[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق:]
"اللّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَلا أُظْلَمَنَّ وأنْتَ مُطِيقٌ للدّفْعِ عنّي، ولا أظلِمَنَّ وأنْتَ القادِرُ علَى القبْضِ منّي...".
يا ربّ، منك القوَّة، وبك الاستعانة، ومنك المددُ، وأنت المهيمن على الوجود كلّه، والقادر على تغيير الأمور من حالٍ إلى حال، والقاهر لعبادك في ما يتحركون به من طاقاتهم، وما يفيضون به من خطواتهم، وما ينطلقون به من أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، وما يعيشون فيه من فقرهم وغناهم وتوازنهم وطغيانهم، وظلمهم وعدلهم وكلّ أوضاعهم، فأنت الّذي تملك من نفسي ما لا أملكه منها، وتملك من النّاس من حولي ما لا يملكونه من أنفسهم، وتسيطر على الأشياء بقدرتك التي تتصرّف فيها بحكمة تقديرك، ودقّة تدبيرك.
فلا أشعر بالسقوط وأنت الذي يتوجّه إليه الناس في مواقع الاهتزاز، ولا أخشى الضّغوط وأنت القادر على التّخفيف عن خلقك كلّ الأثقال التي تُثقل حياتهم، ولا أخاف الانحراف من نفسي في ضلالها أو طغيانها وظلمها للآخرين، وأنت القابض على كلّ قدراتي وحركاتي ومقدّراتي، وأنا - هنا - الخاضع لك، الخاشع بين يديك، المتوسّل بك، المستغيث بك في نقاط ضعفي التي تقودني إلى الانحراف عن خطّك، أو تسلّمني إلى بلائك، أو تضعفني تحت تأثير قسوة خلقك.
يا ربّ، قد تتعاظم القوّة عند بعض عبادك، وينحرف الإحساس الإنساني لديهم عن خطّ العدل، وتتحرّك نوازعهم الذاتية ومصالحهم الخاصّة لتضغط على مواقع ضعفي الّتي قد تسقط أمام قوتّهم، فيظلمونني في إنسانيّتي التي يعملون على الإساءة إليها بوحشيّتهم الساحقة، وفي حقوقي العامّة والخاصّة لديهم، فيبتعدون عن مواقعها ومصادرها ومواردها، في عملية تعنيف واضطهاد، ويظلمونني في تصرفاتهم وأحكامهم، فيضغطون على مصالحي لخدمة مصالحهم، في استغلالٍ منحرفٍ لفقدان التّوازن بين قوّتهم الطاغية وضعفي الشّديد، فلا أملك سبيلاً لدفعهم عنّي، ولا للنجاة منهم. ولكنّي - مع ذلك - لا أشعر باليأس أو بالسّقوط أمامهم، بل أتطلّع إلى قوّتك وقدرتك ولطفك ورحمتك، فأحسّ بالأمن في ذلك كلّه، لأنّني أعرف أنّك الربّ القوي الذي يدفع عن عباده المستضعفين، فينقذهم من ظلم الظالمين، وطغيان المستكبرين، في حالات الشدّة والضّيق والبلاء..
اللّهم وقد تجمح نفسي إلى البغي والعدوان على الآخرين من الضّعفاء الأبرياء، وذلك في حالات استشعاري القوّة الذاتيّة التي تمكّنني من السيطرة عليهم، والتعدّي على حقوقهم، وإسقاط مواقعهم، والضّغط على مواقفهم، فأكلّفهم بما لا يطيقون، وأكرههم على ما لا يحبّون، وأحكم عليهم بغير العدل، وأظلمهم في ما ليس لي بحقّ، وأستضعفهم في أفكارهم وأعمالهم وعلاقاتهم، فيشعرون أمامي شعور الضّعيف الذي لا يملك الدفاع عن نفسه أمام القويّ المعتدي، وفي ذلك الظّلم الكبير الذي نهيت عبادك عنه، وحذّرتهم من نتائجه القاسية على مستوى الدنيا والآخرة، وأنذرتهم بأنّه يقود إلى غضبك الذي يسقط أمامه المخلوقون.
اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك أن تقبض على يدي التي تمتدّ إلى الناس بالعدوان، وأن تقمع إرادتي التي تتحرّك نحو الضّغط على إرادة الآخرين، وأن تبعثر خطواتي التي تسير في الطّريق الذي يؤدّي إلى مواقع الظّلم في الحياة، وأن تمسك لساني عن النّطق بالكلمات الباغية والأحكام الظالمة، وأن تضعف قوّتي عن العمل على إسقاط قوّة الآخرين، فإنّك القادر عليّ بما لا أملك فيه القدرة على نفسي، والمالك لحركتي الداخليّة والخارجيّة في تحريك إرادتي وأعضائي في الاتجاه الذي تريده، ومنعها من التحرّك في ما لا تريده.
اللّهم اجعلني ممن يرفض الظّلم من نفسه ضدّ الناس، كما يرفض الظلم من الناس ضده، من خلال رفض المبدأ من حيث الأساس، لأكون الإنسان الذي يؤمن بالعدل في كلّ مواقعه في حياته وحياة الآخرين، ليحمي الناس من نزوات البغي في ذاته، كما يحمي نفسه من نزواتهم الباغية، حتى ينطلق العدل في الوجود الإنساني بكلّ شمولية وامتداد.
*من كتاب "في رحاب دعاء مكارم الأخلاق".