س: يتردَّد في بعض الأوساط أنَّ لكم رأياً مخالفاً للمشهور في موضوع العصمة، فهل لكم أن توضّحوا لنا رأيكم حول هذا الموضوع؟
ج: الواقع أنّه ليس لي رأيٌ سلبيّ في العصمة، بل إنّي أتصوَّر أنَّ نهجي في الاستدلال على العصمة أكثر سلامةً ودقّةً من المنهج الَّذي اعتمده الآخرون. فنحن نلاحظ أنَّ من أدلَّة القدماء على العصمة، أنَّ غير المعصوم يفقد ثقة النَّاس به، فلا يُقبلون عليه، ولا يستمعون إليه، ما يُلغي دور النَّبيّ أو دور الإمام إذا لم يكونا معصومين. إذاً فالعصمة تكون لاحتواء واقع النَّاس، لأنَّ النَّاس تتبع من تثق به، ولا تتبع من لا تثق به، فلو أنَّ الله أرسل أنبياء غير معصومين، أو أنَّ النَّبيَّ عيّن بأمرٍ من الله أئمَّةً غير معصومين، فإنَّ النَّاس لا تثق بهم، وبالتَّالي، فإنَّ أثر النّبوَّة أو أثر الإمامة يكون قد فقد.
إنَّنا نتصوَّر أنَّ هذه المسألة لا تسلم أمام النَّقد، لأنَّ العقل إنّما يحكم في هذا الاتّجاه من العصمة في حالة التَّبليغ، لأنّه لا معنى لأن يرسل الله نبيّاً، أو أن يعيّن إماماً، لا يستطيع أن يضمن استقامته في خطّ الصّدق أو في خطّ الوعي، والالتفات إلى ما يبلّغه عن الله وعن رسوله، لأنَّ النَّاس إذا فقدت ثقتها بكلام الوليّ، باحتمال أنَّه ينسى أو يسهو أو يحرِّف الكلام عن مواضعه أو يغفل أو ما إلى ذلك، فإنَّ النَّاس لا تثق بأنَّ ما يقوله هو من عند الله سبحانه وتعالى، وبذلك تفقد الرّسالة وثاقتها في نفوس النَّاس، فلا يعود لها معنىً في عمليَّة الإيمان وفي عمليَّة الهداية.
أمَّا بالنّسبة إلى العصمة في غير هذا الجانب، كما لو فرضنا أنَّ النَّبيّ أو الإمام يخطئ في أمور حياتيَّة، أو أنّه ينسى بعض الأشياء العاديَّة، أو يسهو في صلاته، فإنَّ العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السَّهو في هذا المجال، بل إنّنا نرى أنَّ بعض فقهاء الشيعة، وهو الشَّيخ الصّدوق أو أبوه أو شيخه (رضوان الله عليهم)، يرون أنَّ أوَّل علامة من علامات الغلوّ هي نفي السَّهو عن الأئمَّة، ونرى أنَّ بعض علمائنا، ومنهم السيّد الخوئي (ره)، يتحدَّث بأنَّه ليس من الممتنع أن يسهو النَّبيّ أو الإمام في غير موقع التَّبليغ، ولكن الممتنع فقط هو أن يسهو في التَّبليغ.
وفي ضوء هذا، فإنَّ العقل لا يحكم بضرورة أن يكون معصوماً في القضايا الأخرى، كما أَنَّ النَّبيّ أو الإمام لا يفقد ثقة النَّاس به لمجرَّد خطأ هنا أو خطأ هناك، ممّا لا يتَّصل بالقضايا الحيويَّة الأساسيَّة الَّتي تمسّ خطّ الاستقامة في الإيمان والإسلام وما إلى ذلك. ونحن نلاحظ في الواقع الخارجيّ، أنّ النَّاس ترتبط بكثيرين في المسألة السياسيَّة والمسألة الدينيَّة والاجتماعيَّة، فتنجذب إلى أشخاص بشكل فوق العادة، مع إيمانها بأنَّ هؤلاء النَّاس يخطئون في غير الموقع الَّذي يتبعونهم فيه، أو أنّهم لا يتعمّدون الخطأ حتّى في المواقع الَّتي يتبعونهم فيها، بحيث يتراجعون عن الخطأ في حال اكتشافه، فإنَّ النَّاس لا تفقد ثقتها فيهم.
لذلك، فإنَّنا قلنا إِنَّ هذا المنهج في الاستدلال، لا يصلح أن يكون أساساً عقليّاً للقول بالعصمة، ولا سيَّما إذا أردنا أنْ نتحدَّث عن العصمة بشكلٍ شامل، بحيث تشمل التَّبليغ وغير التَّبليغ.
ومن هنا، فإنَّنا حاولنا - ولا ندري كم تصدق هذه المحاولة من النَّاحية الفكريَّة - أن ندرس طبيعة النّبوَّة، فإنَّ النّبوَّة ليست مهمَّة (ساعي بريد) ينقل الرّسالة ليبلّغها للنَّاس وتنتهي مهمَّته عند هذا الحدّ، بل نحن نقرأ في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]، ونقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[الأحزاب: 45 - 46]، فهو إضافةً إلى كونه مبشّراً ونذيراً، يمثّل الشَّاهد على النَّاس، كما السّراج الَّذي يضيء للنَّاس، ومن المعلوم أنَّ المقصد أنَّه يضيء للنَّاس درب الحقّ.
وهكذا كان موقع النَّبيّ أن يحكم بين النَّاس بالحقّ، وأن يقيم الحياة على أساس الحقّ. ومن الطَّبيعيّ أنَّ الإنسان الَّذي يراد له من خلال موقعه أن يغيّر العالم على أساس الحقّ، لا يمكن أن يكون في عقله أو قلبه أو حركته شيء من الباطل، والإنسان الَّذي جاء ليكون السّراج المنير، لا يمكن أن يكون في عقله أو في إحساسه أو حركته شيء من الظّلمة، الأمر الَّذي يجعل مسألة النّبوَّة مسألة نور يشرق في عقول النَّاس وقلوبهم وحياتهم، ولا سيَّما أنَّ الله جعل الكتاب الَّذي يحمله النَّبيّ (ص) نوراً، واعتبر النَّبيَّ تجسيداً للكتاب، فهو القرآن النَّاطق الى جانب القرآن الصَّامت.
إنَّنا نعتقد أنَّ فهمنا لدور النبوَّة، وهو دور المهمَّة الَّتي يراد لها أن تغيّر العالم على أساس الحقّ، يفرض أن يكون النَّبيّ حقّاً كلّه، وأن لا يكون فيه شيء من الظّلمة. والإمامة هي امتداد للنبوَّة من دون نبوَّة: "يَا عَلِيّ، أَنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مَوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي". لذلك، لما كان دور الإمام هو دور حارس الشَّريعة، ودور الإنسان الَّذي يعمل على امتداد خطّ النبوَّة في حياة النَّاس، على أساس تركيز الحقّ في الفكر والعمل والقول وفي حركة الواقع، فلا بدَّ أن يكون معصوماً، تماماً كما هو النَّبيّ (ص) في هذا المجال.
وهناك نقطة أخرى نثيرها أمام مسألة شموليَّة العصمة جوانبَ التَّبليغ وغير التَّبليغ، أنَّ الشَّخصيَّة لا تعيش ازدواجاً في واقع الإنسان، فالإنسان الَّذي لا ينسى في مسألة التَّبليغ، لا ينسى في المسائل الأخرى، والإنسان الَّذي ينطلق بالحـقّ في التَّشريع وفي التَّبليغ، لا بدَّ له أن ينطلق بالحقّ في الجوانب الأخرى، لأنَّه لن يكون كذلك، إلَّا إذا كان الحقّ أساسيّاً في شخصيَّته.
وهناك نقطة أثرناها في مسألة العصمة، وهي أنَّ العصمة حينما تكون بهذا الشَّكل غير العاديّ الَّذي لا يمكن أن يملكه الإنسان، ليس من خلال تجربته الخاصَّة، بحيث يمتنع عليه ولو امتناعاً وقوعيّاً أن يخطئ أو أن ينحرف، بل لا بدَّ أن يكون هناك فيض من الله على نفس هذا النَّبيّ أو هذا الإمام، بحيث يمتنع عن الانحراف وصدور الباطل عنه، وهذا ما ربَّما يتحدَّث عنه الآخرون بشكل سلبيّ، باعتبار أنَّه يوحي بالجبريَّة. ولكنَّنا نحاول أن نناقش هذه السَّلبيَّه الَّتي يتَّخذها بعض النَّاس بطريقة موضوعيَّة علميَّة:
أوَّلاً: إنَّ مسألة حتميَّة العصمة قد تبطل الثَّواب في رأي هؤلاء، لأنَّك عندما تندفع الى عمل الخير بعصمتك، فأنت لم تبذل جهداً في ذلك، فعلى أيّ أساس تستحقّ الثَّواب؟ ولهذا يقول هؤلاء إنَّ حتميَّة العصمة تبطل الثَّواب.
ولكنَّنا نجيب عن ذلك بأنَّ علماء الكلام يرون أنَّ الإنسان المؤمن العامل بالصَّالحات، لا يستحقّ الثَّواب من خلال عمله، لأنَّ عمله ملكٌ لله، وعقله الَّذي فكّر به واهتدى به، خَلْقُ الله، ولأنَّ أعضاءه الَّتي عبد الله بها، والَّتي استخدمها في سبيل العمل، هي ملك الله، فليس هناك شيء إنسانيّ بعيداً من الله في حركة الإنسان ليستحقّ عليه الثَّواب، فعمله وفكره وحركته لله، لذلك قالوا إنَّه يستحقّ الثَّواب بالتفضُّل، فالله تفضَّل على عباده، وجعل لهم الثَّواب على عملهم بمنّه وتفضّله.
قد تقول: فما المانع أن يختصر الله المسألة، فيجعل لعبده الثَّواب تفضّلاً منه، من دون ربطه بالجهد العملي؟
وفي الجواب عن ذلك نقول: إنَّ ربط المسألة باختيار الإنسان وعمله هو لأسباب تتعلَّق بالاصطفاء وتأكيد أهميَّة العمل، ولمصالح تتعلَّق بالرّسالة الإلهيَّة.
ثانياً: ربَّما يُثار سؤال أمام هذا الموضوع من الآخرين، أنَّ الله إذا عصم الإنسان بطريقة حتميَّة، فما فضله على بقيَّة النَّاس؟ ربَّما يكون النَّاس الآخرون أفضل من المعصوم، ولا فضل للمعصوم على النَّاس، لأنَّ الله قد عصمه ولم يعصمهم، فلا فضل له على النَّاس في عصمته؟!
إنَّنا نقول: إنَّ الفضل من الله، والله هو الَّذي يعطي الفضل، وهو الَّذي يعطي القيمة، وهو الَّذي يصطفي في النَّاس رسلاً، ومن الملائكة رسلاً، فالقيمة للإنسان المعصوم أنَّ الله قد اصطفاه وعصمه واختاره، فلا بدَّ أن يكون اختيار الله واصطفاؤه له لحكمة.
أمَّا ما هي الحكمة، ولماذا اصطفى هؤلاء دون غيرهم؟ فنقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء: 23]. فلا بدَّ أن تكون هناك حكمة في اصطفائه، ولو كانت الحكمة لأنَّ الله صنعه بطريقة ما، وأراد أن يكون نوراً يشرق في النَّاس، تماماً كما صنع الشَّمس وجعلها نوراً كلّها لتشرق على النَّاس، فالشَّمس تفضلُ القمر، وتفضل الكثير من الظَّواهر الكونيَّة، ولكنَّ فضلها من الله، والله أعطاها هذا الفضل، فلماذا، إذاً، لا يمكن أن يكون الفضل للإنسان لأنَّ الله عصمه، ولأنَّ الله اصطفاه؟!
إنَّ المسألة في هذا المقام ليس من الضَّروريّ دائماً أن تكون مسألة قيمة تنطلق من عمق الذَّات، بل إنَّ القيمة تنطلق من الله سبحانه وتعالى الَّذي يجعل في الذَّات أسراراً تجعل هذا التّراث ذا قيمة من ناحية موضوعيَّة، تماماً كما يجعل الجمال فضلاً، ولكنَّ الجميل لم يخلق جماله، والله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وبهذا فضل على الحيوان، ولكنَّ التَّفضيل لم يكن منطلقاً في هذا الجانب من اختيار الإنسان وإرادته، إنَّنا نعتقد أنَّ الفضل هو من اختصاص الله له وتمييزه بهذه الميزة أو تلك.
ثالثاً: إنَّ القدوة تبطل، لأنَّ النَّاس عندما يرون هذا معصوماً من خلال خلق الله له وهو معصوم، فيقال بأنَّه ليس بإمكان النَّاس الوصول إلى مستوى المعصوم لكي يُقتدى به؟!
لكنَّ هذا الكلام لا يثبت أيضاً أمام النَّقد، لأنَّه يكفي في القدوة أن يكون عمله جيّداً، وأن يكون مقدوراً في النَّاس، وليس من المفروض في القدوة أن يكون مستوى المقتدي في مستوى المقتدى به، فالنَّاس تقتدي بالعلماء، والعلماء في درجة عالية من العلم والفضيلة، فإذا كان المطلوب بالقدوة أن يكون مساوياً للمقتدي، لما اقتدى إنسان بإنسان. نعم، عندما يقوم النبيّ بمعجزة، فإنَّنا لا نستطيع أن نقوم بها، لأنَّنا نقول إنَّ النَّبيّ قد زُوّد بطاقات معيَّنة لم نُزوَّد بها، وهذا أمرٌ مقدور له، وليس باقتدارنا القيام به.
وهناك نقطة لا بدَّ أن نثيرها في هذا الموضوع، وهي أنَّ المعصوم ينطلق بإرادته نحو الطَّاعة، ولكنَّه إذا أراد أن يعصي، فإنَّ الله يعصمه في ذلك عندما تتوفَّر له ظروف المعصية، فإنَّ الله يخلق له حواجز تصدّه عن هذه المعصية، فليس معنى حتميَّة العصمة أنَّه هنا لا يملك الاختيار، بل هو يملك أن يفعل، ولكنَّه عندما يتوجَّه الضّعف البشريّ في نفسه، فإنَّ الله يتدخَّل، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]، أو في قول يوسف (ع): {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}[يوسف: 33] ، فالله قد يعصمه من ناحية داخليَّة، وقد يعصمه من ناحية خارجيَّة.
لذلك، فإنَّ الحتميَّة الَّتي نقول بها لا تسلب عنصر الاختيار، لأنَّ الحتميَّة إنَّما تأتي في الجانب السَّلبيّ، فهو يندفع إلى الطَّاعة بكلّ إرادته وإيمانه ومعرفته بالله سبحانه وتعالى، ولكن إذا انطلقت نقاط الضّعف البشريّ في نفسه، فإنَّ الله يعصمه منها، إمَّا بطريقة وقائيَّة، بأن يزرع في نفسه ما يعتصم به، أو أن يحدث هناك شيء يعصمه من الوقوع في الخطأ، بحيث ينطلق فيه بشكل إراديّ، فهو معصوم دائماً، يعني أنَّه تحت رعاية الله وتسديده دائماً.
ولعلَّ هذا هو الَّذي ينسجم مع العقيدة المشهورة عند الشّيعة، وهو أنَّ النَّبيّ يُخلَق معصوماً، فهو معصوم قبل البعثة كما هو معصوم بعدها، وأنَّ الإمام أيضاً هو معصوم قبل الإمامة كما هو معصوم بعدها، وهذا هو الرَّأي المشهور عند الشّيعة.
إنَّنا نتساءل: إذا كانت العصمة تنطلق من حالة اختياريَّة ذاتيَّة، فكيف يمكن أن يكون معصوماً وهو في بداية الطّفولة؟
إنَّ البعض يقول إنَّ الله يعطيه مرتبةً من العلم، بحيث إنَّه إذا عاش في داخلها، فإنَّ نفسه لا تتوجَّه إلى المعصية، كما نلاحظه في الإنسان الَّذي يترسَّخ في نفسه قبح بعض الأفعال، بحيث لا يندفع نحوها، كما في قضيَّة الصّدود النَّفسيّ عن التعرّض جنسيّاً للمحارم، كالأمّ والأخت والعمَّة والخالة، لأنَّ معرفته بقبح هذا الشّيء قد بلغت حدّاً بحيث تمنعه من الإقدام عليه.
إنَّنا نشبّه بذلك ونقول إنَّ الله أعطى المعصوم علماً، بحيث إذا أشرق هذا العلم في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره، فإنَّه يمنعه من المعصية.
إنَّنا نقول: أيّ فرق بين الحتميَّة حينما تكون بشكل مباشر، أو حين تكون بواسطة، بأن يعطيه الله شيئاً لم يعطه لغيره مما يمنعه من المعصية؟! إنَّ هذا يعني أنَّ العصمة حتميَّة، ولكنها من خلال أنَّ الله أودع فيه شيئاً يجعله يمتنع عن المعصية باختياره أو بدونه، لكنَّ المسألة ليست اختياريَّه في الأساس، باعتبار أنَّه عندما أودع الله فيه هذا العلم الَّذي لم يودعه في غيره، فإنَّه لا يستطيع أن يعصي في هذا المجال.
ولهذا، فإنَّنا في الوقت الَّذي لا نريد أن نؤكّد هذه المسألة، لكنَّنا نعتقد أنَّ عقيدة الشيعة الإماميَّة، في أنَّ النَّبيّ واجب العصمة، وأنَّ الإمام واجب العصمة، لا تخلو من الإشكال، لأنَّ عمليَّة الوجوب الَّتي تمثِّل الحتميَّة، لا تتماشى مع عمليَّة الاختيار الذَّاتيّ للإنسان. وإذا كان بعضهم يفرّق بين الإمكان الذَّاتيّ والإمكان الوقوعيّ، فإنَّني أعتقد أنَّ المسألة لا تختلف بهذا المعنى، لأنَّ كون الشَّيء ممكناً ذاتاً - إذا كان ممتنعاً وقوعاً بحسب كلّ القضايا، وليس ممتنعاً وقوعاً في قضيَّة خاصَّة من خلال حالة اختياريَّة محدودة -لا يحلّ المشكلة، لأنَّ القضيَّة لا تختلف بين الإمكان الذَّاتيّ والإمكان الوقوعيّ، لأنَّه إذا كان ممتنعاً وقوعاً فلا قيمة للإمكان الذَّاتيّ، لأنَّه يصبح مجرَّد حالة تجريديَّة لا علاقة لها بعالم الاختيار الَّذي هو حالة واقعيَّة للإنسان.
لذلك، نحن لا نعتبر أنَّ الحديث عن اختياريَّة العصمة وعن حتميَّتها من القضايا المهمَّة في مسألة العقيدة، سواء سلَّمنا بهذا أو لم نسلِّم، فإن العقيدة الإماميَّة في العصمة تفرض أن نعتقد بأنَّ النَّبيَّ معصوم وأنَّ الإمام معصوم.
أمَّا كيف انطلقت عصمته؟ ما هو اللّطف الإلهيّ الَّذي يعبّر عنه بعض النَّاس؟ ما تأثير العلم الَّذي يعطيه الله إيَّاه؟ إنَّ هذا أو ذاك لا يعتبر من القضيَّة شيئاً من قريب أو بعيد.
وفي ضوء هذا، فإنَّنا من خلال فهمنا لدور النبوَّة ودور الإمامة، نعتقد بأنَّه لا بدَّ للنَّبيّ أو للإمام من أن يكون معصوماً في جميع الأمور، سواء في القضايا الَّتي تتَّصل بالتَّبليغ، أو القضايا الَّتي تتَّصل بحركة الفكر في واقع الحياة(1).
[1] ـ من كتاب "فقه الحياة"، الطّبعة الخامسة، ص 189 وما بعدها، مؤسّسة العارف للمطبوعات، بيروت.
س: يتردَّد في بعض الأوساط أنَّ لكم رأياً مخالفاً للمشهور في موضوع العصمة، فهل لكم أن توضّحوا لنا رأيكم حول هذا الموضوع؟
ج: الواقع أنّه ليس لي رأيٌ سلبيّ في العصمة، بل إنّي أتصوَّر أنَّ نهجي في الاستدلال على العصمة أكثر سلامةً ودقّةً من المنهج الَّذي اعتمده الآخرون. فنحن نلاحظ أنَّ من أدلَّة القدماء على العصمة، أنَّ غير المعصوم يفقد ثقة النَّاس به، فلا يُقبلون عليه، ولا يستمعون إليه، ما يُلغي دور النَّبيّ أو دور الإمام إذا لم يكونا معصومين. إذاً فالعصمة تكون لاحتواء واقع النَّاس، لأنَّ النَّاس تتبع من تثق به، ولا تتبع من لا تثق به، فلو أنَّ الله أرسل أنبياء غير معصومين، أو أنَّ النَّبيَّ عيّن بأمرٍ من الله أئمَّةً غير معصومين، فإنَّ النَّاس لا تثق بهم، وبالتَّالي، فإنَّ أثر النّبوَّة أو أثر الإمامة يكون قد فقد.
إنَّنا نتصوَّر أنَّ هذه المسألة لا تسلم أمام النَّقد، لأنَّ العقل إنّما يحكم في هذا الاتّجاه من العصمة في حالة التَّبليغ، لأنّه لا معنى لأن يرسل الله نبيّاً، أو أن يعيّن إماماً، لا يستطيع أن يضمن استقامته في خطّ الصّدق أو في خطّ الوعي، والالتفات إلى ما يبلّغه عن الله وعن رسوله، لأنَّ النَّاس إذا فقدت ثقتها بكلام الوليّ، باحتمال أنَّه ينسى أو يسهو أو يحرِّف الكلام عن مواضعه أو يغفل أو ما إلى ذلك، فإنَّ النَّاس لا تثق بأنَّ ما يقوله هو من عند الله سبحانه وتعالى، وبذلك تفقد الرّسالة وثاقتها في نفوس النَّاس، فلا يعود لها معنىً في عمليَّة الإيمان وفي عمليَّة الهداية.
أمَّا بالنّسبة إلى العصمة في غير هذا الجانب، كما لو فرضنا أنَّ النَّبيّ أو الإمام يخطئ في أمور حياتيَّة، أو أنّه ينسى بعض الأشياء العاديَّة، أو يسهو في صلاته، فإنَّ العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السَّهو في هذا المجال، بل إنّنا نرى أنَّ بعض فقهاء الشيعة، وهو الشَّيخ الصّدوق أو أبوه أو شيخه (رضوان الله عليهم)، يرون أنَّ أوَّل علامة من علامات الغلوّ هي نفي السَّهو عن الأئمَّة، ونرى أنَّ بعض علمائنا، ومنهم السيّد الخوئي (ره)، يتحدَّث بأنَّه ليس من الممتنع أن يسهو النَّبيّ أو الإمام في غير موقع التَّبليغ، ولكن الممتنع فقط هو أن يسهو في التَّبليغ.
وفي ضوء هذا، فإنَّ العقل لا يحكم بضرورة أن يكون معصوماً في القضايا الأخرى، كما أَنَّ النَّبيّ أو الإمام لا يفقد ثقة النَّاس به لمجرَّد خطأ هنا أو خطأ هناك، ممّا لا يتَّصل بالقضايا الحيويَّة الأساسيَّة الَّتي تمسّ خطّ الاستقامة في الإيمان والإسلام وما إلى ذلك. ونحن نلاحظ في الواقع الخارجيّ، أنّ النَّاس ترتبط بكثيرين في المسألة السياسيَّة والمسألة الدينيَّة والاجتماعيَّة، فتنجذب إلى أشخاص بشكل فوق العادة، مع إيمانها بأنَّ هؤلاء النَّاس يخطئون في غير الموقع الَّذي يتبعونهم فيه، أو أنّهم لا يتعمّدون الخطأ حتّى في المواقع الَّتي يتبعونهم فيها، بحيث يتراجعون عن الخطأ في حال اكتشافه، فإنَّ النَّاس لا تفقد ثقتها فيهم.
لذلك، فإنَّنا قلنا إِنَّ هذا المنهج في الاستدلال، لا يصلح أن يكون أساساً عقليّاً للقول بالعصمة، ولا سيَّما إذا أردنا أنْ نتحدَّث عن العصمة بشكلٍ شامل، بحيث تشمل التَّبليغ وغير التَّبليغ.
ومن هنا، فإنَّنا حاولنا - ولا ندري كم تصدق هذه المحاولة من النَّاحية الفكريَّة - أن ندرس طبيعة النّبوَّة، فإنَّ النّبوَّة ليست مهمَّة (ساعي بريد) ينقل الرّسالة ليبلّغها للنَّاس وتنتهي مهمَّته عند هذا الحدّ، بل نحن نقرأ في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]، ونقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[الأحزاب: 45 - 46]، فهو إضافةً إلى كونه مبشّراً ونذيراً، يمثّل الشَّاهد على النَّاس، كما السّراج الَّذي يضيء للنَّاس، ومن المعلوم أنَّ المقصد أنَّه يضيء للنَّاس درب الحقّ.
وهكذا كان موقع النَّبيّ أن يحكم بين النَّاس بالحقّ، وأن يقيم الحياة على أساس الحقّ. ومن الطَّبيعيّ أنَّ الإنسان الَّذي يراد له من خلال موقعه أن يغيّر العالم على أساس الحقّ، لا يمكن أن يكون في عقله أو قلبه أو حركته شيء من الباطل، والإنسان الَّذي جاء ليكون السّراج المنير، لا يمكن أن يكون في عقله أو في إحساسه أو حركته شيء من الظّلمة، الأمر الَّذي يجعل مسألة النّبوَّة مسألة نور يشرق في عقول النَّاس وقلوبهم وحياتهم، ولا سيَّما أنَّ الله جعل الكتاب الَّذي يحمله النَّبيّ (ص) نوراً، واعتبر النَّبيَّ تجسيداً للكتاب، فهو القرآن النَّاطق الى جانب القرآن الصَّامت.
إنَّنا نعتقد أنَّ فهمنا لدور النبوَّة، وهو دور المهمَّة الَّتي يراد لها أن تغيّر العالم على أساس الحقّ، يفرض أن يكون النَّبيّ حقّاً كلّه، وأن لا يكون فيه شيء من الظّلمة. والإمامة هي امتداد للنبوَّة من دون نبوَّة: "يَا عَلِيّ، أَنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مَوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي". لذلك، لما كان دور الإمام هو دور حارس الشَّريعة، ودور الإنسان الَّذي يعمل على امتداد خطّ النبوَّة في حياة النَّاس، على أساس تركيز الحقّ في الفكر والعمل والقول وفي حركة الواقع، فلا بدَّ أن يكون معصوماً، تماماً كما هو النَّبيّ (ص) في هذا المجال.
وهناك نقطة أخرى نثيرها أمام مسألة شموليَّة العصمة جوانبَ التَّبليغ وغير التَّبليغ، أنَّ الشَّخصيَّة لا تعيش ازدواجاً في واقع الإنسان، فالإنسان الَّذي لا ينسى في مسألة التَّبليغ، لا ينسى في المسائل الأخرى، والإنسان الَّذي ينطلق بالحـقّ في التَّشريع وفي التَّبليغ، لا بدَّ له أن ينطلق بالحقّ في الجوانب الأخرى، لأنَّه لن يكون كذلك، إلَّا إذا كان الحقّ أساسيّاً في شخصيَّته.
وهناك نقطة أثرناها في مسألة العصمة، وهي أنَّ العصمة حينما تكون بهذا الشَّكل غير العاديّ الَّذي لا يمكن أن يملكه الإنسان، ليس من خلال تجربته الخاصَّة، بحيث يمتنع عليه ولو امتناعاً وقوعيّاً أن يخطئ أو أن ينحرف، بل لا بدَّ أن يكون هناك فيض من الله على نفس هذا النَّبيّ أو هذا الإمام، بحيث يمتنع عن الانحراف وصدور الباطل عنه، وهذا ما ربَّما يتحدَّث عنه الآخرون بشكل سلبيّ، باعتبار أنَّه يوحي بالجبريَّة. ولكنَّنا نحاول أن نناقش هذه السَّلبيَّه الَّتي يتَّخذها بعض النَّاس بطريقة موضوعيَّة علميَّة:
أوَّلاً: إنَّ مسألة حتميَّة العصمة قد تبطل الثَّواب في رأي هؤلاء، لأنَّك عندما تندفع الى عمل الخير بعصمتك، فأنت لم تبذل جهداً في ذلك، فعلى أيّ أساس تستحقّ الثَّواب؟ ولهذا يقول هؤلاء إنَّ حتميَّة العصمة تبطل الثَّواب.
ولكنَّنا نجيب عن ذلك بأنَّ علماء الكلام يرون أنَّ الإنسان المؤمن العامل بالصَّالحات، لا يستحقّ الثَّواب من خلال عمله، لأنَّ عمله ملكٌ لله، وعقله الَّذي فكّر به واهتدى به، خَلْقُ الله، ولأنَّ أعضاءه الَّتي عبد الله بها، والَّتي استخدمها في سبيل العمل، هي ملك الله، فليس هناك شيء إنسانيّ بعيداً من الله في حركة الإنسان ليستحقّ عليه الثَّواب، فعمله وفكره وحركته لله، لذلك قالوا إنَّه يستحقّ الثَّواب بالتفضُّل، فالله تفضَّل على عباده، وجعل لهم الثَّواب على عملهم بمنّه وتفضّله.
قد تقول: فما المانع أن يختصر الله المسألة، فيجعل لعبده الثَّواب تفضّلاً منه، من دون ربطه بالجهد العملي؟
وفي الجواب عن ذلك نقول: إنَّ ربط المسألة باختيار الإنسان وعمله هو لأسباب تتعلَّق بالاصطفاء وتأكيد أهميَّة العمل، ولمصالح تتعلَّق بالرّسالة الإلهيَّة.
ثانياً: ربَّما يُثار سؤال أمام هذا الموضوع من الآخرين، أنَّ الله إذا عصم الإنسان بطريقة حتميَّة، فما فضله على بقيَّة النَّاس؟ ربَّما يكون النَّاس الآخرون أفضل من المعصوم، ولا فضل للمعصوم على النَّاس، لأنَّ الله قد عصمه ولم يعصمهم، فلا فضل له على النَّاس في عصمته؟!
إنَّنا نقول: إنَّ الفضل من الله، والله هو الَّذي يعطي الفضل، وهو الَّذي يعطي القيمة، وهو الَّذي يصطفي في النَّاس رسلاً، ومن الملائكة رسلاً، فالقيمة للإنسان المعصوم أنَّ الله قد اصطفاه وعصمه واختاره، فلا بدَّ أن يكون اختيار الله واصطفاؤه له لحكمة.
أمَّا ما هي الحكمة، ولماذا اصطفى هؤلاء دون غيرهم؟ فنقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء: 23]. فلا بدَّ أن تكون هناك حكمة في اصطفائه، ولو كانت الحكمة لأنَّ الله صنعه بطريقة ما، وأراد أن يكون نوراً يشرق في النَّاس، تماماً كما صنع الشَّمس وجعلها نوراً كلّها لتشرق على النَّاس، فالشَّمس تفضلُ القمر، وتفضل الكثير من الظَّواهر الكونيَّة، ولكنَّ فضلها من الله، والله أعطاها هذا الفضل، فلماذا، إذاً، لا يمكن أن يكون الفضل للإنسان لأنَّ الله عصمه، ولأنَّ الله اصطفاه؟!
إنَّ المسألة في هذا المقام ليس من الضَّروريّ دائماً أن تكون مسألة قيمة تنطلق من عمق الذَّات، بل إنَّ القيمة تنطلق من الله سبحانه وتعالى الَّذي يجعل في الذَّات أسراراً تجعل هذا التّراث ذا قيمة من ناحية موضوعيَّة، تماماً كما يجعل الجمال فضلاً، ولكنَّ الجميل لم يخلق جماله، والله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وبهذا فضل على الحيوان، ولكنَّ التَّفضيل لم يكن منطلقاً في هذا الجانب من اختيار الإنسان وإرادته، إنَّنا نعتقد أنَّ الفضل هو من اختصاص الله له وتمييزه بهذه الميزة أو تلك.
ثالثاً: إنَّ القدوة تبطل، لأنَّ النَّاس عندما يرون هذا معصوماً من خلال خلق الله له وهو معصوم، فيقال بأنَّه ليس بإمكان النَّاس الوصول إلى مستوى المعصوم لكي يُقتدى به؟!
لكنَّ هذا الكلام لا يثبت أيضاً أمام النَّقد، لأنَّه يكفي في القدوة أن يكون عمله جيّداً، وأن يكون مقدوراً في النَّاس، وليس من المفروض في القدوة أن يكون مستوى المقتدي في مستوى المقتدى به، فالنَّاس تقتدي بالعلماء، والعلماء في درجة عالية من العلم والفضيلة، فإذا كان المطلوب بالقدوة أن يكون مساوياً للمقتدي، لما اقتدى إنسان بإنسان. نعم، عندما يقوم النبيّ بمعجزة، فإنَّنا لا نستطيع أن نقوم بها، لأنَّنا نقول إنَّ النَّبيّ قد زُوّد بطاقات معيَّنة لم نُزوَّد بها، وهذا أمرٌ مقدور له، وليس باقتدارنا القيام به.
وهناك نقطة لا بدَّ أن نثيرها في هذا الموضوع، وهي أنَّ المعصوم ينطلق بإرادته نحو الطَّاعة، ولكنَّه إذا أراد أن يعصي، فإنَّ الله يعصمه في ذلك عندما تتوفَّر له ظروف المعصية، فإنَّ الله يخلق له حواجز تصدّه عن هذه المعصية، فليس معنى حتميَّة العصمة أنَّه هنا لا يملك الاختيار، بل هو يملك أن يفعل، ولكنَّه عندما يتوجَّه الضّعف البشريّ في نفسه، فإنَّ الله يتدخَّل، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]، أو في قول يوسف (ع): {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}[يوسف: 33] ، فالله قد يعصمه من ناحية داخليَّة، وقد يعصمه من ناحية خارجيَّة.
لذلك، فإنَّ الحتميَّة الَّتي نقول بها لا تسلب عنصر الاختيار، لأنَّ الحتميَّة إنَّما تأتي في الجانب السَّلبيّ، فهو يندفع إلى الطَّاعة بكلّ إرادته وإيمانه ومعرفته بالله سبحانه وتعالى، ولكن إذا انطلقت نقاط الضّعف البشريّ في نفسه، فإنَّ الله يعصمه منها، إمَّا بطريقة وقائيَّة، بأن يزرع في نفسه ما يعتصم به، أو أن يحدث هناك شيء يعصمه من الوقوع في الخطأ، بحيث ينطلق فيه بشكل إراديّ، فهو معصوم دائماً، يعني أنَّه تحت رعاية الله وتسديده دائماً.
ولعلَّ هذا هو الَّذي ينسجم مع العقيدة المشهورة عند الشّيعة، وهو أنَّ النَّبيّ يُخلَق معصوماً، فهو معصوم قبل البعثة كما هو معصوم بعدها، وأنَّ الإمام أيضاً هو معصوم قبل الإمامة كما هو معصوم بعدها، وهذا هو الرَّأي المشهور عند الشّيعة.
إنَّنا نتساءل: إذا كانت العصمة تنطلق من حالة اختياريَّة ذاتيَّة، فكيف يمكن أن يكون معصوماً وهو في بداية الطّفولة؟
إنَّ البعض يقول إنَّ الله يعطيه مرتبةً من العلم، بحيث إنَّه إذا عاش في داخلها، فإنَّ نفسه لا تتوجَّه إلى المعصية، كما نلاحظه في الإنسان الَّذي يترسَّخ في نفسه قبح بعض الأفعال، بحيث لا يندفع نحوها، كما في قضيَّة الصّدود النَّفسيّ عن التعرّض جنسيّاً للمحارم، كالأمّ والأخت والعمَّة والخالة، لأنَّ معرفته بقبح هذا الشّيء قد بلغت حدّاً بحيث تمنعه من الإقدام عليه.
إنَّنا نشبّه بذلك ونقول إنَّ الله أعطى المعصوم علماً، بحيث إذا أشرق هذا العلم في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره، فإنَّه يمنعه من المعصية.
إنَّنا نقول: أيّ فرق بين الحتميَّة حينما تكون بشكل مباشر، أو حين تكون بواسطة، بأن يعطيه الله شيئاً لم يعطه لغيره مما يمنعه من المعصية؟! إنَّ هذا يعني أنَّ العصمة حتميَّة، ولكنها من خلال أنَّ الله أودع فيه شيئاً يجعله يمتنع عن المعصية باختياره أو بدونه، لكنَّ المسألة ليست اختياريَّه في الأساس، باعتبار أنَّه عندما أودع الله فيه هذا العلم الَّذي لم يودعه في غيره، فإنَّه لا يستطيع أن يعصي في هذا المجال.
ولهذا، فإنَّنا في الوقت الَّذي لا نريد أن نؤكّد هذه المسألة، لكنَّنا نعتقد أنَّ عقيدة الشيعة الإماميَّة، في أنَّ النَّبيّ واجب العصمة، وأنَّ الإمام واجب العصمة، لا تخلو من الإشكال، لأنَّ عمليَّة الوجوب الَّتي تمثِّل الحتميَّة، لا تتماشى مع عمليَّة الاختيار الذَّاتيّ للإنسان. وإذا كان بعضهم يفرّق بين الإمكان الذَّاتيّ والإمكان الوقوعيّ، فإنَّني أعتقد أنَّ المسألة لا تختلف بهذا المعنى، لأنَّ كون الشَّيء ممكناً ذاتاً - إذا كان ممتنعاً وقوعاً بحسب كلّ القضايا، وليس ممتنعاً وقوعاً في قضيَّة خاصَّة من خلال حالة اختياريَّة محدودة -لا يحلّ المشكلة، لأنَّ القضيَّة لا تختلف بين الإمكان الذَّاتيّ والإمكان الوقوعيّ، لأنَّه إذا كان ممتنعاً وقوعاً فلا قيمة للإمكان الذَّاتيّ، لأنَّه يصبح مجرَّد حالة تجريديَّة لا علاقة لها بعالم الاختيار الَّذي هو حالة واقعيَّة للإنسان.
لذلك، نحن لا نعتبر أنَّ الحديث عن اختياريَّة العصمة وعن حتميَّتها من القضايا المهمَّة في مسألة العقيدة، سواء سلَّمنا بهذا أو لم نسلِّم، فإن العقيدة الإماميَّة في العصمة تفرض أن نعتقد بأنَّ النَّبيَّ معصوم وأنَّ الإمام معصوم.
أمَّا كيف انطلقت عصمته؟ ما هو اللّطف الإلهيّ الَّذي يعبّر عنه بعض النَّاس؟ ما تأثير العلم الَّذي يعطيه الله إيَّاه؟ إنَّ هذا أو ذاك لا يعتبر من القضيَّة شيئاً من قريب أو بعيد.
وفي ضوء هذا، فإنَّنا من خلال فهمنا لدور النبوَّة ودور الإمامة، نعتقد بأنَّه لا بدَّ للنَّبيّ أو للإمام من أن يكون معصوماً في جميع الأمور، سواء في القضايا الَّتي تتَّصل بالتَّبليغ، أو القضايا الَّتي تتَّصل بحركة الفكر في واقع الحياة(1).
[1] ـ من كتاب "فقه الحياة"، الطّبعة الخامسة، ص 189 وما بعدها، مؤسّسة العارف للمطبوعات، بيروت.