نيَّاتنا الّتي قد تختلف بين نيَّة سوء ونيَّة خير.
فنحن نستطيع أن نحمي أنفسنا من رقابة الآخرين على ما في داخلنا، ولكنَّنا لا نملك حماية أنفسنا من رقابة الله على ما في داخلنا، لأنّه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، فالله سبحانه وتعالى يعلم عمق الإنسان وما يفكّر فيه ويشعر به.
وفي ضوء ذلك، ينبغي للإنسان، كلَّما حرّك عقله لإنتاج فكرة، أن يستحضر رقابة الله عليه، سواء كان يُخطّط للشرّ أو للخير، وأن يعلم أنَّ الله مطّلع على كلّ خطوات تفكيره.
فلو فرضنا، مثلاً، أنّه كان هناك جهاز يكشف كلَّ ما نفكّر فيه، فلن نأخذ كلّ حريّتنا في التّفكير، لأنّنا نخاف أن يطّلع النّاس على ما نفكّر فيه من تفكير عدوانيّ أو شرّير أو أنّنا نفكّر في الجريمة... لذلك، علينا أن نتحسَّس هذا الشّعور بأنَّ الله يلاحق تفكيرنا، ونحن نفكّر، ويطَّلع عليه، ليمنعنا ذلك من تحريك الفكر في اتجاه الشّرّ أو الجريمة أو الإضرار بالنَّاس، وكذلك عندما نعيش النيّات الخبيثة، والدَّوافع السيّئة، والمشاعر العدوانيَّة...
هذا هو الإيحاء الدَّائم الَّذي يؤكّده الله: {إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ}[البقرة: 284]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[التّغابن: 4].
فالإنسان يحتاج أن يؤكّد هذا المعنى وهذا الإيمان والإحساس في داخل نفسه، حتّى يعصمه ذلك من تحويل نفسه إلى حركة داخليَّة تنتج الشَّرَّ للحياة، وتنتج الجريمة في حياة النَّاس الّذين يعيشون معنا. فنحن نحتاج إلى حواجز نفسيَّة تمنعنا من عمل الشّرّ والسّوء، لأنَّ النفس أمَّارة بالسّوء، والإنسان عندما يفكّر بينه وبين نفسه يأخذ حريّته، فما يستحي أن يتحدَّث به إلى أقرب النَّاس، يأخذ حريّته به عندما يفكّر فيه بينه وبين نفسه، لأنَّه يشعر بأن لا رقابة على ما يفكّر فيه. لذلك، نحن في كثير من الحالات، نحرّك أفكارنا فيما نستحي منه أو نخاف من الحديث عنه أمام النَّاس.
فعمليَّة ضبط الجانب الدَّاخليّ للإنسان تحتاج إلى ضمير، وتحتاج إلى رقابة داخليَّة، وأن يشعر الإنسان أنَّ هناك عيناً تنفذ إلى داخله، وتلك هي عين الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يتعمَّق في نفس الإنسان بكثرة قراءة القرآن، وإثارة معرفة الله في النَّفس.
الموتُ على الإسلام
فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ - أي كما ينبغي أن يُتَّقى، وكما جاء في بعض الأحاديث، أن "يُطاعُ فَلَا يُعصَى، ويُذكَر فَلَا يُنسى". فالتقوى الحقيقيَّة هي أن يُطيع الإنسانُ ربَّه في كلّ أمر، وألّا يعصيه في شيء، وأن يظلّ ذاكراً له لا بلسانه فحسب، بل بعقله وقلبه، وإحساسه وشعوره؛ أن يكون الله حاضراً في كلّ وجدانه.
- وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، أي أنَّ على الإنسان أن يعمل بما يضمن لنفسه الاستمرار في نهج التَّقوى والاستقامة والعمل الصَّالح حتَّى آخر حياته... لأنَّ القلوب تتقلَّب، وقد يُصبح الإنسان مؤمناً ويمسي كافراً، وقد يبدأ حياته على شيء، وينتهي بشيء آخر. فكيف نضمن أن نفارق هذه الحياة ونحن مسلمون؟!
ونحن نرى أنّه حتَّى الأنبياء عندما يدعون الله، وعندما يوصون أولادهم، فإنّهم يوصونهم بالإسلام، وإبراهيم (ع)، كما يذكر الله لنا عنه، يقول: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[البقرة: 132]. المهمّ أن تكون نهاية الإنسان تسليماً لله تعالى.
ويقول عن يعقوب (ع): {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 133].
والنّبيّ يوسف (ع)، عندما فرَّج الله سبحانه عنه، وجمع له أبويه وإخوته، وعاش السَّلام فيما بينهم بعد المشاكل الَّتي حصلت، قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف: 101]. فقد كانت الرَّغبة الأخيرة له (ع) أن يتوفَّاه الله وهو مسلم.
فلماذا تأكيد هذا الموضوع؟ لأنَّ كلّ واحد منّا في هذه الحياة قد تحدث له مشاكل تهزّ دينه، وقد يواجه إغراءات تهزّ التزامه، وربما يتعرَّض لضغوط تسقط تقواه.. فالإنسان في كثيرٍ من الحالات، إذا لم يحاول أن يصنع لنفسه قوَّة الشَّخصيَّة الَّتي تستطيع أن تتماسك أمام التَّحدّيات، فقد يسقط عند الابتلاءات والإغراءات. فقد يكون الإنسان مؤمناً طيّباً صالحاً، ولكنَّه قد يسقط أمام الشَّهوات والإغراءات والطَّمع المادّيّ، إذا لم تكن شخصيَّته قويَّة، وإيمانه صلباً ومتماسكاً.
الله يقول لنا انتبهوا، إنَّ الشَّيطان يقعد لكم في الطَّريق.. والشَّيطان عندما أمهله الله إلى يوم يبعثون، ماذا قال؟ {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16]، فكما طردتني من رحمتك، سأغوي عبادك وأمنعهم من دخول الجنَّة، كما أخرجْتُ أبويهم آدم وحوّاء منها. كيف ذلك؟ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 16 - 17]. فهو يترصَّدنا، والإنسان عندما يعرف أنَّ هناك عدوّاً يلاحقه، فعليه أن يستعدَّ له {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].
لذلك، يحتاج كلّ واحد منَّا أن يكون واعياً لنفسه، لأنَّنا إذا غفلنا عن أنفسنا، فسيغوينا الشَّيطان، ويستغلّ غفلتنا للإيقاع بنا وإسقاطنا. فعلى الإنسان أن يكون دائماً مفتوح العينين، وليس المقصود العينين في الوجه، بل عيني العقل، أن يكون لعقله عينان، حتّى يفتح عقله على الخير، وأن يكون لقلبه عينان، حتَّى يبصر بهما كيف يحرّك مشاعره وعواطفه في اتّجاه الخير، كما يكون له عينان يبصر بهما طريقه. أن يقوم الإنسان دائماً بعمليَّة حساب واستحضار الوعي، وأن يعرف ما ينفعه وما يضرّه، وأن يعرف الحواجز الَّتي تحول بينه وبين ربّه.
تدبّرُ العاقبة
ومن الأمور الَّتي أوصانا بها الرّسل، أن ننظر إلى عاقبة أيّ عمل عندما نريد القيام به، وقد قال النَّبيّ (ص) في وصيَّته لنا: "إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَأَمْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ".
أن نحاول دائماً أن لا نرتبط بأوائل الأمور بل بآخرها، أن لا نرتبط بالمقدّمات بل بالنّتائج، لأنّنا قد نفرح بالشّيء في بدايته، ولكنَّه قد يحزننا في نهايته. فعلى الإنسان أن لا يفكّر أنَّ هذه اللّقمة التي يأكلها طعمها طيّب وحلو، إذا كان يعرف أنَّ في داخلها سمّاً قد يؤدّي به إلى القبر أو المستشفى.
بعض الأشياء يكون مذاقها حلواً، وقد يعطي الإنسان لنفسه الحريَّة في شهواته لأنّه يتلذّذ بها في جسده أو في لسانه، ولكنّ المهم ّالنتيجة، فـ"رَبّ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكْلَاتٍ"، وربّ شهوة منعت شهوات، وربَّ لذَّة منعت لذَّات. لذا علينا أن نكون واعين {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
لا مسايرةَ في الحرام
وهناك نقطة علينا أن نفكّر فيها، فقد يطلب منّا أحد شيئاً نعرف أنّه حرام، فنرى البعض يبرّر لنفسه بأنَّه لا يريد لفلان أن ينزعج منه أو يستاء، فيمرّر الأكلة الحرام، أو الشّرب الحرام، أو الشَّهوة الحرام، ونبرّر لأنفسنا المعصية، لأنّنا نشعر بضغط المجتمع علينا، فنعصي الله لحساب فلان، أو لحساب من نحبّهم أو نرتبط بهم..
لكن على الإنسان أن يفكّر أنَّ هذا المجتمع الَّذي يشجّعنا على المعصية، قد يحمينا من نتائجها في الدّنيا، لكن ماذا عندما يكون كلٌّ منَّا وحده، ويقف ليحاسَب على هذه المعصية أمام الله سبحانه، وليس من يستطيع أن يحميه؟! {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام: 94]، فماذا يفعل الإنسان حينها؟ وكيف يحمي نفسه؟
فعندما يُغرينا الآخرون بمعصية الله، ويُهوِّنون في أعيننا فعلَ الذَّنب، فلنتذكَّر أنَّ هؤلاء لن يقفوا معنا يوم القيامة، لا الأقارب ولا الأصدقاء ولا المعارف، وسيواجه كلّ منّا مصيره وحده. فهل نحن مستعدّون لتحمُّل تبعات إرضاء النّاس، إذا وقفنا بين يدي الله وسُئلنا: لماذا عصيت؟ وبماذا نجيب حينها؟!
أنا دائماً أقول لنفسي وأقول لإخواني وأخواتي، إنَّ كلَّ شيء نستطيع أن ندافع عنه، يمكننا أن نقوله ونفعله، سواء كنَّا ندافع عنه أمام النَّاس أو أمام الله، وهو الأساس، وكلّ شيء لا نستطيع أن ندافع عنه، فالأجدر أن نتركه ونبتعد عنه، كي لا نقع في التّبرير بعد الخطأ، ونقول عند الحساب: لم يكن ذلك قصدنا، لأنَّ "المُؤْمِنَ لا يُسِي‏ءُ وَلَا يَعْتَذرُ، وَالمُنَافِقُ كُلَّ يَومٍ يُسِي‏ءُ وَيَعْتَذِرُ"، لأنَّ الاعتذار موقف ذلّ، ويبذل الإنسان به ماء وجهه.
وفي حديث عن الإمام جعفر الصَّادق (ع)، يقول: "لَا يَنبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قُلْتُ: بِمَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَدخُلُ فِيمَا يَعتَذِرُ مِنْهُ"، يعني أن يقوم بالعمل الخطأ الَّذي يضطرّه إلى أن يعتذر منه للنّاس.. وكلّ موقف اعتذار هو ذلّ للإنسان، فمن يحترم عزّته وكرامته، لا يقوم بما يضطرّه إلى الاعتذار. وقد يسهل على الإنسان أن ينكر ما قال أو فعل أمام النَّاس، ويتفنّن في التبرير، لكن ماذا يصنع أمام الله؟! ألا نقرأ في دعاء كميل هذا الاعتراف الخاشع: "اللَّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْري"، "فَلَكَ الْحَمْدُ عَليَّ في جَميعِ ذلِكَ، وَلا حُجَّةَ لي فيما جَرى عَلَيَّ فيهِ قَضاؤُكَ، وَألْزَمَني حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ"؟! فأمام الله الاعتذار صعب.
لذا ينبغي أن نترك كلّ ما لا نقدر على الإجابة عنه يوم الحساب، وأن لا نقوم به أبداً. وأقول لكم إنَّ هذا الطَّريق ليس سهلاً، لكنَّه ممكن بالوعي الدَّائم بالعواقب والنَّتائج الَّتي تترتَّب على أفعالنا، حين يفكّر الإنسان في هذه العواقب والأضرار، ليصبح قادراً على ضبط نفسه الأمّارة بالسّوء، وأن يوقفها عند حدّها.
بينَ اللّومِ والطّمأنينة
والله حدَّثنا عن النَّفس اللوَّامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 1 -2].
والنَّفس اللّوَّامة هي الَّتي تلوم صاحبها وتحاكمه، هذه النَّفس اللّوَّامة هي الّتي تسهر على صاحبها وتلومه وتصلحه، وهي ما نسمّيه الضَّمير، وهي الَّتي تقود الإنسان إلى النَّفس المطمئنَّة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30].
لذلك، علينا أن نحافظ دوماً على الإيمان في قلوبنا، والتَّقوى في حياتنا، أن تبقى هذه التّقوى حتَّى نموت، لأنّها إذا بقيت، يأتينا النّداء: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}، كما يأتينا النّداء: {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}[يس: 58]. لكن إذا فرضنا أنّنا لم نحصل على هذه النفس المطمئنَّة، ومتنا ونحن بعيدون عن الإسلام، عندئذٍ يأتي النّداء: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقّة: 30 – 32].
فعلى الإنسان أن يفكّر دائماً في حسن العاقبة، هناك دعاء يقول: "اللَّهمَّ إنّي أسْأَلُكَ أنْ تَجْعَلَ خَيْرَ عُمْري آخِرَهُ، وَخَيْرَ أعْمالي خَوَاتِيمَها، وَخَيْرَ أيَّامي يَوْمَ ألْقاكَ فِيهِ".
والإمام عليّ (ع) له كلمة يوجّهها إلى النَّاس الّذين ينحرفون تحت تأثير الخجل أو الخوف من النَّاس الآخرين، يقول (ع): "لا يَغُرَّنَّكَ النَّاسُ مِنْ نَفْسِكَ - فلا يغشّك النّاس ويضخّموا لك شخصيّتك، ويوسوسوا لك بالشّرّ، لماذا؟ - فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ دُونَهُمْ" - فالنَّتائج تصل إليك وليس لهم. لذلك لا تصغ إلى النَّاس بالطَّريقة الَّتي يأخذ النَّاس منك وعيك وقلبك.
هذه هي أبعاد الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
الاعتصامُ بحبلِ الله
أمَّا الآية الثَّانية، فيقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، هذه الوحدة الَّتي يريد الله لنا أن نقف عندها، فالله لا يريد لنا أن نكون مشتّتين مقسَّمين مجزَّئين، بل يريدنا أن نتمسَّك بحبله، وحبله تعالى هو القرآن، وهو الإسلام، فالله يقول لنا حاولوا أن تتمسَّكوا بالإسلام وتتوحَّدوا به. فحتّى لو كنت أنا من عائلة وذاك من عائلة ثانية، أو كنت من حزب وذاك من حزب آخر، أو من قوميّة وذاك من قوميّة أخرى، فإنّنا مدعوّون كمسلمين لأن نعتصم بحبل الله، وأن نتوحَّد على أساس إسلامنا. والله هو الَّذي يوحّدنا، فنحن عباده، ونحن خلقه، ونحن المسلمون له.. هذا هو حبل الله سبحانه، ومعناه أنَّ علينا إذا اختلفنا، أن لا تؤدّي بنا خلافاتنا إلى التَّفرقة والسّقوط تحت تأثير النّزاع والأحقاد والعداوة والبغضاء، لأنَّه إذا جمعنا الله، فلا يمكن أن يفرّقنا أحد في هذا المجال.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً – قبل الإسلام، وهو يخاطب بها أهل المدينة، حيث حاول اليهود أن يثيروا بينهم الخلاف العائليّ والعشائريّ، ليبتعدوا بهم عن الإسلام - فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا – بالإسلام - وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
محاصرةُ المجاهدين
وهذا أيضاً موجَّه إلينا، فنحن الآن مسلمون، والله هدانا للإسلام وللإيمان، وهدانا للخطّ المستقيم، وهناك خلافات قد تحصل، قد تكون ذات طابع سياسيّ أو حزبيّ، أو عائليّ، أو مرجعيّ، ولكنَّ الله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59]، فلا تتقاتلوا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
وخصوصاً إذا كان هناك تحدّيات، كما يحدث الآن، فأمريكا بعظمتها تحاول أن تجمع كلَّ دول العالم، حتَّى تحاصر هذه الطَّليعة الإسلاميّة، أن تحاصر المجاهدين في فلسطين وفي لبنان، وأن تحاصر الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وتحاصر المجاهدين في مصر والجزائر وفي كلّ مكان، فالعدوّ يستعدّ، وفي مؤتمر شرم الشَّيخ جمعوا أكثر من 29 دولة في العالم، وكلّها لجهة المحافظة على أمن إسرائيل في مواجهة المسلمين، يعني في مواجهة حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي ومواجهة المقاومة الإسلاميَّة في لبنان والجمهوريَّة الإسلاميّة في إيران، وفي الوقت نفسه، أعطوا الضَّوء الأخضر لإسرائيل في أن تهجم وتعتقل وتعاقب عقاباً جماعيّاً، لأنَّ هؤلاء، كما يقولون، ضدّ السّلام، وقتلوا إسرائيليّين، ولكن هذا الَّذي قتل رابين، لماذا لم يهدموا بيت أهله ولم يعتقلوا أحداً من عائلته، بينما نجدهم هجموا على بيوت الشّهداء، وهدَّموا البيوت على ساكنيها، وهدّموا حتّى بيوت الأقرباء لهم؟! وهذا معناه أنَّ هناك عنصريّة.
الآن يقولون إنَّ الإسلاميّين ضدّ السّلام، ولكنّ الليكود أيضاً ضدّ السلام، واليمين الإسرائيلي المتطرّف ضدّ السلام، فلماذا لا تعتقلونهم وتقفون ضدّهم؟
تجميدُ الخلافات
إنَّ المطلوب اليوم هو إسقاط العرب والمسلمين لمصلحة الكيان الصّهيوني، وهذا ما تعمل عليه قوى الاستكبار العالميّ بكلّ ما تملك من أدوات القوّة، وما يعمل عليه الكفر العالميّ بكلّ قوّته، من أجل هدم عزّتنا، وضرب كرامتنا، وتخريب اقتصادنا، وزعزعة أمننا، وتفكيك سياساتنا.
لكنَّنا، في مواجهة هذا الواقع الخطير، ننشغل بصراعات داخليَّة صغيرة وهامشيَّة، ونغرق في جدالات لا تقدّم ولا تؤخّر، تماماً كما حدث في قسطنطينية، عندما كان العدوّ يدقّ الأبواب، والنّاس مشغولون عن ذلك بالجدال: هل البيضة أصل الدَّجاجة أم الدّجاجة أصل البيضة؟ هل الملائكة ذكور أم إناث؟ وهكذا، فبينما يقترب العدوّ من أسوارنا، نضيّع الوقت في قضايا لا تمسّ جوهر وجودنا، في حين أنَّ الخطر الحقيقيّ يهدّدنا جميعاً.
ونحن في ظلّ ما يحدث بيننا من خلافات، وخصوصاً في الوسط المسلم، ألا ينبغي أن نتنبّه إلى ما تفعله إسرائيل وأمريكا والدّول المستكبرة، وما يفعله العملاء والمنافقون في الدّاخل، فنتوحَّد كشعب وأمَّة أمام هذه التحدّيات والأخطار، لنحمي أنفسنا وأمّتنا وشعبنا؟! والله يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
إنّ الله يقول لنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فصحيح أنَّ هناك خلافات، ولكن علينا أن نجمّدها عندما يكون هناك عدوّ مشترك، والمثل الشّعبيّ يقول: أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب، ولكنّ وضعنا صار: أنا والغريب على أخي وابن عمّي. أليس هذا ما يحدث؟!
لهذا، يريد الله سبحانه وتعالى منَّا أن نتوحَّد به، وهذه مسألة يفرضها الوعي، لأنَّه لا أحد يستطيع أن يفكّر وحده، وأن يعيش وحده، بل نحن نعيش كأمَّة، والآخرون هكذا. الآن اليهود كم من الخلافات فيما بينهم، ولكنّهم اتَّحدوا في مواجهتنا، ونحن لا نستطيع أن نتَّحد في مواجهتهم ومواجهة أمريكا؛ لا نزال نقول هذا ابن حزب الله، وهذا ابن حركة أمل، وهذا يقلّد فلاناً وذاك يقلّد فلاناً، والعدوّ يقصفنا كلّ يوم، وهم في واشنطن يخطّطون.. إنّ هناك غباءً وتخلّفاً في العقليَّة وعدم وعي.
هناك قصّة وردت في كتاب "كليلة ودمنة"، لابن المقفّع، وهي قصص تجري على لسان الحيوانات، يتحدَّث عن شخص وقع في البئر، وتعلَّق بغصن شجرة فيه، ونظر حوله، فإذا بجرذ يقرض غصن الشّجرة، ونظر إلى الأسفل، فرأى تنّيناً فاتحاً فاه ينتظر سقوطه ليأكله.. في هذه الأثناء، رأى عسل نحل، ذاق العسل فانشغل بحلاوته عن الجرذ الّذي يقرض الغصن، والتّنين الّذي ينتظره حتّى يسقط ويأكله.. أليس هذا وضعنا؟!
نحن مشغولون بعسل الخلافات العائليَّة والحزبيَّة، وبعسل الخلافات الشَّخصيَّة، والجرذ الإسرائيليّ يقرض أرضنا كلّ يوم، والتنّين الأمريكيّ يفتح فمه حتَّى تسقط جميع المنطقة وتصبح أمريكيّة.
لذلك، نحن نحتاج إلى أن يكون لدينا وعي؛ وعي عزَّتنا وكرامتنا وإسلامنا ووحدتنا، والله يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
مسؤوليّةُ صنعِ المستقبل
لذلك، نحتاج، أيّتها الأخوات، إلى أن نرتفع إلى مستوى الوعي، فلا يجوز أن يعيش كلٌّ منّا لنفسه فقط، ولا يجوز أن نفكّر بشكل ضيّق، بل أن يكون تفكيرنا واسعاً، ولا يكفي أن نهتف: الموت لأمريكا، أو غيرها من الهتافات، بل أن نخطّط ونفكّر ونحضّر عقولنا وليس حناجرنا.
من الّذي يحنّ على الأولاد أكثر من الأب والأمّ؟ فهل نصنع لأولادنا مستقبلاً يعيشون فيه تحت الجزمة الإسرائيليّة والقسوة الأمريكيَّة، أم أنّنا نريد لهم أن يكونوا مرفوعي الرأس؟! نحن لا نريد أن نعطي أولادنا خبزاً مغموساً بالعار، أو أن نعطيهم حياة ذليلة، بل نريد لهم حياة عزيزة، وعلينا أن نتحمّل مسؤوليَّتنا في صنع المستقبل، فكما نريد أن نصنع مستقبلنا المادّيّ، علينا أن نصنع مستقبلنا السياسيّ والرّوحيّ والاقتصاديّ، وعلى كلّ إنسان في الأمَّة أن يتحسَّس مسؤوليَّته في تغيير الحياة والواقع.
أحسن النّاس معاشاً وأسوأهم
نحن اليوم كنَّا نتحدَّث في خطبة الجمعة للرّجال، باعتبار ولادة الإمام الرّضا (ع)، وذكرنا حديثاً للإمام (ع) وهو يسأل أحد أصحابه: "يا عليّ، مَن أحسنُ النَّاسِ معاشًا؟ – ولو وُجِّه إليكم هذا السّؤال اليوم، لربّما أجاب أكثرنا: هو من يملك بيتًا، ويتمتّع بصحّة جيّدة، وله عملٌ ورصيد، ومكانة اجتماعيّة... أليس كذلك؟ لكنَّ الإمام (ع) كان ينظر إلى المسألة من زاوية مختلفة تماماً.
- قلتُ: يا سيّدي أنتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّي. فقَالَ (ع): مَنْ حَسُنَ معاشُ غيرِه في معاشِهِ - أي هو الَّذي لا يعيش لنفسه فقط، بل يعيش لنفسه وللنَّاس من حوله، وهو الَّذي تتحسَّن عيشة النّاس من خلال عيشته، فإذا وجد في محيطه جهلاً، أعطاهم من علمه، وإذا رأى فيهم ضعفاً، أعطاهم من قوَّته وماله وخبرته وجهده، حتَّى يشعر النَّاس من حوله بأنَّ حياتهم تغيّرت بوجوده، وأنَّ أوضاعهم قد تحسّنت بسببه. فالإنسان الَّذي عيشه أحسن، هو الَّذي يستفيد منه الآخرون، والَّذي يمكن أن يحسّن ظروفهم وحياتهم.
وقد عبّر عن هذا المعنى فلَّاحٌ فارسيّ، حين سأله كسرى، وكان يزرع نخلاً، وكان قد تجاوز التّسعين، ومن المعروف أنَّ النَّخل لا يُثمر إلّا بعد سنين طويلة، سأله: لمَ تغرسه وأنت في هذا العمر؟ فأجابه الرَّجل الحكيم: "غَرَسُوا فَأَكَلْنَا، وَنَغْرسُ فَيَأْكلُون".
وكما زرع لنا الماضون، ولربّما لم يأكلوا منه، فإنَّ علينا أن نزرع ولو لم نأكل منه، فإن لم نأكل منه، فسيأكل منه الجيل القادم، فكلّ جيل يغرس للجيل القادم، فعندما يزرعون لنا الحريّة، فعلينا أن نزرع الحريَّة للجيل القادم، وإذا زرعوا الخير لنا، فعلينا أن نزرع الخير للجيل القادم، وهكذا...
- قال: يا عليّ، مَنْ أَسْوَأُ النَّاسِ مَعَاشاً؟ قُلْتُ: أنتَ أَعْلُمُ، قَالَ: مَنْ لم يَعِشْ غَيْرُهُ في مَعَاشِهِ"، الَّذي يعيش لنفسه فقط، ويريد كلَّ شيء له، وغير مستعدّ أن يعطي الآخرين شيئاً، ولا أن يمدّ يد العون لهم، ولا أن يعطيهم من علمه وخبرته، فهو بخيل بكلّ شيء، والله يقول لهم: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمّد: 38]، لأنَّ الإنسان عندما يعطي، فما يعطيه يتحوَّل إلى رصيدٍ له عند الله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمّل: 20].
فما نعطيه للنَّاس هو ما يبقى لنا، أمَّا من يجمع المال من دون أن ينفق منه في الخير، فلن ينفعه ماله شيئاً في الآخرة. أمَّا الإنسان الَّذي يعمل الخير ويقصد به وجه الله، ويفتح قلبه للآخرين، ويحبّ النَّاس ويخدمهم ويعلّمهم، فهو الَّذي يستفيد.
الارتقاءُ بالمسؤوليَّة
لذلك، لا بدَّ أن نفكّر بطريقة أخرى؛ أنّ على كلّ منّا أن لا يعيش لنفسه فقط، بل أن نشعر بأنَّنا جزء من شعب وجزء من أمَّة، أن تكون أهداف الأمَّة أهدافنا، وقضاياها قضايانا، فلا يقل الإنسان: لا دخل لي بما يجري "فخّار يكسّر بعضه"، أو كما يعبّر ذاك الشَّاعر:
ما علينا إن قضى الشَّعب جميعاً أفلسنا في أمان؟!
يقولها النَّبيّ (ص): "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيَّتِهِ". كلٌّ بحجم قدرته ووضعه.
لهذا، نحتاج إلى أن نتوحَّد بالله وبرسوله، وأن نتوحَّد بأهل البيت (ع)، وأن نجمّد خلافاتنا ونزاعاتنا، وأن نعي مرحلتنا، ونعي كلَّ الظروف الصَّعبة الّتي نمرّ بها، حتَّى نستطيع أن نتجاوز هذه المرحلة بكلّ قوَّة، وبكلّ صدق وإخلاص، والله يقول: {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].
والحمد لله ربّ العالمين.
 
***
أسئلة الخطبة
في الطَّهارة والتَّقليد والنّذر
س: أنا من مقلّدي السيّد الخوئي، هل أستطيع أن أعدل وأقلّد حضرتكم؟
ج: إذا حصل هناك الاطمئنان، فيجوز ذلك.
س: في قريتي، لا يوجد مصلَّى في المقبرة، وأنا أسعى مع أختي لهذا العمل، ونطلب تبرّعات من أهالي القرية لهذا الأمر، فهل من مشكلة في ذلك؟
ج: لا يجوز إنشاء مصلَّى على المقبرة إذا كانت موقوفة، لأنَّ أرض المقبرة كلّها موقوفة على الدّفن، فإذا أردنا أن نعمّر مصلّى، فمعنى ذلك أنّنا نمنع الدَّفن بمستوى مساحة هذا المصلَّى، ولذلك تعمير المصلّى حرام من هذه النَّاحية، ويعتبر غصباً، ولا يجوز بناء مصلّى عليها إذا كانت موقوفة للدّفن.
نعم، إذا كان الوقف من الأساس أن يكون قسم من المقبرة مصلَّى، فلا مشكلة حينها.
س: ما حكم الطَّهارة في امرأة بوذيَّة تعمل عند شخص في البيت؟
ج: على رأي الفقهاء، الحكم هو النجاسة، لأنهم لا يرون طهارة ما عدا الكتابيّين والمسلمين. أمَّا رأينا فهو الطّهارة، لأنّنا نرى طهارة كلّ إنسان.
س: هل يُمكن للرَّجل أن يحلّ نذر زوجته، إذا نذرت شيئاً ولم تستطع أن تفي به؟
ج: يمكن للرَّجل أن يحلّ نذر زوجته.
س: امرأة كانت حاملاً، وكان حملها صعباً، وعلى وشك الإجهاض، نذرت إن نجا حملها أن تذبح كبشاً، وأن تزوّر المولود في مقام السيّدة زينب (ع). وبفضل الله نجا المولود، ولكنَّها الآن لا تستطيع الوفاء بالنَّذر، لأنَّ زوجها توقَّف عن العمل. فهل على أولادها الكبار أن يوفوا بالنَّذر من مصاريفهم الخاصَّة، علماً أنَّ الولد أصبح عمره ثلاث عشرة سنة؟
ج: لا يجب على الولد عندما يبلغ أن يستجيب للنّذر. وبالنّسبة إلى المرأة، إذا لم يكن عندها مال، ولم تستطع الوفاء بالنّذر، فلا يجب عليها، إلَّا إذا تبرّع لها أحد بذلك.
قضايا اجتماعيّة
س: أنا امرأة متزوّجة منذ أكثر من عشر سنوات، ولم أحمل حتّى الآن، وذهبنا أنا وزوجي عند كثير من الأطبّاء، وكلّهم قالوا إنّنا نحن الاثنين لا نشكو من أيّ عارض لعدم الحمل والإنجاب، ولكنَّ زوجي لم يقتنع بهذا الكلام، وهناك خلاف بيننا كلّ يوم. فهل يجوز إجراء التَّلقيح في هذه الحالة، مع العلم أنّنا ملتزمان؟
ج: إذا كان التَّلقيح من نطفة الزوج وبويضة المرأة، فيجوز ذلك، لكن بشرط أن يكون من يقوم بعمليّة التّلقيح طبيبة امرأة وليس رجلاً.
س: كنت في عقد منقطع مع شخص، ووهبني بقيّة المدَّة، وسمح لي بالزَّواج من غيره رغم أنّني أحبّه. فهل يجوز لي الزّواج بغيره من دون عدَّة، رغم أنّني لا أرغب بغيره أبداً؟ وهل يجوز له أن يتركني؟
ج: إذا لم يكن هناك دخول فلا عدَّة. وأنا أقول إنَّه إذا لم يكن الرّجل راغباً بالزَّواج بك، فلا ينبغي أن تلحّي على البقاء معه، لأنَّ "زُهْدك فِي راغبٍ فِيك نقْصانُ حَظٍّ، وَرغبتُك فِي زَاهدٍ فِيك ذُلُّ نفسٍ"، كما يقول الإمام عليّ (ع). فإذا لم يكن راغباً في البقاء معك، فعليك أن تتدبَّري أمرك، وأن لا تنفتحي بعاطفتكِ بطريقة خياليّة وعاطفيّة ربما تؤدّي بك إلى نتائج سلبيَّة.
وأنا دائماً أنصح الفتيات والنّساء أن لا يستعجلن في عواطفهنَّ، على أساس أنَّ على الأخت أن تتدبَّر أمرها جيّداً، حتَّى لا تقع في النَّتائج السيّئة.
س: أنا أخت ملتزمة وأخاف الله، أحبّني شخص حبّاً قويّاً، وأصبح هناك خلافاتٌ من جهة الأقارب، وتركني لأجلهم. فهل يجوز له ذلك؟
ج: الإنسان الَّذي يترك الفتاة الَّتي تحبّه أو يحبّها بسبب الأقارب، هذا معناه أنّه ليس حبّاً خالصاً، وعليها أن تحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وأن تعالج عاطفتها، لأنَّها العاطفة السَّريعة الّتي لا تكون مبنيَّة على أساس.
وأنا دائماً أقول لكم إنَّ الزَّواج ينبغي أن يكون عبارة عن 75 في المائة عقل، و25 في المائة عاطفة، وأنَّ علينا أن نعطي العاطفة جرعةً من العقل، وأن نعطي العقل جرعةً من العاطفة، فلا يصحّ أن نجعل عاطفتنا بعيدة من عقلنا.
س: أنا فتاة مؤمنة، والحمد لله، وملتزمة بالمسائل الشَّرعيَّة، تقدَّم لخطبتي شابٌّ مؤمن وملتزم، ولكنَّ أهلي يرفضون كتب الكتاب، فهل يجوز لي أن أخرج معه إلى الأماكن العامَّة بصفتي خطيبته دون ارتباط شرعيّ؟
ج: مجرَّد الخطبة من دون كتب الكتاب، يبقي الرَّجل أجنبيّاً كأيّ أجنبيّ آخر، وبمجرَّد الوعد بالزواج لا يجعل هناك علاقة شرعيَّة بين الطَّرفين. ولذلك إذا أرادت الفتاة أن تخرج معه، فعليها أن تعتبر نفسها كما لو أنّها تخرج مع شخص أجنبيّ من حيث القيود الشَّرعيّة.
س: أنا فتاة كنت زانية، والآن بعد مساعدة أحد الإخوان الجرحى، أصبحت – والحمد لله - من الصَّالحات، إن شاء الله، وقد تاب الله عليّ، وهذا الجريح الآن هو زوجي بعقد منقطع، وفي أحيان كثيرة، أعرض عليه العقد الدَّائم، وأنا مستعدّة لأن أتحمَّل كلَّ شيء بالنّسبة إلى وضعه، ولكنَّه يرفض ويقول إنّه لا يريد أن يظلمني معه وهو مشلول، ولكنّي مستعدَّة ومقتنعة تماماً بما أعرضه عليه.
أمَّا بالنّسبة إلى الموضوع الثّاني، فهو أنّه كلّما أردت أن أذهب إليه، أتعرّض للكثير من الإحراج وبعض المشاكل، ما يضطرّني إلى الكذب لتبرئة نفسي. ما رأيكم في ذلك؟

ج: في الموضوع الأوَّل، هذا يتوقَّف على قناعة هذا الإنسان، لأنّه ربما عندما يكون الإنسان مشلولاً، فهو يعتقد أنَّ قبول الزواج الدَّائم به دافعه الشَّفقة، وبعض الناس لا يقبل أن يكون موضع شفقة، وربما يتصوَّر أنّك قد تنطلقين الآن من موقع الشَّفقة، فإذا حصل الزواج فسوف تندمين، وهذا يدلّ على شرف عنده وأنَّه مسؤول. ولذلك إذا كنت معتقدة أنّك سوف تبقين بمقام الإخلاص له ورعايته من دون أن تعقّدي حياتك وحياته، فعليك أن تقنعيه بهذا الموضوع.
وأنا أقول لهذا الشَّخص إنَّ عليه أن يدرس مشاعر هذه الإنسانة، وإذا رأى صدق الشعور، فلا بأس أن يقترن بها، حتَّى تستطيع أن تعينه على حياته ويعينها على مشكلتها.
وبالنسبة إلى الموضوع الثَّاني، فنحن لا نفضّل لأيّ أحد أن يكذب حتَّى في حالات الحرج، ولكن إذا كان الإنسان في حال حرجيَّة شديدة فوق العادة، فعليه أن يلجأ إلى التَّورية.
س: أذنبت ذنباً قد أحنى ظهري، وما زال المولى عزَّ وجلَّ ينعم عليّ برحمته. أريد الخروج من الذَّنب، ولكن كلَّما نويت التَّوبة، رأيت نفسي أعود إلى ذلك الذَّنب. أرجو المساعدة، مع العلم أنّ النّدم دائماً موجود. كيف أطلب التَّوبة مرَّة أخرى، فأنا لا يمكنني الطّلب من الله، لأنَّني طلبت منه كثيراً وأخلفت بوعدي؟
ج: الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشّورى: 25].
ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزّمر: 53].
لذلك، على الأخت أن لا تعتبر نفسها في موقع الَّذي لا يستطيع أن يقف أمام الله ليتوب، لأنَّ الله يقبل التَّوبة، حتَّى لو أنَّها تابت ورجعت، فإنَّ الله يقبل التّوبة إذا كانت نادمة ومصمّمة على عدم العودة.
س: هل يجوز أن نتسلَّى على الهاتف، وإن كان هناك كلام لا يجوز سماعه؟
ج: لا يجوز ذلك، لأنَّ هذا يؤدّي إلى نتائج وخيمة العاقبة في نهاية الأمر.
س: هل يجوز للرَّجل والمرأة أن يمزحا مع أقاربهما؟
ج: أصل المزح غير محرَّم، ولكنَّ مزح المرأة مع الرّجل ربما يؤدّي إلى نتائج سلبيَّة على الجانب الأخلاقيّ.
س: أخت متزوّجة وزوجها مريض، وهو الآن في المستشفى، رأت في المنام أنّها هي وزوجها في مكان يوجد فيه أشخاص يرتدون ثياباً بيضاء، وأتت امرأة وقالت لها إذا صلَّى زوجك صلاة الفيروز فسوف يشفى من المرض. فما رأيكم في ذلك؟
ج: هذا أمل بالله سبحانه وتعالى، وعليه أن يتقرَّب من الله بأيّ صلاة، ولعلّ الله يشفيه.
س: كيف يكون التَّاجر في دين الله؟
ج: لا أدري ما مقصود السَّائل أو السؤال، فالشَّخص يكون تاجراً في الدّين، عندما يستخدم الدّين كوسيلة للحصول على لذَّاته وشهواته وعلى المال والجاه، فهذا يعني أنّه يتاجر بالدّين، ويعتبره تجارة وليس ديناً يتديّن به، وهذا مما لا إشكال في أنَّ الله يعاقبه عليه أشدَّ العقاب.
س: أنا أعمل في شركة على صندوق محاسبة، وفي بعض الأوقات، آخذ مالاً بدون علم صاحب الشَّركة، مع العلم أنّه إذا زاد الصّندوق يأخذون المال لأنفسهم، وإذا نقص يأخذون المال من راتبي الشَّهريّ. فهل ما آخذه من مال حلال أم حرام؟
ج: لا يجوز للإنسان أن يأخذ المال من الصّندوق الَّذي اؤتمن عليه، حتَّى لو لم يكونوا هم أمينين عليه. نعم، لو فرضنا أنّهم أخذوا من الموظّف مالاً بغير حقّ، وحسموا من راتبه من دون تقصير منه وحمَّلوه المسؤوليَّة، ولم يكن لهم الحقّ في ذلك، ولم يستطع أن يحصل على ماله، فيجوز له المقاصَّة، يعني أن يأخذ مقابل ماله الّذي أُخِذ منه، ولكن بإذن الحاكم الشّرعي.
س: سألنا عن مسألة سندات خزينة، وقالوا لنا لا بأس بها، وعندما أودعنا المال، عرفنا أنَّها حرام. فماذا نفعل الآن إذا سحبنا الوديعة، هل نترك لهم المال أم نأخذه؟
ج: يمكن للإنسان أن يأخذ هذا المال ويتصدَّق به، ويمكن أن يتملّكه إذا كان فقيراً.
س: "ارحم استكانتنا بعده". ما المقصود بهذه العبارة؛ هل هذا يعني أنَّ هناك زماناً بعد زمان الإمام الحجَّة (عج)؟
ج: المقصود هو الاستكانة بعد غيابه في هذا المقام، يعني بعد غياب الحجَّة (عج)، صرنا في حال ضعف، ومن دون قيادة..
س: هل الخميرة الَّتي تستعمل عادةً في الحلويات حرام؟
ج: ليس عندي فكرة عنها، فإذا لم تكن مشتملة على حرام تكون حلالاً.
*خطبة الجماعة للنساء، بتاريخ: 29/03/1996م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
التّقوى ورقابة الله
وهناك أكثر من آية في التَّقوى، وهي تعبّر عن إحساس الإنسان برقابة الله عليه، بحيث يتحرَّك في الحياة، وهو يشعر بأنَّ الله مطَّلع على كلّ شيء في داخله.
فنحن قد نكون مستورين عن النَّاس من حولنا، فلا يطَّلعون على ما نخفي في عقولنا وقلوبنا مما نفكّر فيه أو نشعر به، فأفكارنا ملكنا، ونشعر بأنَّنا قادرون على أن نخفيها، سواء كانت أفكاراً طيّبة أو خبيثة، وكذلك نحن نملك عواطفنا، ويمكن لنا أن نخفيها، ونملك أيضاً نيَّاتنا الّتي قد تختلف بين نيَّة سوء ونيَّة خير.
فنحن نستطيع أن نحمي أنفسنا من رقابة الآخرين على ما في داخلنا، ولكنَّنا لا نملك حماية أنفسنا من رقابة الله على ما في داخلنا، لأنّه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، فالله سبحانه وتعالى يعلم عمق الإنسان وما يفكّر فيه ويشعر به.
وفي ضوء ذلك، ينبغي للإنسان، كلَّما حرّك عقله لإنتاج فكرة، أن يستحضر رقابة الله عليه، سواء كان يُخطّط للشرّ أو للخير، وأن يعلم أنَّ الله مطّلع على كلّ خطوات تفكيره.
فلو فرضنا، مثلاً، أنّه كان هناك جهاز يكشف كلَّ ما نفكّر فيه، فلن نأخذ كلّ حريّتنا في التّفكير، لأنّنا نخاف أن يطّلع النّاس على ما نفكّر فيه من تفكير عدوانيّ أو شرّير أو أنّنا نفكّر في الجريمة... لذلك، علينا أن نتحسَّس هذا الشّعور بأنَّ الله يلاحق تفكيرنا، ونحن نفكّر، ويطَّلع عليه، ليمنعنا ذلك من تحريك الفكر في اتجاه الشّرّ أو الجريمة أو الإضرار بالنَّاس، وكذلك عندما نعيش النيّات الخبيثة، والدَّوافع السيّئة، والمشاعر العدوانيَّة...
هذا هو الإيحاء الدَّائم الَّذي يؤكّده الله: {إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ}[البقرة: 284]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[التّغابن: 4].
فالإنسان يحتاج أن يؤكّد هذا المعنى وهذا الإيمان والإحساس في داخل نفسه، حتّى يعصمه ذلك من تحويل نفسه إلى حركة داخليَّة تنتج الشَّرَّ للحياة، وتنتج الجريمة في حياة النَّاس الّذين يعيشون معنا. فنحن نحتاج إلى حواجز نفسيَّة تمنعنا من عمل الشّرّ والسّوء، لأنَّ النفس أمَّارة بالسّوء، والإنسان عندما يفكّر بينه وبين نفسه يأخذ حريّته، فما يستحي أن يتحدَّث به إلى أقرب النَّاس، يأخذ حريّته به عندما يفكّر فيه بينه وبين نفسه، لأنَّه يشعر بأن لا رقابة على ما يفكّر فيه. لذلك، نحن في كثير من الحالات، نحرّك أفكارنا فيما نستحي منه أو نخاف من الحديث عنه أمام النَّاس.
فعمليَّة ضبط الجانب الدَّاخليّ للإنسان تحتاج إلى ضمير، وتحتاج إلى رقابة داخليَّة، وأن يشعر الإنسان أنَّ هناك عيناً تنفذ إلى داخله، وتلك هي عين الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يتعمَّق في نفس الإنسان بكثرة قراءة القرآن، وإثارة معرفة الله في النَّفس.
الموتُ على الإسلام
فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ - أي كما ينبغي أن يُتَّقى، وكما جاء في بعض الأحاديث، أن "يُطاعُ فَلَا يُعصَى، ويُذكَر فَلَا يُنسى". فالتقوى الحقيقيَّة هي أن يُطيع الإنسانُ ربَّه في كلّ أمر، وألّا يعصيه في شيء، وأن يظلّ ذاكراً له لا بلسانه فحسب، بل بعقله وقلبه، وإحساسه وشعوره؛ أن يكون الله حاضراً في كلّ وجدانه.
- وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، أي أنَّ على الإنسان أن يعمل بما يضمن لنفسه الاستمرار في نهج التَّقوى والاستقامة والعمل الصَّالح حتَّى آخر حياته... لأنَّ القلوب تتقلَّب، وقد يُصبح الإنسان مؤمناً ويمسي كافراً، وقد يبدأ حياته على شيء، وينتهي بشيء آخر. فكيف نضمن أن نفارق هذه الحياة ونحن مسلمون؟!
ونحن نرى أنّه حتَّى الأنبياء عندما يدعون الله، وعندما يوصون أولادهم، فإنّهم يوصونهم بالإسلام، وإبراهيم (ع)، كما يذكر الله لنا عنه، يقول: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[البقرة: 132]. المهمّ أن تكون نهاية الإنسان تسليماً لله تعالى.
ويقول عن يعقوب (ع): {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 133].
والنّبيّ يوسف (ع)، عندما فرَّج الله سبحانه عنه، وجمع له أبويه وإخوته، وعاش السَّلام فيما بينهم بعد المشاكل الَّتي حصلت، قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف: 101]. فقد كانت الرَّغبة الأخيرة له (ع) أن يتوفَّاه الله وهو مسلم.
فلماذا تأكيد هذا الموضوع؟ لأنَّ كلّ واحد منّا في هذه الحياة قد تحدث له مشاكل تهزّ دينه، وقد يواجه إغراءات تهزّ التزامه، وربما يتعرَّض لضغوط تسقط تقواه.. فالإنسان في كثيرٍ من الحالات، إذا لم يحاول أن يصنع لنفسه قوَّة الشَّخصيَّة الَّتي تستطيع أن تتماسك أمام التَّحدّيات، فقد يسقط عند الابتلاءات والإغراءات. فقد يكون الإنسان مؤمناً طيّباً صالحاً، ولكنَّه قد يسقط أمام الشَّهوات والإغراءات والطَّمع المادّيّ، إذا لم تكن شخصيَّته قويَّة، وإيمانه صلباً ومتماسكاً.
الله يقول لنا انتبهوا، إنَّ الشَّيطان يقعد لكم في الطَّريق.. والشَّيطان عندما أمهله الله إلى يوم يبعثون، ماذا قال؟ {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16]، فكما طردتني من رحمتك، سأغوي عبادك وأمنعهم من دخول الجنَّة، كما أخرجْتُ أبويهم آدم وحوّاء منها. كيف ذلك؟ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 16 - 17]. فهو يترصَّدنا، والإنسان عندما يعرف أنَّ هناك عدوّاً يلاحقه، فعليه أن يستعدَّ له {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].
لذلك، يحتاج كلّ واحد منَّا أن يكون واعياً لنفسه، لأنَّنا إذا غفلنا عن أنفسنا، فسيغوينا الشَّيطان، ويستغلّ غفلتنا للإيقاع بنا وإسقاطنا. فعلى الإنسان أن يكون دائماً مفتوح العينين، وليس المقصود العينين في الوجه، بل عيني العقل، أن يكون لعقله عينان، حتّى يفتح عقله على الخير، وأن يكون لقلبه عينان، حتَّى يبصر بهما كيف يحرّك مشاعره وعواطفه في اتّجاه الخير، كما يكون له عينان يبصر بهما طريقه. أن يقوم الإنسان دائماً بعمليَّة حساب واستحضار الوعي، وأن يعرف ما ينفعه وما يضرّه، وأن يعرف الحواجز الَّتي تحول بينه وبين ربّه.
تدبّرُ العاقبة
ومن الأمور الَّتي أوصانا بها الرّسل، أن ننظر إلى عاقبة أيّ عمل عندما نريد القيام به، وقد قال النَّبيّ (ص) في وصيَّته لنا: "إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَأَمْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ".
أن نحاول دائماً أن لا نرتبط بأوائل الأمور بل بآخرها، أن لا نرتبط بالمقدّمات بل بالنّتائج، لأنّنا قد نفرح بالشّيء في بدايته، ولكنَّه قد يحزننا في نهايته. فعلى الإنسان أن لا يفكّر أنَّ هذه اللّقمة التي يأكلها طعمها طيّب وحلو، إذا كان يعرف أنَّ في داخلها سمّاً قد يؤدّي به إلى القبر أو المستشفى.
بعض الأشياء يكون مذاقها حلواً، وقد يعطي الإنسان لنفسه الحريَّة في شهواته لأنّه يتلذّذ بها في جسده أو في لسانه، ولكنّ المهم ّالنتيجة، فـ"رَبّ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكْلَاتٍ"، وربّ شهوة منعت شهوات، وربَّ لذَّة منعت لذَّات. لذا علينا أن نكون واعين {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
لا مسايرةَ في الحرام
وهناك نقطة علينا أن نفكّر فيها، فقد يطلب منّا أحد شيئاً نعرف أنّه حرام، فنرى البعض يبرّر لنفسه بأنَّه لا يريد لفلان أن ينزعج منه أو يستاء، فيمرّر الأكلة الحرام، أو الشّرب الحرام، أو الشَّهوة الحرام، ونبرّر لأنفسنا المعصية، لأنّنا نشعر بضغط المجتمع علينا، فنعصي الله لحساب فلان، أو لحساب من نحبّهم أو نرتبط بهم..
لكن على الإنسان أن يفكّر أنَّ هذا المجتمع الَّذي يشجّعنا على المعصية، قد يحمينا من نتائجها في الدّنيا، لكن ماذا عندما يكون كلٌّ منَّا وحده، ويقف ليحاسَب على هذه المعصية أمام الله سبحانه، وليس من يستطيع أن يحميه؟! {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام: 94]، فماذا يفعل الإنسان حينها؟ وكيف يحمي نفسه؟
فعندما يُغرينا الآخرون بمعصية الله، ويُهوِّنون في أعيننا فعلَ الذَّنب، فلنتذكَّر أنَّ هؤلاء لن يقفوا معنا يوم القيامة، لا الأقارب ولا الأصدقاء ولا المعارف، وسيواجه كلّ منّا مصيره وحده. فهل نحن مستعدّون لتحمُّل تبعات إرضاء النّاس، إذا وقفنا بين يدي الله وسُئلنا: لماذا عصيت؟ وبماذا نجيب حينها؟!
أنا دائماً أقول لنفسي وأقول لإخواني وأخواتي، إنَّ كلَّ شيء نستطيع أن ندافع عنه، يمكننا أن نقوله ونفعله، سواء كنَّا ندافع عنه أمام النَّاس أو أمام الله، وهو الأساس، وكلّ شيء لا نستطيع أن ندافع عنه، فالأجدر أن نتركه ونبتعد عنه، كي لا نقع في التّبرير بعد الخطأ، ونقول عند الحساب: لم يكن ذلك قصدنا، لأنَّ "المُؤْمِنَ لا يُسِي‏ءُ وَلَا يَعْتَذرُ، وَالمُنَافِقُ كُلَّ يَومٍ يُسِي‏ءُ وَيَعْتَذِرُ"، لأنَّ الاعتذار موقف ذلّ، ويبذل الإنسان به ماء وجهه.
وفي حديث عن الإمام جعفر الصَّادق (ع)، يقول: "لَا يَنبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قُلْتُ: بِمَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَدخُلُ فِيمَا يَعتَذِرُ مِنْهُ"، يعني أن يقوم بالعمل الخطأ الَّذي يضطرّه إلى أن يعتذر منه للنّاس.. وكلّ موقف اعتذار هو ذلّ للإنسان، فمن يحترم عزّته وكرامته، لا يقوم بما يضطرّه إلى الاعتذار. وقد يسهل على الإنسان أن ينكر ما قال أو فعل أمام النَّاس، ويتفنّن في التبرير، لكن ماذا يصنع أمام الله؟! ألا نقرأ في دعاء كميل هذا الاعتراف الخاشع: "اللَّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْري"، "فَلَكَ الْحَمْدُ عَليَّ في جَميعِ ذلِكَ، وَلا حُجَّةَ لي فيما جَرى عَلَيَّ فيهِ قَضاؤُكَ، وَألْزَمَني حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ"؟! فأمام الله الاعتذار صعب.
لذا ينبغي أن نترك كلّ ما لا نقدر على الإجابة عنه يوم الحساب، وأن لا نقوم به أبداً. وأقول لكم إنَّ هذا الطَّريق ليس سهلاً، لكنَّه ممكن بالوعي الدَّائم بالعواقب والنَّتائج الَّتي تترتَّب على أفعالنا، حين يفكّر الإنسان في هذه العواقب والأضرار، ليصبح قادراً على ضبط نفسه الأمّارة بالسّوء، وأن يوقفها عند حدّها.
بينَ اللّومِ والطّمأنينة
والله حدَّثنا عن النَّفس اللوَّامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 1 -2].
والنَّفس اللّوَّامة هي الَّتي تلوم صاحبها وتحاكمه، هذه النَّفس اللّوَّامة هي الّتي تسهر على صاحبها وتلومه وتصلحه، وهي ما نسمّيه الضَّمير، وهي الَّتي تقود الإنسان إلى النَّفس المطمئنَّة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30].
لذلك، علينا أن نحافظ دوماً على الإيمان في قلوبنا، والتَّقوى في حياتنا، أن تبقى هذه التّقوى حتَّى نموت، لأنّها إذا بقيت، يأتينا النّداء: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}، كما يأتينا النّداء: {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}[يس: 58]. لكن إذا فرضنا أنّنا لم نحصل على هذه النفس المطمئنَّة، ومتنا ونحن بعيدون عن الإسلام، عندئذٍ يأتي النّداء: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقّة: 30 – 32].
فعلى الإنسان أن يفكّر دائماً في حسن العاقبة، هناك دعاء يقول: "اللَّهمَّ إنّي أسْأَلُكَ أنْ تَجْعَلَ خَيْرَ عُمْري آخِرَهُ، وَخَيْرَ أعْمالي خَوَاتِيمَها، وَخَيْرَ أيَّامي يَوْمَ ألْقاكَ فِيهِ".
والإمام عليّ (ع) له كلمة يوجّهها إلى النَّاس الّذين ينحرفون تحت تأثير الخجل أو الخوف من النَّاس الآخرين، يقول (ع): "لا يَغُرَّنَّكَ النَّاسُ مِنْ نَفْسِكَ - فلا يغشّك النّاس ويضخّموا لك شخصيّتك، ويوسوسوا لك بالشّرّ، لماذا؟ - فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ دُونَهُمْ" - فالنَّتائج تصل إليك وليس لهم. لذلك لا تصغ إلى النَّاس بالطَّريقة الَّتي يأخذ النَّاس منك وعيك وقلبك.
هذه هي أبعاد الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
الاعتصامُ بحبلِ الله
أمَّا الآية الثَّانية، فيقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، هذه الوحدة الَّتي يريد الله لنا أن نقف عندها، فالله لا يريد لنا أن نكون مشتّتين مقسَّمين مجزَّئين، بل يريدنا أن نتمسَّك بحبله، وحبله تعالى هو القرآن، وهو الإسلام، فالله يقول لنا حاولوا أن تتمسَّكوا بالإسلام وتتوحَّدوا به. فحتّى لو كنت أنا من عائلة وذاك من عائلة ثانية، أو كنت من حزب وذاك من حزب آخر، أو من قوميّة وذاك من قوميّة أخرى، فإنّنا مدعوّون كمسلمين لأن نعتصم بحبل الله، وأن نتوحَّد على أساس إسلامنا. والله هو الَّذي يوحّدنا، فنحن عباده، ونحن خلقه، ونحن المسلمون له.. هذا هو حبل الله سبحانه، ومعناه أنَّ علينا إذا اختلفنا، أن لا تؤدّي بنا خلافاتنا إلى التَّفرقة والسّقوط تحت تأثير النّزاع والأحقاد والعداوة والبغضاء، لأنَّه إذا جمعنا الله، فلا يمكن أن يفرّقنا أحد في هذا المجال.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً – قبل الإسلام، وهو يخاطب بها أهل المدينة، حيث حاول اليهود أن يثيروا بينهم الخلاف العائليّ والعشائريّ، ليبتعدوا بهم عن الإسلام - فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا – بالإسلام - وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
محاصرةُ المجاهدين
وهذا أيضاً موجَّه إلينا، فنحن الآن مسلمون، والله هدانا للإسلام وللإيمان، وهدانا للخطّ المستقيم، وهناك خلافات قد تحصل، قد تكون ذات طابع سياسيّ أو حزبيّ، أو عائليّ، أو مرجعيّ، ولكنَّ الله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59]، فلا تتقاتلوا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
وخصوصاً إذا كان هناك تحدّيات، كما يحدث الآن، فأمريكا بعظمتها تحاول أن تجمع كلَّ دول العالم، حتَّى تحاصر هذه الطَّليعة الإسلاميّة، أن تحاصر المجاهدين في فلسطين وفي لبنان، وأن تحاصر الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وتحاصر المجاهدين في مصر والجزائر وفي كلّ مكان، فالعدوّ يستعدّ، وفي مؤتمر شرم الشَّيخ جمعوا أكثر من 29 دولة في العالم، وكلّها لجهة المحافظة على أمن إسرائيل في مواجهة المسلمين، يعني في مواجهة حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي ومواجهة المقاومة الإسلاميَّة في لبنان والجمهوريَّة الإسلاميّة في إيران، وفي الوقت نفسه، أعطوا الضَّوء الأخضر لإسرائيل في أن تهجم وتعتقل وتعاقب عقاباً جماعيّاً، لأنَّ هؤلاء، كما يقولون، ضدّ السّلام، وقتلوا إسرائيليّين، ولكن هذا الَّذي قتل رابين، لماذا لم يهدموا بيت أهله ولم يعتقلوا أحداً من عائلته، بينما نجدهم هجموا على بيوت الشّهداء، وهدَّموا البيوت على ساكنيها، وهدّموا حتّى بيوت الأقرباء لهم؟! وهذا معناه أنَّ هناك عنصريّة.
الآن يقولون إنَّ الإسلاميّين ضدّ السّلام، ولكنّ الليكود أيضاً ضدّ السلام، واليمين الإسرائيلي المتطرّف ضدّ السلام، فلماذا لا تعتقلونهم وتقفون ضدّهم؟
تجميدُ الخلافات
إنَّ المطلوب اليوم هو إسقاط العرب والمسلمين لمصلحة الكيان الصّهيوني، وهذا ما تعمل عليه قوى الاستكبار العالميّ بكلّ ما تملك من أدوات القوّة، وما يعمل عليه الكفر العالميّ بكلّ قوّته، من أجل هدم عزّتنا، وضرب كرامتنا، وتخريب اقتصادنا، وزعزعة أمننا، وتفكيك سياساتنا.
لكنَّنا، في مواجهة هذا الواقع الخطير، ننشغل بصراعات داخليَّة صغيرة وهامشيَّة، ونغرق في جدالات لا تقدّم ولا تؤخّر، تماماً كما حدث في قسطنطينية، عندما كان العدوّ يدقّ الأبواب، والنّاس مشغولون عن ذلك بالجدال: هل البيضة أصل الدَّجاجة أم الدّجاجة أصل البيضة؟ هل الملائكة ذكور أم إناث؟ وهكذا، فبينما يقترب العدوّ من أسوارنا، نضيّع الوقت في قضايا لا تمسّ جوهر وجودنا، في حين أنَّ الخطر الحقيقيّ يهدّدنا جميعاً.
ونحن في ظلّ ما يحدث بيننا من خلافات، وخصوصاً في الوسط المسلم، ألا ينبغي أن نتنبّه إلى ما تفعله إسرائيل وأمريكا والدّول المستكبرة، وما يفعله العملاء والمنافقون في الدّاخل، فنتوحَّد كشعب وأمَّة أمام هذه التحدّيات والأخطار، لنحمي أنفسنا وأمّتنا وشعبنا؟! والله يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
إنّ الله يقول لنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فصحيح أنَّ هناك خلافات، ولكن علينا أن نجمّدها عندما يكون هناك عدوّ مشترك، والمثل الشّعبيّ يقول: أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب، ولكنّ وضعنا صار: أنا والغريب على أخي وابن عمّي. أليس هذا ما يحدث؟!
لهذا، يريد الله سبحانه وتعالى منَّا أن نتوحَّد به، وهذه مسألة يفرضها الوعي، لأنَّه لا أحد يستطيع أن يفكّر وحده، وأن يعيش وحده، بل نحن نعيش كأمَّة، والآخرون هكذا. الآن اليهود كم من الخلافات فيما بينهم، ولكنّهم اتَّحدوا في مواجهتنا، ونحن لا نستطيع أن نتَّحد في مواجهتهم ومواجهة أمريكا؛ لا نزال نقول هذا ابن حزب الله، وهذا ابن حركة أمل، وهذا يقلّد فلاناً وذاك يقلّد فلاناً، والعدوّ يقصفنا كلّ يوم، وهم في واشنطن يخطّطون.. إنّ هناك غباءً وتخلّفاً في العقليَّة وعدم وعي.
هناك قصّة وردت في كتاب "كليلة ودمنة"، لابن المقفّع، وهي قصص تجري على لسان الحيوانات، يتحدَّث عن شخص وقع في البئر، وتعلَّق بغصن شجرة فيه، ونظر حوله، فإذا بجرذ يقرض غصن الشّجرة، ونظر إلى الأسفل، فرأى تنّيناً فاتحاً فاه ينتظر سقوطه ليأكله.. في هذه الأثناء، رأى عسل نحل، ذاق العسل فانشغل بحلاوته عن الجرذ الّذي يقرض الغصن، والتّنين الّذي ينتظره حتّى يسقط ويأكله.. أليس هذا وضعنا؟!
نحن مشغولون بعسل الخلافات العائليَّة والحزبيَّة، وبعسل الخلافات الشَّخصيَّة، والجرذ الإسرائيليّ يقرض أرضنا كلّ يوم، والتنّين الأمريكيّ يفتح فمه حتَّى تسقط جميع المنطقة وتصبح أمريكيّة.
لذلك، نحن نحتاج إلى أن يكون لدينا وعي؛ وعي عزَّتنا وكرامتنا وإسلامنا ووحدتنا، والله يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
مسؤوليّةُ صنعِ المستقبل
لذلك، نحتاج، أيّتها الأخوات، إلى أن نرتفع إلى مستوى الوعي، فلا يجوز أن يعيش كلٌّ منّا لنفسه فقط، ولا يجوز أن نفكّر بشكل ضيّق، بل أن يكون تفكيرنا واسعاً، ولا يكفي أن نهتف: الموت لأمريكا، أو غيرها من الهتافات، بل أن نخطّط ونفكّر ونحضّر عقولنا وليس حناجرنا.
من الّذي يحنّ على الأولاد أكثر من الأب والأمّ؟ فهل نصنع لأولادنا مستقبلاً يعيشون فيه تحت الجزمة الإسرائيليّة والقسوة الأمريكيَّة، أم أنّنا نريد لهم أن يكونوا مرفوعي الرأس؟! نحن لا نريد أن نعطي أولادنا خبزاً مغموساً بالعار، أو أن نعطيهم حياة ذليلة، بل نريد لهم حياة عزيزة، وعلينا أن نتحمّل مسؤوليَّتنا في صنع المستقبل، فكما نريد أن نصنع مستقبلنا المادّيّ، علينا أن نصنع مستقبلنا السياسيّ والرّوحيّ والاقتصاديّ، وعلى كلّ إنسان في الأمَّة أن يتحسَّس مسؤوليَّته في تغيير الحياة والواقع.
أحسن النّاس معاشاً وأسوأهم
نحن اليوم كنَّا نتحدَّث في خطبة الجمعة للرّجال، باعتبار ولادة الإمام الرّضا (ع)، وذكرنا حديثاً للإمام (ع) وهو يسأل أحد أصحابه: "يا عليّ، مَن أحسنُ النَّاسِ معاشًا؟ – ولو وُجِّه إليكم هذا السّؤال اليوم، لربّما أجاب أكثرنا: هو من يملك بيتًا، ويتمتّع بصحّة جيّدة، وله عملٌ ورصيد، ومكانة اجتماعيّة... أليس كذلك؟ لكنَّ الإمام (ع) كان ينظر إلى المسألة من زاوية مختلفة تماماً.
- قلتُ: يا سيّدي أنتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّي. فقَالَ (ع): مَنْ حَسُنَ معاشُ غيرِه في معاشِهِ - أي هو الَّذي لا يعيش لنفسه فقط، بل يعيش لنفسه وللنَّاس من حوله، وهو الَّذي تتحسَّن عيشة النّاس من خلال عيشته، فإذا وجد في محيطه جهلاً، أعطاهم من علمه، وإذا رأى فيهم ضعفاً، أعطاهم من قوَّته وماله وخبرته وجهده، حتَّى يشعر النَّاس من حوله بأنَّ حياتهم تغيّرت بوجوده، وأنَّ أوضاعهم قد تحسّنت بسببه. فالإنسان الَّذي عيشه أحسن، هو الَّذي يستفيد منه الآخرون، والَّذي يمكن أن يحسّن ظروفهم وحياتهم.
وقد عبّر عن هذا المعنى فلَّاحٌ فارسيّ، حين سأله كسرى، وكان يزرع نخلاً، وكان قد تجاوز التّسعين، ومن المعروف أنَّ النَّخل لا يُثمر إلّا بعد سنين طويلة، سأله: لمَ تغرسه وأنت في هذا العمر؟ فأجابه الرَّجل الحكيم: "غَرَسُوا فَأَكَلْنَا، وَنَغْرسُ فَيَأْكلُون".
وكما زرع لنا الماضون، ولربّما لم يأكلوا منه، فإنَّ علينا أن نزرع ولو لم نأكل منه، فإن لم نأكل منه، فسيأكل منه الجيل القادم، فكلّ جيل يغرس للجيل القادم، فعندما يزرعون لنا الحريّة، فعلينا أن نزرع الحريَّة للجيل القادم، وإذا زرعوا الخير لنا، فعلينا أن نزرع الخير للجيل القادم، وهكذا...
- قال: يا عليّ، مَنْ أَسْوَأُ النَّاسِ مَعَاشاً؟ قُلْتُ: أنتَ أَعْلُمُ، قَالَ: مَنْ لم يَعِشْ غَيْرُهُ في مَعَاشِهِ"، الَّذي يعيش لنفسه فقط، ويريد كلَّ شيء له، وغير مستعدّ أن يعطي الآخرين شيئاً، ولا أن يمدّ يد العون لهم، ولا أن يعطيهم من علمه وخبرته، فهو بخيل بكلّ شيء، والله يقول لهم: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمّد: 38]، لأنَّ الإنسان عندما يعطي، فما يعطيه يتحوَّل إلى رصيدٍ له عند الله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمّل: 20].
فما نعطيه للنَّاس هو ما يبقى لنا، أمَّا من يجمع المال من دون أن ينفق منه في الخير، فلن ينفعه ماله شيئاً في الآخرة. أمَّا الإنسان الَّذي يعمل الخير ويقصد به وجه الله، ويفتح قلبه للآخرين، ويحبّ النَّاس ويخدمهم ويعلّمهم، فهو الَّذي يستفيد.
الارتقاءُ بالمسؤوليَّة
لذلك، لا بدَّ أن نفكّر بطريقة أخرى؛ أنّ على كلّ منّا أن لا يعيش لنفسه فقط، بل أن نشعر بأنَّنا جزء من شعب وجزء من أمَّة، أن تكون أهداف الأمَّة أهدافنا، وقضاياها قضايانا، فلا يقل الإنسان: لا دخل لي بما يجري "فخّار يكسّر بعضه"، أو كما يعبّر ذاك الشَّاعر:
ما علينا إن قضى الشَّعب جميعاً أفلسنا في أمان؟!
يقولها النَّبيّ (ص): "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيَّتِهِ". كلٌّ بحجم قدرته ووضعه.
لهذا، نحتاج إلى أن نتوحَّد بالله وبرسوله، وأن نتوحَّد بأهل البيت (ع)، وأن نجمّد خلافاتنا ونزاعاتنا، وأن نعي مرحلتنا، ونعي كلَّ الظروف الصَّعبة الّتي نمرّ بها، حتَّى نستطيع أن نتجاوز هذه المرحلة بكلّ قوَّة، وبكلّ صدق وإخلاص، والله يقول: {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].
والحمد لله ربّ العالمين.
 
***
أسئلة الخطبة
في الطَّهارة والتَّقليد والنّذر
س: أنا من مقلّدي السيّد الخوئي، هل أستطيع أن أعدل وأقلّد حضرتكم؟
ج: إذا حصل هناك الاطمئنان، فيجوز ذلك.
س: في قريتي، لا يوجد مصلَّى في المقبرة، وأنا أسعى مع أختي لهذا العمل، ونطلب تبرّعات من أهالي القرية لهذا الأمر، فهل من مشكلة في ذلك؟
ج: لا يجوز إنشاء مصلَّى على المقبرة إذا كانت موقوفة، لأنَّ أرض المقبرة كلّها موقوفة على الدّفن، فإذا أردنا أن نعمّر مصلّى، فمعنى ذلك أنّنا نمنع الدَّفن بمستوى مساحة هذا المصلَّى، ولذلك تعمير المصلّى حرام من هذه النَّاحية، ويعتبر غصباً، ولا يجوز بناء مصلّى عليها إذا كانت موقوفة للدّفن.
نعم، إذا كان الوقف من الأساس أن يكون قسم من المقبرة مصلَّى، فلا مشكلة حينها.
س: ما حكم الطَّهارة في امرأة بوذيَّة تعمل عند شخص في البيت؟
ج: على رأي الفقهاء، الحكم هو النجاسة، لأنهم لا يرون طهارة ما عدا الكتابيّين والمسلمين. أمَّا رأينا فهو الطّهارة، لأنّنا نرى طهارة كلّ إنسان.
س: هل يُمكن للرَّجل أن يحلّ نذر زوجته، إذا نذرت شيئاً ولم تستطع أن تفي به؟
ج: يمكن للرَّجل أن يحلّ نذر زوجته.
س: امرأة كانت حاملاً، وكان حملها صعباً، وعلى وشك الإجهاض، نذرت إن نجا حملها أن تذبح كبشاً، وأن تزوّر المولود في مقام السيّدة زينب (ع). وبفضل الله نجا المولود، ولكنَّها الآن لا تستطيع الوفاء بالنَّذر، لأنَّ زوجها توقَّف عن العمل. فهل على أولادها الكبار أن يوفوا بالنَّذر من مصاريفهم الخاصَّة، علماً أنَّ الولد أصبح عمره ثلاث عشرة سنة؟
ج: لا يجب على الولد عندما يبلغ أن يستجيب للنّذر. وبالنّسبة إلى المرأة، إذا لم يكن عندها مال، ولم تستطع الوفاء بالنّذر، فلا يجب عليها، إلَّا إذا تبرّع لها أحد بذلك.
قضايا اجتماعيّة
س: أنا امرأة متزوّجة منذ أكثر من عشر سنوات، ولم أحمل حتّى الآن، وذهبنا أنا وزوجي عند كثير من الأطبّاء، وكلّهم قالوا إنّنا نحن الاثنين لا نشكو من أيّ عارض لعدم الحمل والإنجاب، ولكنَّ زوجي لم يقتنع بهذا الكلام، وهناك خلاف بيننا كلّ يوم. فهل يجوز إجراء التَّلقيح في هذه الحالة، مع العلم أنّنا ملتزمان؟
ج: إذا كان التَّلقيح من نطفة الزوج وبويضة المرأة، فيجوز ذلك، لكن بشرط أن يكون من يقوم بعمليّة التّلقيح طبيبة امرأة وليس رجلاً.
س: كنت في عقد منقطع مع شخص، ووهبني بقيّة المدَّة، وسمح لي بالزَّواج من غيره رغم أنّني أحبّه. فهل يجوز لي الزّواج بغيره من دون عدَّة، رغم أنّني لا أرغب بغيره أبداً؟ وهل يجوز له أن يتركني؟
ج: إذا لم يكن هناك دخول فلا عدَّة. وأنا أقول إنَّه إذا لم يكن الرّجل راغباً بالزَّواج بك، فلا ينبغي أن تلحّي على البقاء معه، لأنَّ "زُهْدك فِي راغبٍ فِيك نقْصانُ حَظٍّ، وَرغبتُك فِي زَاهدٍ فِيك ذُلُّ نفسٍ"، كما يقول الإمام عليّ (ع). فإذا لم يكن راغباً في البقاء معك، فعليك أن تتدبَّري أمرك، وأن لا تنفتحي بعاطفتكِ بطريقة خياليّة وعاطفيّة ربما تؤدّي بك إلى نتائج سلبيَّة.
وأنا دائماً أنصح الفتيات والنّساء أن لا يستعجلن في عواطفهنَّ، على أساس أنَّ على الأخت أن تتدبَّر أمرها جيّداً، حتَّى لا تقع في النَّتائج السيّئة.
س: أنا أخت ملتزمة وأخاف الله، أحبّني شخص حبّاً قويّاً، وأصبح هناك خلافاتٌ من جهة الأقارب، وتركني لأجلهم. فهل يجوز له ذلك؟
ج: الإنسان الَّذي يترك الفتاة الَّتي تحبّه أو يحبّها بسبب الأقارب، هذا معناه أنّه ليس حبّاً خالصاً، وعليها أن تحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وأن تعالج عاطفتها، لأنَّها العاطفة السَّريعة الّتي لا تكون مبنيَّة على أساس.
وأنا دائماً أقول لكم إنَّ الزَّواج ينبغي أن يكون عبارة عن 75 في المائة عقل، و25 في المائة عاطفة، وأنَّ علينا أن نعطي العاطفة جرعةً من العقل، وأن نعطي العقل جرعةً من العاطفة، فلا يصحّ أن نجعل عاطفتنا بعيدة من عقلنا.
س: أنا فتاة مؤمنة، والحمد لله، وملتزمة بالمسائل الشَّرعيَّة، تقدَّم لخطبتي شابٌّ مؤمن وملتزم، ولكنَّ أهلي يرفضون كتب الكتاب، فهل يجوز لي أن أخرج معه إلى الأماكن العامَّة بصفتي خطيبته دون ارتباط شرعيّ؟
ج: مجرَّد الخطبة من دون كتب الكتاب، يبقي الرَّجل أجنبيّاً كأيّ أجنبيّ آخر، وبمجرَّد الوعد بالزواج لا يجعل هناك علاقة شرعيَّة بين الطَّرفين. ولذلك إذا أرادت الفتاة أن تخرج معه، فعليها أن تعتبر نفسها كما لو أنّها تخرج مع شخص أجنبيّ من حيث القيود الشَّرعيّة.
س: أنا فتاة كنت زانية، والآن بعد مساعدة أحد الإخوان الجرحى، أصبحت – والحمد لله - من الصَّالحات، إن شاء الله، وقد تاب الله عليّ، وهذا الجريح الآن هو زوجي بعقد منقطع، وفي أحيان كثيرة، أعرض عليه العقد الدَّائم، وأنا مستعدّة لأن أتحمَّل كلَّ شيء بالنّسبة إلى وضعه، ولكنَّه يرفض ويقول إنّه لا يريد أن يظلمني معه وهو مشلول، ولكنّي مستعدَّة ومقتنعة تماماً بما أعرضه عليه.
أمَّا بالنّسبة إلى الموضوع الثّاني، فهو أنّه كلّما أردت أن أذهب إليه، أتعرّض للكثير من الإحراج وبعض المشاكل، ما يضطرّني إلى الكذب لتبرئة نفسي. ما رأيكم في ذلك؟

ج: في الموضوع الأوَّل، هذا يتوقَّف على قناعة هذا الإنسان، لأنّه ربما عندما يكون الإنسان مشلولاً، فهو يعتقد أنَّ قبول الزواج الدَّائم به دافعه الشَّفقة، وبعض الناس لا يقبل أن يكون موضع شفقة، وربما يتصوَّر أنّك قد تنطلقين الآن من موقع الشَّفقة، فإذا حصل الزواج فسوف تندمين، وهذا يدلّ على شرف عنده وأنَّه مسؤول. ولذلك إذا كنت معتقدة أنّك سوف تبقين بمقام الإخلاص له ورعايته من دون أن تعقّدي حياتك وحياته، فعليك أن تقنعيه بهذا الموضوع.
وأنا أقول لهذا الشَّخص إنَّ عليه أن يدرس مشاعر هذه الإنسانة، وإذا رأى صدق الشعور، فلا بأس أن يقترن بها، حتَّى تستطيع أن تعينه على حياته ويعينها على مشكلتها.
وبالنسبة إلى الموضوع الثَّاني، فنحن لا نفضّل لأيّ أحد أن يكذب حتَّى في حالات الحرج، ولكن إذا كان الإنسان في حال حرجيَّة شديدة فوق العادة، فعليه أن يلجأ إلى التَّورية.
س: أذنبت ذنباً قد أحنى ظهري، وما زال المولى عزَّ وجلَّ ينعم عليّ برحمته. أريد الخروج من الذَّنب، ولكن كلَّما نويت التَّوبة، رأيت نفسي أعود إلى ذلك الذَّنب. أرجو المساعدة، مع العلم أنّ النّدم دائماً موجود. كيف أطلب التَّوبة مرَّة أخرى، فأنا لا يمكنني الطّلب من الله، لأنَّني طلبت منه كثيراً وأخلفت بوعدي؟
ج: الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشّورى: 25].
ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزّمر: 53].
لذلك، على الأخت أن لا تعتبر نفسها في موقع الَّذي لا يستطيع أن يقف أمام الله ليتوب، لأنَّ الله يقبل التَّوبة، حتَّى لو أنَّها تابت ورجعت، فإنَّ الله يقبل التّوبة إذا كانت نادمة ومصمّمة على عدم العودة.
س: هل يجوز أن نتسلَّى على الهاتف، وإن كان هناك كلام لا يجوز سماعه؟
ج: لا يجوز ذلك، لأنَّ هذا يؤدّي إلى نتائج وخيمة العاقبة في نهاية الأمر.
س: هل يجوز للرَّجل والمرأة أن يمزحا مع أقاربهما؟
ج: أصل المزح غير محرَّم، ولكنَّ مزح المرأة مع الرّجل ربما يؤدّي إلى نتائج سلبيَّة على الجانب الأخلاقيّ.
س: أخت متزوّجة وزوجها مريض، وهو الآن في المستشفى، رأت في المنام أنّها هي وزوجها في مكان يوجد فيه أشخاص يرتدون ثياباً بيضاء، وأتت امرأة وقالت لها إذا صلَّى زوجك صلاة الفيروز فسوف يشفى من المرض. فما رأيكم في ذلك؟
ج: هذا أمل بالله سبحانه وتعالى، وعليه أن يتقرَّب من الله بأيّ صلاة، ولعلّ الله يشفيه.
س: كيف يكون التَّاجر في دين الله؟
ج: لا أدري ما مقصود السَّائل أو السؤال، فالشَّخص يكون تاجراً في الدّين، عندما يستخدم الدّين كوسيلة للحصول على لذَّاته وشهواته وعلى المال والجاه، فهذا يعني أنّه يتاجر بالدّين، ويعتبره تجارة وليس ديناً يتديّن به، وهذا مما لا إشكال في أنَّ الله يعاقبه عليه أشدَّ العقاب.
س: أنا أعمل في شركة على صندوق محاسبة، وفي بعض الأوقات، آخذ مالاً بدون علم صاحب الشَّركة، مع العلم أنّه إذا زاد الصّندوق يأخذون المال لأنفسهم، وإذا نقص يأخذون المال من راتبي الشَّهريّ. فهل ما آخذه من مال حلال أم حرام؟
ج: لا يجوز للإنسان أن يأخذ المال من الصّندوق الَّذي اؤتمن عليه، حتَّى لو لم يكونوا هم أمينين عليه. نعم، لو فرضنا أنّهم أخذوا من الموظّف مالاً بغير حقّ، وحسموا من راتبه من دون تقصير منه وحمَّلوه المسؤوليَّة، ولم يكن لهم الحقّ في ذلك، ولم يستطع أن يحصل على ماله، فيجوز له المقاصَّة، يعني أن يأخذ مقابل ماله الّذي أُخِذ منه، ولكن بإذن الحاكم الشّرعي.
س: سألنا عن مسألة سندات خزينة، وقالوا لنا لا بأس بها، وعندما أودعنا المال، عرفنا أنَّها حرام. فماذا نفعل الآن إذا سحبنا الوديعة، هل نترك لهم المال أم نأخذه؟
ج: يمكن للإنسان أن يأخذ هذا المال ويتصدَّق به، ويمكن أن يتملّكه إذا كان فقيراً.
س: "ارحم استكانتنا بعده". ما المقصود بهذه العبارة؛ هل هذا يعني أنَّ هناك زماناً بعد زمان الإمام الحجَّة (عج)؟
ج: المقصود هو الاستكانة بعد غيابه في هذا المقام، يعني بعد غياب الحجَّة (عج)، صرنا في حال ضعف، ومن دون قيادة..
س: هل الخميرة الَّتي تستعمل عادةً في الحلويات حرام؟
ج: ليس عندي فكرة عنها، فإذا لم تكن مشتملة على حرام تكون حلالاً.
*خطبة الجماعة للنساء، بتاريخ: 29/03/1996م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية