في احتفالٍ أقيم في الجامعة العربيَّة في بيروت ـ قاعة جمال عبد النَّاصر ـ بمناسبة "الذّكرى السّنويّة الأولى لشهداء المقاومة الإسلاميَّة في صيدا"، ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله كلمةً جاء فيها:
"ليكن للإسلام عزّه، وليبقَ للدِّين مجده، ذلك هو ما يعنيه المضمون الحيّ لشهداء المقاومة الإسلاميّة في الجنوب.. الشَّهادة الّتي لم تنطلق من حالة انفعاليَّة عاشوها من خلال التصرّفات السلبيَّة للعدوّ، ولم تنطلق من جوٍّ حماسيٍّ اكتنفهم أثناء الاحتفالات والمهرجانات، كانت شهادتهم الحيّة في المضمون تنطلق بعقلٍ بارد، بعقلٍ انطٍلق ليحفظ المستقبل.. قبل أن تزحف إسرائيل إلى الجنوب، انطلق عقلٌ إسلاميٌّ حركيّ، عاش الحركيَّة عنصراً ذاتيّاً للإسلام، لا طريقةً جديدةً فيما استحدثه النّاس من أساليب، حتى يكون المسلمون الحركيّون حالةً طارئةً تتغذّى بالأساليب الأوروبيّة، كما يقولون، ليلحقوا أنفسهم حتى لا يتجاوزهم العصر.
كانوا يشعرون بمعنى أن تكون مسلماً، أن تكون خليفة الله على الأرض، بسعة إمكاناتك؛ بإمكاناتك أنت وبإمكانات النّاس الذين تمدّ يدك إلى أيديهم، ويمدّون أيديهم إليك. أن تكون مسلماً، هو أن تكون مسؤولاً، وأن تكون حركيّاً، تحاول أن تنطلق مع كلِّ السّاحات المتحركة لتطبعها بطابعك، من خلال فكرك ومضمون فكرك، وتنطلق من السّاحات الهادفة لأجل أن تحركها، لتعطيها نبضة الإسلام وروحها وحيويَّتها.. تنطلق حتى تسير في الجموع الهادرة نحو الأهداف الكبيرة الّتي أراد الله للمسلمين أن يعيشوها في الحياة".
وأضاف: "المسلمون الحركيّون الّذين انطلقوا، لم تكن لهم إلا بنادق قليلة وأسلحة قليلة، في الوقت الّذي كانت الجيوش العربيَّة تحارب بالأسلحة الفاسدة، في التّمثيليّة التي أُريد لها أن تعطي إسرائيل شرعيّة القانون الذي يجعلها تستلم فلسطين من بريطانيا، لتمارس هي الحكم.. كان المجاهدون آنذاك ينطلقون في شوارع القدس، وينطلقون من كلّ زاوية.. الزّوايا التي تسمح لهم أرض فلسطين بأن يتحركوا فيها، كانوا ينطلقون على أساس أن يجاهدوا، كما كانوا يصلّون ويصومون، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة...}، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...}، وقال أيضاً: {وَجَاهِدُوا...}.
كان على هذا الجيل المقاوم الآن أن يتواصل مع ذلك الجيل المقاوم آنذاك.. ذلك الَّذي خاف منه المستسلمون، وخاف منه الّذين يبيعون الأمَّة أحلاماً كاذبة، وخاف منه الّذين يحاولون أن يصونوا خطوات الأمَّة بما ينطلقون فيه كلّ يوم من خطٍّ إقليميٍّ أو قوميٍّ أو ثوريٍّ أو أيّ شيء، ولكن حتى هذه الخطوط كانت فارغة من مضمونها، كانت مجرَّد بطون منفوخة، لأنَّ النّاس اعتادت أن تسمع صوت الطّبول أكثر من أن تستمع إلى صوت العقول".
وقال: "وبقي النَّاس ينشدّون إلى الأبطال الاستعراضيّين ساعات وساعات، وكما كان النّاس يجلسون في لياليهم أمام المغنّين والمغنّيات، ليطلقوا التفاهات في سواد اللّيل، كانوا يجلسون مشدودين إلى الأبطال الكبار، من أجل أن تنطلق حناجرهم لتخاطب اللّيل أن ينطلق، وأن يغمر الكون، ولكن بطريقةٍ أخرى..!
المقاومة الإسلاميّة الّتي انطلقت من مصر، وانطلقت من فلسطين، وانطلقت من هنا وهناك، لم تنطلق مع الأنظمة؛ هذا هو الّذي يعطي لهذه المقاومة مضموناً فيما هي مسيرة الإسلام الّتي تتحرّك على الأرض. ليس في المقاومة الإسلاميَّة قفزة في الفراغ، وليست مجرَّد حالةٍ تحاول أن تكون صرعة، كما هي الصَّرعات الّتي تعوَّدنا عليها في عالم السياسة وغير السياسة...
أرادت أن تتواصل، وأن لا تسمح لكلِّ الهوّة الّتي وقعت فيها الأمَّة، أن تبقى تفصل بين ماضيها وحاضرها، أرادت أن تكون الجسر الّذي يفصل بين القمم الكبيرة الّتي تحدّث بالشّروق، لتنطلق مع بزوع الشَّمس، ليأتي فجر الإسلام من خلال ذلك..
وهكذا قيمة هذه المقاومة الإسلاميَّة، أنها تريد أن تتواصل مع المستقبل.. مشكلة هؤلاء الشّباب أنهم يتحدَّثون بالمستقبل، ولهذا عندما كانوا يسمعون الكثير من اللّغات الّتي يتحدَّث فيها السياسيّون الذين حسبوا على الإسلام زوراً وبهتاناً، كانوا يستمعون إلى كلّ هذا الكلام الّذي يصدر هنا وهناك، واعتبروا هذا الكلام لغات لا يفهمونها، لأنَّهم قرأوا القرآن وفهموا لغته، لم يفهموا لغته كحرف، بل فهموا لغته كمضمون، فكان المضمون الإسلاميّ هو لغتهم، أمّا حديث هؤلاء، فهو لغة روسيّة، ولغة إنكليزيّة وفرنسيّة، ولغة لا تعرف هويّتها، لأنّها خليط من كلِّ هذه اللّغات، لأنَّ اللّغة ليست حرفاً، بل هي مضمون، اللّغة موقف، اللّغة حركة وحياة، عندما تتحوَّل اللّغة إلى حروف، تكون مجرَّد أصداء في الفضاء، ولكنَّ اللّغة عندما تتحوَّل إلى مضمونٍ حيٍّ، تصبح موقفاً يغمر كلَّ فكرك وكلَّ شعورك وكلَّ حياتك.
ولهذا، سمعوا الطائفيّين يتكلَّمون بحقوق السنّة وحقوق الشّيعة، فنادوا: ما هي حقوق الإسلام؟ وسمعوا الإقليميّين يتحدَّثون عن لبنان وغير لبنان، فنادوا: ما هي حقوق بلاد المسلمين؟ الإسلام هو هاجسهم، أمَّا تلك، فكانت قبل الإسلام وبعده، أمراضاً في جسم الإسلام.. وهم يريدون أن ينطلقوا من خلال الدَّعوة الأولى الصّافية النقيّة التي انطلقت من القلب الصّافي الطّاهر الفتيّ المنفتح على الحياة كلِّها، حتى على أعدائه؛ المنفتح عليهم، الّذي لا يحقد عليهم لأنّه يحبّ لهم الخير، من خلال ذلك كانت لغة المقاومين الإسلاميّين".
[المصدر: العهد، 11 – 1 – 1985]