[من دُعاء الإمام زين العابدين (ع) إذا استقالَ من ذنوبه، أو تضرَّعَ في طلبِ
العفو عن عيوبه]
"فَمَنْ أجْهَلُ مِنّي برُشْدِهِ، وَمَنْ أغْفَلُ مِنّي عَنْ حظّهِ، وَمَنْ أبْعَدُ
منّي من اسْتِصلاَحِ نَفْسِه، حِينَ أُنْفقُ مَا أجْريْتَ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ
فيما نَهيْتني عَنْهُ مِنْ مَعْصِيتك، ومَنْ أبْعَدُ غَوْراً في البَاطِل، وأَشَدُّ
إقْداماً عَلَى السُّوء مِنّي، حِينَ أقِفُ بَيْنَ دَعْوَتِكَ وَدَعْوَةِ
الشَّيْطانِ، فَأتَّبِعُ دَعْوَتَهُ عَلَى غَيْر عَمَىً مِنّي في مَعْرفةٍ بِهِ،
وَلاَ نِسْيَانٍ مِنْ حفْظِي لَهُ، وأنَا حِينَئذٍ مُوقِنٌ بِأنَّ مُنْتَهَى
دَعْوَتِكَ إلى الجَنَّة وَمُنْتَهى دَعْوَتِهِ إلى النَّارِ؟
سُبْحَانَكَ! مَا أعْجبَ مَا أشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسي، وَأعَدِّدُهُ مِنْ
مَكْتُومِ أمري، وأعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أنَاتُكَ عَنّي، وإبطاؤكَ عَنْ مُعَاجَلَتي،
ولَيْسَ ذَلكَ مِنْ كَرَمي عَلَيْكَ، بَلْ تأنِّياً مِنْكَ لي، وتَفضُّلاً مِنْكَ
عَليَّ لأنْ أرْتَدِعَ عَنْ مَعْصِيَتكَ المُسْخِطَةِ، وأقْلعَ عَنْ سَيِّئاتي
المُخلِقَةِ، وَلأنَّ عَفوكَ عنّي أحَبُّ إليكَ مِنْ عُقُوبَتي".
إنّ مشكلتي ـ ومشكلة الخاطئين أمثالي ـ هي أنّ الجهل يسيطر عليَّ في أعمالي وأقوالي،
لا الجهل الذي يتضمّن الاعتقاد بخلاف الحقّ لفقدان وضوح الرؤيا، وصفاء المعرفة فيه،
ولكنّه الجهل الذي يلتقي مع السّفه في فعل ما لا ينبغي فعله، والسّير في الطريق
التي تؤدّي إلى الضلال، من خلال ضغط النّوازع النفسيّة السلبيّة عليّ، مع العلم
بالخطأ، وهذا الّذي يبتعد بالإنسان عن خطّ الرّشد الذي يفقد معه سلامة المصير.
وربما كانت المسألة لديَّ، أنّ الغفلة التي تجعلني أستغرق في غيبوبة، تدفعني بعيداً
عن وعي الأمور المتّصلة بالنتائج الطيّبة، مما يحصل عليه الإنسان من الحظّ السّعيد
في الحياة، فتمنعني عن تذكر الحقائق في غمرة الذهول، أو تقودني إلى الإعراض عنها
والإهمال لها، وقد تكون الخطورة، كلّ الخطورة، أنك تغدق عليّ النّعم من كلّ لون،
وتفيض عليّ من رزقك من كلّ شيء، وتوحي إليّ بأن أشكر نعمك باستعمالها بما يصلح أمر
دنياي وآخرتي مما يقرّبني إليك، وأن أتحسّس فضلك في رزقك، فأحركه في المشاريع التي
هي موضع رضاك، ولكنّني - بدلاً من ذلك - أستعين بنعمك على معاصيك، وأنفق رزقك في ما
حرمته عليّ مما يسخطك ويؤدي إلى غضبك، فأبتعد عن إصلاح نفسي، بالوسائل التي وضعتها
بين يدي في هذا الاتجاه، وتلك هي الطامّة الكبرى التي تجعلني في موقع الكافر
بالنعمة، كما جاء في كلمة الإمام علي أمير المؤمنين (ع): "أقلّ ما يلزمكم لله ألا
تستعينوا بنعمه على معاصيه".
وماذا بعد ذلك؟ إنها مشكلة هدى النفس الأمّارة بالسوء، حين تقودني إلى السير في عمق
الباطل، وتدفعني إلى شدّة الإقدام على السوء، فأبقى أتخبّط في ظلمة الباطل في
الأعمال، وأسقط في مواقع السوء البعيدة المدى في خطّ الضّلال، وذلك عندما أقف بين
دعوتك لي إلى خطّ الإيمان والعمل الصالح الذي يرفع إنسانيتنا، ويقوّي روحيتنا،
ويوجّه خطواتنا في الاتجاه السليم، وبين دعوة الشيطان إلى خطّ الكفر والضلال، الذي
يبعد إنسانيّتنا عن روحية الصفاء، ويوجهها نحو الأنانية واللّهو والعبث والفجور،
ويدمّر فينا عنصر الخير، ويبني للشر قواعده الفكرية والعملية في داخل ذواتنا.
وهكذا كان الاختيار الحرّ الذي تختزنه شخصيّتنا، ويمنحنا الحرّية في الوقوف هنا أو
هناك، وكانت المفاجأة أنّنا اتبعنا دعوة الشّيطان، وتركنا دعوتك تحت ضغط الأطماع
والشّهوات، مع كلّ الوعي الفكري الذي كنّا نملك فيه وضوح الرّؤية في طبيعة الشيطان
في ذاته، وفي حبائله وخدعه وأمانيّه وغرروه ومصائده ووساوسه، فإننا، في كلّ يوم،
نتعوّذ من الشيطان الرّجيم، ولكن المعرفة شيء والممارسة العمليّة شيء آخر، لأن
الواقع ليس مجرد فكرةٍ ليقتنع بها العقل، بل هو إلى جانب ذلك، إرادة واعية تحرك
الإنسان نحو الانسجام بين الفكر والعمل…
وهكذا ينحرف بنا الطّريق إلى دعوته بعيداً من دعوتك، ونحن نعلم أن منتهى دعوتك إلى
الجنّة، فقد دعوتنا إلى دار السّلام في قولك في كتابك: {والله يدعو إلى دار السلام}
[يونس: 25]، وأن منتهى دعوته إلى النّار، وذلك هو ما حذرتنا منه في كتابك في قولك
سبحانك: {إنّ الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير}[فاطر: 6].
إنّ مشكلة الكثيرين من النّاس أنهم قد يكونون كالفراشة التي تهجم على النّار، فتلقي
نفسها في داخلها لتحترق فيها بفعل الغفلة أو النـّزوة أو النسيان.
إنّ هذه المواقف مني أو مجمل تلك الأمور، يجعل مني الأجهل عن رشده، والأغفل عن حظّه،
والأبعد عن استصلاح نفسه، والأعمق في الوقوع في الباطل، فكيف تكون صورتي في حسابات
المصير؟!
هذه شهادتي التي أقدّمها بين يديك على نفسي، وهذا هو تقريري الذي أعددته لتعداد كلّ
الأسرار الخبيثة في داخلي، فما أعجب هذا الموقف!
والأعجب من ذلك، أنك لا تعاجلني بالعقوبة، ولا تسرع بي إلى الهلكة، بل تصفح عني
وتمهلني وتمدّ لي المجال، وتمنحني أكثر من فرصةٍ للرجوع، لا لأنّ بي كرامة عليك
تفتح لي هذا الامتياز الكبير، ولكن، لأنّك المطّلع عليّ في نقاط ضعفي التي تقودني
إلى معصيتك، والعارف بأنّ الذّكرى قد تفتح لي أبواب الوعي، وأنّ الوعي قد يمنحني
قوّة الإرادة، وأنّ الإرادة قد تضغط على الواقع الذي أتقلّب فيه، لأرجع إنساناً
طيباً صالحاً مخلصاً لربّه، مطيعاً له في أوامره ونواهيه، فأستبدل بها طاعتك التي
تحقّق لي محبتك، وأقلع عن سيئاتي التي تُخلق وجهي وتذهب نضارته، وهكذا تكون أناتك
عني وإبطاؤك عن معاجلتي، وسيلة تربوية لإعطاء الفرصة للتأمّل من أجل تصحيح المسار
من جديد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن سنّتك العفو، وطريقتك الإفضال، ورحمتك وسعت
كلّ شيء، ما يجعل العفو الّذي يعيد عبدك إليك، أحبّ إليك من عقوبته التي قد تؤدّي
به إلى الازدياد في الدّخول في أجواء الشيطان.
*من كتاب "آفاق الرّوح"، ج1.