إنَّ الإسلام، عندما يريد أن يطلق نهجه الأخلاقيّ والاجتماعيّ في المجتمع، يعمل
على أن يهيِّئ له أرضيّة وقائيّة تجعل حركة الأخلاق في حياة النّاس أمراً واقعيّاً
قابلاً للتّطبيق، ولا بدَّ، بغية تحقيق ذلك، من تهيئة الأجواء الملائمة والابتعاد
عن الأجواء المضادَّة.
إنَّ المسألة التي نريد أن نثيرها في هذا المجال، هي أنَّ لكلّ مبدأ، أو لكلّ دين،
أو لكلّ رسالة، منهجها الأخلاقيّ ومنهجها الاجتماعيّ اللّذين يحدِّدان طريقة علاقة
الناس بعضهم مع بعض.
ومن الطبيعيّ أن يخضع أيّ منهج أخلاقيّ، أو أيّ منهج اجتماعيّ في واقعيّته،
لهيكليَّة من الخطوط ومن التحفّظات ومن الأجواء التي يمكن أن تجعله أمراً واقعيّاً.
ولهذا، فإنّنا لا نستطيع أن ننظر إلى القضايا من الناحية الشعوريّة السطحيّة، وبشكلٍ
منفصل عن كلّ المفردات التي تشكّل المجموع المتكامل للهيكل الأخلاقيّ أو للهيكل
الاجتماعيّ.
ربّما يطرح بعض النّاس تصوُّراً في هذا المجال، مفادُه: أَنّ معنى ذلك أنّ المرأة
سوف تعيش الحرمان، لأنّه من الطبيعيّ أن يعيش الإنسان ذاتَه، وأن يرغب في أن تنفتح
كلّ طاقاته، لينفتح الناسُ على ما يملكه من الطّاقات؛ فالعالِم يحبّ للنّاس أن
يتحسَّسوا علمه، والشّجاع يحبّ للناس أن يتحسَّسوا شجاعته، والجميل يحبّ للنّاس أن
يتحسَّسوا جماله. وربّما كان إحساس النّاس بهذه الأمور، هو الّذي يشجّعهم على
الامتداد في تنمية هذه العناصر في شخصيتهم. بل ربّما رأينا، في دراستنا للإنسان، أنّ
تنميته لكلّ العناصر التي تمثّل عمق شخصيّته، إنّما تنطلق، في حركتها وقوّتها
ونموّها، من خلال شعوره بإحساس الآخرين بها. فكلّما أحسّ الآخرون بطاقاتنا إحساساً
يتمثّل في إعجابهم وفي دهشتهم، تشجّعنا على الاستمرار في تقوية هذه الطّاقات
وتنميتها. ومن الطبيعيّ ألّا يكون ذلك إلّا بإبراز هذه الطاقات.
لذلك، فإنّ المرأة التي تتميّز بالجمال الجسديّ، أو ببعض الأساليب الأنثوية، أو
الإغرائية التي تستثير دهشة الحاضرين، وتستثير إعجابهم وتملك بريق عيونهم، ربّما
تشعر بالحرمان في هذا الجانب، وربّما يدفعها ذلك إلى إهمال الطاقة الشعورية التي
تعيشها وقتلها.
ربّما يتحدّث بعض النّاس عن المسألة بما يشبه المأساة، فيصوِّر المرأة المسلمة التي
يمنعها الإسلام من أن تعيش أنوثتها في صورة المرأة المضطهدة المكبوتة التي تتآكلها
العقد النفسيّة الناشئة من الكبت والحرمان، في إطار الضغوط التشريعية التي تتحوّل
إلى ضغوط اجتماعية.
ولكنّنا نريد أن نثير أمام هذا الموضوع مسألة في حجم الخطّ العامّ، وهي: هل المسألة
الإنسانيّة في كلّ أبعادها تنطلق من المشاعر الذاتيّة في ما يتحسّسه الإنسان من كلّ
نوازعه، بحيث إنّا نرفض أيّ نوع من أنواع الحرمان للإنسان؟ وهل نفهم القيمة من خلال
تفاعل الإنسان بها، أو من خلال الواقع الموضوعي الذي تتحرّك بنتائجها الإيجابية فيه؟
لو أردنا أن نطلق المسألة في هذا النطاق العام، بحيث يكون المقياس في السعادة
والشّقاء إرضاء النوازع الذاتيّة، وأن يكون المقياس في القيمة الإنسانيّة متمثّلاً
في مدى التفاعل الذّاتيّ بها والاختزان الذاتي لها، فمن الطبيعيّ أنّ المسألة لن
تكون محصورة في حجم المظاهر الأنثويّة التي تتحرّك فيها المرأة، إمّا على مستوى
إبراز مفاتنها الجسدية، أو على مستوى تحريك أساليبها الأنثويّة الإغرائيّة، بل تمتدّ
إلى الإحساسات الجنسيّة الخاصّة نفسها. فمن الطبيعيّ أنّ كلّ إنسان، سواء كان رجلاً
أو امرأة، يشعر تماماً بهذه الحاجة بعيداً من التقاليد والتشريعات، بحيث يعمل على
تغذية هذا الجوع الجسدي تماماً كما يحسّ الإنسان بالجوع الغذائيّ، وما إلى ذلك،
بحيث يتحسَّس في نفسه معنى الحرّية في تغذية هذا الجوع تماماً، كما يتحسَّس في نفسه
معنى الحرّية في تغذية الجوع في ناحية أخرى.
وهكذا، يمكن أن نمتدّ إلى مجالات أخرى. ونحن نعرف أنَّ هناك كثيرين من الناس
يعتبرون الحريّة الجنسيّة قيمةً فرديّةً للإنسان، تماماً كما يعتبرون الحرّية
السياسيّة أو الحرّية الاقتصاديّة أو الأمنيّة. ولكنّنا لا نستطيع أن نستسلم لذلك،
بل لا بدّ من أن نضع ضوابط لحركة الحريّة في الإنسان، انطلاقاً من مصلحته التي
تحدّدها الخطوط العامّة التي يؤمن بها في مجال قناعاته، في ما تنتجه من إيجابيّات
أو سلبيّات.
وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّ إنسان لا بدَّ من أن يعيش نوعاً من أنواع المأساة في
حرمانه من بعض حرّيته، في ما تنطلق فيه نوازعه الذاتيّة لحساب حريّة الآخرين، أو
لحساب مواقع الحريّة الأخرى في حياته التي قد لا تنسجم مع إطلاق الحريّة في هذا
الجانب، لأنَّ الإنسان يعيش عدّة حريّات في مواقعه، ولو أطلق الإنسان لنفسه كلّ
حرّياتها، لكان معنى ذلك أنّ حرّيته قد تصطدم بحرّية أخرى، الأمر الّذي يجعل
الإنسان يخسر من حرّياته بشكل فوضويّ إذا لم ينظِّم علاقة هذه الحرّيات بعضها مع
بعض.
لذلك، فإنّ مسألة المأساة، في الجانب الشعوريّ، تفرضها الحدود الواقعيّة التي
تتحرّك في طاقات الإنسان وفي حياته.
*من كتاب "تأملات إسلاميّة حول المرأة".