كتابات
09/07/2015

موقفنا من القضيَّة الفلسطينيّة ثابت وليس مجرَّد شعارٍ سياسيّ

موقفنا من القضيَّة الفلسطينيّة ثابت وليس مجرَّد شعارٍ سياسيّ

المرجع فضل الله في مقابلةٍ له مع مجلَّة القدس:

موقفنا من القضيَّة الفلسطينيّة ثابت وليس مجرَّد شعارٍ سياسيّ

هيئة تحرير نشرة "القدس" التابعة للّجنة الإعلاميّة لقيادة حركة "فتح" لبنان، تلتقي العلامة السيّد محمد حسين فضل الله..

في لقاء مميّز، تحدث السيد الإمام ببلاغة المعنى وصدق الكلمة وعمق الوفاء عن القضية الفلسطينية؛ هذه القضية التي تمثّل الصدارة في تفكير هذا الرجل، لما لها من أهمية عنده كقضيَّة شعب أولاً، تعيش في وجدان كلّ رجل عربيّ وإسلاميّ أبيّ، وكقضية سياسية كبرى لها تداخلات جمّة على مستوى العالم، بحيث باتت تشكّل محور كل القضايا في منطقة الشرق الأوسط. وانطلاقاً من هذه الروحية الصادقة، سألناه:

مستقبل القدس

ـ القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشَّريفين، ومسرى النبيّ محمَّد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومهد سيِّدنا عيسى(ع)؛ هذه المدينة المقدَّسة تتعرّض منذ سنواتٍ لتهويد شبه شامل، تمهيداً لابتلاعها، وذلك عبر عمليَّات البناء والاستيطان في رأس العمود وجبل أبوغنيم، وحفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى. كيف ترون أيّها السيّد الموقّر، مستقبل هذه المدينة المقدَّسة؟ وكيف يجب أن يكون الردّ على هذه الإجراءات الصّهيونيّة؟

ـ من الطَّبيعيّ أن يشعر الإنسان الّذي يتابع حركة القضيَّة الفلسطينيَّة بكلّ التّعقيدات التي تعيش في داخلها، وبكلّ الظّروف التي تحيط بها، من خلال الأسلوب الّذي يتعامل فيه العالم، حتى الّذين قد يصرّحون بأنهم معنا في العمل، على تجذير الأمر الواقع، إلا الإنسان الّذي يعيش نوعاً من القلق حول مصير القدس، عبر القلق حول مصير القضيَّة الفلسطينية بالكامل.

وقد كنت ولا أزال من النّاس الّذين يرفضون الحديث عن القدس كـ"مدينة"، لأنّنا حينما نفصلها عن القضيّة الفلسطينيّة، ونحاول استثارة العواطف حول القدس بالذّات، فقد ينطلق الفاتيكان ليتحدَّث عن صيغة معيَّنة للقدس، وقد تنطلق بعض المشاريع لتتحدّث عن تدويل للقدس وما إلى ذلك، بحيث تنفصل القدس عن القضيّة الأمّ الأساس، الّتي هي عمق القدس، وهي المنطلق للقدس. ليس معنى ذلك أن نهمل معنى القدس في الوجدان العربي والإسلامي والعالمي، باعتبار أنها تمثّل المدينة العالميّة، لأنها المدينة الوحيدة الّتي تحتضن مقدّسات كلّ العالم المؤمن المتديّن، وتعيش في المنطق الحضاريّ كلّ مراحل التاريخ، لكن علينا أن نكون حذرين، بأن لا نجعل القدس غريبةً عن فلسطين.

ونحن نتابع التَّصريحات التي تتحدَّث عن القدس كعاصمةٍ لفلسطين، ولكن علينا أن لا نتابع بعض التّصريحات الّتي تتحدَّث عن المدينة "كمدينة". من الطّبيعيّ أنّنا عندما نطلّ على المسألة في بعدها الوطني أو بعدها القومي أو الإسلامي، فإنّنا نتصوّر أنّه من الضّروريّ أن يصمد أهل القدس صموداً يواجه كلّ التحركات التي قد تريد لهم أن يقعوا في الخطأ، أو يهيِّئوا الظروف التي تساهم في عمليّة التّهجير التي يمكن أن يصفّق لها بعض العالم.

إنّ الصّمود القويّ العقلانيّ الّذي يستفيد من كلّ التّجارب الّتي عاشها الفلسطينيّون عبر كلّ تاريخ قضيّتهم، يمكن أن يُبقي لنا شيئاً من القدس، لأنّ القدس ليست حجراً، وليست مسجداً ولا كنيسة؛ إنها إنسان. لهذا، فإنّني أتصوّر أنّ مسألة (إنسان القدس)، هي مسألة أساسيّة؛ مسألة الإنسان الّذي يعيش في القدس، مسألة الّذي يزور القدس، ويصلّي في القدس، ويتحرك في القدس، هذا النّوع من التّواصل بين فلسطين والقدس، يمكن أن يساهم في إبقاء هذه الرّوح المقدسيّة، إذا صحّ التعبير.

وتبقى المسألة السياسيّة الكبرى في القضيّة الفلسطينيّة، وهي كيف يمكن لنا أن نواجه التّعقيدات الّتي يضعها الكيان الصهيوني أمام قضيّة القدس، بأن لا نكتفي بالأحاديث الاستهلاكيّة التي قد تصدر عن أميركا حول بعض الكلمات الضبابيَّة حول القدس، بل علينا أن نؤكّد مسألة القدس وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، وأبعاد مسألة الوضع النّهائي الّتي تتحدث بها إسرائيل في تصريحات العالم السياسي في هذا المجال.

إنَّني أخشى على القدس من خلال خشيتي على القضيَّة الفلسطينيَّة، وإنّني أعتقد أنَّ المرحلة التي تمرّ بها القضيَّة الفلسطينيَّة، هي من أخطر المراحل في كلِّ التّاريخ، لسببٍ بسيطٍ، وهو أن إسرائيل في هذه المرحلة، تشعر بأنّها المرحلة الأخيرة التي تسبق تحديد حدودها في المنطقة، والّتي تتحوَّل فيها إلى دولة في الشَّرق، تراعي الموازين الدوليَّة في علاقتها بالمنطقة، والّتي تبتعد ظروفها عن أن تقوم بمغامرةٍ عسكريّةٍ اليوم أو غداً. لهذا، فإنها سوف تحاول أن تعمل بكلِّ قسوة في سبيل أن تحصل على كثيرٍ مما تريد أن تحصل عليه!

لهذا، فإنَّني أختلف مع الَّذين يحصرون المسألة في دائرة نتنياهو.. إنَّني أعتقد أنّ حدّة المرحلة التي يشعر بها كلّ اليهود في فلسطين لا تستثني أحداً، بل إنّ الشعب اليهودي أصبح يعيش هذه النّشوة، ويختزن في داخله أنّك كلّما فرضت على العرب واقعاً أكثر، احتدّوا أكثر، وخضعوا أكثر في بعض الحالات.. لذلك، أنا أعتقد أنَّ المرحلة تطبق بهبوطها الفوق العاديّ على الشّعب الفلسطيني وعلى السلطة الفلسطينيّة في الوقت الحاضر، بما قد يعنيه ذلك من أن يعيش الواقع الفلسطيني الكثير من الاختزال، ولو بعنوان الصّراع بين السلطة الوطنية والمعارضين، وما إلى ذلك مما تلوّح به أميركا وتطلبه إسرائيل. إنّني أعتقد أنّ المفصل الحاضر هو من أكثر المفاصل حيويّة وخطورة.

لا حياد أمام القضيّة الفلسطينيّة

ـ لقد أثبتت كلّ المحن الّتي مررنا بها كفلسطينيّين، أنَّ هناك حاضنةً عربيَّةً وإسلاميَّة للشَّعب الفلسطيني وقضيَّته العادلة. تُرى ما هي أهميّة هذه الحاضنة؟ وما هو دوركم كمرجعيّة إسلاميّة هامّة في العالم؟

ـ إنَّ القضية الفلسطينية ليست مسألة إقليمية في بعدها التاريخي، فهي استطاعت أن تختصر كلّ تاريخ المنطقة في مدى الخمسين سنة الماضية على الأقلّ، ولهذا، لم يعد هناك أيّة إمكانيّة من ناحية الواقع، لأيِّ حيادٍ عربي أو إسلامي أمام القضية الفلسطينيّة، هذا من جهة.

أمّا من جهة ثانية، فإنَّ مسألة علاقة القضيّة الفلسطينيّة بالواقع السياسي والاقتصادي والأمني لكلّ العالم العربي، هي علاقة عضوية، لأنّ مسألة إسرائيل ليست هي مسألة أنها احتلّت أرض فلسطين، لكنها مسألة دولة يُراد لها أن تحتلّ العالم العربي سياسياً واقتصادياً وأمنياً بطريقة معيّنة وبشكل غير مباشر.. فإذا انطلقنا إلى العالم الإسلامي أيضاً، فإننا نجد أنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة تتّصل بمستقبل العالم الإسلامي، باعتبار أنّ فلسطين هي قطعة من هذا العالم الإسلامي، وباعتبار تأثيرها المباشر وغير المباشر في كثير من قضاياه الحيوية.

لهذا، فإنَّني أتصوَّر أنَّ العمل على أساس إبقاء هذا التّواصل والترابط العضويّ بين الفلسطينيّين والعرب والمسلمين أساسيّ جدّاً، وإنّنا من موقفنا الإسلاميّ، نشعر بأن قضيّة فلسطين هي قضيّتنا الأساس، ونعتقد أنّ كلّ القضايا المتَّصلة بهذا البلد العربي أو المسلم أو ذلك، هي فرع عن القضيَّة الفلسطينيَّة، ولذا، فإنّنا نعتبر موقفنا من القضيّة الفلسطينيّة "ديناً ندين به"، وليس مجرّد شعار سياسيّ نستهلكه اليوم لنتركه غداً...

الوحدة تمنع من هضم فلسطين

ـ في عام النَّكبة الّتي تعرَّض لها شعبنا الفلسطيني عبر مؤامرة دوليَّة، تمَّ احتلال جزءٍ من فلسطين، وعلى مدى سنوات عدَّة، تمَّ هضمها وابتلاعها، وفي العام 1967، تمَّ احتلال الجزء الباقي من فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي، كالجولان وجنوب لبنان، ويعمل الكيان الصّهيونيّ منذ سنواتٍ على هضمها تمهيداً لابتلاعها.. ما هو تقديركم لأهميَّة وجود شعبنا وسلطته الوطنيَّة في الدَّاخل وعلى أرض الصِّراع؟

ـ إنَّنا نتصوَّر أنَّ وجود شعب فلسطين في داخل فلسطين، ووجود حياةٍ سياسيَّة في داخلها، بقطع النَّظر عن علامات الاستفهام هنا وهناك، يمثِّل أساساً في منع اليهود من ازدراد هذه اللّقمة الباقية من فلسطين، لكنّ المسألة التي أحبّ أن أؤكّدها، هي وحدة الشعب الفلسطيني والعمل بكلّ الوسائل، وأؤكّد "بكلّ الوسائل"، على إبقاء هذه الوحدة، وذلك في استمرار الحوار الميداني الّذي يؤكِّد جميع الأطراف دراسة الواقع بواقعيَّته، ودراسة المسألة الفلسطينيّة في بعدها المستقبلي، في تأثيرها في مستقبل الشعب الفلسطينيّ. والمنطقة استفادت من البعد التّاريخي الّذي مرّت به..

إنّني أحبّ أن أؤكِّد نقطة، وهي أنّ اليهود كانوا يعيشون "حلماً" خيالياً، ولكنهم صمّموا على أن يحوّلوا هذا الحلم إلى واقع، وعملوا بكلّ جهدهم بأن يتحرّك كلّ يهودي في العالم من أجل أن يقدّم شيئاً لهذه التجربة، واستطاع يهود العالم أن يحوّلوا هذا الخيال إلى حقيقة، وهذا الحلم إلى واقع.

لذلك، أخشى أنَّ هذا الجدل البيزنطي الّذي يعيش في داخل الساحة السياسيّة الفلسطينيّة، والذي يتحدَّث في المطلق "بعيداً عن الأرض"، والَّذي حاول أن يتحدَّث عن الآليَّة الطبيعيَّة الواقعيَّة، إنّني أخشى أن يبعد الفلسطينيين في الخارج عن القضية الفلسطينية، وأن يمنع هذا التواصل بين الداخل والخارج. لا بدَّ من أن يتوافق كل المخلصين وكل المعنيين ـ ولست هنا في موقع التنظير، ولكني في موقع ملامسةٍ للجرح ـ على أن يعيدوا القضية الفلسطينية إلى الوجدان الفلسطينيّ أوّلاً، قبل أن يعيدوها إلى الوجدان العربيّ، لأنّني أخشى أن تكون القضيّة الفلسطينيّة قد هربت من وجدان الفلسطينيين، وأصبح الفلسطينيون يفكّر كلّ واحد منهم من خلال قسوة الحياة، وقسوة الظروف المعيشيّة، وقسوة التحدّيات المحيطة بهم، بحيث بات كلّ واحدٍ منهم يفكّر كيف يدبّر نفسه في أستراليا أو في البرازيل، أو في أيّ بلدٍ آخر.

أعيدوا القضيّة الفلسطينيّة إلى الوجدان الفلسطينيّ والوجدان العربيّ والإسلاميّ، تماماً كما أنتج اليهود القضيّة الإسرائيليّة في وجدان اليهود، عندها يمكن أن نفكّر في أنّ القضيّة الفلسطينيّة سوف تأخذ بعدها في الواقع، ولو بعد خمسين سنة.

العرب يتحرَّرون من القضيَّة!

ـ هناك مشروع إسرائيليّ خطير في المنطقة يتضرَّر منه الجميع، ومن الملاحظ أنَّ هذه الخطورة لا يقابلها استعداد عربيّ، ولو بالحدّ الأدنى، وقد تُركنا نحن منذ البداية في المواجهة ضدّ هذا المشروع، بل أكثر من ذلك، لقد تُرك شعبنا الفلسطينيّ في الدّاخل لوحده فارغ اليدين، وفي قلبه جرح كبير، نتيجة الفارق الكبير بين الدّعم العربي والإسلامي له، والدّعم الذي تقدّمه أميركا والمتموّلين اليهود، للَّذين يشترون بيوتاً وأراضي في القدس، كيف تفسِّر هذه الأمور؟

ـ المشكلة الَّتي نواجهها بالنِّسبة إلى القضيَّة الفلسطينيَّة، هي أنَّ الواقع السياسيَّ العربيَّ كان يعمل على أساس التحرّر من القضيَّة الفلسطينيَّة، بدلاً من التحرّر من إسرائيل، وقد ساهمت التطوّرات السّياسيّة الّتي استغلّ اليهود بعضها، في مسألة ما سمي بإنهاء الصِّراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال اتّفاق أوسلو، في الوقت الّذي كان الهجوم الإعلاميّ يسوّق لهذه المسألة بشكلٍ فوق العادة، بالإيحاء بأنّ المسألة الفلسطينيّة قد انتهت، وأنّ الفلسطينيّين أصبحوا واقعيّين، كما يقول هذا الإعلام.

وبذلك، خُدِّر هذا العالم العربيّ والعالم الإسلاميّ بالنّسبة إلى القضيَّة الفلسطينيَّة، فلم تعد المسألة كيف يتحرَّر الفلسطينيّون، وكيف تكون لهم دولتهم، إلا بمثل التمنّيات، وأصبحت المسألة ملاحقة التّفاصيل؛ تفاصيل هذه المفاوضات في داخل فلسطين، أو في أميركا، أو في مصر، أو ما شابه ذلك، حتى إنَّ العالم العربيَّ شغل بقضايا كبيرة، ليس أقلّها عمليَّة احتلال الكويت، وما قبلها الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وما هناك من مشاكل في داخل العالم العربيّ، بحيث أصبحت كلّ دولةٍ عربيّة مشغولة بنفسها، وأصبح الشّعب من خلال التحدّيات التي تواجهه هنا وهناك، مشغولاً بنفسه، الأمر الّذي جعل القضيّة الفلسطينيّة تتحوّل إلى مفرداتٍ تفصيليّة، فأصبحت مسألة المستوطنات، وأصبحت مسألة جبل أبو غنيم، وأصبحت متى يكون اجتماع كلينتون بعرفات ونتنياهو...، أصبح النّاس يلاحقون التفاصيل، تفاصيل نهاية القضيّة، ولم تعد المسألة الأساس لذلك.

كنت أقول إنّنا نحتاج إلى أن نفكِّر بطريقة إعلاميّة سياسيّة تعرف كيف تعيد القضية الفلسطينية إلى الوجدان العربي والإسلامي.. أنا أتصوّر أنّ الذين يفكرون في القضية الفلسطينية أصبحوا متطرفين عند الكثيرين، وأصبح الحديث عن فلسطين حديثاً عن حالة التطرّف، وعن حالة التشدّد، وعن حالة اللاواقعيّة! لذلك، أنا أتصوّر أنّ هذه المسألة تمثّل أخطر مسألة في المنطقة.

لم يمرّ على اليهود، حتى في حالات الضَّعف التي كانت تمرّ بها القضيّة الصهيونيّة،  حال يفقدون فيها إحساسهم بالهدف! ربما كانت ترتفع بعض الأصوات هنا وبعض الأصوات هناك، لتتحدّث عن سلبيةٍ ما، لكنّهم لم يتركوا المسألة، ولو فرضنا أنّك قمت باستفتاءٍ في العالم العربيّ، فقد لا تجد نسبةً كبيرةً مع القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة في بعدها القوميّ والإسلاميّ.

لذلك أنا أقول: قد نستفيد نحن من بعض حالات ما يسمّى بالتطرّف، سواء كان تطرّفاً إسلاميّاً أو قوميّاً أو ما إلى ذلك، في إعادة إنتاج حالة التوتّر النفسيّ مع القضيّة الفلسطينيّة. إنّني أقدّر ما تابعناه أخيراً في الإعلام من موقف لفتح، الذي استطاع أن يعطي روحاً للمواجهة الصهيونيّة، بحيث بدأنا مثلاً نسمع ما لم نسمعه منذ مدّة طويلة من هذه الروح الحيّة، التي لا تستطيع أنت بمنطقها أن تقرن بينها وبين أيّ فصيل فلسطيني إسلاميّ.

أنا أقول: استفيدوا من المتطرّفين.. استفيدوا منهم في إعادة التوتّر الوجدانيّ مع القضيّة الفلسطينيّة، لأنّ القضيّة الفلسطينيّة عندما تتحوَّل إلى تفاصيل ومفردات سياسيّة يوميّة، سوف تموت، ولن تبلغ المفاوضات النهائيّة بأيِّ طريقة كانت، لأنَّ قيمة أيّ قضيّة في مستوى القضيّة الفلسطينيّة، هي أن تبقى "تحفر في عمق كلِّ إنسان شيئاً يجرحه ويؤلمه"، ليصرخ من خلال الجرح، ويتحرّك على هذا الأساس.

لذلك أقول إنَّ الخطر المميت هو أن يستسلم الواقع الفلسطينيّ للظّروف الأميركيَّة التي تصرّح بدون حياء بأنّه لا بدَّ من إسقاط البنية التحتيّة، لا إسقاط البندقيّة فقط، إسقاط البنية التحتيَّة وتمزيق الشَّعب، إنهم يريدون أن يستكملوا النّصر اليهوديّ بالنّهاية المميتة للفلسطينيّين، وهي أن يحارب الفلسطينيّون بعضهم بعضاً على طريق اللَّبننة في لبنان، وما عاشه اللّبنانيّون وعاشه الفلسطينيّون معهم، أو على طريق الجزارة، فيما تعيشه الجزائر من وضعٍ وحشيّ...

المؤتمر الإسلاميّ في طهران

ـ المؤتمر الإسلاميّ الّذي عقد في الجمهوريّة الإسلاميَّة في إيران، كان من أنجح المؤتمرات الإسلاميَّة من حيث الإعداد والحضور والقرارات، وقد شكّلت نتائجه صفعةً للأميركيّين والإسرائيليّين معاً. كيف يقيّم سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله نتائج هذا المؤتمر، إن كان على صعيد فلسطين، أو على صعيد العالم الإسلامي؟

ـ إنّني أعتقد أنَّ انعقاد هذا المؤتمر في طهران، جعل له معنى يمكن أن يتجاوز الوضع التَّقليديّ الّذي كانت تمثِّله المؤتمرات الإسلاميَّة السَّابقة، لسببٍ بسيطٍ جدّاً يتَّصل بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وهو أنَّ طهران هي البلد الوحيد في العالم الَّذي لا يعطي شرعيّة قانونيّة للوجود الإسرائيليّ في فلسطين، انطلاقاً من مضمونٍ إسلاميّ معروف، ولعلَّها البلد الوحيد الَّذي يُشار إليه بأنّه يعمل من أجل دعم "الإرهاب الفلسطيني"! باعتبار أنّه ـ وإن ضمن تحفّظات عربيّة أو غير عربيّة ـ يساعد المتطرّفين الإسلاميّين أو ما شابه ذلك.

لهذا، فإنَّ طرح القضيَّة الفلسطينيَّة في مثل هذا الموقع، قد يجعل كلّ الأطراف يمتنعون عن الوقوف بعيداً عن القضيَّة الفلسطينيّة! لكنّني لاحظت ملاحظة فيما يتصل بالقضيّة الفلسطينيّة، وهي أنَّ موقف كثير من (الدّول المعتدلة)، حاول أن يخفِّف من تأثير القرارات، ويعطيها أثواباً مزركشة، أو يعطيها حالة ضبابيّة لا يستطيع الإنسان أن يفهم منها موقفاً حاسماً.

لذلك، على الرّغم من أنَّ الكثيرين هلّلوا لبعض القرارات المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيَّة، ولكنّي في تدقيقي فيها، رأيت أنها يُراد لها أن تكون من القرارات الّتي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، لأنَّ مسألة ما يسمّى بالإرهاب هي الّتي سيطرت على المسألة، بحيث إنَّ الكثيرين ضاعوا بين قضايا التّحرير وقضايا الإرهاب.

لذلك أنا أعتقد أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة كشعب، أخذت وضعاً إعلاميّاً، لكنها لم تكسب أيّ شيء في هذه المسألة، لأنَّ المؤتمرين ليسوا هم الشّعوب، بل هم الحاكمون الّذين يتحركون غالباً في محاور السياسة الأميركيَّة، ويقتربون من السّياسة الصّهيونيّة.. كم من دولة عربيّة تعيش التّطبيع مع إسرائيل! ماذا تغيَّر من موقفها بعد القمة الإسلاميَّة، بل ربما نجد أنَّ بعضها قد زادت علاقته بطريقةٍ أو بأخرى!

ومن هنا، فإنَّني أتصوّر أنَّ إسرائيل وأميركا لم تحشرا كثيراً من خلال مؤتمر القمَّة الإسلامي، لأنّه لم يتغيَّر هناك أيّ شيء في الواقع السياسيّ لأيّ دولةٍ عربيّةٍ أو إسلاميّة عمَّا كانت عليه، بل رجع الجميع إلى قواعدهم سالمين غانمين، من الممكن حتى إنَّنا عندما لاحظنا هذا النَّوع من التّدجين للقرارات، لاحظنا أنهم لم يصرِّحوا باسم تركيا في القضيّة الأخطر (وهو الحلف التركي الإسرائيلي)، الّذي يعطي لإسرائيل قوّة جديدة كبيرة تملك من خلالها أن تضغط على الواقع العربي ممثّلاً بسوريا والعراق، وعلى الوضع الإسلامي ممثّلاً بإيران، (وعلى الواقع الفلسطيني بالذات)، لأنَّ إسرائيل كلّما كانت قوّة في العالم الإسلاميّ أكثر، استطاعت أن تضغط على الفلسطينيين من خلال العالم الإسلاميّ الّذي يحيط بالفلسطينيّين أكثر.

قد يكون هذا المؤتمر نصراً لإيران، لأنّه أعادها إلى الشّرعيّة الدّوليّة، وقد يكون منبراً إعلاميّاً معقولاً أو جيداً، ولكنه في الواقع السياسي لم يحقّق شيئاً.

معاناة الفلسطينيّين

ـ الفلسطينيّون في لبنان محرومون من أبسط حقوقهم المدنيَّة، ومحرومون من ممارسة العديد من المهن، إضافةً إلى فرض فيزا الخروج والعودة، والّتي باتت تحدّ من لمِّ شمل العائلات، والحصار المفروض على موادّ البناء في مخيّمات الجنوب، إلى تقليص خدمات الأونروا. ترى ما هو دوركم يا سماحة العلامة في تخفيف هذه المعاناة، وبخاصّة أنّ شعبنا الفلسطيني يتطلّع إليكم، ويأمل المساعدة من جانبكم الكريم؟

ـ بالنّسبة إلى موقفنا من المسألة، نتحدث، ولا نزال، بالصّوت العالي وبالاتصالات الخاصّة، عن ضرورة التّعامل مع الشعب الفلسطيني في لبنان، بالطّريقة الإنسانيَّة الّتي تمكّنه من أن يعيش حياته بكرامة، وأن يواجه كلَّ الظّروف بقوة، ولكنّني أتصوَّر من خلال متابعتي لحركة التّسوية الفلسطينيّة على المستوى العالميّ أو الدوليّ، إن صحّ التعبير، والتي لا تبتعد عن الجانب العربي، أن القضيَّة ليست قضيّة لبنانيّة، بل القضيّة هي قضية (توزيع الفلسطينيين) في العالم؛ (إلغاء الشّعب الفلسطينيّ)، لأنَّ مسألة التّوطين الّتي كان التّحدّث بها سابقاً، ربما تواجه بعض الصّعوبات في هذا البلد أو ذاك البلد، للحساسيات.

وربما قد تتصوّر إسرائيل، ولا سيّما بما يتعلّق بلبنان، أنّ وجود كمّ هائل من الشعب الفلسطيني على حدود فلسطين، يمكن أن ينتج في المستقبل جيلاً جديداً يعيد الكرّة من جديد، واليهود هم أكثر النّاس استفادةً من التّاريخ، ويخافون من أن ينطلق التّاريخ في فلسطين والعرب من جديد لينتج ثورة جديدة ولو بعد خمسين سنة. لذلك، قد يكون المطلوب أن يهاجر الفلسطينيون من لبنان، وأن تضيق عليهم كلّ فرص العيش، حتى يهاجروا إلى مجاهل أستراليا وكندا أو غيرها، والتي تسهل عملية الهجرة الفلسطينية، وذلك من خلال المنظَّمات الصّهيونيَّة من جهة، ومن خلال الغطاء الأميركي، ومن أكثر من دولة في العالم.

لذلك، أنا أتصوَّر أنَّ المسألة ليست متّصلة بالسياسة اللّبنانيّة المحليّة، بل هي متصلة بوضعٍ لا يبعد أن يكون توافقاً عربياً ودولياً، ولو بدائرة معينة، لأنّ مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيّين الذي هو قرار أميركي، أصبح الآن يتحدَّث عنه بأنه ليس أمراً واقعيّاً، ولهذا جمدت المفاوضات المتعدّدة الجنسيّات حول هذا الوضع، وأرجئت إلى المفاوضات النهائيَّة التي لن تجد هناك أيّ خطّةٍ للوصول إلى هذا الأمر، لأنّ القضيّة متّصلة بسياسة عربيّة دوليّة وليست متّصلةً بوضع لبنانيّ، ولكنَّنا لن نستسلم، وسنعمل بكلِّ ما عندنا من طاقة لرفع الصوت عالياً من أجل هذه القضيّة التي تمثل بعداً إنسانياً على جميع المستويات.

كلمة أخيرة

ـ الشعب الفلسطيني هو جزء من الأمّة العربيّة والإسلاميّة، والثورة حينما انطلقت كانت فلسطينيّة المنطلق، عربية وإسلامية العمق، لأنّ هذا العمق العربي والإسلامي هو الأساس بالنسبة إلينا كفلسطينيين، من هنا نقول لسماحتكم: ما هي الكلمة الأخيرة الّتي توجِّهونها يا سماحة الإمام إلى شعبنا في ذكرى انطلاقته الثّالثة والثلاثين، ونحن نشاهد أحلافاً وسياسة محاور قائمة، المقصود منها حصار أمَّتنا العربيّة والإسلاميّة؟

ـ إننا نريد أن نقول لأخوتنا وأهلنا وأبنائنا في فلسطين في الدّاخل والخارج، إنّ الثّورة الفلسطينيّة انطلقت في وقتٍ كانت القضيّة الفلسطينيّة تعيش الفوضى في كل هذا العالم العربي، الَّذي حوَّلها إلى شعارٍ بدلاً من واقع، حتى إنّ الواقع الذي كان يتحرك سياسياً في العالم العربي الرسميّ، كان واقعاً أقرب إلى الحماس منه إلى الخطة.

لذلك فإنَّنا نقول (لا تحدِّقوا في الخارج)، حدّقوا في داخل بيتكم، في أرضكم، والتفتوا مع هذا وبعد هذا إلى الخارج، لتتفادوا كلّ الوسائل والأساليب التي تريد أن تدجّنكم لتقبلوا كلّ شيء، لأنّ المطلوب الآن أن يتحرّر العرب ويرتاحوا منكم كشعبٍ في تجربة الكويت وغير الكويت.

لذلك، نحن نقول لكم، إنَّ القضيّة قضيَّتكم في مستوى الجراح النّازفة في أجسادكم، وفي مستوى المستقبل الّذي قد تضعونه مضيئاً أو مظلماً.

إنّ الآخرين تخفَّفوا منكم، العبوا اللعبة السياسية كما تشاؤون، بما يحقّق لكم بعض النتائج، أو بما يخفِّف عنكم بعض الأضرار، لكن لا تستغرقوا في اللّعبة، لأنّ اللعبة السياسيّة لن تكونوا فيها الرابحين، العبوا لعبة الوطن والأرض والقضيّة والمستقبل بكلّ عمق، وحركوا مفاصل السياسة بكلّ هذه العناصر الحيويّة، لأنَّ المسألة هي مسألة أنه ما دام هناك نبض للقضيّة في حركة السياسة فلن تموت، ولكن إذا ابتعدت السياسة عن نبض القضيّة وعن هذه الروح، سقطت السّياسة والقضيّة.

إنّ الصّراع بيننا، نحن وأنتم وإسرائيل، هو صراع روح؛ أن تبقى لنا روح أو أن لا تبقى، لأنّ المسألة الّتي يُعمَل عليها، هي أن لا يبقى شيء لفلسطين في الوجدان. منذ مؤتمر مدريد، منع الفلسطينيّون من أن يكون لهم تمثيل باسم فلسطين، ولا تزال هذه المسألة تلحّ، راقبوا الأردن جيّداً، راقبوه جيّداً بكلّ عمق وجدية ودقة، راقبوا الخلفيات، راقبوا الحركة الأميركيَّة في الواقع الأردنيّ، وفي كلّ الواقع الأميركيّ، في واقع العالم العربيّ، وليبق أنتم أنتم، لا تكونوا غيركم، حدّقوا في الداخل، لأنكم كلَّما حدَّقتم في الدّاخل أكثر، أضاء لكم كلّ ما في الخارج. وكلّ عام وأنتم بخير.

[مقابلة نشرة "القدس"، أيّار ـ 2000م/ 1420هـ]

المرجع فضل الله في مقابلةٍ له مع مجلَّة القدس:

موقفنا من القضيَّة الفلسطينيّة ثابت وليس مجرَّد شعارٍ سياسيّ

هيئة تحرير نشرة "القدس" التابعة للّجنة الإعلاميّة لقيادة حركة "فتح" لبنان، تلتقي العلامة السيّد محمد حسين فضل الله..

في لقاء مميّز، تحدث السيد الإمام ببلاغة المعنى وصدق الكلمة وعمق الوفاء عن القضية الفلسطينية؛ هذه القضية التي تمثّل الصدارة في تفكير هذا الرجل، لما لها من أهمية عنده كقضيَّة شعب أولاً، تعيش في وجدان كلّ رجل عربيّ وإسلاميّ أبيّ، وكقضية سياسية كبرى لها تداخلات جمّة على مستوى العالم، بحيث باتت تشكّل محور كل القضايا في منطقة الشرق الأوسط. وانطلاقاً من هذه الروحية الصادقة، سألناه:

مستقبل القدس

ـ القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشَّريفين، ومسرى النبيّ محمَّد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومهد سيِّدنا عيسى(ع)؛ هذه المدينة المقدَّسة تتعرّض منذ سنواتٍ لتهويد شبه شامل، تمهيداً لابتلاعها، وذلك عبر عمليَّات البناء والاستيطان في رأس العمود وجبل أبوغنيم، وحفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى. كيف ترون أيّها السيّد الموقّر، مستقبل هذه المدينة المقدَّسة؟ وكيف يجب أن يكون الردّ على هذه الإجراءات الصّهيونيّة؟

ـ من الطَّبيعيّ أن يشعر الإنسان الّذي يتابع حركة القضيَّة الفلسطينيَّة بكلّ التّعقيدات التي تعيش في داخلها، وبكلّ الظّروف التي تحيط بها، من خلال الأسلوب الّذي يتعامل فيه العالم، حتى الّذين قد يصرّحون بأنهم معنا في العمل، على تجذير الأمر الواقع، إلا الإنسان الّذي يعيش نوعاً من القلق حول مصير القدس، عبر القلق حول مصير القضيَّة الفلسطينية بالكامل.

وقد كنت ولا أزال من النّاس الّذين يرفضون الحديث عن القدس كـ"مدينة"، لأنّنا حينما نفصلها عن القضيّة الفلسطينيّة، ونحاول استثارة العواطف حول القدس بالذّات، فقد ينطلق الفاتيكان ليتحدَّث عن صيغة معيَّنة للقدس، وقد تنطلق بعض المشاريع لتتحدّث عن تدويل للقدس وما إلى ذلك، بحيث تنفصل القدس عن القضيّة الأمّ الأساس، الّتي هي عمق القدس، وهي المنطلق للقدس. ليس معنى ذلك أن نهمل معنى القدس في الوجدان العربي والإسلامي والعالمي، باعتبار أنها تمثّل المدينة العالميّة، لأنها المدينة الوحيدة الّتي تحتضن مقدّسات كلّ العالم المؤمن المتديّن، وتعيش في المنطق الحضاريّ كلّ مراحل التاريخ، لكن علينا أن نكون حذرين، بأن لا نجعل القدس غريبةً عن فلسطين.

ونحن نتابع التَّصريحات التي تتحدَّث عن القدس كعاصمةٍ لفلسطين، ولكن علينا أن لا نتابع بعض التّصريحات الّتي تتحدَّث عن المدينة "كمدينة". من الطّبيعيّ أنّنا عندما نطلّ على المسألة في بعدها الوطني أو بعدها القومي أو الإسلامي، فإنّنا نتصوّر أنّه من الضّروريّ أن يصمد أهل القدس صموداً يواجه كلّ التحركات التي قد تريد لهم أن يقعوا في الخطأ، أو يهيِّئوا الظروف التي تساهم في عمليّة التّهجير التي يمكن أن يصفّق لها بعض العالم.

إنّ الصّمود القويّ العقلانيّ الّذي يستفيد من كلّ التّجارب الّتي عاشها الفلسطينيّون عبر كلّ تاريخ قضيّتهم، يمكن أن يُبقي لنا شيئاً من القدس، لأنّ القدس ليست حجراً، وليست مسجداً ولا كنيسة؛ إنها إنسان. لهذا، فإنّني أتصوّر أنّ مسألة (إنسان القدس)، هي مسألة أساسيّة؛ مسألة الإنسان الّذي يعيش في القدس، مسألة الّذي يزور القدس، ويصلّي في القدس، ويتحرك في القدس، هذا النّوع من التّواصل بين فلسطين والقدس، يمكن أن يساهم في إبقاء هذه الرّوح المقدسيّة، إذا صحّ التعبير.

وتبقى المسألة السياسيّة الكبرى في القضيّة الفلسطينيّة، وهي كيف يمكن لنا أن نواجه التّعقيدات الّتي يضعها الكيان الصهيوني أمام قضيّة القدس، بأن لا نكتفي بالأحاديث الاستهلاكيّة التي قد تصدر عن أميركا حول بعض الكلمات الضبابيَّة حول القدس، بل علينا أن نؤكّد مسألة القدس وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، وأبعاد مسألة الوضع النّهائي الّتي تتحدث بها إسرائيل في تصريحات العالم السياسي في هذا المجال.

إنَّني أخشى على القدس من خلال خشيتي على القضيَّة الفلسطينيَّة، وإنّني أعتقد أنَّ المرحلة التي تمرّ بها القضيَّة الفلسطينيَّة، هي من أخطر المراحل في كلِّ التّاريخ، لسببٍ بسيطٍ، وهو أن إسرائيل في هذه المرحلة، تشعر بأنّها المرحلة الأخيرة التي تسبق تحديد حدودها في المنطقة، والّتي تتحوَّل فيها إلى دولة في الشَّرق، تراعي الموازين الدوليَّة في علاقتها بالمنطقة، والّتي تبتعد ظروفها عن أن تقوم بمغامرةٍ عسكريّةٍ اليوم أو غداً. لهذا، فإنها سوف تحاول أن تعمل بكلِّ قسوة في سبيل أن تحصل على كثيرٍ مما تريد أن تحصل عليه!

لهذا، فإنَّني أختلف مع الَّذين يحصرون المسألة في دائرة نتنياهو.. إنَّني أعتقد أنّ حدّة المرحلة التي يشعر بها كلّ اليهود في فلسطين لا تستثني أحداً، بل إنّ الشعب اليهودي أصبح يعيش هذه النّشوة، ويختزن في داخله أنّك كلّما فرضت على العرب واقعاً أكثر، احتدّوا أكثر، وخضعوا أكثر في بعض الحالات.. لذلك، أنا أعتقد أنَّ المرحلة تطبق بهبوطها الفوق العاديّ على الشّعب الفلسطيني وعلى السلطة الفلسطينيّة في الوقت الحاضر، بما قد يعنيه ذلك من أن يعيش الواقع الفلسطيني الكثير من الاختزال، ولو بعنوان الصّراع بين السلطة الوطنية والمعارضين، وما إلى ذلك مما تلوّح به أميركا وتطلبه إسرائيل. إنّني أعتقد أنّ المفصل الحاضر هو من أكثر المفاصل حيويّة وخطورة.

لا حياد أمام القضيّة الفلسطينيّة

ـ لقد أثبتت كلّ المحن الّتي مررنا بها كفلسطينيّين، أنَّ هناك حاضنةً عربيَّةً وإسلاميَّة للشَّعب الفلسطيني وقضيَّته العادلة. تُرى ما هي أهميّة هذه الحاضنة؟ وما هو دوركم كمرجعيّة إسلاميّة هامّة في العالم؟

ـ إنَّ القضية الفلسطينية ليست مسألة إقليمية في بعدها التاريخي، فهي استطاعت أن تختصر كلّ تاريخ المنطقة في مدى الخمسين سنة الماضية على الأقلّ، ولهذا، لم يعد هناك أيّة إمكانيّة من ناحية الواقع، لأيِّ حيادٍ عربي أو إسلامي أمام القضية الفلسطينيّة، هذا من جهة.

أمّا من جهة ثانية، فإنَّ مسألة علاقة القضيّة الفلسطينيّة بالواقع السياسي والاقتصادي والأمني لكلّ العالم العربي، هي علاقة عضوية، لأنّ مسألة إسرائيل ليست هي مسألة أنها احتلّت أرض فلسطين، لكنها مسألة دولة يُراد لها أن تحتلّ العالم العربي سياسياً واقتصادياً وأمنياً بطريقة معيّنة وبشكل غير مباشر.. فإذا انطلقنا إلى العالم الإسلامي أيضاً، فإننا نجد أنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة تتّصل بمستقبل العالم الإسلامي، باعتبار أنّ فلسطين هي قطعة من هذا العالم الإسلامي، وباعتبار تأثيرها المباشر وغير المباشر في كثير من قضاياه الحيوية.

لهذا، فإنَّني أتصوَّر أنَّ العمل على أساس إبقاء هذا التّواصل والترابط العضويّ بين الفلسطينيّين والعرب والمسلمين أساسيّ جدّاً، وإنّنا من موقفنا الإسلاميّ، نشعر بأن قضيّة فلسطين هي قضيّتنا الأساس، ونعتقد أنّ كلّ القضايا المتَّصلة بهذا البلد العربي أو المسلم أو ذلك، هي فرع عن القضيَّة الفلسطينيَّة، ولذا، فإنّنا نعتبر موقفنا من القضيّة الفلسطينيّة "ديناً ندين به"، وليس مجرّد شعار سياسيّ نستهلكه اليوم لنتركه غداً...

الوحدة تمنع من هضم فلسطين

ـ في عام النَّكبة الّتي تعرَّض لها شعبنا الفلسطيني عبر مؤامرة دوليَّة، تمَّ احتلال جزءٍ من فلسطين، وعلى مدى سنوات عدَّة، تمَّ هضمها وابتلاعها، وفي العام 1967، تمَّ احتلال الجزء الباقي من فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي، كالجولان وجنوب لبنان، ويعمل الكيان الصّهيونيّ منذ سنواتٍ على هضمها تمهيداً لابتلاعها.. ما هو تقديركم لأهميَّة وجود شعبنا وسلطته الوطنيَّة في الدَّاخل وعلى أرض الصِّراع؟

ـ إنَّنا نتصوَّر أنَّ وجود شعب فلسطين في داخل فلسطين، ووجود حياةٍ سياسيَّة في داخلها، بقطع النَّظر عن علامات الاستفهام هنا وهناك، يمثِّل أساساً في منع اليهود من ازدراد هذه اللّقمة الباقية من فلسطين، لكنّ المسألة التي أحبّ أن أؤكّدها، هي وحدة الشعب الفلسطيني والعمل بكلّ الوسائل، وأؤكّد "بكلّ الوسائل"، على إبقاء هذه الوحدة، وذلك في استمرار الحوار الميداني الّذي يؤكِّد جميع الأطراف دراسة الواقع بواقعيَّته، ودراسة المسألة الفلسطينيّة في بعدها المستقبلي، في تأثيرها في مستقبل الشعب الفلسطينيّ. والمنطقة استفادت من البعد التّاريخي الّذي مرّت به..

إنّني أحبّ أن أؤكِّد نقطة، وهي أنّ اليهود كانوا يعيشون "حلماً" خيالياً، ولكنهم صمّموا على أن يحوّلوا هذا الحلم إلى واقع، وعملوا بكلّ جهدهم بأن يتحرّك كلّ يهودي في العالم من أجل أن يقدّم شيئاً لهذه التجربة، واستطاع يهود العالم أن يحوّلوا هذا الخيال إلى حقيقة، وهذا الحلم إلى واقع.

لذلك، أخشى أنَّ هذا الجدل البيزنطي الّذي يعيش في داخل الساحة السياسيّة الفلسطينيّة، والذي يتحدَّث في المطلق "بعيداً عن الأرض"، والَّذي حاول أن يتحدَّث عن الآليَّة الطبيعيَّة الواقعيَّة، إنّني أخشى أن يبعد الفلسطينيين في الخارج عن القضية الفلسطينية، وأن يمنع هذا التواصل بين الداخل والخارج. لا بدَّ من أن يتوافق كل المخلصين وكل المعنيين ـ ولست هنا في موقع التنظير، ولكني في موقع ملامسةٍ للجرح ـ على أن يعيدوا القضية الفلسطينية إلى الوجدان الفلسطينيّ أوّلاً، قبل أن يعيدوها إلى الوجدان العربيّ، لأنّني أخشى أن تكون القضيّة الفلسطينيّة قد هربت من وجدان الفلسطينيين، وأصبح الفلسطينيون يفكّر كلّ واحد منهم من خلال قسوة الحياة، وقسوة الظروف المعيشيّة، وقسوة التحدّيات المحيطة بهم، بحيث بات كلّ واحدٍ منهم يفكّر كيف يدبّر نفسه في أستراليا أو في البرازيل، أو في أيّ بلدٍ آخر.

أعيدوا القضيّة الفلسطينيّة إلى الوجدان الفلسطينيّ والوجدان العربيّ والإسلاميّ، تماماً كما أنتج اليهود القضيّة الإسرائيليّة في وجدان اليهود، عندها يمكن أن نفكّر في أنّ القضيّة الفلسطينيّة سوف تأخذ بعدها في الواقع، ولو بعد خمسين سنة.

العرب يتحرَّرون من القضيَّة!

ـ هناك مشروع إسرائيليّ خطير في المنطقة يتضرَّر منه الجميع، ومن الملاحظ أنَّ هذه الخطورة لا يقابلها استعداد عربيّ، ولو بالحدّ الأدنى، وقد تُركنا نحن منذ البداية في المواجهة ضدّ هذا المشروع، بل أكثر من ذلك، لقد تُرك شعبنا الفلسطينيّ في الدّاخل لوحده فارغ اليدين، وفي قلبه جرح كبير، نتيجة الفارق الكبير بين الدّعم العربي والإسلامي له، والدّعم الذي تقدّمه أميركا والمتموّلين اليهود، للَّذين يشترون بيوتاً وأراضي في القدس، كيف تفسِّر هذه الأمور؟

ـ المشكلة الَّتي نواجهها بالنِّسبة إلى القضيَّة الفلسطينيَّة، هي أنَّ الواقع السياسيَّ العربيَّ كان يعمل على أساس التحرّر من القضيَّة الفلسطينيَّة، بدلاً من التحرّر من إسرائيل، وقد ساهمت التطوّرات السّياسيّة الّتي استغلّ اليهود بعضها، في مسألة ما سمي بإنهاء الصِّراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال اتّفاق أوسلو، في الوقت الّذي كان الهجوم الإعلاميّ يسوّق لهذه المسألة بشكلٍ فوق العادة، بالإيحاء بأنّ المسألة الفلسطينيّة قد انتهت، وأنّ الفلسطينيّين أصبحوا واقعيّين، كما يقول هذا الإعلام.

وبذلك، خُدِّر هذا العالم العربيّ والعالم الإسلاميّ بالنّسبة إلى القضيَّة الفلسطينيَّة، فلم تعد المسألة كيف يتحرَّر الفلسطينيّون، وكيف تكون لهم دولتهم، إلا بمثل التمنّيات، وأصبحت المسألة ملاحقة التّفاصيل؛ تفاصيل هذه المفاوضات في داخل فلسطين، أو في أميركا، أو في مصر، أو ما شابه ذلك، حتى إنَّ العالم العربيَّ شغل بقضايا كبيرة، ليس أقلّها عمليَّة احتلال الكويت، وما قبلها الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وما هناك من مشاكل في داخل العالم العربيّ، بحيث أصبحت كلّ دولةٍ عربيّة مشغولة بنفسها، وأصبح الشّعب من خلال التحدّيات التي تواجهه هنا وهناك، مشغولاً بنفسه، الأمر الّذي جعل القضيّة الفلسطينيّة تتحوّل إلى مفرداتٍ تفصيليّة، فأصبحت مسألة المستوطنات، وأصبحت مسألة جبل أبو غنيم، وأصبحت متى يكون اجتماع كلينتون بعرفات ونتنياهو...، أصبح النّاس يلاحقون التفاصيل، تفاصيل نهاية القضيّة، ولم تعد المسألة الأساس لذلك.

كنت أقول إنّنا نحتاج إلى أن نفكِّر بطريقة إعلاميّة سياسيّة تعرف كيف تعيد القضية الفلسطينية إلى الوجدان العربي والإسلامي.. أنا أتصوّر أنّ الذين يفكرون في القضية الفلسطينية أصبحوا متطرفين عند الكثيرين، وأصبح الحديث عن فلسطين حديثاً عن حالة التطرّف، وعن حالة التشدّد، وعن حالة اللاواقعيّة! لذلك، أنا أتصوّر أنّ هذه المسألة تمثّل أخطر مسألة في المنطقة.

لم يمرّ على اليهود، حتى في حالات الضَّعف التي كانت تمرّ بها القضيّة الصهيونيّة،  حال يفقدون فيها إحساسهم بالهدف! ربما كانت ترتفع بعض الأصوات هنا وبعض الأصوات هناك، لتتحدّث عن سلبيةٍ ما، لكنّهم لم يتركوا المسألة، ولو فرضنا أنّك قمت باستفتاءٍ في العالم العربيّ، فقد لا تجد نسبةً كبيرةً مع القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة في بعدها القوميّ والإسلاميّ.

لذلك أنا أقول: قد نستفيد نحن من بعض حالات ما يسمّى بالتطرّف، سواء كان تطرّفاً إسلاميّاً أو قوميّاً أو ما إلى ذلك، في إعادة إنتاج حالة التوتّر النفسيّ مع القضيّة الفلسطينيّة. إنّني أقدّر ما تابعناه أخيراً في الإعلام من موقف لفتح، الذي استطاع أن يعطي روحاً للمواجهة الصهيونيّة، بحيث بدأنا مثلاً نسمع ما لم نسمعه منذ مدّة طويلة من هذه الروح الحيّة، التي لا تستطيع أنت بمنطقها أن تقرن بينها وبين أيّ فصيل فلسطيني إسلاميّ.

أنا أقول: استفيدوا من المتطرّفين.. استفيدوا منهم في إعادة التوتّر الوجدانيّ مع القضيّة الفلسطينيّة، لأنّ القضيّة الفلسطينيّة عندما تتحوَّل إلى تفاصيل ومفردات سياسيّة يوميّة، سوف تموت، ولن تبلغ المفاوضات النهائيّة بأيِّ طريقة كانت، لأنَّ قيمة أيّ قضيّة في مستوى القضيّة الفلسطينيّة، هي أن تبقى "تحفر في عمق كلِّ إنسان شيئاً يجرحه ويؤلمه"، ليصرخ من خلال الجرح، ويتحرّك على هذا الأساس.

لذلك أقول إنَّ الخطر المميت هو أن يستسلم الواقع الفلسطينيّ للظّروف الأميركيَّة التي تصرّح بدون حياء بأنّه لا بدَّ من إسقاط البنية التحتيّة، لا إسقاط البندقيّة فقط، إسقاط البنية التحتيَّة وتمزيق الشَّعب، إنهم يريدون أن يستكملوا النّصر اليهوديّ بالنّهاية المميتة للفلسطينيّين، وهي أن يحارب الفلسطينيّون بعضهم بعضاً على طريق اللَّبننة في لبنان، وما عاشه اللّبنانيّون وعاشه الفلسطينيّون معهم، أو على طريق الجزارة، فيما تعيشه الجزائر من وضعٍ وحشيّ...

المؤتمر الإسلاميّ في طهران

ـ المؤتمر الإسلاميّ الّذي عقد في الجمهوريّة الإسلاميَّة في إيران، كان من أنجح المؤتمرات الإسلاميَّة من حيث الإعداد والحضور والقرارات، وقد شكّلت نتائجه صفعةً للأميركيّين والإسرائيليّين معاً. كيف يقيّم سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله نتائج هذا المؤتمر، إن كان على صعيد فلسطين، أو على صعيد العالم الإسلامي؟

ـ إنّني أعتقد أنَّ انعقاد هذا المؤتمر في طهران، جعل له معنى يمكن أن يتجاوز الوضع التَّقليديّ الّذي كانت تمثِّله المؤتمرات الإسلاميَّة السَّابقة، لسببٍ بسيطٍ جدّاً يتَّصل بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وهو أنَّ طهران هي البلد الوحيد في العالم الَّذي لا يعطي شرعيّة قانونيّة للوجود الإسرائيليّ في فلسطين، انطلاقاً من مضمونٍ إسلاميّ معروف، ولعلَّها البلد الوحيد الَّذي يُشار إليه بأنّه يعمل من أجل دعم "الإرهاب الفلسطيني"! باعتبار أنّه ـ وإن ضمن تحفّظات عربيّة أو غير عربيّة ـ يساعد المتطرّفين الإسلاميّين أو ما شابه ذلك.

لهذا، فإنَّ طرح القضيَّة الفلسطينيَّة في مثل هذا الموقع، قد يجعل كلّ الأطراف يمتنعون عن الوقوف بعيداً عن القضيَّة الفلسطينيّة! لكنّني لاحظت ملاحظة فيما يتصل بالقضيّة الفلسطينيّة، وهي أنَّ موقف كثير من (الدّول المعتدلة)، حاول أن يخفِّف من تأثير القرارات، ويعطيها أثواباً مزركشة، أو يعطيها حالة ضبابيّة لا يستطيع الإنسان أن يفهم منها موقفاً حاسماً.

لذلك، على الرّغم من أنَّ الكثيرين هلّلوا لبعض القرارات المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيَّة، ولكنّي في تدقيقي فيها، رأيت أنها يُراد لها أن تكون من القرارات الّتي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، لأنَّ مسألة ما يسمّى بالإرهاب هي الّتي سيطرت على المسألة، بحيث إنَّ الكثيرين ضاعوا بين قضايا التّحرير وقضايا الإرهاب.

لذلك أنا أعتقد أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة كشعب، أخذت وضعاً إعلاميّاً، لكنها لم تكسب أيّ شيء في هذه المسألة، لأنَّ المؤتمرين ليسوا هم الشّعوب، بل هم الحاكمون الّذين يتحركون غالباً في محاور السياسة الأميركيَّة، ويقتربون من السّياسة الصّهيونيّة.. كم من دولة عربيّة تعيش التّطبيع مع إسرائيل! ماذا تغيَّر من موقفها بعد القمة الإسلاميَّة، بل ربما نجد أنَّ بعضها قد زادت علاقته بطريقةٍ أو بأخرى!

ومن هنا، فإنَّني أتصوّر أنَّ إسرائيل وأميركا لم تحشرا كثيراً من خلال مؤتمر القمَّة الإسلامي، لأنّه لم يتغيَّر هناك أيّ شيء في الواقع السياسيّ لأيّ دولةٍ عربيّةٍ أو إسلاميّة عمَّا كانت عليه، بل رجع الجميع إلى قواعدهم سالمين غانمين، من الممكن حتى إنَّنا عندما لاحظنا هذا النَّوع من التّدجين للقرارات، لاحظنا أنهم لم يصرِّحوا باسم تركيا في القضيّة الأخطر (وهو الحلف التركي الإسرائيلي)، الّذي يعطي لإسرائيل قوّة جديدة كبيرة تملك من خلالها أن تضغط على الواقع العربي ممثّلاً بسوريا والعراق، وعلى الوضع الإسلامي ممثّلاً بإيران، (وعلى الواقع الفلسطيني بالذات)، لأنَّ إسرائيل كلّما كانت قوّة في العالم الإسلاميّ أكثر، استطاعت أن تضغط على الفلسطينيين من خلال العالم الإسلاميّ الّذي يحيط بالفلسطينيّين أكثر.

قد يكون هذا المؤتمر نصراً لإيران، لأنّه أعادها إلى الشّرعيّة الدّوليّة، وقد يكون منبراً إعلاميّاً معقولاً أو جيداً، ولكنه في الواقع السياسي لم يحقّق شيئاً.

معاناة الفلسطينيّين

ـ الفلسطينيّون في لبنان محرومون من أبسط حقوقهم المدنيَّة، ومحرومون من ممارسة العديد من المهن، إضافةً إلى فرض فيزا الخروج والعودة، والّتي باتت تحدّ من لمِّ شمل العائلات، والحصار المفروض على موادّ البناء في مخيّمات الجنوب، إلى تقليص خدمات الأونروا. ترى ما هو دوركم يا سماحة العلامة في تخفيف هذه المعاناة، وبخاصّة أنّ شعبنا الفلسطيني يتطلّع إليكم، ويأمل المساعدة من جانبكم الكريم؟

ـ بالنّسبة إلى موقفنا من المسألة، نتحدث، ولا نزال، بالصّوت العالي وبالاتصالات الخاصّة، عن ضرورة التّعامل مع الشعب الفلسطيني في لبنان، بالطّريقة الإنسانيَّة الّتي تمكّنه من أن يعيش حياته بكرامة، وأن يواجه كلَّ الظّروف بقوة، ولكنّني أتصوَّر من خلال متابعتي لحركة التّسوية الفلسطينيّة على المستوى العالميّ أو الدوليّ، إن صحّ التعبير، والتي لا تبتعد عن الجانب العربي، أن القضيَّة ليست قضيّة لبنانيّة، بل القضيّة هي قضية (توزيع الفلسطينيين) في العالم؛ (إلغاء الشّعب الفلسطينيّ)، لأنَّ مسألة التّوطين الّتي كان التّحدّث بها سابقاً، ربما تواجه بعض الصّعوبات في هذا البلد أو ذاك البلد، للحساسيات.

وربما قد تتصوّر إسرائيل، ولا سيّما بما يتعلّق بلبنان، أنّ وجود كمّ هائل من الشعب الفلسطيني على حدود فلسطين، يمكن أن ينتج في المستقبل جيلاً جديداً يعيد الكرّة من جديد، واليهود هم أكثر النّاس استفادةً من التّاريخ، ويخافون من أن ينطلق التّاريخ في فلسطين والعرب من جديد لينتج ثورة جديدة ولو بعد خمسين سنة. لذلك، قد يكون المطلوب أن يهاجر الفلسطينيون من لبنان، وأن تضيق عليهم كلّ فرص العيش، حتى يهاجروا إلى مجاهل أستراليا وكندا أو غيرها، والتي تسهل عملية الهجرة الفلسطينية، وذلك من خلال المنظَّمات الصّهيونيَّة من جهة، ومن خلال الغطاء الأميركي، ومن أكثر من دولة في العالم.

لذلك، أنا أتصوَّر أنَّ المسألة ليست متّصلة بالسياسة اللّبنانيّة المحليّة، بل هي متصلة بوضعٍ لا يبعد أن يكون توافقاً عربياً ودولياً، ولو بدائرة معينة، لأنّ مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيّين الذي هو قرار أميركي، أصبح الآن يتحدَّث عنه بأنه ليس أمراً واقعيّاً، ولهذا جمدت المفاوضات المتعدّدة الجنسيّات حول هذا الوضع، وأرجئت إلى المفاوضات النهائيَّة التي لن تجد هناك أيّ خطّةٍ للوصول إلى هذا الأمر، لأنّ القضيّة متّصلة بسياسة عربيّة دوليّة وليست متّصلةً بوضع لبنانيّ، ولكنَّنا لن نستسلم، وسنعمل بكلِّ ما عندنا من طاقة لرفع الصوت عالياً من أجل هذه القضيّة التي تمثل بعداً إنسانياً على جميع المستويات.

كلمة أخيرة

ـ الشعب الفلسطيني هو جزء من الأمّة العربيّة والإسلاميّة، والثورة حينما انطلقت كانت فلسطينيّة المنطلق، عربية وإسلامية العمق، لأنّ هذا العمق العربي والإسلامي هو الأساس بالنسبة إلينا كفلسطينيين، من هنا نقول لسماحتكم: ما هي الكلمة الأخيرة الّتي توجِّهونها يا سماحة الإمام إلى شعبنا في ذكرى انطلاقته الثّالثة والثلاثين، ونحن نشاهد أحلافاً وسياسة محاور قائمة، المقصود منها حصار أمَّتنا العربيّة والإسلاميّة؟

ـ إننا نريد أن نقول لأخوتنا وأهلنا وأبنائنا في فلسطين في الدّاخل والخارج، إنّ الثّورة الفلسطينيّة انطلقت في وقتٍ كانت القضيّة الفلسطينيّة تعيش الفوضى في كل هذا العالم العربي، الَّذي حوَّلها إلى شعارٍ بدلاً من واقع، حتى إنّ الواقع الذي كان يتحرك سياسياً في العالم العربي الرسميّ، كان واقعاً أقرب إلى الحماس منه إلى الخطة.

لذلك فإنَّنا نقول (لا تحدِّقوا في الخارج)، حدّقوا في داخل بيتكم، في أرضكم، والتفتوا مع هذا وبعد هذا إلى الخارج، لتتفادوا كلّ الوسائل والأساليب التي تريد أن تدجّنكم لتقبلوا كلّ شيء، لأنّ المطلوب الآن أن يتحرّر العرب ويرتاحوا منكم كشعبٍ في تجربة الكويت وغير الكويت.

لذلك، نحن نقول لكم، إنَّ القضيّة قضيَّتكم في مستوى الجراح النّازفة في أجسادكم، وفي مستوى المستقبل الّذي قد تضعونه مضيئاً أو مظلماً.

إنّ الآخرين تخفَّفوا منكم، العبوا اللعبة السياسية كما تشاؤون، بما يحقّق لكم بعض النتائج، أو بما يخفِّف عنكم بعض الأضرار، لكن لا تستغرقوا في اللّعبة، لأنّ اللعبة السياسيّة لن تكونوا فيها الرابحين، العبوا لعبة الوطن والأرض والقضيّة والمستقبل بكلّ عمق، وحركوا مفاصل السياسة بكلّ هذه العناصر الحيويّة، لأنَّ المسألة هي مسألة أنه ما دام هناك نبض للقضيّة في حركة السياسة فلن تموت، ولكن إذا ابتعدت السياسة عن نبض القضيّة وعن هذه الروح، سقطت السّياسة والقضيّة.

إنّ الصّراع بيننا، نحن وأنتم وإسرائيل، هو صراع روح؛ أن تبقى لنا روح أو أن لا تبقى، لأنّ المسألة الّتي يُعمَل عليها، هي أن لا يبقى شيء لفلسطين في الوجدان. منذ مؤتمر مدريد، منع الفلسطينيّون من أن يكون لهم تمثيل باسم فلسطين، ولا تزال هذه المسألة تلحّ، راقبوا الأردن جيّداً، راقبوه جيّداً بكلّ عمق وجدية ودقة، راقبوا الخلفيات، راقبوا الحركة الأميركيَّة في الواقع الأردنيّ، وفي كلّ الواقع الأميركيّ، في واقع العالم العربيّ، وليبق أنتم أنتم، لا تكونوا غيركم، حدّقوا في الداخل، لأنكم كلَّما حدَّقتم في الدّاخل أكثر، أضاء لكم كلّ ما في الخارج. وكلّ عام وأنتم بخير.

[مقابلة نشرة "القدس"، أيّار ـ 2000م/ 1420هـ]

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية