هناك ظاهرة عامّة تتمثّل في حياتنا السلوكيّة العامّة، كمسلمين، حتّى لتتَّخذ في أغلب مجتمعاتنا صفة الطابع العام الذي يطبع واقعنا، ويلوِّن شخصيّتنا، ويصنّفنا بالتالي في عداد الشعوب غير المتمدّنة.
إنّها ظاهرة طريقة ممارسة العلاقات الاجتماعية في سلوكنا العملي، أو بالأحرى أسلوب ممارستنا لنوازعنا ونزواتنا في حياتنا الاجتماعية.
فنحن نمارس أفكارنا ونزعاتنا كما لو كنّا أفراداً نعيش في أرض خالية ليسَ فيها أحد، فقد لا نلتفت في كثير من الأحيان إلى الناس الذين يعيشون معنا ونعيش معهم، من حيث تأثير أفعالنا أو أقوالنا في حياتهم العامّة والخاصّة، من النواحي السلبية والإيجابية، فالمهم لدينا ـــ في كثير من الحالات ـــ أن نعيش على مزاجنا، وليس من المهمّ لدينا أن ننظر فيما إذا كان ذلك يعكّر مزاج الآخرين أو يسيء إلى حياتهم.
ظاهرة الضّجيج
وكمثال على ذلك، ظاهرة الضجيج المزعج الذي يفترس الهدوء الداخلي والخارجي للإنسان في هذه المجتمعات.
فإنَّنا نلاحظ أنَّنا لا نعرف طريقة الهمس أو الإخفات، حتّى في كثير من أحاديثنا الخاصّة، فقد يلفت نظرنا ـــ في بعض الأحيان ـــ أن نسمع إلى الزّوجين أو غيرهما ـــ في داخل البيت ـــ يتحدَّثان عن قضاياهما الخاصّة بصوت مرتفع يعلو حتّى يصل إلى آذان بقيّة الجيران، وقد يحدث أن يتحدّث الناس في الشارع أو في النوادي وهم متلاصقون في الموقف أو في المجلس، فلا تشعر إلا وهم يتحدّثون بصوتٍ عال لا يسمح لمن حولهم أن يتحدَّثوا بهدوء.
ومن الطبيعيّ أن ينعكس هذا الوضع على أسلوبهما في استعمال أجهزة الإعلام؛ من مكبّرات الصوت، إلى الراديو، أو التلفزيون، أو آلات ضبط الصوت (المسجّلات)، فنجد أنّ أصحابها يجعلون مؤشّر الصوت يصل إلى أعلى درجة يمكن أن يصل إليها، حتّى يصل إلى كلّ بيت في المنطقة أو في القرية.
مزاجٌ مؤذٍ!
ولماذا هذا كلّه؟
إنَّه المزاج الشخصي الّذي يدفع الإنسان إلى أن يرفع صوته دون ضرورة، أو يطلق صوت المذياع دون حاجة. وقد تفاجئك كلمة "أنا حرّ"، عندما تحاول الاعتراض على هذا وذاك في عمله. هذا وربّما تجد مَن يتعجَّب منك على هذه الملاحظة ما دام المذياع له، وما دام البيت بيته، وقد تجد مَن يقابلك بعدم الالتفات إلى ما يجرّ هذا التصرّف من نتائج سيّئة للآخرين، فهو يمارس هذا الأسلوب في الحديث أو في استعمال الجهاز بشكلٍ عفويّ، فهكذا اعتاد، وهكذا قد تعلَّم.
ونحن في ذلك كلّه، نلمح ظاهرة الغفلة عن نتائج تصرُّفاتنا تجاه الآخرين، أو الاستهتار بمشاعرهم وحريّاتهم. فكلمة "أنا حرّ"، تعطينا الإحساس بأنَّ قائلها يشعر بأنَّ عليه أن يمارس حريّته في ما يحبّ وفي ما يكره، من دون اهتمام بحريّة الآخرين في أن يعيشوا بهدوء واطمئنان، فليسهر المتعب المكدود، وليتألَّم المريض المعذَّب، وليبق الطالب بدون قراءة أو دراسة، ولتتحطَّم أعصاب المجهدين... فذلك كلّه لا قيمة له أمام ممارسته حريّة نزواته ونزعاته.
أمّا مَن يتعجَّب منك على ملاحظتك لأنّه يمارس الحديث في بيته، أو يطلق المذياع الذي يملكه، فهو نموذج آخر يعتقد أنّ من حقّه التصرّف في ما يملكه وفي ما يسيطر عليه بجميع الوسائل والأساليب، وإذا كان الآخرون ينزعجون من ذلك، فبإمكانهم الرحيل من دارهم، والابتعاد عنه. إنّه يتصرَّف في ملكه، وليس من حقّ الآخرين أن يمنعوه من ذلك، كما أنّه لا يمنعهم من التصرّف في ما يملكون!
أمّا الذي يملك من أسلوب اللّياقة أن يعتذر، ولكنّه يعلّل تصرّفه بالغفلة عن نتائج عمله، وباعتياده هذا الأسلوب المثير للضجيج وللضوضاء، فقد نجد فيه الشّاهد على امتداد هذه الظاهرة، حتّى لتتحوَّل إلى عادة عضوية يمارسها الناس دون شعور، وتصبح درساً من دروس التربية العمليّة التي ينشأ عليها الصغار ويشيب معها الكبار.
ومن الطريف جداً، أنّك تجد كلّ هؤلاء يضجُّون بالشكوى من هذه الظاهرة التي تحطّم الأعصاب، وترهق الجسم، وتعطّل الأعمال، ويظلُّون يحلمون بالانتقال من مناطقهم إلى مناطق أخرى أقلّ ضجيجاً وأكثر هدوءاً، ويتحدّثون الأحاديث الكثيرة عن الجماعات الأخرى التي تعيش في هدوء يبعث الخدر في الجسم، حتّى ليحلّق بأجنحة من الأحلام دون نوم، دون أن يلتفتوا إلى أنّهم يمارسون الضجيج في الوقت الذي ينتقدونه، لأنَّ أسلوبهم هذا أصبح عادة تعيش معهم في اللاشعور.
أساليب متخلّفة
هذا نموذج بسيط من نماذج أسلوبنا العملي في حياتنا الاجتماعية، التي أصبحت تأخذ صفة التخلُّف فيما تأخذ من صفات.
وقد يكون لأولئك الذين كرَّسوا هذه الصفة بعض العذر في ذلك، لأنَّ مجتمع الحضارة ينطلق من قاعدة احترام مشاعر الآخرين وحريّاتهم، وبالتالي احترام وجودهم كبشر من حقّهم أن يعيشوا في المجتمع كما تعيش، وأن يرتاحوا كما ترتاح.
فنحن نفهم أن يمارس الإنسان كلّ حريّته في الصحراء عندما يكون وحده، لأنَّ ذلك لا يمثّل عدواناً على أحد، ولا يشكِّل ضرراً على أحد.
أمّا عندما يكون الإنسان في داخل المجتمع، حيث يتأثّر الأفراد بالأفعال والأقوال التي تصدر عن بعضهم البعض.. أمّا عندما تكون ساحة الحياة شركة بينك وبين غيرك، فليس لك أن تطرد غيرك من الحياة بحجّة أنّك تريد أن تمارس كلّ حياتك، أو تخنق شركاءَكَ في نطاق حريّتك، بحجّة أنّك تريد أن تستنفد كلّ ما لك من حريّة، لأنَّ ذلك يلغي معنى المجتمع، ويحوّل الوضع إلى حياة فرديّة أنانيّة، وبالتّالي إلى صراع لن يكون الرابح فيه أحد في أغلب الأحيان.
إنَّ معنى أن تعيش في إطار المجتمع، هو أن تحسّ بوجود الآخرين، وتشعر بمسؤوليّتك تجاه ذلك.
ولعلَّ من آثار ذلك، هو أن تفهم أنّ أغلب مجالاتك في المجتمع ليست لك وحدك، بل هي ملك لك ولغيرك، تماماً كما يشير إليه الحديث النبويّ الشّريف الذي ضرب مثلاً للحياة الاجتماعيّة ومسؤوليّة المجتمع عن حمايتها، بالسّفينة التي يجلس فيها كلّ راكب في مكانٍ خاصّ، وأراد أحد الرُّكاب أن يقتلع الخشبة التي يجلس عليها بحجّة أنّها ملكه، فهل للآخرين أن يوافقوه على هذه الحجّة؟ إنَّ الحديث الشريف يرفض ذلك، لأنَّ كلّ خشبة في السفينة هي من حقّ الجميع ما دامت حياتهم جميعاً متعلّقة بها.
وهكذا نستطيع أن نعلّق على كلمة هؤلاء الذين يتشدَّقون بالحريّة في ممارسة نزواتهم وإن أضرَّت بالآخرين، كما في النموذج الذي قدَّمناه الذي يحتجّ على الضجيج الذي يحدثه بأنّه يمارسه في بيته.
آنَ لنا أن نعلّق على ذلك، بأنَّ الجدران التي يشتمل عليها البيت، أو الأبواب وما إلى ذلك، قد تكون ملكه، ولكنَّ هذا الفضاء الذي ينطلق فيه هدير الصّوت، شركة بينه وبين غيره، فليس له أن يتصرَّف فيه بما يسيء إلى حياة شريكه.
إنَّ الصوت عندما ينطلق لا ينطلق داخل الجدران، وإنّما يرتفع في الفضاء ليدخل كلّ بيت، ويغزو كلّ أُذن، ويفترس كلّ هدوء. ولذا، فليس من حقّه أن يطلقه من زاوية الحجّة التي يحتجّ بها.
*من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".