إنّ الله تكفّل للإنسان بالاستجابة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. أيضاً، نحن نقرأ في الخطبة
الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "دعاؤكم فيه مستجاب". ويسأل البعض:
لماذا لم يستجب الله، فأنا دعوت: اللّهم ارزقني ولداً، فلم يأتِ! اللّهم اقضِ ديني،
ولكن بقي ديني على حاله! اللّهم اصرف عنّي كيد فلان، ولم يحدث! اللّهم انصرنا على
القوم الكافرين ولم يستجب! إذاً، كيف يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}؟ فما هي
حقيقة الأمر؟
من شروط الدّعاء
بعض الأحاديث تقول إنّ للدعاء شروطاً؛ وقد رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قصّةٌ تقول: "إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل قد دعا الله أن يرزقه غلاماً، يدعو
ثلاثاً وثلاثين سنة، فلمّا رأى أنّ الله تعالى لا يجيبه، قال: يا ربّ، أبعيدٌ أنا
منك فلا تسمع منّي، أم قريب أنتَ فلا تجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: إنّك
تدعو الله بلسان بذيء، وقلب غلِق (عات) غير نقي، وبنية غير صادقة. فأقلع عن بذائك،
وليتّق اللهَ قلبُك، ولتحسنْ نيّتك، قال: ففعل الرّجل ذلك، فدعا الله عزّ وجلّ،
فوُلِد له غلامٌ".
إنّ ذلك يحتاج إلى عملية إصلاح؛ ولذا، فما كان من هذا الرجل، إلّا أن أصلح لسانه،
فنظّفه من كلّ الكلمات البذيئة، وأصلح قلبه، وجعل التقوى في داخله، وصدق فيه نيّته،
فاستجاب الله له دعاءه ـــ كما يقول الحديث ـــ بعد عشرين سنة.
من خلال هذا الحديث، نفهم أنَّ لاستجابة الدعاء شروطاً، فقد لا يستجيب الله دعاءنا،
لأنّ المنطلق الذي انطلق منه الدعاء لا يصلح لأن يرتفع إلى الله، كأن تقدّم لشخص
طعاماً لذيذاً من ألذّ ما يكون، بصحن من أوسخ ما يكون، بطبيعة الحال يرفضه.
تصوّر أنّك قدّمت أكلة لذيذة لأحد الأشخاص، لكن في الصحن الذي قدّمت له الطعام فيه،
ديدان وحشرات وقذارات وأوساخ؛ فما رأيك؟ هل يتقبّلها ويعتبرها هديّة؟ وهكذا الدعاء:
اللّسان هو الصحن الذي يرتفع منه الدعاء، وإذا كان اللّسان مليئاً بالحشرات ـــ
والكلمات البذيئة هي حشرات، والكلمات البذيئة والفاحشة سباب وشتائم وما أشبه ذلك
ـــ فكيف تضعه في هذا الصحن، الصحن اللّساني تضع فيه دعاء الله سبحانه وتعالى.
طهارة القلب:
ثمّ إنّ الدّعاء ينطلق من القلب قبل اللّسان، وإذا لم يكن في قلبك تقوى، فإنَّ
الدعاء ينطلق من قلبٍ فاسق، ومن قلبٍ حاقد.
عندما تبعث شيئاً إلى الفضاء، ألا تحتاج إلى قوّة دافعة لتدفعه؟ فإذا لم يكن هناك
قوّة قلب تدفع الدعاء، ولم تكن هناك قوّة لسان، فكيف سيصعد؟ وهكذا، فالنيّة هي التي
تهيّئ جوّ الدعاء.
لماذا تتأخّر الاستجابة؟:
وهناك جوانب أخرى لعدم استجابة الدعاء، هي أنَّ الله لا يرى لك مصلحة في ذلك. فمثلاً،
حينما يدعو إنسان على إنسان وهو يكرهه، لا يعني أنّ الله سيستجيب دعاءه، لأنّه لو
استجاب كلّ دعاء، لأهلك الناس جميعاً.
ثمّ إنّنا قد نطلب أمراً شخصيّاً من الله عزّ وجلّ، ولكنّ الطلب قد يكون ضدّ
المصلحة العامة، كأن تدعو الله لحصول أمر في غير الصالح العام.
والله منظّم الكون وفق قوانين، وهناك الكثير من الأدعية المطلوب فيها ما يغاير
القوانين الكونية، مثلاً قوانين الكون تفرض وضعاً معيّناً، وأنتَ تطلب ما هو ضدّ
قوانين الكون، فالله لا يخرّب قوانين الكون من أجلك، لأنّ بعض القضايا الخاصة لا بدّ
من أن تسقط أمام القضايا العامة.
وقد تتناقض الطلبات، مثل قصّة هذا الشخص الذي كان عنده بنتان، فزوَّج واحدة لفلاح،
وواحدة لفخّاري يصنع الفخار، ذهب إلى زوجة الفلاح يسأل عن حالها، فقالت له: الحمد
لله، إنَّنا قد زرعنا الأرض، فادعُ الله لينزلَ لنا المطر لكي ترتويَ الأرض وتخرج
الثّمار بشكلٍ جيّد. ثم ذهب لزوجة الفخّاري، فقالت له: الحمد لله، صنعنا الكثير من
الفخَّار، فادعُ الله أن تصفى السماء حتى يجفّ الفخّار، فتحيَّر الوالد في أمره كيف
يدعو؟ إذا دعا الله أن ينزل المطر أضرّ الفخّاري، وإذا دعا الله أن يحبس المطر أضرّ
بالفلاح.. فترك الأمر لتدبير الله سبحانه وتعالى.
وهناك بعض الناس يتمنّى على الله سبحانه وتعالى أن يرزقه ولداً ذكراً، وقد يرزقه
الله بنتاً، فيستاء ويغضب، ويقول كيف لم يستجب الله تعالى دعائي، وقد تأتيه بنت في
المرة الأولى والثانية والثالثة.
هنالك شخص رزقه الله بالبنات، فرآه شخص آخر مستاءً مع أنّه شخص مؤمن. قال له: لو أنَّ
الله قال لك قبل أن تولد ابنتك: هل تختار لنفسك أو أنا أختار لك، فماذا تقول؟ فقال
له: أقول: يا ربِّ، أنتَ ربّي وأعلم بمصلحتي، فاختر لي أنتَ. قال: فإنَّ الله قد
اختار لك، فاقبل ما اختاره الله لك، فقد تكون هناك مصلحة في هذا الموضوع.
هناك كثير من الطلبات قد لا تكون فيها مصلحة شخصية للإنسان على مستوى النتائج، وإنْ
كانت فيها مصلحة على مستوى البدايات.. قد تكون بعض الطلبات مضرّة بالناس الآخرين،
والله، الرحمن الرحيم، لا يقبل أن يضرّ إنساناً من أجل مزاج إنسان آخر، وقد تكون
بعض طلباتك الشخصية تختلف عن القانون العام الذي تريده البشرية، فالله لا يدمّر
مصلحة البشرية من أجلك.
الله على كلّ شيء قدير، ولكن ليس معناه أن يلغيَ القوانين ويخلق قوانينَ جديدةً،
وليس معناه أن يخلق لكلّ إنسان قانوناً. فبعض الحالات ليس نقصاً في قدرة الله، ولكن
باعتبار أنَّ كلّ ما في الحياة محدود، فعندما تريد أن تفتح من جانب، يجب أن تسدّ
الجانب الآخر، فالحياة ليس مطلقة، قدرة الله لا تحدّ، ولكن ما تتعلّق به القدرة
محدود.
هنالك شخص جاء للإمام الصادق (عليه السلام) قال له: هل يستطيع ربّك أن يدخل الدنيا
في بيضة، فلا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة؟ فهل هذا ممكن، لأنّكم تقولون إنَّ الله
على كلّ شيءٍ قدير؟ قال: إنّ الله على كلّ شيءٍ قدير، انظر بعينيك إلى الكون ماذا
ترى؟ قال له: أرى سماءً وأرضاً وجبالاً وناساً... إلخ. قال له: الله الذي قدر أن
يجمع صور كلّ هذه الأشياء هو على كلّ شيءٍ قدير، ولكن هذا لا يكون؛ فالعجز في
المقدور. هناك أشياء ليست فيها قابليّة، فعندما تقول: أنا مهندس، وعندي قدرة على أنْ
أبني ناطحة سحاب على أبدع ما يكون، وأنتَ تقول له: أنا عندي خمسة سنتمرات، وأريد أن
أعمّر عليها ناطحة سحاب، يقول لك: لا أقدر على ذلك؛ ليس ذلك نقصاً في قدرته
الهندسية، بل نقص في المقدور، الخمسة سنتمرات ليس فيها قابلية لتبنيَ عليها شيئاً،
فهذا يسمّونه عجزاً في المقدور، لا عجزاً في القادر.
ليس معنى ذلك أنّ الله لا يقدر، ولكنّ الله حكيم، قادر من حيث هو حكيم، ومن حيث هو
رحيم، ولذا لا بدّ من أن تتحرّك قدرته في خطّ رحمته وفي خطّ حكمته.
عدم الاستجابة ليس عقاباً:
هذا هو الذي نفهمه من الدعاء؛ إنّك إذا لم يُستجب دعاؤك، فعليك أن لا تعتبر أنَّ
الله عاقبك، وأنَّ الله لم يرحمك، ولكن فكّر: إن ما لم يستجب الله لك فيه، قد يكون
لمصلحة، "فإنْ أبْطَأَ عنّي عتبتُ بجهلي عليك، ولعلَّ الذي أبطَأَ عنّي هو خيرٌ لي،
لِعِلْمِكَ بعاقبةِ الأمور". وفي القرآن: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً
وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير} {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ}.
ولذلك، فالأشياء لا تعرف من بداياتها، ولا تعرف من ظواهرها، ومن ثمَّ، يجب أن لا
يستعجل الإنسان في الحكم على الأشياء، ولا يستعجل حسم الأشياء؛ فمثلاً، قد تحدث بعض
الأمور في الحياة الزوجية، رجل وامرأة يتزوّجان فيواجهان المشاكل، فيعتبران هذا
شرّاً، ويستعجلان حسم أمر الطّلاق، مع أنّهما لو صبرا، ودرسا، وواجها القضايا من
جميع جهاتها، لاكتشفا أنّ ما هو شرّ قد يختزن في داخله الخير.
ليس كلّ ما تحبّ خيراً، وليس كلّ ما تكره شرّاً. ومن هنا، يحتاج الإنسان، دائماً
إلى أن يفكّر في المسائل تفكيراً دقيقاً وعميقاً، وتفكيراً يربط الحاضر بالمستقبل.
وكم من أمور استعجلنا حسمها من خلال بعض السلبيات التي تحقَّقت، ثمّ ندمنا على ذلك،
لأنّنا رأينا أنَّ هناك إيجابيات مستقبلية لم تنكشف إلّا بعد ذلك؟
تدبّر عاقبة الأمور:
وهنالك نقطة يجب أن نفكّر فيها: في الحياة كلّها ليس هنالك خير مطلق ولا شرٌّ مطلق؛
الخير يختزن بعض الشرّ ولكن بنسبة قليلة، والشرّ يختزن بعض الخير. حتى قضيّة الحلال
والحرام: هل يعقل أن يكون في ما يحرّمه الله خير؟!
الله يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. إذاً، لماذا حرّمهما الله إذا كانت فيها منافع؟
لأنّ {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَ}.
يجب أن لا يستعجل الإنسان حسم الأمور لمجرّد أنّه يلتقي بسلبياتها، ولا يستعجل أيضاً
الدخول في الأمور لمجرّد أنّه يواجه إيجابياتها، بل عليه أن يدرس عواقب الأمور، كما
ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك الشخص الذي طلب منه أن يوصيه،
وكرّر طلبه ثلاث مرّات، فقال له: "إذا أنتَ هممتَ بأمر فتدبَّر عاقبته، فإنْ يكُ
رشداً فامضه، وإنْ يكُ غيّاً فامتنع". ادرس الأمور من خلال نتائجها، ولا تدرسها من
خلال مقدّماتها، ففي هذا خير كثير.
*من كتاب "في رحاب دعاء الافتتاح"، ص 96-101.