النقطة الأساسيّة في الآيات والأحاديث التي تحثّ على التّوبة، تؤكّد على الإنسان ألَّا ييأس، وألَّا يتعقَّد ولو كان ارتكب ألف معصية، لأنَّ المسألة ما هو قراره الآن، فليست ما هو حجم معاصيه، ولكن ما هو حجم إيمانه الآن، وما نظرته إلى معاصيه السّابقة، هل هو راضٍ عن تاريخه مع ربِّه أم لا؟
فالخطاب لهذا الإنسان: إذا كنتَ غيرَ راضٍ عن تاريخك مع ربِّك، فندِمْتَ على ما أسلفت وأسرفتَ، وفكَّرت بأنْ تبدأ في إيمانك بالانفتاح على الخير في طاعة ربِّك لتكتب تاريخاً جديداً لك، فإنَّ حياتَك تتحوَّل إلى صفحة بيضاء، ويُفتَح لك دفترٌ جديد، وتُمَزَّق كلُّ الدفاتر السابقة.
ومن هنا، كان النّداء لرسول الله (ص): {قُلْ يَا عِبَادِيَ}، قل ـــ يا محمَّد ـــ لكلِّ هؤلاء النّاس الذين التقيت بهم، وكان بعضهم مشركاً وكافراً وفاسقاً ومتمرّداً وعاصياً، وشعروا بالإحباط واليأس عندما تحدّثهم عن جنّة الله وناره، وتذكّروا تاريخهم الماضي البعيد عن الله، هؤلاء {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}،والإسراف هو تجاوز الحدّ، قل لهم {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ}، فلا تيأسوا {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ومَنْ يغفر الذنوب إلّا الله {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص: 16]...
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزّمر: 53]. الغفران صفةُ ذاته تعالى، والرّحمة سرُّ ألوهيّته {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، الإنابة تعني الرّجوع، فإذا ابتعدت، أيُّها العاصي، عن الله، ارجع إليه، والرجوع إلى الله لا يحتاج إلى قطع المسافات ذاتها التي ابتعدت فيها، فإذا ما كنت في بحار العصيان، ووطّنت النفس على الخروج منها، فإنَّ الله يحملك في سفينة نجاةٍ تعيدك إليه، وأنتَ عندما تعود إلى الله، فليس لك إلّا أن تقول، لا أمْرَ لي مع أمرك، ولا حكم لي مع حكمك، ولا كلمة لي مع كلمتك، ولا شريعة لي مع شريعتك.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}[الزمر: 54]، فإذا ما بقيت على عصيانك وتمرّدك وذنوبك، فسيأتيك الموت. ومَنْ مات على غير توبة، فإنَّه عندما يلتقي بالموت، يلتقي بالعذاب، ويتحوَّل قبره إلى حفرة من حُفَر النّيران.. فإذا رجعت إلى الله وأسلمت أمرك إليه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}، فاتِّباع القرآن هو علامة التّوبة {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً}، وإذا جاءك العذاب، مَنْ يخلِّصُك منه؟ أهلك، عشيرتك، أصحابك، حزبك، جماعتك؟ {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الزّمر: 55].
ويأمرنا الله أن نعيش التوبة استقامة وعودةً إليه، وبتحويل مسار حياتنا من الخطّ المنحرف إلى الخطِّ المستقيم، ولنتذكّر وقوفنا غداً بين يديه، عندما نرى النّاس في المحشر زرافاتٍ ووحداناً، حيث {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}[لقمان: 33]، وكلٌّ يطلب نجاةَ نفسه، فبعضٌ مسرعٌ لأخذ الامتياز، وآخرُ يسير ببطءٍ، كما يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "ويلي إذا قِيلَ للمُخِفِّين ـــ الذين لا يحملون أثقال الذّنوب على ظهورهم ـــ جوزوا، وللمُثْقَلِين ـــ والذين يحملون الذنوب فوقَ ظهورهم ـــ حُطُّوا، أمَعَ المُخِفِّين أَجُوزُ، أم مع المثقَلين أحطُّ. ويلي! كلّما كَبُرَ عمري كثُرَتْ خطاياي، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربِّي، وهو يزيدني نعمةً وأنا أزيده معصيةً". الله تعالى يعطي الإنسان فرصة التَّوبة، ولكن تبقى الأعذار والتّبريرات والتمنّيات، ويموت الإنسان بلا توبة {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزّمر: 56].
هذا لسان حال المذنب: يا حسرتاه على الفرص التي مرَّت عليَّ، والمجالات التي كنت أملكها، وكنتُ أستطيع أن أربح بها الجنَّة ورضوانَ الله، كنتُ عندما يأتيني المؤمنون المتَّقون ويقولون، صَلِّ يا فلان، فإنَّ الصّلاة تقرّبك إلى الله، صُمْ يا فلان، لا تشرب الخمر، لا تلعب القِمار، اِتَّقِّ النّارَ التي أُعِدَّتْ للكافرين، كنتُ أسخر وأضحك، وأُرسل "النّكتة" تلو "النّكتة" على هؤلاء الذين يعظون، وأعمل على إضحاك النّاس من حولي.
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزّمر: 57]، وكنتُ أقول لو أنَّ الله هداني... لسرتُ في خطِّ التقوى.
وبينما هو على هذه الحال من الحسرة والنّدم، إذ بلهب جهنّم يتصاعد، فيقول: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر: 58]، يتمنّى أن يعود إلى الدّنيا ليحصل على فرصة جديدة، ويأتيه الجواب: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الزّمر: 59]، فكنت من العاصين والفاسقين والمنافقين الذين يلتقون جميعاً في مواقع التمرّد على الله.
وفي هذا الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى، يظهر موقف المستكبرين وموقف المتّقين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر: 60] سواد قلوبهم وأعمالهم وتاريخهم ونياتهم تحوّل إلى سواد في الوجه، وأضافت النّار سواداً على سوادهم من خلال لفحات النّار، جزاءً لاستكبارهم وعصيانهم وسخريتهم. وفي قبال هؤلاء {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الزّمر: 61]، ويفوز الّذين اتّقوا وتابوا وآمنوا وعملوا الصّالحات، وفتحوا قلوبهم لله وأنابوا إليه، وأسلموا له أمرَهم، واتّبعوا أحسن ما أُنزلَ إليهم من ربِّهم، ففازوا بالنَّتائج الطيِّبة لأعمالهم، وحصلوا على الفرح والخير كلِّه، وعلى الطَّمأنينة والرّضوان كلِّه.
*من كتاب "من عرفان القرآن".