الحلم وكظم الغيظ، وهما: ضبط النّفس إزاء مثيرات الغصب، وهما من أشرف السّجايا،
وأعزّ الخصال، ودليلا سموّ النّفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودّة والإعزاز، وقد مدَح
الله الحُلَماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في مُحكَم كتابه الكريم، فقال تعالى:
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان: ٦٣]، وقال تعالى: {وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ}[فصّلت:].وقال تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ
النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران: 34 – 35]. وعلى هذا النسق،
جاءت توجيهات أهل البيت (عليهم السلام): قال الباقر (عليه السلام): "إنّ اللّه عزَّ
وجلّ يحبّ الحييّ الحليم".
وسمع أمير المؤمنين ((عليه السلام)) رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أنْ يردَّ
عليه، فناداه أمير المؤمنين ((عليه السلام)): "مهلاً يا قنبر، دع شاتمك، مُهاناً
تُرضي الرّحمن، وتُسخِط الشّيطان، وتُعاقب عدوّك، فوالذي فلَق الحبّة وبرأ النسمة،
ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخَط الشيطان بمثل الصّمت، ولا عُوقِب الأحمق
بمثل السكوت عنه". وقال (عليه السلام): "أوّل عِوض الحليم مِن حلمه، أنَّ الناس
أنصاره على الجاهل".
وقال الصّادق (عليه السلام): "ما مِن عبدٍ كظم غيظاً، إلاّ زاده الله عزَّ وجلّ
عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزَّ وجلّ: {والكاظمين الغيظَ والعافين عن
النّاسِ واللهُ يحبُّ المحسنين}، وأثابه مكانه غيظه ذلك". وقال الإمام موسى بن جعفر
(عليه السلام): "اصبر على أعداء النعم، فإنّك لنْ تُكافئ مَن عصى الله فيك، بأفضل
مِن أنْ تُطيع الله فيه".
وأحضَر (عليه السلام) وِلده يوماً، فقال لهم: "يا بَنِيّ، إنّي موصيكم بوصيَّةٍ،
فمَن حفظها لم يضِع معها، إنْ أتاكم آتٍ، فأَسمَعكم في الأذن اليُمنى مكروهاً، ثُم
تحوّل إلى الأذن اليُسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً، فاقبلوا عذره".
وقد يحسب السفهاء أنّ الحلم من دلائل الضّعف، ودواعي الهوان، ولكنّ العقلاء يرونه
من سمات النّبل، وسموّ الخُلُق، ودواعي العزّة والكرامة.
فكلّما عظُم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه عن مجاراة السّفهاء في جهالتهم
وطيشهم، معتصماً بالحِلم وكرم الإغضاء، وحُسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار
والثّناء، كما قيل:
وذي سفه يخاطبني بجهلٍ فآنف أنْ أكون له مُجيب
يَزيد سفاهةً وأزيد حِلماً كعودٍ زاده الإحراق طيب
ويقال: إنَّ رجلاً شتَم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك، فقال: "لا أدخل
حرباً الغالب فيها أشرّ مِن المغلوب".
ومِن أروع ما نظمه الشّعراء في مدح الحِلم، ما رواه الإمام الرضا (عليه السلام)،
حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحِلم، فقال (عليه السلام) :
إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهله أبَيت لنفسي أنْ تُقابل بالجهل
وإنْ كان مثلي في محلّي مِن النّهى أخذْت بحلمي كي أجلّ عن المثل
وإنْ كنت أدنى منه في الفضل والحِجى عرفت له حقّ التقدّم والفضل
فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَن قاله؟ فقال: "بعض فتياننا". ولقد كان الرسول
الأعظم (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الطاهرون من أهل بيته، المثل الأعلى في
الحِلم، وجميل الصّفح، وحسن التّجاوز. وقد زجَزت أسفار السّيَر والمناقب، بالفيض
الغمر منها. وإليك نموذجاً من ذلك:
قال الباقر (عليه السلام): "إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتى باليهوديّة
التي سمّت الشاة للنبيّ، فقال لها: ما حمَلَك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إنْ كان
نبيّاً لم يضرّه، وإنْ كان ملَكاً أرحت النّاس منه، فعفا رسول الله عنها". وعفا (صلّى
الله عليه وآله) عن جماعةٍ كثيرة، بعد أنْ أباح دمهم، وأمر بقتلهم، منهم: هبّار
بن الأسود بن المطّلب، وهو الّذي روّع زينب بنت رسول الله، فألقت ذا بطنها، فأباح
رسول الله دمه لذلك، فروي أنّه اعتذر إلى النبيّ (صلّىالله عليه وآله) من سوء
فعله، وقال: وكنّا يا نبيّ الله أهلَ شِرك، فهدانا الله بك، وأنقذنا بك من الهلَكة،
فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عنّي، فإنّي مقرٌّ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي. فقال (صلّى
الله عليه وآله): قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام،
والإسلام يجبُّ ما قبله.
ومنهم: عبد الله بن الرّبعرى، وكان يهجو النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بمكّة،
ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح، ثمّ رجع إلى رسول الله واعتذر، فقبِل (صلّى الله
عليه وآله) عذره.
ومنهم: وحشي قاتل حمزة سلام الله عليه، روي أنّه أسلم، قال له النبيّ: "أَوحشيّ؟"،
قال: نعم. قال: "أخبرني كيف قتلت عمّي؟"، فأخبره، فبكى (صلّى الله عليه وآله)
وقال: "غيّب وجهك عنّي".
وهكذا كان أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أحلَم الناس وأصفحهم عن المُسيء: ظفر
بعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهُم ألدّ أعدائه،
والمؤلّبين عليه، فعفا عنهم، ولم يتعقّبهم بسوء.
وظفَر بعمرو بن العاص، وهو أخطَر عليه مِن جيش ذي عدّة، فأعرض عنه، وتركه ينجو
بحياته، حين كشف عن سوأَته اتّقاءً لضربته.
وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفّين، وهُم يقولون له ولا قطرة حتَّى
تموت عطشاً، فلمّا حمل عليهم، وأجلاهم عنه، سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.
وزار السيّدة عائشة بعد وقعة الجمل، وودّعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالاً،
وأرسل معها مَن يخدمها ويحفّ بها.
وكان الحسن بن عليّ (عليه السلام) على سرّ أبيه وجدّه (صلوات الله عليهم أجمعين)،
فمن حلمه، ما رواه المبرّد، وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً، فجعل يلعنه،
والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ، أقبل الحسن (عليه السلام) فسلّم عليه، وضحك، فقال: "أيّها
الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك،
ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإنْ كنت جائعاً أشبعناك، وإنْ كنت
عرياناً كسوناك، وإنْ كنت محتاجاً أغنيناك، وإنْ كنت طريداً آويناك، وإنْ كان لك
حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعوَد
عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً". فلمّا سمِع الرّجل
كلامه بكى، ثُمَّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلَم حيث يجعل رسالته،
وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليَّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ، وحوَّل رحله
إليه، وكان ضيفه إلى أنْ ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم.
وهكذا كان الحسين بن عليّ (عليهما السّلام): جنى غلام للحسين (عليه السلام) جنايةً
تُوجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرَب، فقال: يا مولاي، والكاظمين الغيظ. قال: "خلّوا
عنه". قال: يا مولاي، والعافين عن النّاس. قال: "قد عفوت عنك". قال: "والله يحبُّ
المحسنين"، قال: "أنت حرٌّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك".
وإنّي استقرأت سيرة أهل البيت (عليهم السلام)، فوجدتها نمطاً فريداً، ومثلاً عالياً،
في دنيا السّيَر والأخلاق: من ذلك، ما قصّه الرواة مِن حِلم الإمام زين العابدين (عليه
السلام)، فقد كان عنده أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنّور، فأقبَل به
الخادم مسرعاً، فسقَط منه على رأس بُنيّ لعليّ بن الحسين (عليه السلام) تحت الدّرجة،
فأصاب رأسه فقتله، فقال عليّ للغلام، وقد تحيّر الغلام واضطرب: أنت حرّ، فإنّك لم
تتعمَّده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.
ولُقّب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (بالكاظم) لوفرة حلمه، وتجرّعه الغيظ في
مرضاة الله تعالى.
يُحدِّث الراوي عن ذلك، فيقول: كان في المدينة رجلٌ مِن أولاد بعض الصّحابة يُؤذي
أبا الحسن موسى (عليه السلام) ويسبّه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته
يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر.
فنهاهم عن ذلك أشدّ النّهي، وزجرهم، وسأل عنه، فذُكر أنّه يزرع بناحية مِن نواحي
المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعةٍ له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به لا توطئ
زرعنا، فوطأها (عليه السلام) بالحمار حتّى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه،
وقال له: "كم غرمت على زرعك هذا؟"، قال: مِئة دينار. قال: "فكم ترجو أنْ تصيب؟"،
قال: لست أعلم الغيب. قال له: "إنّما قلت كم ترجو أنْ يجيئك فيه". قال: أرجو أنْ
يجيء مِئتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرّة فيها ثلاثمِئة دينار، وقال: "هذا
زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو". قال: فقام الرّجل فقبّل رأسه، وسأله أنْ
يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف.
قال: وراح إلى المسجد، فوجد الرجل جالساً، فلمّا نظر إليه، قال: الله أعلم حيث يجعل
رسالته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيّتك؟! قد كنت تقول غير هذا. قال: فقال
لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن (عليه السلام)، فخاصموه وخاصمهم،
فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجُلسائه الّذين سألوه في قتله: "أيُّما كان
خيراً، ما أردتم أم ما أردت، إنّني أصلَحتُ أمره بالمقدار الّذي عرفتم وكُفيت شرّه".
وقد أحسن الفرزدق حيثُ يقول في مدحهم:
من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم كفرٌ وقُربهم منجًى ومعتصَمُ
إنْ عُدَّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم أو قيل مَن خيرُ أهل الأرضِ قيل هُمُ
*من كتاب "أخلاق أهل البيت".