عاشوراء
14/07/2025

دروسٌ وعِبَرٌ من وحيِ الوصيَّةِ الأخيرةِ للحُسَيْن (ع)

دروسٌ وعِبَرٌ من وحيِ الوصيَّةِ الأخيرةِ للحُسَيْن (ع)

كنَّا نتحدَّث أنَّ وحي نهضة الإمام الحسين (ع) في كلّ جيل، هو أن يحمل الجيل مسؤوليَّته في الخطوط الَّتي انطلقت مسيرة الحسين (ع) فيها.
والحسين (ع)، مهما حلَّل المحلِّلون، ودرس الدَّارسون، هو الإسلام في كلّ رحابة فكره، عقيدةً وشريعةً وأسلوباً وهدفاً. ليس للحسين (ع) قضيّة خاصَّة، ولا فكرٌ خاصّ، ولكن كانت المسألة أنَّ ظروفه فرضت عليه أسلوباً لم يكن لمن قبله، لأنَّ من قبله كان يعيش ظروفاً تختلف عن ظروفه، ومن الطَّبيعيّ أنَّ أيَّ خطّ من خطوط الفكر، لا بُدَّ أن يتحرَّك من خلال طبيعة الحاجات الزَّمنيَّة والمكانيَّة والإنسانيَّة والسياسيَّة الَّتي تختلف بين مرحلةٍ ومرحلةٍ أخرى.
ما نريده في هذا اللّقاء، أيُّها الأحبَّة، هو أن ندرس العناوين الَّتي انطلق فيها الحسين (ع)، من أجل أن يحقّقها في حركته تلك، وهذه كلُّها عناوين الإسلام.
ولعلَّ أفضل نصٍّ يطرحُ في العناوين الَّتي يعيشها كلُّ مسلمٍ في موقعه القياديّ، وفي مسؤوليَّته الحركيّة في كلِّ زمان ومكان، هو ما جاء في وصيَّة الحسين (ع) لأخيه محمَّد بن الحنفيّة قبل أن ينطلق بحركته، وهي وصيَّة كبقيَّة الوصايا الَّتي يكتبها المؤمنون عندما ينطلقون في رحلةٍ قد يشعرون فيها ببعض الأخطار.
الشَّهادةُ بالوحدانيَّة
يقول الإمام الحسين (ع)، كما روي في كتب السّيرة الحسينيَّة: "هٰذَا مَا أَوْصَى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِ الحَقِّ".
وقد أراد الحسين تأكيد ما هو مؤكّدٌ في كُلّ أسرار شخصيَّته، وهو الإخلاص لله تعالى بالوحدانيَّة، فلا يرى غير الله في كلّ تطلّعاته وأوضاعه، والإخلاص لمحمَّد (ص) بالرّسالة، باعتبار أنها المنهج الَّذي يسير عليه المؤمن، والّذي يدعو إليه غيره، ويتحرَّك في الحياة في كلّ نشاطاته الخاصَّة والعامَّة من خلاله.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، مما ينبغي لنا أن نستحضره، ولا سيَّما أنَّنا في كلّ يومٍ، عندما يصبح الصَّباح، أو يتوسَّط النَّهار، أو يمسي المساء، نسمع الأذان الَّذي يؤكّد الشَّهادتين بعد أن يؤكّد الحقيقة الإيمانيَّة، وهي أنَّ الله هو الأكبر والأعظم والأعلى وما إلى ذلك.
معنى التَّوحيد
ولا بدَّ لنا أن لا نمرَّ مرور الكرام على ما نسمعه أو نتلوه، لأنَّ هاتين الشَّهادتين اللَّتين جُعِلتَا عنوانَ إسلامِ المسلم، تمثّلان كلمتين يراد للمسلم أن يحركهما دائماً في وجدانه الفكريّ، وفي إحساسه العاطفيّ، وفي حركته في الحياة، لأنَّ المشكلة في المسلمين، أنَّ الكلمات الإيمانيَّة المضيئة المشرقة، تتجمَّد في نفوسهم، حين تتحوَّل إلى تقليدٍ من التقاليد، وعادةٍ من العادات، فلا تعود تعني لهم شيئاً.
ولذلك، فإنَّنا نشرك بالله غيره دون أن نلتفت إلى ذلك. ومن هنا، رأينا أنَّ كثيراً من الغلاة يتلون الشَّهادتين، ولكنَّهم لا يستغرقون في معناهما، في معنى التَّوحيد الخالص الَّذي يجعل المؤمن لا يرى أحداً أمامه إلَّا الله، فالله وحده هو الواحد في كلّ صفاته، فلا يجوز أن نعطي لأيّ مخلوقٍ، مهما علا، الأفق الرَّحب لصفات الله، لأنَّ الكلَّ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلَّا بالله.. ولأنَّ الكلّ مخلوقٌ ومربوب لله.. ولكن لأنَّنا لم نحرّك التَّوحيد في كلمة التَّوحيد، بل أطلقناها تماماً كما لم يكن لها أيّ معنىً، استغرقنا في الغلوّ، وخيِّل إلينا أنَّه لا ينافي التَّوحيد.
وهكذا - أيُّها الأحبة - لم نؤكّد معنى الرّسالة في التزامنا برسوليَّة رسول الله (ص)، ولذلك وصفنا أنفسنا بالمسلمين، وأخذنا بالكثير من المبادئ والتيَّارات والاتجاهات العلمانيَّة الَّتي قد يرتكز بعضها على الإلحاد العقيديّ، وقد يرتكز بعضها على الإلحاد الشَّرعيّ، وقد يرتكز بعضها على الإلحاد المنهجيّ، فأصبحنا مسلمين ننتمي إلى غير الإسلام، ونتبع غير رسول الله، ونهتف بأكثر من اسمٍ لا يلتقي بالرّسول، ونتبنَّاه ونتحزَّب له، وندافع عنه، ونقول إنّنا مسلمون.
لذلك، إنَّ الله تعالى فرض الشَّهادة بالوحدانيَّة، والشَّهادة بالرّسالة للرَّسول، وأراد أن تكون أذاناً يُؤَذَّنُ به خمس مرّات في اليوم - وإن اختصرناها إلى ثلاث مرات - وأراد للإنسان أن يعيشها في صلاته اليوميَّة. لماذا؟ حتّى يؤكّد عقيدته في كلّ وجدانه، ويذكر عقيدته في كلّ كيانه، ويذكّر نفسه أنَّ عليها أن تعيش في كلّ عناصر شخصيّتها في هذه العقيدة، حتّى لا يجرّه النَّاس إلى عقائد أخرى، فيتّبع غير رسول الله في غفلةٍ منه عن معنى الرّسول.
بينَ الإسلام والإيديولوجيا
وهنا يُطرح سؤال: هل من الممكن أن يقول الإنسان عن نفسه: أنا مسلمٌ أرثوذكسي؟ أو مسلمٌ كاثوليكي؟ طبعاً لا يمكن ذلك، أمّا نحن، فنقول عن بعضنا: مسلم ماركسي، أو مسلم قومي بالمعنى الإيديولوجي للقوميَّة، أو غيرها.. ولو درست الماركسيَّة، لرأيتها تُمثّل عقيدةً ترتكز على إنكار كلّ ما وراء الطَّبيعة؛ من الله إلى كلّ شيء، ومع ذلك، بعض النَّاس يقول: أنا مسلمٌ ماركسيّ.
ولو درسنا القوميَّة بمعناها الإنسانيّ وليس الإيديولوجيّ، لرأينا أنّها لا تنافي الإسلام، فقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، فالنّاس فيهم عرب وفيهم عجم، وحتّى عندما انطلق الإسلام، لم يشعر العرب بمشكلة بين العروبة والإسلام، لأنَّ العروبة إطار، والإسلام هو المضمون والصّورة في داخل الإطار، فهناك دوائر مفتوحة بعضها على بعض، وليس هناك دوائر مغلقة...
لذلك، هذه المسألة تذكر في الأذان والوصيَّة، حتّى يؤكّد الإنسان لنفسه أنَّه يُقبِلُ على ربّه عندما يأتي أجله، وهو صادق الإيمان، في الركنين الأساسيّين للعقيدة في الإسلام.
الأخسرون أعمالاً
لذا، علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش إسلامنا بعمق، لأنَّ الإسلام لا يدخل فيه غيره، فلا يمكنك أن تجعل الإسلام معرضاً كساحة المعارض تضع فيها ما تشاء، فليس عندنا إسلام دكتاتوريّ، وإسلام ماركسيّ، وإسلام قوميّ، وإسلام إرهابيّ... هناك إسلامٌ حركيّ أصيل {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}[الحجّ: 78]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}[البقرة: 131]، أسلِمْ للهِ في كلِّ شيءٍ، يعني أن لا يكون لك كلمةٌ أمام كلمة الله، ولا عقيدةٌ أمام العقيدة الَّتي يرضاها الله، ولا شريعةٌ أمام الشَّريعة الَّتي أوحى بها الله، وليس لك منهجٌ أمام المنهج الَّذي أرادك الله أن تنتهجه.. وهذا هو معنى الإسلام الَّذي ركّزه الأنبياء والأئمَّة (ع).
لأنّنا في ضجيج العصبيّات والفوضى والسياسة والاجتماع والعمل، نغفل عن أنفسنا، فقد يخيَّل إلينا أنّنا صادقون في إسلامنا.. ولكن عندما نصل لنرى ما القصّة، تتكشَّف الحقائق، ولقد قال تعالى مخبراً عن بعض النَّاس: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً}[فاطر: 8]، فهو لا يتفحَّص عمله، ولا يعرف عناصره، ولا عناصر الحقيقة، فقد يرى سطح العمل، فيخيَّل إليه أنَّه حسنٌ، ولكنَّه لا ينزل إلى عمقه فيرى أنَّه قبيح.
وفي ذلك تتجلَّى خطورة الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}[الكهف: 103 - 104]، فقد يبني الإنسان على أنَّه يسير إلى الجنَّة، فإذا به تائه عن الطَّريق ويسير في طريق النَّار... لذلك القصَّة تحتاج إلى دقّة.
فلا تتصوَّروا أنَّ عاشوراء تعني أن نأتي ونحضر المجلس ونلطم ونبكي ثمَّ نفعل ما نشاء؛ الحسين هو في التَّوحيد الخالص، الحسين في الرّسالة الَّتي تعيش في حياتك كُلّها، وفي واقعك وواقع النَّاس من حولك.. الحسين هنا.
الإيمانُ عملٌ والتزام
ويتابع الحسين (ع) في وصيَّته: "وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِ الحَقِّ"، لأنَّه {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 28]، {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ}[الحجّ: 62]...
"وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ"، ولذلك لا بدَّ لنا أن نسعى إليها، فإذا كانت الجنَّة تمثّل حقيقة، وتمثّل واقعاً، فلا بدَّ أن نعدَّ العدَّة له.
"وَالنَّارَ حَقٌّ"، فلا بدَّ لنا أن نتجنَّبها. وفي الحديث: "أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا"، فإذا أردت الجنّة، فعليك أن تفعل ما يوصلك إليها، وإذا أردت أن تتجنّب النّار، فعليك أن لا تفعل شيئًا يوصلك إليها. ولكنّ البعض منّا يريد الجنّة بالمجّان، الإمام عليّ (ع) يقول: "أَفَبِهٰذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَيْهَاتَ! لَا يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ".
بعض النَّاس يعتبر أنَّه إذا حضر في عاشوراء، وبكى أو تباكى، وأنزل من عينه ما يعادل جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر. البعض يتماشى مع هذا الحديث، فتراه طوال السّنة يفعل المنكرات، وينتظر عاشوراء ليبكي حتّى تُمحَى ذنوبه!
حبُّ عليّ (ع) والذّنوب
البعض يقول: "حُبُّ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ"، بعض النَّاس يحبّون عليّ بن أبي طالب كما يحبّون عنترة العبسيّ - على اعتبار أنَّه يضرب بالسَّيف - والبعض يحبّونه لأنَّه سيّد البلاغة، ولكن علينا أن نحبّ عليّاً لأنَّه أحبَّ الله، وجاهد في سبيله، ودعا إليه، ولأنَّه قال للنَّاس: "وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِدًا؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ".
لذلك، لا ينفع أن تحبَّ عليّاً وتزني، أو تسرق، أو تتجسَّس، أو تخون... الإمام الرّضا (ع) يقال إنَّه عندما كان في طريقه إلى خراسان، وصل إلى مرحلة من مراحل الطَّريق، واجتمع عليه الرّواة الَّذين يكتبون الحديث، والرّواة في ذاك اليوم مثل الصحفيّين في يومنا، كانوا إذا حضرت شخصيّة كبيرة يجتمعون حولها، ليأخذوا منها حديثاً أو تصريحاً...
قالوا له: حدّثنا يا بن رسول الله، وكان راكباً في المحمل، فأخرج رأسه من المحمل، كما تقول الرّواية، وحدَّثهم بحديث سُمّيَ سلسلة الذَّهب، قال: "سَمِعْتُ أَبِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي مُحَمَّدَ بْنِ عَلِيٍّ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عَلِيَّ بْنِ الحُسَيْنِ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَقُولُ: سَمِعْتُ جِبْرَائِيلَ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ يَقُولُ: لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. قَالَ: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا: بِشُرُوطِهَا، وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا"، يعني الإمامة.
ويقال إنَّ أحمد بن حنبل قال: "هٰذَا إِسْنَادٌ لَوْ قُرِئَ عَلَى الـمَجْنُونِ لَأَفَاقَ"، من شدَّة عظمة هذه الأسماء.
لا جنَّةَ إلَّا بالعمل
إنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً، وألهمَ النَّبيَّ سنّةً {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[النّساء: 59]، {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْم َتَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1 – 2]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
إنَّ الله سبحانه وتعالى يخاطب الإنسان الَّذي يَفترِض أنَّه لمجرَّد انتمائه إلى الإسلام، يمسك بيديه مفتاح الجنَّة.
القرآن هو هدى، وكلّ حديث خالف كتاب الله فهو زخرف، قالها أئمَّة أهل البيت (ع): "إذا جَاءَكُم عَنِّي حَديثٌ، فاعرضُوه على كتاب الله، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فاقْبَلُوه، ومَا خَاَلفه فاضْرِبُوا بِهِ عُرْضَ الحَاِئِط". فماذا قال القرآن: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النّساء: 123 - 124].
فيا أيُّها المسلمون، لا تعيشوا بالأماني، ويا أهل الكتاب، لا تعيشوا بالأماني، لأنَّ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}. فكيف نوفّق بين هذه، وبين أنَّ من نزل من عينه دمعة بمقدار جناح بعوضة على الحسين (ع) غفرت ذنوبه، وأنَّ مسألة حبّ عليّ (ع) حسنة لا يضرّ معها سيّئة؟!
قاعدةُ قبولِ العَمَل
جاء أحدٌ إلى الإمام الصَّادق (ع)، وقد سمعتم هذا الحديث منّي، ولكن هو المسكُ ما كرَّرته يتضوَّعُ.
قال: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): حَدِيثٌ رُوِيَ لَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ‏ مَا شِئْتَ‏؟ - وكلمة (عرفت) كانت مصطلحاً شائعاً بين شيعة أهل البيت (ع) وتعني الولاية، فالرَّجل العارف يعني الموالي، فإذا عرفت، يعني إذا واليت آل محمَّد، فاعمل ما شئت - فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ وَإِنْ زَنَوْا أَوْ سَرَقُوا أَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ؟ – يعني أن يفعل المسلم ما يشاء من الذّنوب، لمجرّد موالاتكم؟ - فَقَالَ لِي‏: إِنَّا لِلَّهِ‏ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏، وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونَا – فلا يجوز لكم أن تفهموا كلامنا فهماً خاطئاً - أَنْ نَكُونَ أُخِذْنَا بِالْعَمَلِ وَوُضِعَ عَنْهُمْ – فالله يخاطبنا، وكلّ التَّكاليف موجَّهة إلينا كما تُوَجَّه إلى كلّ النَّاس، وحتّى النَّبيّ (ص) الّذي هو سيّد الخلق وصاحب الرسالة، يطلب الله منه أن يقول للنَّاس: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، والله يقول للنَّبيّ: {وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}[الزّمر: 65]، وإذا زاد النّبيّ كلمة واحدة، والنَّبيّ لا يفعل ذلك، ولكنّه يخاطبنا بخطاب النّبيّ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[الحاقّة: 44- 47].
فإذا كان هذا خطاب الله للنَّبيّ، فما حالنا أنا وأنت، هل يكفي أن نبكي على الحسين فقط، ليغفر الله لنا، مهما كان ما نقوم به؟
قال الرَّجل للإمام (ع): إذاً يا سيّدي كيف قلت؟ قال (ع) - إِنَّمَا قُلْتُ إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ‏ مَا شِئْتَ‏ مِنْ قَلِيلِ الْخَيْرِ وَكَثِيرِهِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْكَ".
يعني أنَّ الولاية قاعدة لقبول العمل، لأنَّ الولاية ليست شيئاً هامشيّاً، فولاية أهل البيت (ع) إنما هي بنصّ رسول الله: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاه"، "إنِّي تارِكٌ فيكُم ما إن تمسَّكتُمْ بِهِ لن تضلُّوا بَعدي، أحدُهُما أعظَمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللَّهِ، حَبلٌ ممدودٌ منَ السَّماءِ إلى الأرضِ، وعِترتي أَهْلُ بيتي، ولَن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوضَ، فانظُروا كيفَ تخلّفُوني فيهِما".
فهي الولاية، باعتبار {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، وهي قاعدة للعمل، يعني إذا كنت مؤمناً بالله ورسوله، وموالياً لأهل البيت، وسائراً على خطّهم الَّذي هو خطّ الله ورسوله، فكلّ خير ينفعك، لأنَّ العمل إذا لم يكن له أساس فلا يُقبَل، لذا يقول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[الرّعد: 29]، فالعمل الصَّالح ينبغي أن يكون مرتكزاً على الإيمان.
الصَّلاةُ هويَّةُ المسلم
لذلك، أهل البيت (ع) هم الَّذين دعوا إلى الله ورسوله، وأنت الآن إذا كنت تبكي في المجلس على الحسين (ع) نتيجة تفاعلك مع المأساة، ولكنَّك لا تصلّي، أيعقل هذا؟
النَّبيّ (ص) كان يقوم اللّيل حتّى تتورَّم قدماه، والزَّهراء (ع) كذلك، وكان يقال للنَّبيّ (ص): لماذا ترهق نفسك في الصَّلاة؟ فيقول: "أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟". فالصَّلاة هي موقف شكر لله، "الصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّينِ، إِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَا سِوَاهَا، وَإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَا سِوَاهَا".
فالصَّلاة هي هويَّة المسلم، يعني أنَّ من لا يصلّي ليس عنده هويَّة. لماذا؟
الله يقول لك: أنا ربّك الَّذي خلقتك وقد كنْتَ عدماً، وحنَّنتُ عليك أباك وأمَّك، ورزقتُكَ، وأعطيْتُكَ، وأنا مستعدّ أن أعطيك موعداً لتقابلني، على الأقلّ خمس مرّات في اليوم، وأن تعرض ما عندك من آلام وقضايا وحاجات {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، فإذا لم تكن تصلّي، فكأنّك تقول له لست مستعدّاً لأن أقابلك...
بعض النَّاس يقولون فلان "آدمي" ولكنّه لا يصلّي، فكيف يكون "آدميًّا" ولا يصلّي؟!
الإمام الكاظم (ع) مرّ يوماً أمام بيت شخص كان يقضي ليله بالشَّراب والفجور، كما يفعل بعض النَّاس في أيَّامنا هذه، وكانت جاريةٌ له ترمي القمامة في الشَّارع، فاستوقفها الإمام (ع)، كما تقول الرّواية، وقال لها: "يا جارية! هل صاحب هذه الدَّار حرٌّ أم عبد؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله هذا، وبشر رجل معروف بين النَّاس، وقالت: بل هو حرّ!! فقال الإمام (ع): صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه"، كما حال بعض النَّاس عندما تسأله لماذا لا تصلّي فيقول أنا حرّ، لماذا لا تتحجَّبين؟ أنا حرّة، لماذا تشرب الخمر، أنا حرّ، أنت حرّ أمام الله ولكنّك عبد للشَّيطان، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}[يس: 60]، وعبادة الشّيطان هي إطاعته.
وعندما دخلت الجارية إلى البيت، وسألها بشر عن سبب تأخّرها خارج البيت، أخبرته بما جرى معها، وكأنَّ الكلمة الَّتي قالها الإمام (ع) دخلت إلى عمق أعماقه وهزَّتها، وجعلته يتغيَّر تغيّراً كاملاً.
ولذلك، علينا أن نستمع دائماً إلى المواعظ، لأنَّك لا تعرف متى تفيدك الموعظة، كما تأتي نقطة المطر على الأرض وقت النّموّ. فعلى الإنسان أن يستمع دائماً إلى المواعظ ولا يغيب عنها، فلعلّ الموعظة تأتي فتخصب له روحه بالإيمان وبخوف الله وتقواه.
"ثمَّ سأل بشر الجارية عن الوجهة الَّتي توجَّه إليها الإمام، فأخبرته، فانطلق يعدو خلفه، حتَّى إنَّه نسي أن ينتعل حذاءه. وكان في الطَّريق يحدّث نفسه بأنَّ هذا الرَّجل هو الإمام موسى بن جعفر (ع). وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده، واعتذر وبكى"، وأصبح الرَّجل من الزهَّاد المعروفين في التَّاريخ الإسلاميّ.
معنى العبوديَّةِ لله
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نقول إنَّنا عبيد الله، فعلينا أن نعيش معنى العبوديَّة لله، والعبوديَّة تعني أنَّ الإنسان "عبد مملوك لا يقدر على شيء". البعض يقول كيف نكون عبيداً ونحن نريد أن نكون أحراراً؟ ولكنَّ الله يقول لك كن عبداً لي وحدي، لأنَّ عبوديَّتك لي سببها أني أنا من أوجدك، فعبوديّتنا لله هي سرّ حريّتنا، فالله يقول كن عبداً لله وحده وحرّاً أمام العالم كلّه، وحتّى الأنبياء والأئمَّة إنّما نطيعهم، لأنَّهم يأمروننا بأمر الله، وينهوننا بما ينهى الله عنه {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31].
وعن أبي جعفر (ع) قال: "مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ". وقال رسول الله (ص): "إنَّ شيعَتَنا مَنْ شيَّعَنَا وتَبِعَنَا في أعمَالِنا".
بينَ الجنَّةِ والنَّار
لذلك، عندما تكتب في وصيَّتك قبل أن يأتيك الموت: أشهد أنَّ الجنَّة حقّ، وأنَّ النَّار حقّ، فيجب أن ترجع إلى نفسك قبل أن توقّع على الوصيَّة، وتسأل نفسك: هل أنا أتحرَّك في طريق الجنَّة أم طريق النَّار؟ لأنَّك عندما تغتاب وتكذب وتذنب، فكيف تدخل الجنَّة؟ والله يقول: {جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَٰ⁠جِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ * سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ}[الرّعد: 23 - 24]، صبرتم عن معصية الله، وصبرتم في طاعته وعلى بلائه.
رصيدُ الآخرة
ويكمل الإمام الحسين (ع) وصيَّته: "وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا"، والله سبحانه يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}[الحجّ: 7].
لذا، علينا أن نفكّر ما الرَّصيد الَّذي نملكه في القبر، وفي القبر ليس هناك بنوك وشيكَّات، بل هناك رصيد أعمالك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]، أن تحسب حسابك كلّ يوم ما رصيدك عند الله {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ}[النّحل: 96]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 197].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 19 - 20].
فلنعمل لنكون من أصحاب الجنَّة، "أمَا إنَّهُ لا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ"، {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التَّوبة: 105].
*محاضرة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 4 محرَّم 1423هـ/ الموافق 17/03/2002م.
كنَّا نتحدَّث أنَّ وحي نهضة الإمام الحسين (ع) في كلّ جيل، هو أن يحمل الجيل مسؤوليَّته في الخطوط الَّتي انطلقت مسيرة الحسين (ع) فيها.
والحسين (ع)، مهما حلَّل المحلِّلون، ودرس الدَّارسون، هو الإسلام في كلّ رحابة فكره، عقيدةً وشريعةً وأسلوباً وهدفاً. ليس للحسين (ع) قضيّة خاصَّة، ولا فكرٌ خاصّ، ولكن كانت المسألة أنَّ ظروفه فرضت عليه أسلوباً لم يكن لمن قبله، لأنَّ من قبله كان يعيش ظروفاً تختلف عن ظروفه، ومن الطَّبيعيّ أنَّ أيَّ خطّ من خطوط الفكر، لا بُدَّ أن يتحرَّك من خلال طبيعة الحاجات الزَّمنيَّة والمكانيَّة والإنسانيَّة والسياسيَّة الَّتي تختلف بين مرحلةٍ ومرحلةٍ أخرى.
ما نريده في هذا اللّقاء، أيُّها الأحبَّة، هو أن ندرس العناوين الَّتي انطلق فيها الحسين (ع)، من أجل أن يحقّقها في حركته تلك، وهذه كلُّها عناوين الإسلام.
ولعلَّ أفضل نصٍّ يطرحُ في العناوين الَّتي يعيشها كلُّ مسلمٍ في موقعه القياديّ، وفي مسؤوليَّته الحركيّة في كلِّ زمان ومكان، هو ما جاء في وصيَّة الحسين (ع) لأخيه محمَّد بن الحنفيّة قبل أن ينطلق بحركته، وهي وصيَّة كبقيَّة الوصايا الَّتي يكتبها المؤمنون عندما ينطلقون في رحلةٍ قد يشعرون فيها ببعض الأخطار.
الشَّهادةُ بالوحدانيَّة
يقول الإمام الحسين (ع)، كما روي في كتب السّيرة الحسينيَّة: "هٰذَا مَا أَوْصَى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِ الحَقِّ".
وقد أراد الحسين تأكيد ما هو مؤكّدٌ في كُلّ أسرار شخصيَّته، وهو الإخلاص لله تعالى بالوحدانيَّة، فلا يرى غير الله في كلّ تطلّعاته وأوضاعه، والإخلاص لمحمَّد (ص) بالرّسالة، باعتبار أنها المنهج الَّذي يسير عليه المؤمن، والّذي يدعو إليه غيره، ويتحرَّك في الحياة في كلّ نشاطاته الخاصَّة والعامَّة من خلاله.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، مما ينبغي لنا أن نستحضره، ولا سيَّما أنَّنا في كلّ يومٍ، عندما يصبح الصَّباح، أو يتوسَّط النَّهار، أو يمسي المساء، نسمع الأذان الَّذي يؤكّد الشَّهادتين بعد أن يؤكّد الحقيقة الإيمانيَّة، وهي أنَّ الله هو الأكبر والأعظم والأعلى وما إلى ذلك.
معنى التَّوحيد
ولا بدَّ لنا أن لا نمرَّ مرور الكرام على ما نسمعه أو نتلوه، لأنَّ هاتين الشَّهادتين اللَّتين جُعِلتَا عنوانَ إسلامِ المسلم، تمثّلان كلمتين يراد للمسلم أن يحركهما دائماً في وجدانه الفكريّ، وفي إحساسه العاطفيّ، وفي حركته في الحياة، لأنَّ المشكلة في المسلمين، أنَّ الكلمات الإيمانيَّة المضيئة المشرقة، تتجمَّد في نفوسهم، حين تتحوَّل إلى تقليدٍ من التقاليد، وعادةٍ من العادات، فلا تعود تعني لهم شيئاً.
ولذلك، فإنَّنا نشرك بالله غيره دون أن نلتفت إلى ذلك. ومن هنا، رأينا أنَّ كثيراً من الغلاة يتلون الشَّهادتين، ولكنَّهم لا يستغرقون في معناهما، في معنى التَّوحيد الخالص الَّذي يجعل المؤمن لا يرى أحداً أمامه إلَّا الله، فالله وحده هو الواحد في كلّ صفاته، فلا يجوز أن نعطي لأيّ مخلوقٍ، مهما علا، الأفق الرَّحب لصفات الله، لأنَّ الكلَّ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلَّا بالله.. ولأنَّ الكلّ مخلوقٌ ومربوب لله.. ولكن لأنَّنا لم نحرّك التَّوحيد في كلمة التَّوحيد، بل أطلقناها تماماً كما لم يكن لها أيّ معنىً، استغرقنا في الغلوّ، وخيِّل إلينا أنَّه لا ينافي التَّوحيد.
وهكذا - أيُّها الأحبة - لم نؤكّد معنى الرّسالة في التزامنا برسوليَّة رسول الله (ص)، ولذلك وصفنا أنفسنا بالمسلمين، وأخذنا بالكثير من المبادئ والتيَّارات والاتجاهات العلمانيَّة الَّتي قد يرتكز بعضها على الإلحاد العقيديّ، وقد يرتكز بعضها على الإلحاد الشَّرعيّ، وقد يرتكز بعضها على الإلحاد المنهجيّ، فأصبحنا مسلمين ننتمي إلى غير الإسلام، ونتبع غير رسول الله، ونهتف بأكثر من اسمٍ لا يلتقي بالرّسول، ونتبنَّاه ونتحزَّب له، وندافع عنه، ونقول إنّنا مسلمون.
لذلك، إنَّ الله تعالى فرض الشَّهادة بالوحدانيَّة، والشَّهادة بالرّسالة للرَّسول، وأراد أن تكون أذاناً يُؤَذَّنُ به خمس مرّات في اليوم - وإن اختصرناها إلى ثلاث مرات - وأراد للإنسان أن يعيشها في صلاته اليوميَّة. لماذا؟ حتّى يؤكّد عقيدته في كلّ وجدانه، ويذكر عقيدته في كلّ كيانه، ويذكّر نفسه أنَّ عليها أن تعيش في كلّ عناصر شخصيّتها في هذه العقيدة، حتّى لا يجرّه النَّاس إلى عقائد أخرى، فيتّبع غير رسول الله في غفلةٍ منه عن معنى الرّسول.
بينَ الإسلام والإيديولوجيا
وهنا يُطرح سؤال: هل من الممكن أن يقول الإنسان عن نفسه: أنا مسلمٌ أرثوذكسي؟ أو مسلمٌ كاثوليكي؟ طبعاً لا يمكن ذلك، أمّا نحن، فنقول عن بعضنا: مسلم ماركسي، أو مسلم قومي بالمعنى الإيديولوجي للقوميَّة، أو غيرها.. ولو درست الماركسيَّة، لرأيتها تُمثّل عقيدةً ترتكز على إنكار كلّ ما وراء الطَّبيعة؛ من الله إلى كلّ شيء، ومع ذلك، بعض النَّاس يقول: أنا مسلمٌ ماركسيّ.
ولو درسنا القوميَّة بمعناها الإنسانيّ وليس الإيديولوجيّ، لرأينا أنّها لا تنافي الإسلام، فقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، فالنّاس فيهم عرب وفيهم عجم، وحتّى عندما انطلق الإسلام، لم يشعر العرب بمشكلة بين العروبة والإسلام، لأنَّ العروبة إطار، والإسلام هو المضمون والصّورة في داخل الإطار، فهناك دوائر مفتوحة بعضها على بعض، وليس هناك دوائر مغلقة...
لذلك، هذه المسألة تذكر في الأذان والوصيَّة، حتّى يؤكّد الإنسان لنفسه أنَّه يُقبِلُ على ربّه عندما يأتي أجله، وهو صادق الإيمان، في الركنين الأساسيّين للعقيدة في الإسلام.
الأخسرون أعمالاً
لذا، علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش إسلامنا بعمق، لأنَّ الإسلام لا يدخل فيه غيره، فلا يمكنك أن تجعل الإسلام معرضاً كساحة المعارض تضع فيها ما تشاء، فليس عندنا إسلام دكتاتوريّ، وإسلام ماركسيّ، وإسلام قوميّ، وإسلام إرهابيّ... هناك إسلامٌ حركيّ أصيل {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}[الحجّ: 78]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}[البقرة: 131]، أسلِمْ للهِ في كلِّ شيءٍ، يعني أن لا يكون لك كلمةٌ أمام كلمة الله، ولا عقيدةٌ أمام العقيدة الَّتي يرضاها الله، ولا شريعةٌ أمام الشَّريعة الَّتي أوحى بها الله، وليس لك منهجٌ أمام المنهج الَّذي أرادك الله أن تنتهجه.. وهذا هو معنى الإسلام الَّذي ركّزه الأنبياء والأئمَّة (ع).
لأنّنا في ضجيج العصبيّات والفوضى والسياسة والاجتماع والعمل، نغفل عن أنفسنا، فقد يخيَّل إلينا أنّنا صادقون في إسلامنا.. ولكن عندما نصل لنرى ما القصّة، تتكشَّف الحقائق، ولقد قال تعالى مخبراً عن بعض النَّاس: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً}[فاطر: 8]، فهو لا يتفحَّص عمله، ولا يعرف عناصره، ولا عناصر الحقيقة، فقد يرى سطح العمل، فيخيَّل إليه أنَّه حسنٌ، ولكنَّه لا ينزل إلى عمقه فيرى أنَّه قبيح.
وفي ذلك تتجلَّى خطورة الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}[الكهف: 103 - 104]، فقد يبني الإنسان على أنَّه يسير إلى الجنَّة، فإذا به تائه عن الطَّريق ويسير في طريق النَّار... لذلك القصَّة تحتاج إلى دقّة.
فلا تتصوَّروا أنَّ عاشوراء تعني أن نأتي ونحضر المجلس ونلطم ونبكي ثمَّ نفعل ما نشاء؛ الحسين هو في التَّوحيد الخالص، الحسين في الرّسالة الَّتي تعيش في حياتك كُلّها، وفي واقعك وواقع النَّاس من حولك.. الحسين هنا.
الإيمانُ عملٌ والتزام
ويتابع الحسين (ع) في وصيَّته: "وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِ الحَقِّ"، لأنَّه {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 28]، {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ}[الحجّ: 62]...
"وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ"، ولذلك لا بدَّ لنا أن نسعى إليها، فإذا كانت الجنَّة تمثّل حقيقة، وتمثّل واقعاً، فلا بدَّ أن نعدَّ العدَّة له.
"وَالنَّارَ حَقٌّ"، فلا بدَّ لنا أن نتجنَّبها. وفي الحديث: "أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا"، فإذا أردت الجنّة، فعليك أن تفعل ما يوصلك إليها، وإذا أردت أن تتجنّب النّار، فعليك أن لا تفعل شيئًا يوصلك إليها. ولكنّ البعض منّا يريد الجنّة بالمجّان، الإمام عليّ (ع) يقول: "أَفَبِهٰذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَيْهَاتَ! لَا يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ".
بعض النَّاس يعتبر أنَّه إذا حضر في عاشوراء، وبكى أو تباكى، وأنزل من عينه ما يعادل جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر. البعض يتماشى مع هذا الحديث، فتراه طوال السّنة يفعل المنكرات، وينتظر عاشوراء ليبكي حتّى تُمحَى ذنوبه!
حبُّ عليّ (ع) والذّنوب
البعض يقول: "حُبُّ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ"، بعض النَّاس يحبّون عليّ بن أبي طالب كما يحبّون عنترة العبسيّ - على اعتبار أنَّه يضرب بالسَّيف - والبعض يحبّونه لأنَّه سيّد البلاغة، ولكن علينا أن نحبّ عليّاً لأنَّه أحبَّ الله، وجاهد في سبيله، ودعا إليه، ولأنَّه قال للنَّاس: "وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِدًا؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ".
لذلك، لا ينفع أن تحبَّ عليّاً وتزني، أو تسرق، أو تتجسَّس، أو تخون... الإمام الرّضا (ع) يقال إنَّه عندما كان في طريقه إلى خراسان، وصل إلى مرحلة من مراحل الطَّريق، واجتمع عليه الرّواة الَّذين يكتبون الحديث، والرّواة في ذاك اليوم مثل الصحفيّين في يومنا، كانوا إذا حضرت شخصيّة كبيرة يجتمعون حولها، ليأخذوا منها حديثاً أو تصريحاً...
قالوا له: حدّثنا يا بن رسول الله، وكان راكباً في المحمل، فأخرج رأسه من المحمل، كما تقول الرّواية، وحدَّثهم بحديث سُمّيَ سلسلة الذَّهب، قال: "سَمِعْتُ أَبِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي مُحَمَّدَ بْنِ عَلِيٍّ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عَلِيَّ بْنِ الحُسَيْنِ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَقُولُ: سَمِعْتُ جِبْرَائِيلَ (ع) يَقُولُ: سَمِعْتُ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ يَقُولُ: لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. قَالَ: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا: بِشُرُوطِهَا، وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا"، يعني الإمامة.
ويقال إنَّ أحمد بن حنبل قال: "هٰذَا إِسْنَادٌ لَوْ قُرِئَ عَلَى الـمَجْنُونِ لَأَفَاقَ"، من شدَّة عظمة هذه الأسماء.
لا جنَّةَ إلَّا بالعمل
إنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً، وألهمَ النَّبيَّ سنّةً {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[النّساء: 59]، {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْم َتَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1 – 2]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
إنَّ الله سبحانه وتعالى يخاطب الإنسان الَّذي يَفترِض أنَّه لمجرَّد انتمائه إلى الإسلام، يمسك بيديه مفتاح الجنَّة.
القرآن هو هدى، وكلّ حديث خالف كتاب الله فهو زخرف، قالها أئمَّة أهل البيت (ع): "إذا جَاءَكُم عَنِّي حَديثٌ، فاعرضُوه على كتاب الله، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فاقْبَلُوه، ومَا خَاَلفه فاضْرِبُوا بِهِ عُرْضَ الحَاِئِط". فماذا قال القرآن: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النّساء: 123 - 124].
فيا أيُّها المسلمون، لا تعيشوا بالأماني، ويا أهل الكتاب، لا تعيشوا بالأماني، لأنَّ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}. فكيف نوفّق بين هذه، وبين أنَّ من نزل من عينه دمعة بمقدار جناح بعوضة على الحسين (ع) غفرت ذنوبه، وأنَّ مسألة حبّ عليّ (ع) حسنة لا يضرّ معها سيّئة؟!
قاعدةُ قبولِ العَمَل
جاء أحدٌ إلى الإمام الصَّادق (ع)، وقد سمعتم هذا الحديث منّي، ولكن هو المسكُ ما كرَّرته يتضوَّعُ.
قال: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): حَدِيثٌ رُوِيَ لَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ‏ مَا شِئْتَ‏؟ - وكلمة (عرفت) كانت مصطلحاً شائعاً بين شيعة أهل البيت (ع) وتعني الولاية، فالرَّجل العارف يعني الموالي، فإذا عرفت، يعني إذا واليت آل محمَّد، فاعمل ما شئت - فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ وَإِنْ زَنَوْا أَوْ سَرَقُوا أَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ؟ – يعني أن يفعل المسلم ما يشاء من الذّنوب، لمجرّد موالاتكم؟ - فَقَالَ لِي‏: إِنَّا لِلَّهِ‏ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏، وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونَا – فلا يجوز لكم أن تفهموا كلامنا فهماً خاطئاً - أَنْ نَكُونَ أُخِذْنَا بِالْعَمَلِ وَوُضِعَ عَنْهُمْ – فالله يخاطبنا، وكلّ التَّكاليف موجَّهة إلينا كما تُوَجَّه إلى كلّ النَّاس، وحتّى النَّبيّ (ص) الّذي هو سيّد الخلق وصاحب الرسالة، يطلب الله منه أن يقول للنَّاس: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، والله يقول للنَّبيّ: {وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}[الزّمر: 65]، وإذا زاد النّبيّ كلمة واحدة، والنَّبيّ لا يفعل ذلك، ولكنّه يخاطبنا بخطاب النّبيّ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[الحاقّة: 44- 47].
فإذا كان هذا خطاب الله للنَّبيّ، فما حالنا أنا وأنت، هل يكفي أن نبكي على الحسين فقط، ليغفر الله لنا، مهما كان ما نقوم به؟
قال الرَّجل للإمام (ع): إذاً يا سيّدي كيف قلت؟ قال (ع) - إِنَّمَا قُلْتُ إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ‏ مَا شِئْتَ‏ مِنْ قَلِيلِ الْخَيْرِ وَكَثِيرِهِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْكَ".
يعني أنَّ الولاية قاعدة لقبول العمل، لأنَّ الولاية ليست شيئاً هامشيّاً، فولاية أهل البيت (ع) إنما هي بنصّ رسول الله: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاه"، "إنِّي تارِكٌ فيكُم ما إن تمسَّكتُمْ بِهِ لن تضلُّوا بَعدي، أحدُهُما أعظَمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللَّهِ، حَبلٌ ممدودٌ منَ السَّماءِ إلى الأرضِ، وعِترتي أَهْلُ بيتي، ولَن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوضَ، فانظُروا كيفَ تخلّفُوني فيهِما".
فهي الولاية، باعتبار {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، وهي قاعدة للعمل، يعني إذا كنت مؤمناً بالله ورسوله، وموالياً لأهل البيت، وسائراً على خطّهم الَّذي هو خطّ الله ورسوله، فكلّ خير ينفعك، لأنَّ العمل إذا لم يكن له أساس فلا يُقبَل، لذا يقول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[الرّعد: 29]، فالعمل الصَّالح ينبغي أن يكون مرتكزاً على الإيمان.
الصَّلاةُ هويَّةُ المسلم
لذلك، أهل البيت (ع) هم الَّذين دعوا إلى الله ورسوله، وأنت الآن إذا كنت تبكي في المجلس على الحسين (ع) نتيجة تفاعلك مع المأساة، ولكنَّك لا تصلّي، أيعقل هذا؟
النَّبيّ (ص) كان يقوم اللّيل حتّى تتورَّم قدماه، والزَّهراء (ع) كذلك، وكان يقال للنَّبيّ (ص): لماذا ترهق نفسك في الصَّلاة؟ فيقول: "أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟". فالصَّلاة هي موقف شكر لله، "الصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّينِ، إِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَا سِوَاهَا، وَإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَا سِوَاهَا".
فالصَّلاة هي هويَّة المسلم، يعني أنَّ من لا يصلّي ليس عنده هويَّة. لماذا؟
الله يقول لك: أنا ربّك الَّذي خلقتك وقد كنْتَ عدماً، وحنَّنتُ عليك أباك وأمَّك، ورزقتُكَ، وأعطيْتُكَ، وأنا مستعدّ أن أعطيك موعداً لتقابلني، على الأقلّ خمس مرّات في اليوم، وأن تعرض ما عندك من آلام وقضايا وحاجات {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، فإذا لم تكن تصلّي، فكأنّك تقول له لست مستعدّاً لأن أقابلك...
بعض النَّاس يقولون فلان "آدمي" ولكنّه لا يصلّي، فكيف يكون "آدميًّا" ولا يصلّي؟!
الإمام الكاظم (ع) مرّ يوماً أمام بيت شخص كان يقضي ليله بالشَّراب والفجور، كما يفعل بعض النَّاس في أيَّامنا هذه، وكانت جاريةٌ له ترمي القمامة في الشَّارع، فاستوقفها الإمام (ع)، كما تقول الرّواية، وقال لها: "يا جارية! هل صاحب هذه الدَّار حرٌّ أم عبد؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله هذا، وبشر رجل معروف بين النَّاس، وقالت: بل هو حرّ!! فقال الإمام (ع): صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه"، كما حال بعض النَّاس عندما تسأله لماذا لا تصلّي فيقول أنا حرّ، لماذا لا تتحجَّبين؟ أنا حرّة، لماذا تشرب الخمر، أنا حرّ، أنت حرّ أمام الله ولكنّك عبد للشَّيطان، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}[يس: 60]، وعبادة الشّيطان هي إطاعته.
وعندما دخلت الجارية إلى البيت، وسألها بشر عن سبب تأخّرها خارج البيت، أخبرته بما جرى معها، وكأنَّ الكلمة الَّتي قالها الإمام (ع) دخلت إلى عمق أعماقه وهزَّتها، وجعلته يتغيَّر تغيّراً كاملاً.
ولذلك، علينا أن نستمع دائماً إلى المواعظ، لأنَّك لا تعرف متى تفيدك الموعظة، كما تأتي نقطة المطر على الأرض وقت النّموّ. فعلى الإنسان أن يستمع دائماً إلى المواعظ ولا يغيب عنها، فلعلّ الموعظة تأتي فتخصب له روحه بالإيمان وبخوف الله وتقواه.
"ثمَّ سأل بشر الجارية عن الوجهة الَّتي توجَّه إليها الإمام، فأخبرته، فانطلق يعدو خلفه، حتَّى إنَّه نسي أن ينتعل حذاءه. وكان في الطَّريق يحدّث نفسه بأنَّ هذا الرَّجل هو الإمام موسى بن جعفر (ع). وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده، واعتذر وبكى"، وأصبح الرَّجل من الزهَّاد المعروفين في التَّاريخ الإسلاميّ.
معنى العبوديَّةِ لله
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نقول إنَّنا عبيد الله، فعلينا أن نعيش معنى العبوديَّة لله، والعبوديَّة تعني أنَّ الإنسان "عبد مملوك لا يقدر على شيء". البعض يقول كيف نكون عبيداً ونحن نريد أن نكون أحراراً؟ ولكنَّ الله يقول لك كن عبداً لي وحدي، لأنَّ عبوديَّتك لي سببها أني أنا من أوجدك، فعبوديّتنا لله هي سرّ حريّتنا، فالله يقول كن عبداً لله وحده وحرّاً أمام العالم كلّه، وحتّى الأنبياء والأئمَّة إنّما نطيعهم، لأنَّهم يأمروننا بأمر الله، وينهوننا بما ينهى الله عنه {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31].
وعن أبي جعفر (ع) قال: "مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ". وقال رسول الله (ص): "إنَّ شيعَتَنا مَنْ شيَّعَنَا وتَبِعَنَا في أعمَالِنا".
بينَ الجنَّةِ والنَّار
لذلك، عندما تكتب في وصيَّتك قبل أن يأتيك الموت: أشهد أنَّ الجنَّة حقّ، وأنَّ النَّار حقّ، فيجب أن ترجع إلى نفسك قبل أن توقّع على الوصيَّة، وتسأل نفسك: هل أنا أتحرَّك في طريق الجنَّة أم طريق النَّار؟ لأنَّك عندما تغتاب وتكذب وتذنب، فكيف تدخل الجنَّة؟ والله يقول: {جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَٰ⁠جِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ * سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ}[الرّعد: 23 - 24]، صبرتم عن معصية الله، وصبرتم في طاعته وعلى بلائه.
رصيدُ الآخرة
ويكمل الإمام الحسين (ع) وصيَّته: "وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا"، والله سبحانه يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}[الحجّ: 7].
لذا، علينا أن نفكّر ما الرَّصيد الَّذي نملكه في القبر، وفي القبر ليس هناك بنوك وشيكَّات، بل هناك رصيد أعمالك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]، أن تحسب حسابك كلّ يوم ما رصيدك عند الله {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ}[النّحل: 96]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 197].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 19 - 20].
فلنعمل لنكون من أصحاب الجنَّة، "أمَا إنَّهُ لا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ"، {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التَّوبة: 105].
*محاضرة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 4 محرَّم 1423هـ/ الموافق 17/03/2002م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية