اِعلم أنّ أول شروط مجاهدة النفس والسير باتجاه الحقّ تعالى، هو «التفكر»، وقد وضعه بعض علماء الأخلاق في بدايات الدرجة الخامسة، وهذا ـ التصنيف ـ صحيح أيضاً في محله.
فصل في التفكّر
والتفكّر في هذا المقام، هو أن يفكر الإنسان بعض الوقت في أن مولاه الذي خلقه في هذه الدنيا، وهيّأ له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً، وقوى سالمة، لكلّ واحدة منها منافع تحيّر ألباب الجميع، ورعاه، وهيأ له كل هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة. ومن جهة أخرى، أرسل جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كل هذه الكتب «الرسالات»، وأرشد ودعا إلى الهدى.. فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟!. هل إن وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات، أم أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟
هل إن للأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كل أمة، الذين يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع، ويحذرونهم من الشهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداء ضدّ الناس أم أنهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!.
إن الإنسان إذا فكّر للحظة واحدة، عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأن الغاية من هذا الخلق، أسمى وأعظم وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحد ذاتها، وأن على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه، وأن يترحم على حاله ونفسه المسكينة؛ ويخاطبها: أيتها النفس الشقية التي قضيت سنين عمرك الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، واستحي من مالك الملوك، وسيري قليلاً في طريق الهدف الأساسي المؤدي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيام قليلة فانية، التي لا تتحصل حتى مع الصعوبات المضنية الشاقة. فكّري قليلاً في أحوال أهل الدنيا والسابقين، وتأملي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر وأكثر بالنسبة إلى هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأي شخص.
ذلك الذي يكون في صورة الإنسان، ولكنه من جنود الشيطان وأعوانه، والذي يدعوك إلى الشهوات، ويقول: يجب ضمان الحياة المادية، تأمل قليلاً في حال نفس ذلك الإنسان واستنطقه، وانظر هل هو راض عن ظروفه، أم أنه مبتل ويريد أن يبلي مسكينا آخر؟
وعلى أيّ حال؛ فادع ربك بعجز وتضرع أن يعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يهديك هذا التفكير ـ المقترن بنية مجاهدة الشيطان والنفس الأمّارة ـ إلى طريق آخر، وتوفق للترقي إلى منزلة أخرى من منازل المجاهدة.
فصل في العزم
وهناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاهد بعد التفكر، وهو مقام العزم (وهذا هو غير الإرادة التي عدها الشيخ الرئيس في الإشارات أولى درجات العارفين). يقول أحد مشايخنا (أطال الله عمره): "إن العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وإن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".
والعزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطن الإنسان نفسه ويتخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيام حياته، وبالتالي، أن يعمل على أن يجعل من ظاهره إنسانا عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل ـ بحسب الظاهر ـ بأن هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي هو الذي ينظّم سلوكه وفق ما يتطلبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر الرّسول الأكرم(ص)، وأن يقتدي بالنبي العظيم(ص) ويتأسى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر ممكن، لأنّ جعل الظاهر مثل هذا القائد، أمر مقدور لأيّ فرد من عباد الله.
واعلم أن طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة، وتتكشف العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمرّ أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعية الظاهرية.
ومن هنا، نعرف بطلان دعوى من يقول : (إن الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر)، أو (أنه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهرية). وهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانيّة. ولعلي أكون ـ إن شاء الله تعالى ـ موفقاً لبيان بعض هذا الأمر في هذه الأوراق.
فصل في السعي للحصول على العزم
أيها العزيز.. اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم ـ على ترك المحرمات ـ فأنت إنسان صوري، بلا لبّ، ولن تحشر في ذلك العالم (عالم الآخرة) على هيئة الإنسان، لأنّ ذلك العالم هو محلّ كشف الباطن وظهور السريرة. وإن التجرؤ على المعاصي، يفقد الإنسان تدريجيّاً العزم، ويختطف منه هذا الجوهر الشريف. يقول الأستاذ المعظّم دام ظله: "إنَّ أكثر ما يسبّب فقد الإنسان العزم والإرادة، هو الاستماع إلى الغناء".
إذاً ؛ تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانياً، وادخل في سلك أرباب الشّرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات أن يكون معك في الطريق لهذا الهدف، واستشفع برسول الله(ص) وأهل بيته، حتى يفيض ربك عليك التوفيق، ويمسك بيدك في المزاليق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنّه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتمّ بانقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشّافعين. نعوذ بالله منها.
فصل في المشارطة والمراقبة والمحاسبة
ومن الأمور الضروريّة للمجاهد: «المشارطة والمراقبة والمحاسبة». فالمشارط هو الذي يشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أي عمل يخالف أوامر الله، ويتخذ قراراً بذلك، ويعزم عليه. وواضح ان ترك ما يخالف اوامر الله، ليوم واحد، امر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بيسر ان يلتزم به. فاعزم وشارط وجرب، وانظر كيف ان الامر سهل يسير.
ومن الممكن ان يصور لك ابليس اللعين وجنده، أن الامر صعب وعسير. فادرك أن هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنه قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام من قلبك، وجرب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدق هذا الامر.
وبعد هذه المشارطة، عليك أن تنتقل إلى «المراقبة»، وكيفيتها هي أن تنتبه طوال مدة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت. وإذا حصل ـ لا سمح الله ـ حديث لنفسك، بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أن ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عما اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرهم، وأخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: «إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم ـ وهو يوم واحد ـ بأي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد، لما أدّيت حقّ واحدة منها. وعليه، فليس من اللائق ان لا افي بشرط بسيط كهذا»، وآمل ـ ان شاء الله ـ ان ينصرف الشيطان، ويبتعد عنك، وينتصر جنود الرحمن.
والمراقبة لا تتعارض مع اي من اعمالك، كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال الى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة.
واما «المحاسبة»، فهي ان تحاسب نفسك لترى هل أديت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه المعاملة الجزئية؟ اذا كنت قد وفّيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق، وان شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدم في امور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمامول ان يتحول الى ملكة فيك، بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة اليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحس عندها باللذّة والانس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالم بالذّات، في حين أن هذا العالم ليس هو عالم الجزاء، لكن الجزاء الالهي يؤثر ويجعلك مستمتعاً وملتذاً ـ بطاعتك الله وابتعادك عن المعصية ـ.
واعلم ان الله لم يكلفك ما يشقّ عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكنّ الشيطان وجنده يصورون لك الامر وكانه شاق وصعب.
واذا حدث ـ لا سمح الله ـ في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله، واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذه الحال، كي يفتح الله تعالى امامك ابواب التوفيق والسعادة، ويوصلك الى الصراط المستقيم للإنسانيّة.
*من كتاب "الأربعون حديثاً" للإمام السيد روح الله الموسوي الخميني(رض).