نحبّه في عقولنا، ونحبّه في قلوبنا، ونحبّه في كلّ حركتنا في الحياة، عندما ينطلق صوتٌ للظّلم لنقف في مواجهته، وعندما يتحرَّك تيَّارٌ للباطل لنقف في مواجهته.. نحبّه، ولا نملك إلَّا أن نحبَّه.
عشقُ الحسين (ع)
وعندما نتحدَّث عن هذا العشق العقليّ والرّوحيّ والحركيّ للحسين (ع)، فإنَّنا نأخذ الحسين كلَّه، ولا نأخذ بعضًا منه، كما أخذ البعض من الحسين عنصر المأساة، وتركوا كلَّ العناصر الأخرى، وأخذ البعض منه عنصر الثَّورة وتركوا العناصر الأخرى، وانفتح البعض على شخصيَّته وهو يبتهل إلى الله في دعائه في عرفة، والكلّ لم يفهموه، لأنَّ الحسين (ع) كان رسالة تجمع كلَّ العناصر الَّتي انفتحت على الله وعلى الإنسان من خلال الله..
كان الحسين (ع) روحانيَّةً تنفتح على الله، وقيمة روحانيَّة الإسلام، أيُّها الأحبَّة، أنَّها لا تبتعد بالإنسان عن الحياة.. كلَّما انطلق الإنسان روحانيًّا أكثر، محبًّا لله أكثر، مبتهلاً لله أكثر، كان قريبًا إلى النَّاس أكثر، وقريبًا إلى الحياة أكثر.
"الخلق كلّهم عيال الله"، عندما تحبّ الله، فأنت لا تملك إلَّا أن تحبَّ عياله، وعيال الله هم كلّ خلق الله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي خلقهم، وهو الَّذي رزقهم، وهو الَّذي رعاهم، وهو الَّذي يتعهَّدهم، من آمن به ومن لم يؤمن به، "يا من يعطي من سأله تحنّنًا منه ورحمة، ويبتدئ بالخير من لم يسأله تفضّلاً منه وكرمًا"(1)، "الخلق كلُّهم عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله، ومن أدخل على قلب سرورًا"(2).
قد تنفع عيال الله بكلمة حقّ تدخلها في عقولهم إذا رأيت أنَّ الباطل يعشّش فيها، وقد تنفعهم بكلمة حبّ تدخلها في قلوبهم عندما تجد البغضاء تزحف إليها، وقد تنفعهم عندما تملك علمًا تملأ به عقولهم ليرتفعوا به في كلّ واقعهم، وهكذا قد تنفع عباد الله عندما تتحرَّك لترعى حياتهم، ولتحتضن آلامهم، ولتنفتح على أحلامهم، ولتشعرهم بالمعنى الإنسانيّ الَّذي يشدُّك إليهم، لأنَّ الإنسان كلَّما كان مؤمنًا أكثر، انفتح على النَّاس أكثر، كما كان رسول الله (ص) الَّذي قال الله سبحانه عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128].
إنسانيَّةُ الحسين (ع)
وننفتح على إنسانيَّة الحسين (ع) في كربلاء، عندما كان يقف المرَّة تلو الأخرى، ليذكّر، وليعظ، وليجتذب الآخرين إلى الحوار معه، ثمَّ يبكي، وسئل فيما تقول السّيرة الحسينيَّة: لماذا تبكي؟ قال: أبكي على هؤلاء الَّذين جاؤوا يقاتلونني، والَّذين جاؤوا يذبحونني ويذبحون أطفالي ويسبون نسائي، أبكي على هؤلاء أن يعذّبهم الله لأنَّهم تجرّؤوا عليَّ.
كم هي عظيمة، أيُّها الأحبَّة، هذه الإنسانيَّة الحسينيَّة الَّتي تجعل الحسين (ع) يسمو ويترفَّع عن كلّ حقد وعداوة وبغضاء؛ إنَّه يرحم أعداءه، يرحمهم في انحرافهم، ويرحمهم في كلّ خطّ الضَّلال الَّذي يسيرون عليه.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، خطٌّ حسينيٌّ علويٌّ رسوليٌّ قرآنيٌّ لا بدَّ أن نتعلَّمه؛ فإذا أردت أن تحقد على الكافر، فليكن حقدك على كفر عقله، ولكن حاول أن تحبَّ إنسانيَّته، لتنطلق هذه الإنسانيَّة لتساعدك على أن تعظهم أكثر وتهديهم أكثر، لأنَّك عندما تحقد على الآخرين، فلن تستطيع أن تدخل كلماتك إلى قلوبهم؛ إنَّ الكلمة إنَّما تدخل قلب الآخر، عندما تكون مغسولة بكلّ معنى الحبّ في قلبك. لا بدَّ أن تطلق كلمتك مع الآخر على أساس أن تكون كلمة حبّ يستشعرها في قلبه، وعندما تستطيع أن تربح قلوب النَّاس، فإنَّك تستطيع أن تربح عقولهم. إنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه، فإذا استطعنا أن نربح قلوب النَّاس بالمحبَّة، استطعنا أن نربح عقولهم بالكلمة القويَّة.
بينَ العاطفةِ والرّسالة
أيُّها الأحبَّة، نحن نحبّه، وهو سيّد شباب أهل الجنَّة، وهو سبط رسول الله، وهو إمام مفترض الطَّاعة، وهو المبتهل إلى الله، وهو الثَّائر، وهو الإنسان الَّذي يذوب عاطفة وحنانًا وحبًّا للآخرين.
لذلك، أن نتذكّره، أن نبكيه، أن نعيش الحزن عليه، أن نستشعر أنَّه جزء منَّا. لقد كفَّ الحسين (ع) عن أن يكون مجرَّد ثائر في التَّاريخ، ومجرَّد إمام نقدّسه، لقد أصبح جزءًا منَّا؛ جزءًا من عقلنا، جزءًا من عاطفتنا، جزءًا من كلّ ما نعيشه.
إنَّنا لا نستطيع حتَّى في وجداننا، بعيدًا من كلّ الشّعر الحزين، وبعيدًا من كلّ الأطوار الملحَّنة، نحن لا نملك إلَّا أن نذوب في هذا الحبّ للحسين، لأنَّ الحسين فرض نفسه علينا. نحن لم نتكلَّف حبَّه، ولم ننطلق من أجل أن نقنع أنفسنا بحبّه، وإنَّني أجد أنَّ أفضل شاعر عبَّر عن هذه العفويَّة الروحيَّة للحسين في قلوب كلّ النَّاس الَّذين عاشوا الحسين في وجدانهم، هو ذلك الشَّاعر الَّذي يقول:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة |
لكنَّما عيني لأجلك باكية |
أن تشعر بأنَّ عينك انفتحت على العاطفة من دون أن تكلّف نفسك ذلك.
ولهذا، فنحن، أيُّها الأحبَّة، لا نحتاج إلى أن يتعاطف النَّاس مع الحسين (ع) وأن يبكوه، إلَّا أن نعرّفهم من هو الحسين؛ أن يعرفوه ويتمثَّلوه، أن يعيش في وجدانهم، وأن يكون عقلهم، وهذا ما نلاحظ أنَّ القليل من النَّاس يتقنونه.
لذلك، علينا أن نأخذ الحسين بكلّه: عابدًا لله كأعظم ما تكون العبادة، إنسانًا محبًّا للنَّاس كأرقى ما يكون الحبّ، ثائرًا كأوعى ما تكون الثَّورة، صابرًا كأعظم ما يكون الصَّبر، منفتحًا على الواقع كلّه وعلى المستقبل كلّه.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، هناك دائرتان لا بدَّ لنا من أن نتحرَّك فيهما: دائرة الحسين المأساة؛ مأساته، ومأساة أهل بيته وأصحابه، هذه المأساة الَّتي عاشت مع التَّاريخ، وانطلقت معها الدّموع لتتحوَّل إلى أنهار من المشاعر والعواطف.
ونحن نؤكّد، أيُّها الأحبَّة، أن تبقى العاطفة تمدّ الخطّ الحسينيّ بكلّ عمقها، وبكلّ مشاعرها وأحاسيسها، ونرفض كلَّ دعوة تقول إنَّ علينا أن نعزل مسألة البكاء عن الحسين ومسألة التَّعبير العاطفيّ عنه، لأنَّ هذه المسألة هي مسألة لا تتَّصل بالماضي، ولكنَّها تتَّصل بالحاضر والمستقبل، لأنَّ الأمَّة الَّتي لا تتعاطف مع المأساة في التَّاريخ، ولا سيَّما إذا كانت المأساة مأساة الكبار، هي أمَّة لا تتعاطف مع مأساة الحاضر ومع مأساة المستقبل. ولهذا، فإنَّ الدّموع الَّتي انفجرت، وتحوَّلت إلى ينابيع شعوريَّة، وإلى أنهار عاطفيَّة، إنَّ هذه الدّموع هي الَّتي استطاعت أن تبقي هذا الخطَّ الحسينيَّ الَّذي يمثّل النّموذج الأكمل لحركة أهل البيت (ع)، إنَّ هذه الدّموع هي الَّتي أعطت كلّ هذا التاريخ في وجداننا شيئًا من الخضرة، وشيئًا من الحيويَّة، وشيئًا من الحركيَّة، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني (رض) عندما كان يشير إلى حركته المظفَّرة:
"إنَّ كلَّ ما عندنا من عاشوراء"، لأنَّ عاشوراء المأساة استطاعت أن تمنح كلَّ هذه الأجيال الكثير من الحيويَّة والرّوح.
ولذلك، نحن دائمًا نقول لا بدَّ للقضيَّة الحسينيَّة أن تبقى مغسولة بالعاطفة، ولكن عندما نتحرَّك من أجل إثارة كلّ ألوان التَّعبير عن العاطفة، فإنّ علينا أن نعقّل العاطفة، وأن نطوّرها، وأن نحضّرها، وأن ندرس في كلّ جيل من الأجيال وسائل التَّعبير الجديدة الَّتي يمكن أن تنفتح على مشاعر النَّاس وأحاسيسهم.
هذه دائرة، والدَّائرة الثَّانية هي دائرة الرّسالة. فالحسين (ع) لم يكن ثائرًا ينطلق لمواجهة بعض المشاكل السياسيَّة أو بعض المشاكل الاقتصاديَّة في مرحلته، بل كان (ع) ينطلق في ثورته من موقع إمامته، لأنَّ الحسين هو الشَّرعيَّة، هو الإمام المفترض الطَّاعة، ولذلك، فإنَّه انطلق تمامًا في الخطّ الَّذي انطلق به رسول الله (ص)، دعوةً وحركةً وانفتاحًا على كلّ قضايا النَّاس، وتخطيطًا للحاضر والمستقبل.
ولذلك، فإنَّ الحسين (ع) عندما تحدَّث، تحدَّث بمنطق الرّسالة، وعندما تحدَّث عن المعاني الإنسانيَّة للثَّورة، تحدَّث أيضًا عن الأساس الشَّرعيّ لها، عندما قال:
"لَا وَاللَّهِ، لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ لَكُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ"(3)، أو عندما قال:
"أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ، قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ"(4)، لم يقلها من حيث هي انفعال ذاتيّ، ولكنَّه قال:
"يَأْبَى اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"(5). لقد تحدَّث عن قضيَّة موقف العزَّة للمؤمن، ورفض موقف الذلّ له، من خلال الشَّرعيَّة الإسلاميَّة، ليقول للمؤمن إنَّه ليس من حقّك أن تذلَّ نفسك، لأنَّ قضيَّة العزَّة عندك هي قضيَّة تتَّصل بإيمانك وبموقفك من ربّك، وهذا ما عبَّر عنه الإمام جعفر الصَّادق (ع) عندما قال:
"إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا، وَلَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"(6).
معنى أن تكونَ مسلمًا
لذلك، أن تكون مسلمًا يساوي أن تكون عزيزًا، وأن تكون رافضًا للكفر وأهله، وللظّلم وأهله، وأن تكون ثائرًا في وجه كلّ استكبار، وفي وجه كلِّ محاولةٍ لإسقاط الإنسانيَّة في أيِّ موقعٍ من مواقعها..
أن تكون مسلمًا، ثمَّ تقول:
"مَا عَلَيْنَا إِنْ قَضَى الشَّعْبُ جَمِيعاً أَفَلَسْنًا في أَمَان"، أن تكون مسلمًا ولا تعيش اهتمامات المسلمين في العالم، وأن تكون جامدًا أمام كلّ القضايا الَّتي يتحرَّك فيها المستضعفون في العالم، فهذا أمرٌ يرفضه رسول الله (ص):
"مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ المُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"(7)،
"مَنْ سَمِعَ مُسْلِماً يُنَادِي يَا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِم". عندما تعيش اللّا اهتمام واللّا مبالاة واللّا مسؤوليَّة أمام كلّ قضايا المسلمين في العالم، فأنت لا تستطيع أن تعتبر نفسك عضوًا حيًّا من هذا الجسم الإسلاميّ، لأنَّ العضو الحيّ لا بدَّ أن يتفاعل مع بقيّة الأعضاء:
"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(8)، إلَّا أن تكون عضوًا مشلولاً، والعضو المشلول هو العضو الميت.
لا حياديَّةَ في الإسلام
لهذا، أيُّها الأحبَّة، هذه الدَّائرة الحسينيَّة تفرض علينا، أوَّلاً، أن نعيش الإسلام مسؤوليَّة، أن لا يكون الإسلام مجرَّد دين نحاصره في الزَّوايا المغلقة الَّتي نحاصر فيها أنفسنا، أن لا يكون مجرَّد انتماء تاريخيّ عاش عليه آباؤنا. أن تكون مسلمًا، تمامًا كما كان رسول الله (ص) مسلمًا:
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}[الزّمر: 12]، وكما كان عليّ (ع) مسلمًا. قد لا تستطيع أن تبلغ هذه القمّة، ولكن على الإنسان أن يتطلَّع دائمًا ليزحف نحوها، فلعلَّه يستطيع أن يقترب منها.
ثمَّ أن لا تكون حياديًّا أمام قضايا الصّراع، ولا حياديًّا بين الحقّ والباطل، وأمام قضايا الظّلم والعدل، وأمام المآسي الإنسانيَّة الَّتي يعيشها النَّاس. فإذا كنت لا تستطيع أن تتحرَّك في الواقع، فلا تكن حياديًّا في فكرك أمام هذه القضايا، كما قال الإمام عليّ (ع) عن هؤلاء الَّذين جلسوا على التَّلّ، لأنَّهم لم يريدوا أن يكونوا معه (ع)، ولا أن يكونوا مع معاوية، على أساس أنَّ ذلك ورعًا منهم، قال:
"خَذَلُوا الحَقَّ، وَلَمْ يَنْصُرُوا البَاطِلَ"(9)، والإنسان المؤمن التَّقيّ الورع لا يمكن أن يخذل الحقّ.. عندما ترى الحقّ يتعب ويُضطهَد ويُقتَل، فإنَّ الموقف الحياديَّ في مثل هذه الحالة، يعني أنَّك لست جادًّا في التزامك بالحقّ، وأنَّ عليك أن تعيد النَّظر في إيمانك، لأنَّه لا مجال للحياديّين.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الحياديّين هم الَّذين قتلوا عليًّا، وهم الَّذين خذلوا الحسن (ع)، وهم الَّذين قتلوا الحسين (ع). هؤلاء الَّذين أرادوا أن لا يكونوا في هذا الجانب ولا في ذلك الجانب، على أساس أنَّهم لا يريدون أن يتعبوا رؤوسهم، ولا يريدون أن يسيئوا إلى مصالحهم. إنَّ الحياديّين في التَّاريخ وفي الواقع، هم الَّذين يسقطون كلّ حقّ وكلّ عدل، لأنَّهم حتَّى لو لم يحاربوا الحقَّ ولم يدعموا الباطل، لكنَّهم نصروا الباطل بطريقة سلبيَّة، لأنَّهم بحياديّتهم يسلبون الحقّ قوَّة، فالباطل يحشد كلَّ قواه، والحقّ يحشد بعض القوَّة، وتنطلق الأكثريَّة لتكون الأكثرية الصَّامتة. هنا،
"السَّاكِتُ عَنِ الحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَس".
إذا لم تستطع أن تتحرَّك، قل الكلمة، وإذا لم تستطع أن تقول الكلمة، حاول أن تعبّر بكلّ عضلات وجهك عن رفضك لهذا الشَّيء. ومشكلة الحسين (ع) كانت مشكلة هؤلاء الحياديّين، ومشكلة الكثيرين من النَّاس في كلّ القضايا الَّتي يعيشها الإسلام المعاصر، هي هؤلاء الحياديّون، باعتبار أنَّهم عندما يواجهون الموقف، فإنهم ينظرون إلى مصالحهم قبل أن ينظروا إلى مبادئهم.
تحدّيات الواقع الإسلاميّ
ونحن، أيُّها الأحبَّة، في واقعنا الإسلاميّ الآن، نعيش تحديات كبرى على مستوى كل العالم الإسلامي. انظروا إلى كلّ العالم الإسلامي، فماذا ترون؟ إنَّ الاستكبار العالميّ، والكفر العالميّ، يتحركان في حلف استراتيجيّ من أجل أن يمنعا العالم الإسلاميَّ أن يكون قوّة سياسيَّة وقوَّة اقتصاديَّة. إنَّهم يتدخَّلون حتَّى في علاقاتنا الإسلاميَّة، وحتَّى في أوضاعنا المذهبيَّة. أتعرفون، أيُّها الأحبَّة، لماذا يعمل العاملون للوحدة الإسلاميَّة ويتحركون، فيواجهون جبالاً من المشاكل وجبالاً من التحدّيات؟ لأنَّ الاستكبار العالميّ يخاف من أن يتوحَّد المسلمون، ولا سيَّما إذا كانت الوحدة الإسلاميَّة وحدة عقلانيَّة، ووحدة واعية في المسألة السياسيَّة والاقتصادية والاجتماعية، لأنَّ العالم الإسلاميَّ يملك من الثَّروات في باطن الأرض وفي ظاهرها ما لا تملكه أية دولة في العالم.
إنَّنا عندما ندرس إمكانات الثَّروة في أمريكا، وإمكانات الثّروة في أوروبا وإمكانات الثَّروة في اليابان، فإنَّنا نجد أنَّهم لا يملكون من الموادّ الخام للثَّروة ما نملكه كمسلمين في العالم. ولذلك، فإنَّهم يعملون على أن لا يتوحَّد المسلمون في العالم. لا تعتبروا، أيُّها الأحبة، أنَّ الَّذين يثيرون المسائل المذهبيَّة بين المسلمين مجرّد أناس متخلّفين متعصّبين، إنَّ هناك خططًا للاستكبار العالميّ، نحن نعرفها، ونعرف كيف يستفيد من كلّ نقاط الضّعف، ومن كلّ أوضاع التخلّف الموجودة في العالم الإسلاميّ، من أجل أن يحركها حتَّى يفصل المسلمين بعضهم عن بعض.
لذلك، عندما ترى فتنة بين السنَّة والشيعة في أيّ بلد في العالم، في بلادنا العربيَّة، أو في الباكستان أو في الهند أو في أفغانستان أو في أيّ مكان آخر، فتّش عن أمريكا، وفتّش عن المخابرات المركزيَّة الموجودة، سواء كانت الأمريكيَّة أو المخابرات الأوروبيَّة، أو غيرها من أنواع المخابرات المتعاملة بها.
إنَّ هناك من يعملون على أن يثيروا المشاكل فيما بين المسلمين، ويمنعوا أيَّ صوت وحدويّ... وأنا ذكرت في أكثر من حديث لي عشرات المرَّات: ليس معنى الوحدة بين السنَّة والشّيعة عندما ندعو إليها، أن نقول للسنّيّ تعال وكن شيعيًّا بدون حوار، أو نقول للشّيعيّ تعال وكن سنيًّا بدون أساس، نحن نقول للسنَّة والشّيعة: كونوا مسلمين أوَّلاً، انطلقوا على أساس الإسلام، وانطلقوا مع قول الله:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59].
إنَّنا نقول: أيُّها المسلمون، تحاوروا فيما بينكم، لا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، لا يلعن بعضكم بعضًا، لا يقتل بعضكم بعضًا، لأنَّ الآخرين يعملون على أن يسقطوا كلَّ الإسلام، إنهم لا يريدون رأس السنَّة ورأس الشَّيعة. لاحظوا عندما انطلقت الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، كانوا يقولون للمسلمين الآخرين: إنَّها ثورة شيعيَّة، ولا علاقة لكم بها، وعندما حصلت الثَّورة في أفغانستان، كانوا يقولون: إنها ثورة سنيَّة، أيّها الشّيعة لا دخل لكم بذلك. لقد عملوا على أساس محاصرة كلّ الواقع الإسلاميّ؛ في إيران الآن، وفي أفغانستان، وفي الباكستان، وفي أي مكان آخر.
مشكلة المنطقة مع الصّهيونيّة
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نكون واعين لهذه المشكلة، وأن ندرك واقعنا في كلّ دولة، ولا سيّما واقع الشَّعب العراقيّ الَّذي يعيش الآن مأساةً كأعمق ما تكون المأساة، ومع ذلك، يحاول البعض من هنا ومن هناك، من خلال حركة المخابرات، إسقاط روحيَّة هذا الشَّعب بإثارة الخلافات الهامشيَّة بين أفراده. ونحن نعرف أنَّ الَّذين شُرِّدوا لم يكونوا فريقًا واحدًا، ولم يكونوا جماعةً واحدة، ولكنَّهم كانوا كلَّ صوت واعٍ يعيشه الإنسان في العراق.
وهكذا، عندما نواجه مشكلتنا في المنطقة، المشكلة المستمرّة منذ خمسين سنة، وهي مشكلة الصهيونيَّة المتحالفة مع أمريكا، والمتحالفة مع كلّ قوى الاستكبار العالميّ، هذه الَّتي شرَّدت شعبًا بكامله، وتعمل على أن تشرّد أكثر من منطقة محاذية لفلسطين، وتعمل على أساس أن تكون القوَّة الأولى الأقوى والأكبر في المنطقة العربيَّة، وعلى أساس أن تكون الدَّولة الَّتي تتدخّل اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا في كلّ مفاصلنا السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة.
إنَّنا عشنا هذه المشكلة ولا نزال نعيشها، فماذا نرى؟ إنَّنا نرى أنَّ هناك حروبًا سياسيَّة وعسكريَّة كما في الماضي، وحروبًا اقتصاديَّة بين بلد عربيّ وبلد عربيّ آخر، وأنَّ هناك حديثًا هنا وهناك كيف يلهث هذا البلد العربيّ نحو إسرائيل ليسجّل نقطة على بلد عربيّ آخر، وكيف يستقوي بلد عربيّ بإسرائيل حتَّى يتحرّك ضدّ بلد آخر، وكيف يستقوي بلد إسلامي، كتركيا، بإسرائيل من أجل أن يهاجم منطقة إسلاميَّة أخرى وما إلى ذلك. حتَّى الآن، نحن لا نعيش وعينا الإسلاميّ، ولا نعيش وعينا العربيّ في مواجهة هذا الأخطبوط الَّذي يحاول أن يدمّر كلَّ حضارتنا، ويحاول أن يأخذ بثارات خيبر وبني قريظة وبني النَّضير.
كربلاءُ المسلمين اليوم
أيُّها الأحبَّة، عندما تعيشون قضيَّة الإمام الحسين (ع) الَّتي هي النَّموذج الرائع الأكمل لروح الثَّورة ولحركة الثَّورة، فكّروا أنَّ الحسين (ع) والصَّفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، قاموا بمسؤوليَّتهم في مواجهة كلّ المشاكل الَّتي عاشت في مرحلتهم. مسألتنا هي أن نأخذ من تلك الثَّورة الروح الجديدة الَّتي يجب أن ننطلق بها، أن نأخذ من الثَّورة كيف يمكن لنا أن نواجه التحدّيات الجديدة. إنَّ التحدّيات الَّتي عاشها الإمام الحسين (ع) كانت تحدّيات في دائرة البلاد الإسلاميَّة، وكانت تعيش في نطاق ضيّق هو الحجم الَّذي كانت تأخذه المنطقة الإسلاميَّة آنذاك. أمَّا المشاكل الَّتي نعيشها الآن في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مواجهة الكفر العالميّ، فهي لا تقتصر على العالم الإسلاميّ، بل تمتدّ إلى كلّ بقاع الأرض الَّتي يعيش فيها أكثر من مليار مسلم.
نحن الآن نواجه في واقعنا مشكلة المسلمين والمستضعفين مع الاستكبار العالميّ. ولذلك، رأينا أنَّ الإمام الخميني (رض) كان الإنسان الواعي الَّذي طرح: "يا مسلمي العالم اتّحدوا"، وطرح: "يا مستضعفي العالم اتّحدوا".
لذلك، أتريدون أن تكونوا الحسينيّين؟ ليست المسألة في كميَّة الدّموع الَّتي تذرفونها، وإن كان للدّموع فضل، ولكنَّها في حجم المواقف الَّتي تقفونها، وفي حجم التحدّيات الَّتي تطلقونها وتواجهونها.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قضايانا الَّتي نواجهها، والَّتي تهزُّ الأرض تحت أقدامنا، هي القضايا الكبرى التي لا بدَّ للمسلمين أن يتَّحدوا لمواجهتها، ولا بدَّ للمستضعفين أن يتكاملوا لمواجهتها.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، نعتقد أنَّ هناك أكثر من كربلاء: هناك كربلاء عراقيَّة متحركة مع المجاهدين الَّذين لا يزالون يجاهدون في ظروف من أشدّ الظّروف صعوبةً؛ فهناك المجاهدون في أفغانستان الَّتي يتحرك كلّ الاستكبار العالميّ من أجل أن يسقطها، حتى لا تتحوَّل إلى دولة إسلاميّة رافضة للاستكبار العالمي، وهناك الواقع الصّهيونيّ الَّذي لا نزال نواجهه في هذه المرحلة، ولا سيَّما في هذه المرحلة الَّتي تحرَّك فيها الاستكبار الأمريكيّ الَّذي يسيطر على إدارته اليهود بنسبة ثمانين في المائة، وهكذا نلاحظ واقع الضّعف العربيّ والضعف الإسلاميّ، كما أنَّنا نواجه أيضًا الحصار الَّذي تواجهه إيران في كلّ أوضاعها من خلال الاستكبار الأمريكيّ.
مأزقُ الاحتلالِ في لبنان
إنَّ هناك أكثر من مشكلة لنا، فكيف نواجهها؟ إنَّ المجاهدين هنا وهناك، ولا سيَّما المجاهدين في لبنان، استطاعوا بإمكانات ضعيفة جدًّا، ولكن بإيمان قويّ جدًّا، هؤلاء الَّذين أن يخلقوا مأزقًا لإسرائيل في احتلالها. إنَّ إسرائيل في هذه الأيَّام، وبفعل ضربات المقاومة، تتحدَّث عن الانسحاب من لبنان من جانب واحد، وهي تفكّر كيف تحفظ ماء وجهها حتَّى تنسحب بكرامة، والمجاهدون يلاحقونها في كلّ مكان هناك، ويمنعونها من أن تستقرَّ في احتلالها. لقد استطاع المجاهدون في لبنان أن يحوّلوا الاحتلال إلى مأزق، مأزق أمنيّ في داخل لبنان، ومأزق سياسيّ في داخل فلسطين، حيث بدأت أمَّهات الجنود الصّهاينة يتظاهرن مطالبات بانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، لأنَّ هذا الجيش يخسر في كلّ يوم قتيلاً أو جريحًا أو ما إلى ذلك.
مواجهةُ الاستكبارِ والظّلم
أيُّها الأحبَّة، إنَّ كربلاء تقول لكم في هذه المرحلة الَّتي يطبق فيها الاستكبار العالميّ على كلّ الواقع الإسلاميّ وعلى كلّ الواقع العربيّ: حاولوا أن تتحركوا سياسيًّا لتحوّلوا كلّ بلد إلى مأزق للظَّالمين، حاولوا أن تتحركوا جهاديًّا لتحوّلوا كل بلد إلى مأزق للمحتلّين، حاولوا أن تكون لكم كلمتكم في كلّ القضايا، أن لا تعملوا على أساس أن تعطوا أفكاركم وآراءكم لحفنة من النَّاس لا تملك المسؤوليَّة، لتقولوا لهم: فكّروا لنا، احكموا لنا، حاولوا أن تتحركوا بنا.. لننطلق كشعب وأمَّة من أجل أن نواجه كلّ التحدّيات، وأن نعمل على أساس أن نحلّ مشاكلنا بأنفسنا.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الجميع يزرعون الأشواك في كلّ أرضنا، ولا نستطيع أن نزيل كلَّ تلك الأشواك إلَّا إذا حاولنا أن ننزعها بأيدينا، حتَّى لو تحوَّلت إلى دماء هنا وهناك، لأنَّها دماء الحريَّة. لن يقلّع لنا أحد أشواكنا، نحن الَّذين نقلّع أشواكنا السياسيَّة، وأشواكنا الاقتصاديَّة، وأشواكنا الاجتماعيَّة والأمنيَّة بأيدينا، بإرادتنا، بإيماننا، بإسلامنا، بإخلاصنا لربّنا ولأمَّتنا، بالسَّير على منهج الإسلام في خطّ أهل البيت (ع)، وهو الخطّ الَّذي بدأ من رسول الله، وينتهي إلى وليّ الله، عندما يظهر ليملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا.
والحمد لله ربّ العالمين.