من أدعية الصحيفة السجاديّة للإمام زين العابدين(ع): "وَنَعُوذُ بِكَ من شَمَاتةِ الأعْدَاءِ، وَمِنَ الفَقْرِ إلى الأكْفَاءِ، وَمِنْ مَعِيشَةٍ فِي شِدّةٍ، وَمِيتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مَنَ الْحَسْرَةِ وَالمُصِيبةِ الْكُبْرَى"...
* * *
نعوذ بالله من شماتة الأعداء:
هناك مشكلة نفسيّة انفعاليّة يعيشها الناس في حياتهم الشعوريّة، عندما يواجهون المشاكل المعقَّدة التي تعقّد حياتهم، فتثير في داخلها الكثير من الأوضاع القلقة المتعبة، أو عندما تحلّ بهم المصائب، فتملأ مشاعرهم بالآلام والأحزان، وتترك أمورهم في قبضة الاهتزاز أو السقوط، أو عندما يتنوّع البلاء في مواقع حياتهم، فيواجهون الكثير من الجهد والعناء والخوف والمرض والجوع والعطش والنّقص في الأموال والأنفس والثّمرات.
وفي هذا الجوّ المشبع بالدّماء والدّموع والآهات والأنّات والحسرات، قد يقف بعض النّاس المعقَّدين الحاقدين، ليتطلّعوا إلى أولئك الناس الذين يعانون ذلك كله، ممن يحملون لهم العداوة والبغضاء، ويحسّون نحوهم بالحقد والضّغينة، فيكون ردّ فعلهم هو الشّماتة...
وقد لا تقتصر المسألة على النّاس الذين يضمرون العداء لبعضهم البعض، بل قد تتمثّل في الشّيطان الذي حدَّثنا القرآن عن عداوته للإنسان، من خلال حقده على آدم الَّذي خلقه سبباً في الجوّ الّذي أدّى إلى خروجه من دائرة رحمة الله وطرده من الجنّة. ولذلك، فإنه قد عزم على أن يقعد للإنسان في الدروب التي تؤدّي إلى الله، ليضع الحواجز النفسية والعاطفية والعملية التي تحول بينه وبين التحرك في اتجاه الله من أجل الحصول على مرضاته، لينفّس عن عقدته بإخراجه من خطّ الطاعة إلى خطّ المعصية، ليدفع به بعيداً عن الجنّة قريباً إلى النار، وذلك هو قوله تعالى:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر/6).
وقوله تعالى حاكياً عن خطّة الشّيطان في إضلال الناس وإبعادهم عن الله، وشماتته بهم في نهاية المطاف: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف/16-17].
وقد جاء في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في الصّحيفة السجاديّة: "اللّهمّ إنّ الشّيطان قد شمت بنا إذ شايعناه على معصيتك، فَصَلِّعَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، ولا تشمته بنا بعد تركنا إيَّاه لك، ورغبتنا عنه إليك". وبذلك، فإنَّ الإنسان المؤمن يقف أمام شماتة إبليس به في معصيته لله، ومن خلال نجاحه في خطَّته التي تبعده عن الله .اللَّهمَّ إنّنا نعوذ بك من كلّ مواقع البلاء التي تؤدّي إلى فرح الأعداء بآلامنا وأحزاننا، كما نعوذ بك من كلّ مواقع العصيان التي تجعل الشيطان فرحاً جذلاناً مما نعيشه من البعد عن مواقع رضاك.
ونتوسّل إليك أن تملأ عقولنا بالنور، وقلوبنا بالطمأنينة، وحياتنا بالقوة، لنعرف كيف نواجه قضايانا بالفرح الروحي الكبير الذي لا يسقط أمام شماتة الشامتين وفرح الحاقدين.
* * *
وَمِنَ الفَقْرِ إلى الأكْفَاءِ:
قد يتحمّل الإنسان الفقر كمشكلة صعبةٍ في حياته من خلال تأثيرها في أوضاعه في حركة حاجاته، ولكنّ الفقر إلى أقرانه وأمثاله الّذين يتحركون في واقعه، ويقفون في مستواه من حيث الدرجة الاجتماعيّة، قد يزيد المسألة صعوبةً، ويعمّق الأثر السلبيّ في النّفس...
إنَّ مشكلة هذا الإنسان الذي يفتقر إلى مثله، هي أنَّ فقره يحقّق للإنسان المماثل فرصة التلذّذ بالاستعلاء عليه، والاحتقار له، والتلهّي بمفردات حاجته، ما يجعل الاضطهاد الروحي الذي يعيشه أمام هذه الحالة المعقَّدة، أكثر تأثيراً من الاضطهاد المادّي الذي يعيشه أمام حاجته الذاتية...
اللّهمّ إننا نتوسّل إليك أن تمنحنا الغنى الذي يحمينا من السّقوط أمام اللّئام، فلا تجعل لنا إلى لئيم حاجة، لأنّك تريد لعبادك الصالحين أن يكونوا الأعزاء في أنفسهم من خلال عزّة الإيمان في حياتهم، ونعوذ بك ـ من خلال ذلك ـ من الفقر الذي يهدر كرامتنا، ولا سيّما الفقر إلى أمثالنا وأقراننا ممن لا يعيشون السموّ الروحي في علاقتهم بنا وبالمستضعفين في الأرض، فلا يحترمون كرامتهم في احترام إنسانيّتهم وفي الابتعاد عن النظرة الفوقيّة الاستعلائيّة التي ترى في الغنى امتيازاً وقيمة، وفي الفقر سقوطاً وانحطاطاً.
***
وَمِنْ مَعِيشَةٍ فِي شِدّةٍ:
افتح لنا ـ يا ربّ ـ أبواب الرخاء لنعيش حياتنا في راحة النفس وطمأنينة البال، لأنّ مشكلة الضّيق في العيش أنها تملأ العقل بالهمّ، وتثير الحزن في القلب، فتشغلنا عن القيام بمسؤوليّاتنا التي حمّلتنا إياها في كلّ جوانب حياتنا الفكريّة والعمليّة، وتوزّع اهتماماتنا في المفردات الصّغيرة، وتبتعد بها عن القضايا الكبيرة...
إننا نعوذ بك ـ يا ربّ ـ من العيش المثقل بالشدّة، المليء بالقسوة، لأنّنا نريد التفرغ لعبادتك، والتحرك في خطّ طاعتك، والسير إليك بقوة وسرعةٍ وانطلاق من أوسع الآفاق، وأسهل الدروب.
* * *
وَمِيتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ:
لقد قدّرت لنا الموت كنهايةٍ حتميةٍ لحياتنا، وجعلت له أجلاً محدوداً لا يتقدم ولا يتأخر، ولكنك أخفيته عنا، ما جعلنا ننتظره في كل وقت، وطلبت إلينا أن نستعدّ له بالدراسة الدائمة لأعمالنا من حيث الكم والكيف، لنستزيد من الحسنات، ولنتخفف من السيئات، ليكون الموت مؤنسنا الذي نأنس به، ومألفنا الّذي نشتاق إليه، وذلك من خلال ما نلقاه بعد الموت من رضوانك ولطفك ورحمتك في جنّة النعيم التي أعددتها لعبادك المتّقين، الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
غير أنّا ـ يا ربّنا ـ قد نغفل فننسى الموت وننسى الاستعداد لما بعده، فيفاجئنا على غير استعداد، فنلتقي بك في الدار الآخرة من خلاله، من دون تهيئةٍ وإعداد، فنستحقّ عقابك لما أسلفناه من الذنوب، ولما أغفلناه من التوبة .اللهم اجعلنا من الواعين لمسؤولياتنا أمامك في مسألة الحياة والموت، لنفكّر دائماً بأن نكون في مواقع رضاك، وفي رحاب رضوانك، وأبعدنا عن الأمل الطويل الذي قد نعيش فيه خيالات الخلود وأوهام البقاء من دون أساس، وجنّبنا اللّقاء بالموت من دون استعداد، وأبعد عنا موت الفجأة، ووفّقنا للقدوم عليك من موقعٍ ثابت يتحرك فيه العمل الصّالح نحو رضاك، وتنطلق التوبة من أجل النجاة من سخطك يا رب العالمين.
* * *
وَنَعُوذُ بِكَ مَنَ الْحَسْرَةِ وَالمُصِيبةِ الْكُبْرَى:
قد نعيش الحسرة في حياتنا على ماضٍ اجتزناه، وعشنا فيه الفرص الكثيرة المتنوّعة التي تحمل الكثير من تحقيق الرغبات الذاتيّة، مما يرتبط بحياتنا المعنويّة والماديّة، وتفسح المجال للنجاحات الكبيرة التي تحقق طموحاتنا وترفع درجاتنا، فنندب حظّنا على ما فرّطنا به، ونلوم أنفسنا على ما قصّرنا فيه.
ولكنّنا عندما ندرس المسألة بعمق، فقد نجد أنَّ من الممكن التعويض عن ذلك، باغتنام الفرص المماثلة في حاضرنا، أو بتهيئة الأجواء للفرص الجديدة في مستقبلنا، للوصول إلى ما لم نستطع الوصول إليه، أو للحصول على ما قصّرنا في الحصول عليه، وبذلك ينطلق الحاضر ليضمِّد جراح الماضي، وليتحرّك المستقبل ليعوّض خسارة الحاضر، وهكذا قد نواجه المصائب التي تصيبنا في أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأحبابنا وأرزاقنا وحاجاتنا، فنتألم لذلك، ونعيش الحزن الكبير الذي يستنـزف الدّموع من عيوننا، ويثير المشاعر في قلوبنا.
ولكنّ الحياة تمتدّ فتنسينا المصائب، وتفتح لنا النوافذ على عالمٍ جديدٍ من الفرح، ومجالات واسعة من الحركة، وفرص متنوعةٍ من مواقع السّرور، فنفرح بعد طول حزن، ونضحك بعد طول بكاء...
ولكنّ المشكلة في الحسرة العظمى التي تتصاعد فيها الآهات، عندما يطلّ الإنسان على ساحة القيامة، فيرى الصالحين المتّقين الذين عاشوا حياتهم إيماناً وخيراً وبركةً للناس من حولهم وللحياة كلها، وتحركوا فيها في اتجاه السموّ الرّوحي، والانفتاح الأخلاقي، والاستقامة العمليّة، وانطلقوا في مواقع رضى الله حتى حصلوا على رضوانه، وصاروا أهلاً لدخول جنته.
وهناك يتذكر أنه كان يملك أكثر من فرصةٍ للخير والعمل الصالح، وللقرب من الله، لكنه أهمل هذه الفرص، وعاش في الحياة الهزل بدلاً من الجدّ، والباطل بدلاً من الحق، والشرّ عوضاً عن الخير، حتى ابتعد عن خطّ الاستقامة في رضوان الله إلى الانحراف في سخطه، وها هو يواجه عذابه في نار جنهم.
ومما يزيد حسرته، أنه كان واثقاً ـ من موقع الغفلة ـ بأنّه على صواب، وأن الآخرين على خطأ، وأنّ أعماله في دائرة الصلاح، بينما تقع أعمال الناس المؤمنين في دائرة الفساد... وهذا ما تحدّث عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ}(الزمر/56).
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.(البقرة/167).
أمّا المصيبة الكبرى، فهي المصيبة بالدّين التي تؤدّي بالإنسان إلى خسارة الدنيا والآخرة، كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وقد سُئل: أيّ المصائب أشدّ؟ قال: "المصيبة بالدّين"، وذلك من خلال نتائجها السلبيّة على الإنسان في مصيره على جميع المستويات.
اللّهمّ إننا نعوذ بك من السحرة العظمى والمصيبة الكبرى، فهب لنا الوعي والفكر الروحي والعملي الذي نستطيع به الحصول على تحريك كلّ فرص العمر في اتجاه الفلاح في الدنيا والآخرة، وتوجيه كلّ طاقاتنا في المجالات التي تزيدنا قرباً منك ومحبّة لك وشوقاً إليك، فلا نشعر بحسرة على أيّ تفريط، ولا نحسّ بأيّة مصيبةٍ في أيّ موقع يا ربّ العالمين.
*من كتاب "آفاق الرّوح"، ج 1، ص 195- 200.