كتابات
04/02/2018

هويَّة الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي

هويَّة الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي

... نحن نعرف أنّ مشكلة الإنسان في كثير من قضاياه، هي مشكلة المسائل الخفيّة التي يخافها كلّ فريق من الآخر، لذلك فالحوار يضيء هذه المناطق الخفيّة، ويجعل الإنسان يكتشف الآخر، في كلّ ما يفكِّر به أو يشعر به، أو في أغلب ما يفكِّر به أو يشعر به. إنَّ الحوار يمنحك الوضوح في نظرتك إلى الإنسان الآخر، ويمنح الآخر الوضوح في نظرته إليك، لذلك فنحن نعتبر أنَّ الحوار ضرورة للحياة الاجتماعيّة في بعدها السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي وفي كلّ شيء.

الحوار الإسلامي _ الإسلامي

أمَّا عن تشخيص هويَّة الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، فعندما نريد أن نتحدَّث عن هذا الحوار، فإنَّ علينا أن نفكِّر لماذا الحوار في هذه الدّائرة؟

إنّنا نعرف أنَّ هناك إسلاماً واحداً، انطلق من وحي الله، وتحرَّك في سُنّة رسول الله(ص)، وجاء الآخرون من بعده من أجل أن ينفتحوا على كلِّ هذا الجوّ الرّسالي، لذلك نعرف أنَّ هناك وحدة إسلاميّة في المعنى المضموني للإسلام، لأنَّ الكتاب واحد والسُنّة واحدة من خلال رسالة واحدة. وهكذا كان هذا الإسلام الواحد يهيّئ للأُمّة الواحدة التي تلتقي على كلّ مفاهيمه، لتلتقي من خلال هذه المفاهيم على كلّ مواقع حياتها.

لذلك اختلف المسلمون في زمن النبيّ(ص)، ولم يكن كلّ المسلمين قادرين على لقاء النبيّ، لذا بقيت كثير من الخلافات تتحرّك في وعي هؤلاء وأولئك على أنّها الإسلام.

ثمّ جاءت الأحزاب بعد النبيّ(ص) لتجعل من قضية الخلافة قضية مركزية استطاعت أن تمثِّل حدّاً فاصلاً ، يفصل المسلمين عن بعضهم البعض. ربّما لم يتحقَّق هذا الانفصال في عهد الخلافة، بل نجد هناك تواصلاً من الّذين اختلفوا حول قضية الخلافة...

وهكذا نعرف كلمات الإمام عليّ(ع): "لَأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"، ما يدلّ على أنّ ذلك العهد لو بقي في امتداده، بالرّغم ممّا فيه من الأخطاء الكبيرة التي في مقدَّمها في عقيدتنا نحن، إبعاد عليّ(ع) عن الخلافة، لكان عهداً يتعيَّن فيه على المسلمين مسؤوليّة المحافظة على الإسلام، ومسؤوليّة التّدقيق في الخطّ الإسلامي.

لذلك، أنا أعتقد أنّه لو بقيت المسألة في هذا المسار، ولم تتحوَّل الخلافة إلى ملك، لأمكن أن تكون الأساليب في ممارسة هذا الخلاف أقلّ حدّةً وأكثر انفتاحاً، لكنَّ تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض، ودخول الأمويين على الخطّ، جعل مسألة استغلال هذا الجانب لمواجهة أهل البيت(ع) أمراً مهمّاً جداً. وهذا الذي بدأه معاوية في مسألة سبّ الإمام عليّ(ع)، واعتباره أمراً مفروضاً على خطباء المنابر. وهكذا دخلت مسألة الوضع في الأحاديث وما إلى ذلك...

ومن الطبيعيّ أنّ هذه التراكمات السياسية والاجتماعية والثقافية، استطاعت أن تعمِّق الفواصل بالشّكل الذي أصبحت حركة التكفير بين المسلمين حركة فاعلة تعمّق فصل الدِّين بين المسلمين، كما لو كان هذا المذهب من دين وذلك المذهب من دينٍ آخر...

روحيَّة الحوار

عندما نريد أن ندرس هذا الجوَّ، فمن الطبيعي إذا أردنا أن ندخل في الحوار الإسلامي، أن نعمل على إيجاد روحيَّة الحوار، بالعودة إلى النّهج القرآني الذي دعا أهل الكتاب إلى كلمةٍ سواء، ودعانا إلى أن ندخل مع أهل الكتاب في حوارٍ بالجدل بالتي هي أحسن، لنطرح مواقع الوفاق بيننا وبينهم. وهكذا نجد أنَّ المنهج القرآنيَّ الذي تمثّل العودة إليه، العودة إلى الله وإلى الرسول(ص) فيما نتنازع فيه، لا بدَّ لنا من أن ندخل في الجانب الشعوري، بحيث نهيّئ روحية الإنسان المسلم الذي يختلف مع الإنسان المسلم الآخر في بعض جوانب العقيدة أو بعض تفاصيل الشريعة أو المناهج الأخرى، لكي يتقبَّل الإنسان المسلم الآخر ويعترف به.

وإذا كان الأسلوب القرآني مع أهل الكتاب يقول {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}[العنكبوت: 46]،فبإمكان المسلمين أن يقولوا لبعضهم البعض نحن نؤمن بوحدانيّة الله وإن اختلفنا في بعض التفاصيل، ونؤمن برسالة الرّسول وإن اختلفنا في بعض صفات الرّسول، ونؤمن باليوم الآخر، ونؤمن بالكتاب كلّه والملائكة والرّسل وما إلى ذلك، ونمارس جميعاً الصّلاة والصّوم والزكاة والحجّ وما إلى ذلك. فمن الممكن أنْ نجمع كلّ نقاط اللّقاء المتّصلة بالعقيدة أو المتّصلة بالشّريعة أو المتّصلة بالخطوط الأخلاقيّة، كما أنّنا نستطيع من خلال ذلك أنْ نتجاوز المسألة إلى الأخطار المحيطة بالعالَم الإسلامي، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، وبالمصالح التي تتمثّل في الواقع الإسلاميّ السنّيّ والشِّيعيّ أمام المستكبرين والكافرين.

ونتعمَّق في دراسة الخلافات بين أهل السنّة أنفسهم وبين الشّيعة أنفسهم، ليتفهَّم الفريقان أنّ الخلافات بينهما ليست بأكثر من الخلافات داخل كلّ فريق، وأنّها لا تفصل مسلماً عن مسلم مادام الجميع يستشهدون بكتاب الله وسنّة رسوله فيما يجتهدون وفيما يفتون ويُنَظِّرون...

موضوعيّة الحوار

بعد هذه الأرضيّة الشعوريّة العلميّة التي تشير إلى واقع الخلافات بعيداً من الأحاسيس التي تُلْهِب الخلافات، فمن الممكن أن نبدأ بالطّريقة الموضوعيّة للمسألة.

نحن نلاحظ في الواقع المعاصر، أنّ الإنسان استطاع أن يصل إلى اعتماد الموضوعيّة في كلّ المذهبيّات الثقافية في مواجهة كلّ مشاكل العلم وخلافاته، وأنَّ الإنسان أصبح يستطيع أن يفصل بين مشاعره الذاتية وبين أفكاره، مقارنةً بالفكر. لذلك، لا بدّ لنا من أنْ نعمّق هذا الجانب الموضوعي الذي يلتقي في طبيعته العميقة بجانب العدل، كان القرآن عندما يقول: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]، وعندما يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى...}[الأنعام: 152]، نفهم من ذلك أنّ الموضوعيّة تستمدّ حيويّتها من العدل، فعندما تكون موضوعيّاً تكون عادلاً.

وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن ندرس مثلاً على طريقة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، قضيّة الخلافة وما سبقها كقضيّة تاريخيّة، لأنّ المسألة بين المسلمين هنا؛ هل أوصى النبيّ أم لم يُوْصِ؟ فالمسألة هي مسألة تاريخ.

وهذه المسألة قد تحتاج إلى نوع من التّفاصيل، ولكنّني أتصوَّر أنّنا نحتاج إلى أنْ نخطّط له، أنْ نخطِّط لتفريغ الشخصية الإسلامية من كلّ هذا التخلّف الثّقافي الذي لا يجعل الإنسان يطيق أن ينظر إلى فكر الآخر ولا أيّة مناقشة لما عنده. فالمشكلة الموجودة الآن في الواقع الإسلاميّ، ليست في الواقع مشكلة السنَّة والشّيعة، ولكنّها مشكلة في السنّة أنفسهم، ومشكلة الشيعة أنفسهم.

لذلك، نحن نحتاج إلى أن نتخلَّص من هذه الحالة الشرقيّة المتخلّفة التي تجعل الإنسان لا يطيق الآخر ولا يعترف به، وتجعل الإنسان يعيش ذاته حتّى لو كان لا يطمئنّ إلى هذه الذاتية، باعتبار أنّ المسألة أصبحت مسألة خصوصيّات. ونحن نعرف أنّه عندما يُثار شيء، وعندما ينطلق رأي سنّيّ قد يتّفق مع بعض ما عند الشيعة، أو ينطلق رأي شيعيّ قد يقترب ممّا عند السنّة، فإنّ الحديث الذي يدور في داخل السنّة أنّكم بهذا تشمّتون بنا الشيعة، أو الشيعة أنّكم تشمّتون بنا السنّة.

ونحن نعرف أنّ الاستكبار العالمي كان يعمل على هذا الأساس، فإذا انطلق رأي في هذا المجال، فإنّه يوحي إلى بعض الناس في الجانب الآخر أنْ يقولوا: (وشَهِدَ شاهدٌ من أهله).

هذا التخلّف الذّهني الثّقافي هو سرّ المشكلة في انهيار الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، والّذي إذا سنحت له أيّة فرصة، فإنّه ينطلق من بعض حالات التّكاذب التي يجامل فيها فريق فريقاً، أو الحالات النفسيّة التي تحاول أن تجعل كلّ فريق يسعى إلى تسجيل نقطة على الفريق الآخر، لا الوصول معه إلى نقطة لقاءٍ في هذا المجال.

ومن هنا، تميّز الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، ولا سيَّما في علم الكلام، في كلّ ما تركه لنا علماؤنا من السنّة والشيعة، أنّه يعتمد على الجانب الجدلي الذي يريد أن يسجّل نقطة، ويريد أن يلزم الآخر بما التزم به، دون أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، بذلك أعتبر أنّني مع الحقيقة التي لا يمكن أن أحيدَ عنها، ويعتبر الآخر أنّه مع الحقيقة التي لا يمكن أن يحيدَ عنها أيضاً، وتكون المسألة كيف أقنع الآخر بعقيدتي، وكيف يقنعني الآخر بعقيدته، من دون أن أُعطي نفسي فرصة أن أُفتِّش عن الحقيقة مع الآخر ولو بنسبة معيّنة.

إنَّ هذا النوع من الانغلاق النفسي قبال الآخر، هو الّذي يمنع حيويّة الحوار وحركيّته، ويحوّله، في حال وجوده، إلى عمليَّة وقت ضائع وجهد ضائع، ويصبح كما يسمَّى بـــ "حوار الطّرشان"، لأنَّ الأطرش يهمّه أنْ يتكلَّم من دون أن يسمع، ليتكلَّم الآخر من دون أن يسمع. وهكذا هي القضيَّة. ولا بدَّ للمسلمين الذين يعيشون الوعي الثّقافي والوعي السياسيّ، من أنْ ينظروا إلى القضيّة نظرةً تخلو من الخطورة، لأنَّ قضيّة الخلاف بين السنّة والشّيعة، كانت تتّخذ في الماضي صفة الواقع الإسلامي الذي يريد فيه فريق أنْ يتغلَّب على فريق. كانت قضية داخلية في الواقع الإسلامي، ما يجعل خطرها أقلّ.

لكنَّ قضيّة الخلاف بين السنّة والشّيعة الآن، أصبحت من القضايا التي تتَّصل بالخطط الاستكباريّة في السيطرة على المسلمين، ومحاولة إشغالهم ببعضهم البعض، ولا سيَّما بالقضايا الهامشيّة. ولعلّ الخطورة في ذلك، أنَّ هذا الانفصال المذهبي قد تحوَّل إلى انفصال سياسيّ، بحيث أصبح فريق من المسلمين غربياً والفريق الآخر منهم شرقياً، عندما كان هناك شرق وغرب. لذلك نتصوَّر أنَّ من الضّروريّ أن يدور حوار إسلامي ـــ إسلامي على المستوى الثقافي، لنؤكّد مواقع اللّقاء، ونحدِّد مواقع الخلاف.

إنّني أتصوَّر أنَّ على الواعين المثقّفين أن يكونوا الضّوء الذي يتحرّك ويتكاثر في كلّ هذا الظَّلام، وأنْ يتحمَّلوا كثيراً من الصَّدمات والكثير من اللّكمات الكلاميّة والاجتماعيّة، حتى يستطيعوا أن يكونوا الطّليعة التي تفسح في المجال للمستقبل الجديد، لأنّني أتصوَّر أنَّ الواقع الخلافيّ بين السنّة والشيعة إذا بقي على هذا الحال، ولم تنطلق الحالة الحواريَّة بشكلٍ موضوعيّ إسلاميّ، بحيث نرجع الأمور ـــ كما أَمَرَنا الله ـــ إلى الله فيما نتنازع فيه بقلبٍ تقيّ نقيّ طاهر إسلامي، فإنَّ الواقع الإسلامي سيصاب بالشَّلل وبالهزيمة وانعدام الوزن أمام كلّ حلف بين الاستكبار العالميّ والكفر العالميّ بجميع فصائله من أجل إسقاط الإسلام، تحت شعار (الأصوليّة) تارةً و(التطرُّف) أخرى و(التعصُّب) ثالثة، وما إلى ذلك من الكلمات، والتي يتميَّز بها القاموس السياسي الاستكباري، الذي يوزّع الكلمات على حسب الأجواء التي يريد إثارتها هنا وهناك.

ومن الطبيعي أنّنا عندما ندعو إلى حوارٍ إسلامي ـــ إسلامي فيما بين السنّة والشيعة، فإنّنا ندعو إلى حوار إسلاميّ داخل السنّة أنفسهم وداخل الشيعة أنفسهم، حتّى يكفّوا عن الاعتقاد أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة، وحتّى يبحثوا عقائدهم ويبحثوا تاريخهم وشرائعهم وأحكامهم بطريقة جديدة، لأنَّ القدامى إذا كانوا قد فكَّروا واستنتجوا، فليس من الضّروريّ أن يكون فكرهم هو نهاية الفكر في العالَم، وأن تكون أبحاثهم هي نهاية البحث في العالم.

والقرآن أصدق من ذلك عندما يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} في اجتهادها وفكرها وفي أبحاثها {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لذلك أعتقد أنَّ خيارنا في دخولنا للمستقبل الإسلاميّ من الباب الواسع.

*العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة"، ص 15-23.

... نحن نعرف أنّ مشكلة الإنسان في كثير من قضاياه، هي مشكلة المسائل الخفيّة التي يخافها كلّ فريق من الآخر، لذلك فالحوار يضيء هذه المناطق الخفيّة، ويجعل الإنسان يكتشف الآخر، في كلّ ما يفكِّر به أو يشعر به، أو في أغلب ما يفكِّر به أو يشعر به. إنَّ الحوار يمنحك الوضوح في نظرتك إلى الإنسان الآخر، ويمنح الآخر الوضوح في نظرته إليك، لذلك فنحن نعتبر أنَّ الحوار ضرورة للحياة الاجتماعيّة في بعدها السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي وفي كلّ شيء.

الحوار الإسلامي _ الإسلامي

أمَّا عن تشخيص هويَّة الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، فعندما نريد أن نتحدَّث عن هذا الحوار، فإنَّ علينا أن نفكِّر لماذا الحوار في هذه الدّائرة؟

إنّنا نعرف أنَّ هناك إسلاماً واحداً، انطلق من وحي الله، وتحرَّك في سُنّة رسول الله(ص)، وجاء الآخرون من بعده من أجل أن ينفتحوا على كلِّ هذا الجوّ الرّسالي، لذلك نعرف أنَّ هناك وحدة إسلاميّة في المعنى المضموني للإسلام، لأنَّ الكتاب واحد والسُنّة واحدة من خلال رسالة واحدة. وهكذا كان هذا الإسلام الواحد يهيّئ للأُمّة الواحدة التي تلتقي على كلّ مفاهيمه، لتلتقي من خلال هذه المفاهيم على كلّ مواقع حياتها.

لذلك اختلف المسلمون في زمن النبيّ(ص)، ولم يكن كلّ المسلمين قادرين على لقاء النبيّ، لذا بقيت كثير من الخلافات تتحرّك في وعي هؤلاء وأولئك على أنّها الإسلام.

ثمّ جاءت الأحزاب بعد النبيّ(ص) لتجعل من قضية الخلافة قضية مركزية استطاعت أن تمثِّل حدّاً فاصلاً ، يفصل المسلمين عن بعضهم البعض. ربّما لم يتحقَّق هذا الانفصال في عهد الخلافة، بل نجد هناك تواصلاً من الّذين اختلفوا حول قضية الخلافة...

وهكذا نعرف كلمات الإمام عليّ(ع): "لَأُسَلِّمَنَّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"، ما يدلّ على أنّ ذلك العهد لو بقي في امتداده، بالرّغم ممّا فيه من الأخطاء الكبيرة التي في مقدَّمها في عقيدتنا نحن، إبعاد عليّ(ع) عن الخلافة، لكان عهداً يتعيَّن فيه على المسلمين مسؤوليّة المحافظة على الإسلام، ومسؤوليّة التّدقيق في الخطّ الإسلامي.

لذلك، أنا أعتقد أنّه لو بقيت المسألة في هذا المسار، ولم تتحوَّل الخلافة إلى ملك، لأمكن أن تكون الأساليب في ممارسة هذا الخلاف أقلّ حدّةً وأكثر انفتاحاً، لكنَّ تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض، ودخول الأمويين على الخطّ، جعل مسألة استغلال هذا الجانب لمواجهة أهل البيت(ع) أمراً مهمّاً جداً. وهذا الذي بدأه معاوية في مسألة سبّ الإمام عليّ(ع)، واعتباره أمراً مفروضاً على خطباء المنابر. وهكذا دخلت مسألة الوضع في الأحاديث وما إلى ذلك...

ومن الطبيعيّ أنّ هذه التراكمات السياسية والاجتماعية والثقافية، استطاعت أن تعمِّق الفواصل بالشّكل الذي أصبحت حركة التكفير بين المسلمين حركة فاعلة تعمّق فصل الدِّين بين المسلمين، كما لو كان هذا المذهب من دين وذلك المذهب من دينٍ آخر...

روحيَّة الحوار

عندما نريد أن ندرس هذا الجوَّ، فمن الطبيعي إذا أردنا أن ندخل في الحوار الإسلامي، أن نعمل على إيجاد روحيَّة الحوار، بالعودة إلى النّهج القرآني الذي دعا أهل الكتاب إلى كلمةٍ سواء، ودعانا إلى أن ندخل مع أهل الكتاب في حوارٍ بالجدل بالتي هي أحسن، لنطرح مواقع الوفاق بيننا وبينهم. وهكذا نجد أنَّ المنهج القرآنيَّ الذي تمثّل العودة إليه، العودة إلى الله وإلى الرسول(ص) فيما نتنازع فيه، لا بدَّ لنا من أن ندخل في الجانب الشعوري، بحيث نهيّئ روحية الإنسان المسلم الذي يختلف مع الإنسان المسلم الآخر في بعض جوانب العقيدة أو بعض تفاصيل الشريعة أو المناهج الأخرى، لكي يتقبَّل الإنسان المسلم الآخر ويعترف به.

وإذا كان الأسلوب القرآني مع أهل الكتاب يقول {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}[العنكبوت: 46]،فبإمكان المسلمين أن يقولوا لبعضهم البعض نحن نؤمن بوحدانيّة الله وإن اختلفنا في بعض التفاصيل، ونؤمن برسالة الرّسول وإن اختلفنا في بعض صفات الرّسول، ونؤمن باليوم الآخر، ونؤمن بالكتاب كلّه والملائكة والرّسل وما إلى ذلك، ونمارس جميعاً الصّلاة والصّوم والزكاة والحجّ وما إلى ذلك. فمن الممكن أنْ نجمع كلّ نقاط اللّقاء المتّصلة بالعقيدة أو المتّصلة بالشّريعة أو المتّصلة بالخطوط الأخلاقيّة، كما أنّنا نستطيع من خلال ذلك أنْ نتجاوز المسألة إلى الأخطار المحيطة بالعالَم الإسلامي، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، وبالمصالح التي تتمثّل في الواقع الإسلاميّ السنّيّ والشِّيعيّ أمام المستكبرين والكافرين.

ونتعمَّق في دراسة الخلافات بين أهل السنّة أنفسهم وبين الشّيعة أنفسهم، ليتفهَّم الفريقان أنّ الخلافات بينهما ليست بأكثر من الخلافات داخل كلّ فريق، وأنّها لا تفصل مسلماً عن مسلم مادام الجميع يستشهدون بكتاب الله وسنّة رسوله فيما يجتهدون وفيما يفتون ويُنَظِّرون...

موضوعيّة الحوار

بعد هذه الأرضيّة الشعوريّة العلميّة التي تشير إلى واقع الخلافات بعيداً من الأحاسيس التي تُلْهِب الخلافات، فمن الممكن أن نبدأ بالطّريقة الموضوعيّة للمسألة.

نحن نلاحظ في الواقع المعاصر، أنّ الإنسان استطاع أن يصل إلى اعتماد الموضوعيّة في كلّ المذهبيّات الثقافية في مواجهة كلّ مشاكل العلم وخلافاته، وأنَّ الإنسان أصبح يستطيع أن يفصل بين مشاعره الذاتية وبين أفكاره، مقارنةً بالفكر. لذلك، لا بدّ لنا من أنْ نعمّق هذا الجانب الموضوعي الذي يلتقي في طبيعته العميقة بجانب العدل، كان القرآن عندما يقول: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]، وعندما يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى...}[الأنعام: 152]، نفهم من ذلك أنّ الموضوعيّة تستمدّ حيويّتها من العدل، فعندما تكون موضوعيّاً تكون عادلاً.

وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن ندرس مثلاً على طريقة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، قضيّة الخلافة وما سبقها كقضيّة تاريخيّة، لأنّ المسألة بين المسلمين هنا؛ هل أوصى النبيّ أم لم يُوْصِ؟ فالمسألة هي مسألة تاريخ.

وهذه المسألة قد تحتاج إلى نوع من التّفاصيل، ولكنّني أتصوَّر أنّنا نحتاج إلى أنْ نخطّط له، أنْ نخطِّط لتفريغ الشخصية الإسلامية من كلّ هذا التخلّف الثّقافي الذي لا يجعل الإنسان يطيق أن ينظر إلى فكر الآخر ولا أيّة مناقشة لما عنده. فالمشكلة الموجودة الآن في الواقع الإسلاميّ، ليست في الواقع مشكلة السنَّة والشّيعة، ولكنّها مشكلة في السنّة أنفسهم، ومشكلة الشيعة أنفسهم.

لذلك، نحن نحتاج إلى أن نتخلَّص من هذه الحالة الشرقيّة المتخلّفة التي تجعل الإنسان لا يطيق الآخر ولا يعترف به، وتجعل الإنسان يعيش ذاته حتّى لو كان لا يطمئنّ إلى هذه الذاتية، باعتبار أنّ المسألة أصبحت مسألة خصوصيّات. ونحن نعرف أنّه عندما يُثار شيء، وعندما ينطلق رأي سنّيّ قد يتّفق مع بعض ما عند الشيعة، أو ينطلق رأي شيعيّ قد يقترب ممّا عند السنّة، فإنّ الحديث الذي يدور في داخل السنّة أنّكم بهذا تشمّتون بنا الشيعة، أو الشيعة أنّكم تشمّتون بنا السنّة.

ونحن نعرف أنّ الاستكبار العالمي كان يعمل على هذا الأساس، فإذا انطلق رأي في هذا المجال، فإنّه يوحي إلى بعض الناس في الجانب الآخر أنْ يقولوا: (وشَهِدَ شاهدٌ من أهله).

هذا التخلّف الذّهني الثّقافي هو سرّ المشكلة في انهيار الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، والّذي إذا سنحت له أيّة فرصة، فإنّه ينطلق من بعض حالات التّكاذب التي يجامل فيها فريق فريقاً، أو الحالات النفسيّة التي تحاول أن تجعل كلّ فريق يسعى إلى تسجيل نقطة على الفريق الآخر، لا الوصول معه إلى نقطة لقاءٍ في هذا المجال.

ومن هنا، تميّز الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي، ولا سيَّما في علم الكلام، في كلّ ما تركه لنا علماؤنا من السنّة والشيعة، أنّه يعتمد على الجانب الجدلي الذي يريد أن يسجّل نقطة، ويريد أن يلزم الآخر بما التزم به، دون أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، بذلك أعتبر أنّني مع الحقيقة التي لا يمكن أن أحيدَ عنها، ويعتبر الآخر أنّه مع الحقيقة التي لا يمكن أن يحيدَ عنها أيضاً، وتكون المسألة كيف أقنع الآخر بعقيدتي، وكيف يقنعني الآخر بعقيدته، من دون أن أُعطي نفسي فرصة أن أُفتِّش عن الحقيقة مع الآخر ولو بنسبة معيّنة.

إنَّ هذا النوع من الانغلاق النفسي قبال الآخر، هو الّذي يمنع حيويّة الحوار وحركيّته، ويحوّله، في حال وجوده، إلى عمليَّة وقت ضائع وجهد ضائع، ويصبح كما يسمَّى بـــ "حوار الطّرشان"، لأنَّ الأطرش يهمّه أنْ يتكلَّم من دون أن يسمع، ليتكلَّم الآخر من دون أن يسمع. وهكذا هي القضيَّة. ولا بدَّ للمسلمين الذين يعيشون الوعي الثّقافي والوعي السياسيّ، من أنْ ينظروا إلى القضيّة نظرةً تخلو من الخطورة، لأنَّ قضيّة الخلاف بين السنّة والشّيعة، كانت تتّخذ في الماضي صفة الواقع الإسلامي الذي يريد فيه فريق أنْ يتغلَّب على فريق. كانت قضية داخلية في الواقع الإسلامي، ما يجعل خطرها أقلّ.

لكنَّ قضيّة الخلاف بين السنّة والشّيعة الآن، أصبحت من القضايا التي تتَّصل بالخطط الاستكباريّة في السيطرة على المسلمين، ومحاولة إشغالهم ببعضهم البعض، ولا سيَّما بالقضايا الهامشيّة. ولعلّ الخطورة في ذلك، أنَّ هذا الانفصال المذهبي قد تحوَّل إلى انفصال سياسيّ، بحيث أصبح فريق من المسلمين غربياً والفريق الآخر منهم شرقياً، عندما كان هناك شرق وغرب. لذلك نتصوَّر أنَّ من الضّروريّ أن يدور حوار إسلامي ـــ إسلامي على المستوى الثقافي، لنؤكّد مواقع اللّقاء، ونحدِّد مواقع الخلاف.

إنّني أتصوَّر أنَّ على الواعين المثقّفين أن يكونوا الضّوء الذي يتحرّك ويتكاثر في كلّ هذا الظَّلام، وأنْ يتحمَّلوا كثيراً من الصَّدمات والكثير من اللّكمات الكلاميّة والاجتماعيّة، حتى يستطيعوا أن يكونوا الطّليعة التي تفسح في المجال للمستقبل الجديد، لأنّني أتصوَّر أنَّ الواقع الخلافيّ بين السنّة والشيعة إذا بقي على هذا الحال، ولم تنطلق الحالة الحواريَّة بشكلٍ موضوعيّ إسلاميّ، بحيث نرجع الأمور ـــ كما أَمَرَنا الله ـــ إلى الله فيما نتنازع فيه بقلبٍ تقيّ نقيّ طاهر إسلامي، فإنَّ الواقع الإسلامي سيصاب بالشَّلل وبالهزيمة وانعدام الوزن أمام كلّ حلف بين الاستكبار العالميّ والكفر العالميّ بجميع فصائله من أجل إسقاط الإسلام، تحت شعار (الأصوليّة) تارةً و(التطرُّف) أخرى و(التعصُّب) ثالثة، وما إلى ذلك من الكلمات، والتي يتميَّز بها القاموس السياسي الاستكباري، الذي يوزّع الكلمات على حسب الأجواء التي يريد إثارتها هنا وهناك.

ومن الطبيعي أنّنا عندما ندعو إلى حوارٍ إسلامي ـــ إسلامي فيما بين السنّة والشيعة، فإنّنا ندعو إلى حوار إسلاميّ داخل السنّة أنفسهم وداخل الشيعة أنفسهم، حتّى يكفّوا عن الاعتقاد أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة، وحتّى يبحثوا عقائدهم ويبحثوا تاريخهم وشرائعهم وأحكامهم بطريقة جديدة، لأنَّ القدامى إذا كانوا قد فكَّروا واستنتجوا، فليس من الضّروريّ أن يكون فكرهم هو نهاية الفكر في العالَم، وأن تكون أبحاثهم هي نهاية البحث في العالم.

والقرآن أصدق من ذلك عندما يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} في اجتهادها وفكرها وفي أبحاثها {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لذلك أعتقد أنَّ خيارنا في دخولنا للمستقبل الإسلاميّ من الباب الواسع.

*العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة"، ص 15-23.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية