الإنسان معرَّض لاقتراف الذّنوب والمعاصي في هذه الدّنيا المليئة بالضّغوطات والمغريات، ويبقى أن يقلع عنها بصدق وتوبة نصوح، وأن يتوجَّه بكلِّ إخلاص إلى ربٍّ يرجع إليه المذنبون ويستغيثون برحمته لينجيهم، ويلجأ إليه المضطرّون، ويخشاه المخطئون؛ هذا الربّ العظيم الذي ليس كمثله شيء، المنعم المفضل على عباده بكلّ أنواع البرّ والجود والتكرّم، ففي التقرّب منه كلّ الأنس والحبّ والرّضا، لا يشعر بذلك إلا من سعى إلى الله بنيّة صادقة وعمل مخلص وقول طيّب، بحيث يحسّ المرء بالأمان عنده تعالى مهما اشتدَّت الظروف وتعقّدت، ومهما ابتعد عنها الناس، لأنّ عنده كلّ رحمة مبتغاة، وكلّ تنفيس للكرب والهموم، وكل غوث يمدّ الإنسان بما يحتاجه للثّبات والقوّة والاستمرارية، وعنده كلّ عفو وقدرة وعظمة تعمّ الإنسان بالخير والفضيلة. فما من إله غير الله سبقت رحمته غضبه، وعفوه عقابه، وعطاؤه منعه، فهو الإله ولا يغفر الذنوب سواه، فالأجدى بنا أن نعود إليه عودة واعية فاعلة، تعيدنا إلى العبودية الحقّة، وإلى الطاعة التي تصحّح لنا كل أوضاعنا وعلاقاتنا.
وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في الصحيفة السجاديّة:
"اللّهُمَّ يَا مَنْ بِرَحْمَتِهِ يَسْتَغِيثُ المُذْنِبُونَ، وَيَا مَنْ إلَى ذِكْرِ إحْسَانِهِ يَفْزَعٌ المُضْطُّرونَ، وَيَا مَنْ لِخِيفتِهِ يَنْتَحِبُ الخَاطِئُونَ.
يَا أُنْسَ كُلِّ مُسْتَوْحِشٍ غَرِيبٍ، وَيَا فَرَجَ كُلِّ مَكْرُوبٍ كَئِيبٍ، وَيَا غَوْثَ كُلِّ مَخْذُولٍ فَرِيدٍ، وَيَا عَضُدَ كُلِّ مُحْتاجٍ طَرِيدٍ.
أنْتَ الَّذِي وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْماً، وأنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ لِكُلِّ مَخْلوقٍ في نِعَمكَ سَهماً، وأنْتَ الَّذِي عَفْوهُ أعْلَى مِنْ عِقَابِهِ، وأنْتَ الَّذِي تَسْعَى رَحْمَتُهُ أمَامَ غَضَبِه، وأنْتَ الَّذِي عَطَاؤهُ أكْثَرُ مِنْ مَنْعِهِ، وأنْتَ الَّذِي اتَّسَعَ الخَلائِقُ كُلُّهُمْ في وُسْعِهِ، وأنْتَ الَّذِي لا يَرْغَبُ في جَزَاءِ مَنْ أعْطاهُ، وأنْتَ الَّذِي لاَ يُفرِّطُ في عِقَابِ مَنْ عَصَاه".
هذا وفي تعليقه على هذه الفقرة من الدّعاء، يقول سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"للذنب ـ يا إلهي ـ في حياتنا الشعورية معنى الرعب، في صورة المصير الهائل الذي يجرّنا إليه، الأمر الذي يبعث الصراخ في أعماقنا، بما يشبه الاستغاثة التي نطلقها إليك في قناعة عميقة أنّ رحمتك وحدها هي التي تستجيب لاستغاثتنا.
وللخوف منك في أجواء خطايانا لون الدّمع الذي تنتحب العين في كلّ قطرة من قطراته، من خلال الهول الكبير الذي يوحي به الخوف، ليكون النّحيب هو اللَّوعة التي نستدّر بها عطفك.
وللاضطرار الذي تهتزّ أمامه كل قضايانا، وتحاصرنا فيه كلّ مشاكلنا، سرّ اليقظة التي نتذكّر فيها ـ في ضغط الوعي ـ معنى إحسانك لعبادك في ساعات الشدّة، حيث تجيب للمضطرّ دعاه، وتكشف عنه السّوء، بكلّ لطفٍ ويسر، فنفزع إليك من خلاله، عندما نفزع إليه في وعي الذكر.
إننا قد نحسّ ـ يا إلهي ـ بالوحشة والغربة، في وحدتنا القاتلة في ظلام خطايانا الّذي يرهق نفوسنا.
وقد تطلّ علينا الكآبة من خلال الكرب النّفسي الذي يجتاح المشاعر، فيجعلنا نعيش في حالة من الشّرود الكئيب.
وقد نتعرّض للخذلان، أمام كلّ حالات التحدي التي تواجهنا في الداخل والخارج، فلا نجد هناك من ينصرنا، فترعبنا الوحدة في ساحة الصّراع المرير.
وقد نواجه الحاجة المتنوّعة التي نلتقي فيها بالرفض من كلّ الناس من حولنا، فيطردوننا من مجتمعهم، ويتعسّفون في إبعادنا من مكان إلى مكان، فكيف يكون الموقف؟
هل نستسلم للوحشة ونسمح للغربة بأن تُرهق حياتنا، لأن الناس من حولنا يرفضون أن يرفعوا عنا الإحساس بالوحشة والغربة؟ هل نعيش الكآبة التي تحولنا إلى حالةٍ إنسانيةٍ مشلولةٍ تجترّ آلامها بهدوء؟ أو نستسلم للكرب الذي يثقل عمرنا بالحزن؟ مسألة العقاب لديك ليست كما هي في الإنسان مسألة ثأر الذّات، ولأنَّ قضيّة الغضب عندك، ليست كما هي في الإنسان، قضية انفعال سلبيّ بالإساءة، ولكنها ـ هنا وهناك ـ مرتبطة بالحكمة التي تراقب الإنسان في كل مجالاته الظاهرة والباطنة، وفي كل نقاط ضعفه، وفي كلّ إمكانات تحوّله من الشّرّ إلى الخير، ومن الإساءة إلى الإحسان، ومن المعصية إلى الطّاعة، فترحم مواضع ضعفه، وتلاحق كلّ مجالاته، وتمنحه الفرصة تلو الفرصة للتراجع والتّصحيح، وللسّير في خطّ الاستقامة بدلاً من خط الانحراف في نهاية المطاف".[كتاب آفاق الرّوح/ج 1 ص، 283-287].
إنّ الله تعالى يدعونا إليه ألا نبتعد عنه بخطايانا وذنوبنا، بل أن نكون مصداقاً حياً لعباده الطائعين الملتزمين حدوده، والعاملين بهدايته، والسالكين دروب الحقّ، المواجهين للباطل والظّلم والجهل، الكادحين لعمل الخيرات، المتنافسين لخدمة عيال الله بما يرضيه، المستأنسين بذكر الله، المترجمين لذكره عملاً في الواقع يبرز كلّ قيمة للإنسان المؤمن بالله، والتائب والمخلص له في كلّ الظّروف والأحوال، فليس لنا في دنيانا إلا رحمة الله وفضله والعودة النّاصحة إليه.
فلنحسن خطواتنا ومواقفنا وحركتنا بالحياة، بما يؤهّلنا لنكون من أهل عفو الله ورحمته.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.