في احتفالٍ تكريميٍّ نظَّمته المقاومة الإسلاميَّة لشهيدين من شهدائها، في مسجد الإمام المهدي(عج) في الغبيري، بمشاركة حشدٍ من المواطنين، وعددٍ من العلماء، كانت كلمة لسماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، جاء فيها:
"في حركة المقاومة الإسلاميَّة مع "إسرائيل"، نتحرّك في كلّ يومٍ مع شهيدٍ يسقط وهو يواجه الاحتلال. وفي هذا الاتجاه، نشعر بأنَّ هناك أكثر من شهيدٍ حيٍّ على الأرض؛ هناك على أرض الجهاد في الجنوب، هناك عندما يواجه النّاس، أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، الوحشيَّة الإسرائيليَّة بصمودهم أمام كلّ الخطط.
ما الّذي يعطّل الآن خطَّة الجبل وخطَّة الشَّريط السّاحليّ؟ ومن الّذي يميِّع الآن الخطّة في بيروت؟ ومن الّذي يعطّل الخطّة في الشّمال؟ إنما هو الخوف المتبادل، هؤلاء يملكون الآن في مواقعهم قوّة، وقدّموا من خلال مواقعهم ضحايا أو شهداء، ويُراد لهم من خلال السّلطة أن "يحصروا" في الزّاوية هنا لحساب طائفيّة معيّنة. وهكذا تقول الطّائفة الأخرى، إنها تخاف إذا خضعت لشروط معيَّنة لحساب هذه الطائفة، أن تزيد خسائرها.
الَّذي حدث أنَّ الحكم لم يستطع أن يعطي الثِّقة من نفسه ومن مؤسَّساته بأنّه يعمل للجميع. ولهذا، فإنَّ كلَّ طائفةٍ لا تعتبر الحكم يمثّلها، وتخاف أن يقضي الحكم بمؤسَّساته على قوّتها. ولهذا، فإنَّ القضيَّة أصبحت تدور في الحركة المفرغة، وأصبحت أيّة خطّة أمنيّة تحتاج إلى جهودٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ من أجل أن تعطي الضّمانة لهذه الطّائفة لحساب الطّائفة الأخرى، أو تفرض الشّروط على هذه الطّائفة لحساب الطائفة الأخرى.. هذا واقع لن يستطيع البلد من خلاله أن يحلّ مشكلته، لأنَّ القضيّة لم تعد أنَّنا نختلف على من يكون له الحكم! وكم وزيراً لهذه الطّائفة! وكم وزيراً لتلك!.
تحاول "إسرائيل" أن تثير في نفوسنا الهلع والفزغ، وتلوِّح بالانسحاب الجزئي، لأنّه قد يحدث هناك فراغ، وقد يحصل من خلال ذلك الفراغ مشاكل دمويّة طائفيَّة! ولكنّنا نعرف معدن الإنسان هناك.. ولهذا قلنا "لإسرائيل": فلتجرّب ولتنسحب، وقلنا لكلِّ الّذين يخافون من الانسحابات الجزئيّة، إنَّ شعبنا هناك يرفض أن يسقط في وحل الاقتتال الطائفيّ، جرّبوا ذلك، وستجدون أنَّ "إسرائيل" تطلق فزّاعة في وجه النّاس هنا، ولكنّها لا تعبّر عن حقيقة الموقف.
إنّنا نعتبر أنّ الوضع الّذي نعيشه هناك في الجنوب والبقاع الغربي، بالرّغم من أنه يحمل المأساة كأعمق ما تكون المأساة، وأنّه من خلال تصرّفات "إسرائيل" بشعٌ كأبشع ما تكون الوحشية، ولكنّنا نرى أنَّ الساحة هناك تمثّل مدرسةً على أكثر من صعيد؛ مدرسة لكلّ الذين يفكّرون في مقاومة "إسرائيل"، بأنّ الشّعب يستطيع أن يقاوم "إسرائيل" بطريقته الخاصّة، بعيداً عن كلّ حماية الأنظمة، وبعيداً عن كلّ ما للأنظمة، وعن كلّ سياسة الأنظمة.
إنَّ المقاومة الّتي انطلقت لتقاتل "إسرائيل" سابقاً تحت رعاية الأنظمة، أسقطتها الأنظمة بعيداً عن ساحة المقاومة، وحوَّلتها إلى مقاومة في المكاتب، ولكنَّ الشَّعب عندما يقاوم بعفويَّته وببساطته وبإمكاناته الذاتيَّة، يستطيع أن يستمرّ، ويستطيع أن يضرب العدوّ في عمق قضاياه الحيويّة، وفي عمق مواقعه الحيويَّة..
ولهذا، فإنَّنا نعتبر المقاومة في الجنوب مدرسة لكلّ هذا العالم العربيّ الَّذي بدأ يتساقط أمام كلّ المبادرات الّتي يلهث وراءها، ولكنّها تهرب منه لتسقطه، حتى عندما يصل إلى المبادرة، فلا يجد إلا سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.. إنها مدرسة لكلّ هذا العالم الذي يريد أن يواجه قضايا الاحتلال بالمواقع السياسيّة الدبلوماسيّة الَّتي تبحث عن صدقة في أوروبّا، بتصريحٍ ينطلق فيه هذا الرّئيس أو ذاك، أو بصدقةٍ في أمريكا، تترصّد سياسة هذا الرئيس أو ذاك.
وكذلك شعبنا في الجنوب، أيضاً هو مدرسة؛ مدرسة لكلّ هؤلاء الذين يتساقطون تحت أقدام الذلّ والطغيان، على أساس أنهم لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً.
إنّه يقول لهم بعمله بمقاومته العارية، بمقاومة أطفاله ونسائه، إنَّ الإنسان إذا أراد الحريّة، قادر على أن يصنع حركة الحريَّة في حياته، ولو بنسبة 10%، وهكذا حتى تتَّسع السّاحة لذلك.
لهذا، أيّها الأخوة، عندما نريد أن نواجه حركة الشّهداء وهم يسقطون برصاص "إسرائيل"، وحركة الشّهداء الأحياء وهم يعيشون أسرى في "إسرائيل"، وحركة الشّهداء وهم يعيشون في أزقّة القرى التي تواجه "إسرائيل"، إنَّ علينا أن نتعلَّم منهم كيف نقاوم في المواقع الأخرى، وعلينا أن نتعلَّم منهم كيف نصمد أمام كلّ الخطط.
إنَّ إسرائيل تعمل بكلِّ مخطَّطاتها على أساس أن تحصل على أيِّ شيء لتثبّت أقدامها في هذا البلد، وعلينا أن نمنعها من أن تأخذ ما تريد، وينبغي أن تكون إرادتنا قويّة لا تخضع لضغطٍ ولا لابتزاز، وأن نتعلَّم من شهدائنا أن نكون حاسمين في مواجهة العدوّ والطغيان والمستقبل الَّذي نريد أن نبنيه.
بعض النَّاس يكتب في الصّحف والمجلات، أنَّ هناك ضغطاً على رموز إسلاميَّة، وأنّ هناك عملاً لتخفيف دور فلان ودور فلانة؛ على أيِّ أساس؟ على أساس أنَّ هناك جهة أقليّة ضغطت وتضغط، وقد يكون بعض الناس أو بعض الصّحف يتحدَّثون عن اسمي من بين هذه الأسماء.
لهذا، أحبّ أن أقول لكم وأنا أقف في مسجد الله وبين يديه: لن يستطيع أحد أن يضغط علينا، ولم يمارس أيّ إنسان ضغطاً علينا، ولن يقدّم لنا أيّ إنسان، مهما كان كبيراً، طلباً في أيّ شيء، ولو قدّم إلينا طلباً، ولو وجَّه إلينا ضغطاً، من أيّة جهة كبيرة أو صغيرة، فلن نخضع لها، لأننا لم نخضع لضغط أميركا، ولضغط "إسرائيل"، ولضغط المخابرات هنا، ولضغط الحكم هناك، ولم نخضع لكلِّ محاولات الاغتيال التي حاولت بعض الأنظمة العربيّة أن تقوم بها ضدّنا.. ولن نخضع لغير الله".
[المصدر: صوت الشغّيلة، 3 - 12 - 1984]