الحسين (عليه السلام) تاريخاً وأمثولة

الحسين (عليه السلام) تاريخاً وأمثولة

عندما نستذكر الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم ولادته، فإنّنا نستذكر هذا الطفل الذي كان الولد الثاني لعليّ وفاطمة، وكان السبط الثاني لرسول الله. نستذكر هذا الطفل الذي عاش في أحضان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والذي عاش في كلّ الجوّ الروحيّ الذي كان يعيشه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبهذا فقد كان يأخذ من رسول الله من خلال الجوّ، ومن خلال العاطفة، ومن خلال الروحية، ومن خلال ما كان يحدّق فيه برسول الله؛ كيف ينطلق في مواعظه وكيف يبتهل في صلاته وكيف يخرج إلى الجهاد ويرجع إلى الجهاد. طفل كانت سنواته محدودة ولكنّ عقله كان يختزن ذلك كلّه، وكان الناس يستمعون إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يهدهد هذا الطفل ويمنحه ويمنح أخاه كلّ الرعاية، وكلّ العناية، كانوا يستمعون إلى رسول الله وهو يقول عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، "حسين منّي وأنا من حسين، أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حسيناً"، كانوا يستمعون إلى ذلك وكان الناس يتطلَّعون إلى مستقبل هذين الطفلين، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يخبرهم عن مستقبلهما وكانوا يركّزون على الحسين (عليه السلام).

الحسين (عليه السلام) وصدام الواقع
ومرَّت الأيام، وانتقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الرفيق الأعلى، وانتقلت فاطمة إلى رحاب الله، وانتقل الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال الشهادة في محراب الله إلى رحاب الله، ومرَّت ظروف الإمام الحسن (عليه السلام) ولاقى وجه ربّه، وجاء الحسين (عليه السلام) بعد أن كان الإعداد لثورته مخطّطاً بدقّة، وكان يريد أن يهزّ الواقع، الذي كان واقعاً منحرفاً لا يحمل أيّة صورة مُشرقة عن الإسلام، بل كان يحمل صورة مشوّهة عن واقع الحكم آنذاك وواقع الشخصية التي تتربَّع على سدّة الحكم وواقع النظام وهو يتحرّك بطريقة لا تنطلق من خطّ الإسلام ومن هدي الإسلام. وشَعَرَ الحسين (عليه السلام) وهو الإمام، الذي ركَّز رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إمامته في كلماته، شَعَرَ بأنّه مسؤول عن الانطلاق بالثورة من أجل أن يصدم ذاك الواقع، ولم يكن الحسين يجهل أنّ القوى المسيطرة الموجودة في السّاحة، هي قوى متجمِّعة حول الحكم وحول غنائمه وملذّاته. كان يشعر بأنّها تمثّل قوّة كبيرة في السّاحة، وكان يعرف أنّ الذين يثبتون أمام الإغراء فلا يسقطون أمامه، والذين يثبتون أمام التخويف فلا يسقطون أمامه، هم قليلون وأنّ الأكثرية من الناس هم التي تشغلها ملذّاتها وشهواتها عن ربّها وعن دينها وعن القيادة الصالحة في السّاحة. كان يعرف أنّ هؤلاء الذين يتحرّكون على أساس أن يلبُّوا حاجاتهم كثيرون، وأنَّ الذين يصمدون لمصلحة الرسالة قليلون. قالها الإمام الحسين (عليه السلام)، الكلمة التي لا تزال تتحرّك على مدى الأجيال لتشير إلى أنّ الأكثرية غالباً ما تكون مع الدنيا، وأنَّ الأقليّة تكون مع الآخرة، وأنّ الناس متديّنون إذا لم يقترب الدين من أموالهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من شهواتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من امتيازاتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من عواطفهم، ومشاعرهم وعلاقاتهم. فإذا جاء الدين واقترب من ذلك كلّه رفضوا الدين أو أوّلوه لمصلحتهم، أو انحرفوا به عن خطّه، أو حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه. قالها الحسين (عليه السلام): "النَّاس عبيد الدُّنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم"(1)، الناس مع الدين ما دامَ الدين يعطي سمناً وعسلاً وزبدة وما إلى ذلك. ولكن للدين طعماً مرّاً، فالصبر مرّ، والتضحية مُرّة، والتعقيدات والمشاكل مُرّة، وكثير من الناس يرفضون الدين على هذا الأساس لأنّهم يكتفون بالشكليّات، "النَّاس عبيدُ الدنيا والدينُ لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون"(1).


التديّن في وقت الشدّة
ولهذا المسألة ليست هي أن تكون متديِّناً في وقت الرّخاء بل أن تكون متديِّناً في وقت البلاء، الحسين تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله وتلميذ عليّ وفاطمة، القرآن يقول: {ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 2 ـــ 3]. الله يعلم، لكنّه يظهر الصادقين من الكاذبين. كان الحسين (عليه السلام) يدرك المسألة جيّداً، ولهذا لاحظنا في ما ترويه سيرته (عليه السلام) أنّه كان يغربل، خرج من مكّة ومعه خلقٌ كثير، حتّى إذا كان لبعض المواقع في الطريق حدَّثهم، "خُطَّ الموت على وُلْد آدم مخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة". ثمّ قال لهم في ما يُرْوى: "خُيِّل لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي هذه تُقَطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء"، وفهموا أنّ القضية ليست رحلة مُلْك يُطلَب ليفكِّروا كيف يحصلون على مغانم الملك، ولكنّها رسالة تضحية وتحرّك في خطّ التضحية، وإمام يضحّي ويتحرّك في خطّ الشهادة، وتفرّق عنه الكثيرون ممّن ينطلقون مع القيادات عندما تكون لهم أطماع في القيادات. ثمّ قال لهم: "إنِّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مُفْسِداً ولكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّةِ جدّي، أُريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فَمَن قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله وهو خيرُ الحاكمين"(2).

وانطلق في الطريق، وصَدَقَ ظنّه، وكان أهل الكوفة قد أرسلوا إليه رسائل تُعدّ بالآلاف، أنْ "أَقْدِم فقد أينعت الثِّمار واخْضَرَّ الجناب، وإنّما تقدَّم على جنودٍ لكَ مجنَّدة"(1) وكان خبر مسلم بن عقيل لم يبلغه، والتقى بالفرزدق وقال له الفرزدق وقد سأله الإمام (عليه السلام): كيف تركتَ الناس في الكوفة؟، قال له: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". عندما تدعوهم القيادات المنحرفة إلى أن يحاربوك ـــ القيادات التي تعطيهم مالاً وتعطيهم جاهاً وتعطيهم شهوات ـــ فإنّهم يغلقون قلوبهم، ولا يفتحونها على حبّك، ويجرِّدون سيوفهم من أجل أن يقتلوك بها، وتلك قصّة الناس في كلّ زمان ومكان. وهناك الكثير من النماذج، قصّة الناس أنّهم يحبُّون أهل الخير ولكنّهم يحبُّون المال أكثر من ذلك. يحبّون الله ورسوله، ولكنّهم يحبّون الأطماع أكثر من ذلك.

وانطلق الحسين (عليه السلام) في درب الشهادة، وأغفى إغفاءة كان يقول بعدها إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ويسأله ولده الشاب علي الأكبر: لِمَ استرجعت يا أبتاه، قال: عنَّ لي فارس وأنا في إغفاءتي يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فعلمتُ أنّها نفوسنا نُعِيَتْ إلينا. فقال عليّ الأكبر (عليه السلام): يا أبتاه وما همّ، أَلَسْنا على الحق؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنّ طريقنا طريق حقّ لا مجال فيها للباطل، لسنا في شكٍّ من أمرنا، نحن متيقّنون بأنَّ الطريق هي طريق الله وطريق رسول الله وطريق الحقّ، قال: إذاً لا نُبالي أن نموت محقّين. القصّة هي ليست أن تموت أو لا تموت، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...} [الأنبياء : 35]، ليست المشكلة أن تفكِّر متى تموت، وبأيِّ أرضٍ تموت، ولكن فكِّر كيف تموت. هل تموت وأنتَ في طريق الله، أم تموت وأنتَ في طريق الشيطان؟ هل تموت على الحقّ، حتّى إذا متَّ استقبلتك الملائكة كما تستقبل كلّ المؤمنين {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 24]، أم تموت على الباطل فتسمع الكلمة لهم اللّعنة ولهم سوءُ الدار؟ حدِّد لنفسك الخطّ الذي تتحرّك فيه وأنتَ تموت، هل تموت على أساس الباطل أم على أساس الحقّ؟ مع مَنْ تريد أن تحشر؟ هل تريد أن تُحْشَر مع أولياء الله أم مع أعداء الله كما في دعاء كميل "فلئن صَيَّرْتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أهلِ بلائك وفَرَّقْتَ بيني وبين أحِبَّائك وأوليائك"؟، فكِّر مع مَنْ كنتَ معه، لأنّك ستُحشر مع مَنْ كنت، إذا كنت مع الكافرين ومع الفاسقين ومع الظالمين ومع الطاغين فستُحشر معهم، وإذا كنتَ مع المؤمنين العادلين الطيّبين الصادقين فإنَّك ستُحْشَر معهم. هل تحبُّون عليّ الأكبر؟ تحبُّونه في قلوبكم، لكن وجِّهوا لأنفسكم سؤالاً، هل تحبُّونه في مواقفكم؟ عليّ الأكبر كان يؤكّد أنّه على الحقّ بعدما درس المسألة، ودقَّق، وعَرَفَ ماذا هناك، عرَفَ الباطل، وعَرَفَ الحقّ، فاستطاع أن يعرف الحقّ من الباطل، لا أن تستغرق في موقفك من دون بحث، ولا تدقيق وتقول: أنا على حقّ، لأنَّ مسألة الحقّ مسألة مُشكِلة، لأنَّ كثيراً من الناس يمزجون الحقّ بالباطل.

الجهل يخلق العصبيّة

لهذا فكِّروا في النتائج، ولنفكّر جميعاً مع رسول الله "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة" وسار الحسين (عليه السلام) ووصل كربلاء وتجمَّعت الجيوش حوله ممَّن بعث إليه أنّك سترى منّا جنوداً مجنَّدة، وكان الحسين صاحب رسالة، لم يتعقَّد منهم ولكنّه وقف معهم المرّة والمرّتين والثلاث والأكثر، وهو يخطب فيهم ويعظهم ويذكّرهم بعذاب الله، ولكنَّ القوم ككثير من القوم في زمانٍ آخر، أغلقت عقولهم عن التفكير، لم يُسمَح لهم بأنْ يفكِّروا، لأنّهم وُضِعوا في دائرةٍ يُراد لهم أن لا يفكِّروا فيها، يعني: لا تفكِّر فقط، إمشِ على هذا الخطّ وممنوع أن تفكِّر، لو تكلَّم معك أحد وقال يا فلان تعالَ نتفاهم قل له: لا، ليس هناك تفاهم. إنّك عندما تلتزم أيّ موقع من خلال قناعتك ومن خلال فكرك فستستمع إلى الآخر الذي يلتزم موقفاً آخر من خلال قناعته ومن خلال فكره، لأنَّك أنتَ طالب حقّ، والتزمت بهذا الموقف على أساس أنّك تطلب الحقّ، وعندما يأتي أحدهم ويقول لك: يا صاحبي هناك وجهة نظر أخرى يمكن أن يكون الحقّ فيها، اسمعني، عند ذلك تسمع بقلبٍ مفتوح وعقلٍ مفتوح وأُذن مفتوحة، وعند ذلك لا تتعصَّب، لأنَّك طالب حقّ، لكن إذا كنتَ شخصاً لا تعي شيئاً "سَكَّروا لك بالمفتاح باب عقلك" قالوا لك فكِّر هكذا، والتزم هذا، ثمّ شحنوا قلبك بالبغض والعداوة، ثمّ وضعوك في ساحة محدودة، فإنَّ الجهل هو الذي يخلق العصبية، المتعصّبون جاهلون، أمّا العالمون فهم ملتزمون لا يتعصّبون، وفرق بين الالتزام والعصبية، أنتَ متعصّب إذا كنت غير مستعد لأن تسمع وجهة النظر المخالفة، أمّا وأنتَ ملتزم فإنّك تلتزم استماع وجهة النظر الأخرى وتحدِّد بعدها إنْ كنت على قناعة بها أم لا.

الإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما واجَه هؤلاء القوم واجَهَ قوماً، أغلقت الأموال عقولهم وقلوبهم ومواقفهم، لهذا كان يحاورهم ويدعوهم إلى الحوار، وهم يقولون: لا نفهم ما تقول، إنزِل على حكم من بني عمّك. لو تكلّمت صبحاً ومساءً لن تجد عندنا غير هذه الكلمة، فنحن غير مستعدّين للتفاهم وغير مستعدّين لأن نتحاور. هذا موقف؛ وهناك مواقف مماثلة تحتاج أن تدرسوها، مشكلتكم أنّكم جمّدتم كربلاء، أصبحت مجرّد قارئ عزاء أُمّيٍّ أو شبه أُمّيٍّ، المهمّ أنّ عنده صوتاً جيّداً يُبكي الناس، ولكنّه لا يعرف أن يعطيك دروساً لتفهم واقعك من خلال ما كان يعيشه الحسين (عليه السلام)، ولكن عندما نفهم فلسفة موقف الحسين نعرف عظمة الحسين، وعندما نفهم عمق الثورة الحسينية نفهم عظمة الحسين (عليه السلام). عند ذلك قال لهم: "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، أنا الحسين الحرّ، سيّد الأحرار، لا يمكن أن أوَقِّع لكم على شيء لا أرتضيه، "ألاَ وإنَّ الدّعيّ ابن الدعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين بين السِلَّةِ والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابَت وأرحام طَهُرَت من أن تؤْثَر طاعة اللّئام على مصارع الكِرام"(2).

خيار العزّة

هذا هو الخطّ الحسيني، إنّك عندما تقف أمام الخيار بين أن تكون ذليلاً أو عزيزاً، بين أن تكون ذليلاً مع الحياة أو أن تكون عزيزاً مع الموت، عليكَ أن لا تختار الذلّة لأنَّ الله أرادك أن تكون عزيزاً، وهكذا بقي الحسين (عليه السلام) في موقفه، وكان يعرف كما قلنا في البداية أنّ النصر بالمعنى المادي ليس وارداً في حساباته، لهذا حدَّث أخته العقيلة زينب (عليها السلام) وبكت ليلة العاشر وحدَّث أصحابه وحدَّث أهل بيته (عليه السلام) ـــ في ما يروى ـــ جَمَعَهُم ليلة العاشر، وأخبرهم وقال لهم: إنَّ القوم لا يريدون غيري فانطلقوا في هذا اللّيل واتّخذوه جَمَلاً، اركبوا اللّيل كما تركبون الجمل لا يراكم أحد. وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي لأنَّ أهل البيت لا يعرفون البلاد هناك باعتبارهم حجازيّين، فإنَّ القوم لا يريدون غيري، أنا سأموت، فلماذا تموتون معي؟ ووقف أولئك، وقفت الأقليّة التي كانت تجابه الأكثرية ولكنّها أقليّة الإيمان والإسلام والتقوى والإخلاص والتضحية في سبيل الله، أمام الأكثرية التي تختزن الضلال والفساد والأطماع والعمل في سبيل الشيطان، ووقفوا وقال له العباس: ولماذا نبقى بعدك يا أبا عبد الله، وقال له زهيرُ بن القَيْن: لَوَدَدْتُ أنّي قُتِلْت ثمَّ أُحْرِقْت ثمّ أحييتُ يُفْعَلُ بي ذلك ستّين أو سبعين مرّة وأنَّ الله يرفع عنك القتل ما توانيتُ عن ذلك. وهكذا عاشوا وهم يترقَّبون الموت في اليوم التالي، وكانوا يعيشون مع الله كما كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع الله، باتوا ليلة عاشوراء بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآن، كان هذا جوّهم، هذا جوّ الجيش المسلم، هذا جوّ المقاتِل المسلم الذي لا ينفصل عن الله في أيّ وقت. وهكذا عندما حان وقت الصلاة، وقد سَقَطَ بعض أصحاب الحسين، جاء شخص إلى الحسين (عليه السلام) وقال له: يا بن رسول الله لقد حانَ وقت الصلاة وإنّي أحبّ أن لا ألقى الله إلاّ وقد صلّيت هذه الصلاة، أريد آخر عمري أن أعرج إلى الله بصلاتي، ثمّ أعرج إليه بروحي، هكذا هم أصحاب الحسين (عليه السلام) هم المصلُّون، وأمّا الذين لا يصلّون فليس الحسين ولا أهل بيته ولا أصحابه منهم في شيءٍ حتّى لو عملوا ألف مجلس عزاء، وقال الحسين: نعم ذكرتَ الصّلاة جَعَلك الله من المصلّين، وصلَّى، والسِّهام من كلِّ جانبٍ تَتْرَى عليه، وسَقَطَ الذي كان يقف أمامه وأكمل الحسين المسيرة، وعندما أراد أن يلقى وجه ربّه قال آخر كلماته: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله"، هذه الكلمة التي لا بدّ أن نعيشها، لن يقولها الإنسان بصدق إلاّ إذا كانت حياته باسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّةِ رسول الله، سيقولها قبل أن يموت وسيقولها في قبره، ولكنّ الإنسان الذي كانت حياته بعيدة عن الله وعن رسول الله حتّى لو جاء الملقّن ليقول له اسمع يا فلان إذا جاءك المَلَكان وسألاك مَنْ ربّك؟ قل الله ربّي، لن يسمع ذلك لأنّه لم يكن يسمع ذلك في الحياة الدنيا، ليست كلمة يقولها الملقّن ولكنّها موقف تقوله حياتك، أن تبدأ كلّ حياتك باسم الله، وأنْ تتحرّك في كلّ حياتك على ملّة رسول الله، عند ذلك تكون مثل عليّ عندما قالها، ومثل الحسين (عليه السلام) عندما قالها، وقبل ذلك مثل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما قالها، وهكذا رأينا أنّ الحسين (عليه السلام) واجَهَ الشهادة، لأنّه أراد أن يصدم الواقع ليحرّك الواقع الذي عاشه وليحرّك قواعد المستقبل، كان يقول لهؤلاء الذين وقف أمامهم من الطغاة، إذا كنتم تسيطرون على الحاضر فسأنسف المستقبل الذي تتطلَّعون إليه، وكان يقول للأجيال اللاحقة: ستمسكون ذلك المستقبل وستصنعون في وعي الأُمّة روحاً جهادية مصبوغة بالدّماء وستسقطون كلّ العروش الظالمة. وسقطت العروش بعد ذلك. هذا هو درس الحسين (عليه السلام)؛ أن لا يسقطكم الحاضر، فكِّروا أنّكم مسؤولون عن الحاضر ومسؤولون عن المستقبل بمقدار ما تستطيعون أن تهيّئوا للمستقبل من قوّة من خلال مواقفكم في الحاضر، في مقابل الناس الذين يهدمون المستقبل للأُمّة على أساس أن يحقِّقوا لأنفسهم راحة في الحاضر.

الحسينيّون هم الذين يفكّرون أن يعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم في الحاضر، من أجل أن يرسموا لأولادهم مستقبلاً لا يضطرون فيه لأن يقبّلوا أعتاب الطغاة.

والحمد لله ربّ العالمين


خطبة الجمعة التي ألقيت بتاريخ 25/3/1988.(*)

البحار، ج:44، ص:383، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:44، ص:383، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:44، ص:329، رواية:2، باب:37.(2)

البحار، ج:44، ص:334، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:45، ص:7، باب:37.(1)

البحار، ج:45، ص:9، باب:37.(2)
عندما نستذكر الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم ولادته، فإنّنا نستذكر هذا الطفل الذي كان الولد الثاني لعليّ وفاطمة، وكان السبط الثاني لرسول الله. نستذكر هذا الطفل الذي عاش في أحضان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والذي عاش في كلّ الجوّ الروحيّ الذي كان يعيشه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبهذا فقد كان يأخذ من رسول الله من خلال الجوّ، ومن خلال العاطفة، ومن خلال الروحية، ومن خلال ما كان يحدّق فيه برسول الله؛ كيف ينطلق في مواعظه وكيف يبتهل في صلاته وكيف يخرج إلى الجهاد ويرجع إلى الجهاد. طفل كانت سنواته محدودة ولكنّ عقله كان يختزن ذلك كلّه، وكان الناس يستمعون إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يهدهد هذا الطفل ويمنحه ويمنح أخاه كلّ الرعاية، وكلّ العناية، كانوا يستمعون إلى رسول الله وهو يقول عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، "حسين منّي وأنا من حسين، أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حسيناً"، كانوا يستمعون إلى ذلك وكان الناس يتطلَّعون إلى مستقبل هذين الطفلين، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يخبرهم عن مستقبلهما وكانوا يركّزون على الحسين (عليه السلام).

الحسين (عليه السلام) وصدام الواقع
ومرَّت الأيام، وانتقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الرفيق الأعلى، وانتقلت فاطمة إلى رحاب الله، وانتقل الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال الشهادة في محراب الله إلى رحاب الله، ومرَّت ظروف الإمام الحسن (عليه السلام) ولاقى وجه ربّه، وجاء الحسين (عليه السلام) بعد أن كان الإعداد لثورته مخطّطاً بدقّة، وكان يريد أن يهزّ الواقع، الذي كان واقعاً منحرفاً لا يحمل أيّة صورة مُشرقة عن الإسلام، بل كان يحمل صورة مشوّهة عن واقع الحكم آنذاك وواقع الشخصية التي تتربَّع على سدّة الحكم وواقع النظام وهو يتحرّك بطريقة لا تنطلق من خطّ الإسلام ومن هدي الإسلام. وشَعَرَ الحسين (عليه السلام) وهو الإمام، الذي ركَّز رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إمامته في كلماته، شَعَرَ بأنّه مسؤول عن الانطلاق بالثورة من أجل أن يصدم ذاك الواقع، ولم يكن الحسين يجهل أنّ القوى المسيطرة الموجودة في السّاحة، هي قوى متجمِّعة حول الحكم وحول غنائمه وملذّاته. كان يشعر بأنّها تمثّل قوّة كبيرة في السّاحة، وكان يعرف أنّ الذين يثبتون أمام الإغراء فلا يسقطون أمامه، والذين يثبتون أمام التخويف فلا يسقطون أمامه، هم قليلون وأنّ الأكثرية من الناس هم التي تشغلها ملذّاتها وشهواتها عن ربّها وعن دينها وعن القيادة الصالحة في السّاحة. كان يعرف أنّ هؤلاء الذين يتحرّكون على أساس أن يلبُّوا حاجاتهم كثيرون، وأنَّ الذين يصمدون لمصلحة الرسالة قليلون. قالها الإمام الحسين (عليه السلام)، الكلمة التي لا تزال تتحرّك على مدى الأجيال لتشير إلى أنّ الأكثرية غالباً ما تكون مع الدنيا، وأنَّ الأقليّة تكون مع الآخرة، وأنّ الناس متديّنون إذا لم يقترب الدين من أموالهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من شهواتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من امتيازاتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من عواطفهم، ومشاعرهم وعلاقاتهم. فإذا جاء الدين واقترب من ذلك كلّه رفضوا الدين أو أوّلوه لمصلحتهم، أو انحرفوا به عن خطّه، أو حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه. قالها الحسين (عليه السلام): "النَّاس عبيد الدُّنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم"(1)، الناس مع الدين ما دامَ الدين يعطي سمناً وعسلاً وزبدة وما إلى ذلك. ولكن للدين طعماً مرّاً، فالصبر مرّ، والتضحية مُرّة، والتعقيدات والمشاكل مُرّة، وكثير من الناس يرفضون الدين على هذا الأساس لأنّهم يكتفون بالشكليّات، "النَّاس عبيدُ الدنيا والدينُ لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون"(1).


التديّن في وقت الشدّة
ولهذا المسألة ليست هي أن تكون متديِّناً في وقت الرّخاء بل أن تكون متديِّناً في وقت البلاء، الحسين تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله وتلميذ عليّ وفاطمة، القرآن يقول: {ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 2 ـــ 3]. الله يعلم، لكنّه يظهر الصادقين من الكاذبين. كان الحسين (عليه السلام) يدرك المسألة جيّداً، ولهذا لاحظنا في ما ترويه سيرته (عليه السلام) أنّه كان يغربل، خرج من مكّة ومعه خلقٌ كثير، حتّى إذا كان لبعض المواقع في الطريق حدَّثهم، "خُطَّ الموت على وُلْد آدم مخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة". ثمّ قال لهم في ما يُرْوى: "خُيِّل لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي هذه تُقَطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء"، وفهموا أنّ القضية ليست رحلة مُلْك يُطلَب ليفكِّروا كيف يحصلون على مغانم الملك، ولكنّها رسالة تضحية وتحرّك في خطّ التضحية، وإمام يضحّي ويتحرّك في خطّ الشهادة، وتفرّق عنه الكثيرون ممّن ينطلقون مع القيادات عندما تكون لهم أطماع في القيادات. ثمّ قال لهم: "إنِّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مُفْسِداً ولكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّةِ جدّي، أُريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فَمَن قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله وهو خيرُ الحاكمين"(2).

وانطلق في الطريق، وصَدَقَ ظنّه، وكان أهل الكوفة قد أرسلوا إليه رسائل تُعدّ بالآلاف، أنْ "أَقْدِم فقد أينعت الثِّمار واخْضَرَّ الجناب، وإنّما تقدَّم على جنودٍ لكَ مجنَّدة"(1) وكان خبر مسلم بن عقيل لم يبلغه، والتقى بالفرزدق وقال له الفرزدق وقد سأله الإمام (عليه السلام): كيف تركتَ الناس في الكوفة؟، قال له: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". عندما تدعوهم القيادات المنحرفة إلى أن يحاربوك ـــ القيادات التي تعطيهم مالاً وتعطيهم جاهاً وتعطيهم شهوات ـــ فإنّهم يغلقون قلوبهم، ولا يفتحونها على حبّك، ويجرِّدون سيوفهم من أجل أن يقتلوك بها، وتلك قصّة الناس في كلّ زمان ومكان. وهناك الكثير من النماذج، قصّة الناس أنّهم يحبُّون أهل الخير ولكنّهم يحبُّون المال أكثر من ذلك. يحبّون الله ورسوله، ولكنّهم يحبّون الأطماع أكثر من ذلك.

وانطلق الحسين (عليه السلام) في درب الشهادة، وأغفى إغفاءة كان يقول بعدها إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ويسأله ولده الشاب علي الأكبر: لِمَ استرجعت يا أبتاه، قال: عنَّ لي فارس وأنا في إغفاءتي يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فعلمتُ أنّها نفوسنا نُعِيَتْ إلينا. فقال عليّ الأكبر (عليه السلام): يا أبتاه وما همّ، أَلَسْنا على الحق؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنّ طريقنا طريق حقّ لا مجال فيها للباطل، لسنا في شكٍّ من أمرنا، نحن متيقّنون بأنَّ الطريق هي طريق الله وطريق رسول الله وطريق الحقّ، قال: إذاً لا نُبالي أن نموت محقّين. القصّة هي ليست أن تموت أو لا تموت، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...} [الأنبياء : 35]، ليست المشكلة أن تفكِّر متى تموت، وبأيِّ أرضٍ تموت، ولكن فكِّر كيف تموت. هل تموت وأنتَ في طريق الله، أم تموت وأنتَ في طريق الشيطان؟ هل تموت على الحقّ، حتّى إذا متَّ استقبلتك الملائكة كما تستقبل كلّ المؤمنين {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 24]، أم تموت على الباطل فتسمع الكلمة لهم اللّعنة ولهم سوءُ الدار؟ حدِّد لنفسك الخطّ الذي تتحرّك فيه وأنتَ تموت، هل تموت على أساس الباطل أم على أساس الحقّ؟ مع مَنْ تريد أن تحشر؟ هل تريد أن تُحْشَر مع أولياء الله أم مع أعداء الله كما في دعاء كميل "فلئن صَيَّرْتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أهلِ بلائك وفَرَّقْتَ بيني وبين أحِبَّائك وأوليائك"؟، فكِّر مع مَنْ كنتَ معه، لأنّك ستُحشر مع مَنْ كنت، إذا كنت مع الكافرين ومع الفاسقين ومع الظالمين ومع الطاغين فستُحشر معهم، وإذا كنتَ مع المؤمنين العادلين الطيّبين الصادقين فإنَّك ستُحْشَر معهم. هل تحبُّون عليّ الأكبر؟ تحبُّونه في قلوبكم، لكن وجِّهوا لأنفسكم سؤالاً، هل تحبُّونه في مواقفكم؟ عليّ الأكبر كان يؤكّد أنّه على الحقّ بعدما درس المسألة، ودقَّق، وعَرَفَ ماذا هناك، عرَفَ الباطل، وعَرَفَ الحقّ، فاستطاع أن يعرف الحقّ من الباطل، لا أن تستغرق في موقفك من دون بحث، ولا تدقيق وتقول: أنا على حقّ، لأنَّ مسألة الحقّ مسألة مُشكِلة، لأنَّ كثيراً من الناس يمزجون الحقّ بالباطل.

الجهل يخلق العصبيّة

لهذا فكِّروا في النتائج، ولنفكّر جميعاً مع رسول الله "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة" وسار الحسين (عليه السلام) ووصل كربلاء وتجمَّعت الجيوش حوله ممَّن بعث إليه أنّك سترى منّا جنوداً مجنَّدة، وكان الحسين صاحب رسالة، لم يتعقَّد منهم ولكنّه وقف معهم المرّة والمرّتين والثلاث والأكثر، وهو يخطب فيهم ويعظهم ويذكّرهم بعذاب الله، ولكنَّ القوم ككثير من القوم في زمانٍ آخر، أغلقت عقولهم عن التفكير، لم يُسمَح لهم بأنْ يفكِّروا، لأنّهم وُضِعوا في دائرةٍ يُراد لهم أن لا يفكِّروا فيها، يعني: لا تفكِّر فقط، إمشِ على هذا الخطّ وممنوع أن تفكِّر، لو تكلَّم معك أحد وقال يا فلان تعالَ نتفاهم قل له: لا، ليس هناك تفاهم. إنّك عندما تلتزم أيّ موقع من خلال قناعتك ومن خلال فكرك فستستمع إلى الآخر الذي يلتزم موقفاً آخر من خلال قناعته ومن خلال فكره، لأنَّك أنتَ طالب حقّ، والتزمت بهذا الموقف على أساس أنّك تطلب الحقّ، وعندما يأتي أحدهم ويقول لك: يا صاحبي هناك وجهة نظر أخرى يمكن أن يكون الحقّ فيها، اسمعني، عند ذلك تسمع بقلبٍ مفتوح وعقلٍ مفتوح وأُذن مفتوحة، وعند ذلك لا تتعصَّب، لأنَّك طالب حقّ، لكن إذا كنتَ شخصاً لا تعي شيئاً "سَكَّروا لك بالمفتاح باب عقلك" قالوا لك فكِّر هكذا، والتزم هذا، ثمّ شحنوا قلبك بالبغض والعداوة، ثمّ وضعوك في ساحة محدودة، فإنَّ الجهل هو الذي يخلق العصبية، المتعصّبون جاهلون، أمّا العالمون فهم ملتزمون لا يتعصّبون، وفرق بين الالتزام والعصبية، أنتَ متعصّب إذا كنت غير مستعد لأن تسمع وجهة النظر المخالفة، أمّا وأنتَ ملتزم فإنّك تلتزم استماع وجهة النظر الأخرى وتحدِّد بعدها إنْ كنت على قناعة بها أم لا.

الإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما واجَه هؤلاء القوم واجَهَ قوماً، أغلقت الأموال عقولهم وقلوبهم ومواقفهم، لهذا كان يحاورهم ويدعوهم إلى الحوار، وهم يقولون: لا نفهم ما تقول، إنزِل على حكم من بني عمّك. لو تكلّمت صبحاً ومساءً لن تجد عندنا غير هذه الكلمة، فنحن غير مستعدّين للتفاهم وغير مستعدّين لأن نتحاور. هذا موقف؛ وهناك مواقف مماثلة تحتاج أن تدرسوها، مشكلتكم أنّكم جمّدتم كربلاء، أصبحت مجرّد قارئ عزاء أُمّيٍّ أو شبه أُمّيٍّ، المهمّ أنّ عنده صوتاً جيّداً يُبكي الناس، ولكنّه لا يعرف أن يعطيك دروساً لتفهم واقعك من خلال ما كان يعيشه الحسين (عليه السلام)، ولكن عندما نفهم فلسفة موقف الحسين نعرف عظمة الحسين، وعندما نفهم عمق الثورة الحسينية نفهم عظمة الحسين (عليه السلام). عند ذلك قال لهم: "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، أنا الحسين الحرّ، سيّد الأحرار، لا يمكن أن أوَقِّع لكم على شيء لا أرتضيه، "ألاَ وإنَّ الدّعيّ ابن الدعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين بين السِلَّةِ والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابَت وأرحام طَهُرَت من أن تؤْثَر طاعة اللّئام على مصارع الكِرام"(2).

خيار العزّة

هذا هو الخطّ الحسيني، إنّك عندما تقف أمام الخيار بين أن تكون ذليلاً أو عزيزاً، بين أن تكون ذليلاً مع الحياة أو أن تكون عزيزاً مع الموت، عليكَ أن لا تختار الذلّة لأنَّ الله أرادك أن تكون عزيزاً، وهكذا بقي الحسين (عليه السلام) في موقفه، وكان يعرف كما قلنا في البداية أنّ النصر بالمعنى المادي ليس وارداً في حساباته، لهذا حدَّث أخته العقيلة زينب (عليها السلام) وبكت ليلة العاشر وحدَّث أصحابه وحدَّث أهل بيته (عليه السلام) ـــ في ما يروى ـــ جَمَعَهُم ليلة العاشر، وأخبرهم وقال لهم: إنَّ القوم لا يريدون غيري فانطلقوا في هذا اللّيل واتّخذوه جَمَلاً، اركبوا اللّيل كما تركبون الجمل لا يراكم أحد. وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي لأنَّ أهل البيت لا يعرفون البلاد هناك باعتبارهم حجازيّين، فإنَّ القوم لا يريدون غيري، أنا سأموت، فلماذا تموتون معي؟ ووقف أولئك، وقفت الأقليّة التي كانت تجابه الأكثرية ولكنّها أقليّة الإيمان والإسلام والتقوى والإخلاص والتضحية في سبيل الله، أمام الأكثرية التي تختزن الضلال والفساد والأطماع والعمل في سبيل الشيطان، ووقفوا وقال له العباس: ولماذا نبقى بعدك يا أبا عبد الله، وقال له زهيرُ بن القَيْن: لَوَدَدْتُ أنّي قُتِلْت ثمَّ أُحْرِقْت ثمّ أحييتُ يُفْعَلُ بي ذلك ستّين أو سبعين مرّة وأنَّ الله يرفع عنك القتل ما توانيتُ عن ذلك. وهكذا عاشوا وهم يترقَّبون الموت في اليوم التالي، وكانوا يعيشون مع الله كما كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع الله، باتوا ليلة عاشوراء بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآن، كان هذا جوّهم، هذا جوّ الجيش المسلم، هذا جوّ المقاتِل المسلم الذي لا ينفصل عن الله في أيّ وقت. وهكذا عندما حان وقت الصلاة، وقد سَقَطَ بعض أصحاب الحسين، جاء شخص إلى الحسين (عليه السلام) وقال له: يا بن رسول الله لقد حانَ وقت الصلاة وإنّي أحبّ أن لا ألقى الله إلاّ وقد صلّيت هذه الصلاة، أريد آخر عمري أن أعرج إلى الله بصلاتي، ثمّ أعرج إليه بروحي، هكذا هم أصحاب الحسين (عليه السلام) هم المصلُّون، وأمّا الذين لا يصلّون فليس الحسين ولا أهل بيته ولا أصحابه منهم في شيءٍ حتّى لو عملوا ألف مجلس عزاء، وقال الحسين: نعم ذكرتَ الصّلاة جَعَلك الله من المصلّين، وصلَّى، والسِّهام من كلِّ جانبٍ تَتْرَى عليه، وسَقَطَ الذي كان يقف أمامه وأكمل الحسين المسيرة، وعندما أراد أن يلقى وجه ربّه قال آخر كلماته: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله"، هذه الكلمة التي لا بدّ أن نعيشها، لن يقولها الإنسان بصدق إلاّ إذا كانت حياته باسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّةِ رسول الله، سيقولها قبل أن يموت وسيقولها في قبره، ولكنّ الإنسان الذي كانت حياته بعيدة عن الله وعن رسول الله حتّى لو جاء الملقّن ليقول له اسمع يا فلان إذا جاءك المَلَكان وسألاك مَنْ ربّك؟ قل الله ربّي، لن يسمع ذلك لأنّه لم يكن يسمع ذلك في الحياة الدنيا، ليست كلمة يقولها الملقّن ولكنّها موقف تقوله حياتك، أن تبدأ كلّ حياتك باسم الله، وأنْ تتحرّك في كلّ حياتك على ملّة رسول الله، عند ذلك تكون مثل عليّ عندما قالها، ومثل الحسين (عليه السلام) عندما قالها، وقبل ذلك مثل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما قالها، وهكذا رأينا أنّ الحسين (عليه السلام) واجَهَ الشهادة، لأنّه أراد أن يصدم الواقع ليحرّك الواقع الذي عاشه وليحرّك قواعد المستقبل، كان يقول لهؤلاء الذين وقف أمامهم من الطغاة، إذا كنتم تسيطرون على الحاضر فسأنسف المستقبل الذي تتطلَّعون إليه، وكان يقول للأجيال اللاحقة: ستمسكون ذلك المستقبل وستصنعون في وعي الأُمّة روحاً جهادية مصبوغة بالدّماء وستسقطون كلّ العروش الظالمة. وسقطت العروش بعد ذلك. هذا هو درس الحسين (عليه السلام)؛ أن لا يسقطكم الحاضر، فكِّروا أنّكم مسؤولون عن الحاضر ومسؤولون عن المستقبل بمقدار ما تستطيعون أن تهيّئوا للمستقبل من قوّة من خلال مواقفكم في الحاضر، في مقابل الناس الذين يهدمون المستقبل للأُمّة على أساس أن يحقِّقوا لأنفسهم راحة في الحاضر.

الحسينيّون هم الذين يفكّرون أن يعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم في الحاضر، من أجل أن يرسموا لأولادهم مستقبلاً لا يضطرون فيه لأن يقبّلوا أعتاب الطغاة.

والحمد لله ربّ العالمين


خطبة الجمعة التي ألقيت بتاريخ 25/3/1988.(*)

البحار، ج:44، ص:383، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:44، ص:383، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:44، ص:329، رواية:2، باب:37.(2)

البحار، ج:44، ص:334، رواية:2، باب:37.(1)

البحار، ج:45، ص:7، باب:37.(1)

البحار، ج:45، ص:9، باب:37.(2)
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية