تفسير
26/01/2024

s-2-a-215

s-2-a-215

‏معاني المفردات ‏

{يسْئلُونك}: السُّؤال: طلب الجواب بصيغةٍ مخصوصةٍ من الكلام. ‏

{يُنْفِقُون}: النّفقة: إخراج ‏‏الشيء‏‏ من الملك ببيعٍ أو هبةٍ أو صلةٍ ونحو ذلك، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال من عين أو نقدٍ. ‏

{فلِلْوالِديْنِ}: الأب والأُمُّ، والجدُّ والجدّة وإن عليا. ‏

{والْأقْربِين}: أرحام المعطي. ‏

{والْيتامى‏}: اليتيم: كلُّ من لا أب له مع صغره. ‏

{واِبْنِ السّبِيلِ}: المنقطع به في السّفر. ‏

‏مناسبة النُّزول ‏

‏جاء في (الدُّرّ المنثور) للسّيوطيِّ، عن ابن عبّاس قال: «ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألةٍ حتّى قبض، كلُّهن في القرآن، منهنّ: {يسْئلُونك عنِ الْخمْرِ والْميْسِرِ}[البقرة: 219]، و {يسْئلُونك عنِ الشّهْرِ الْحرامِ}[البقرة: 217]، و {ويسْئلُونك عنِ الْيتامى‏}[البقرة: 220]، و {ويسْئلُونك عنِ الْمحِيضِ}[البقرة: 222]، و{يسْئلُونك عنِ الْأنْفالِ}[الأنفال: 1]، و {ويسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون}[البقرة: 219]، ما كانوا يسألون إلاّ عمّا كان ينفعهم»‏(1)‏. ‏

‏ونلاحظ في هذه الرِّواية:‏

‏أوّلاً:‏‏ إنّ ابن عبّاس يؤكِّد على تحديد الأسئلة بالثّلاثة عشر سؤالاً، فلم يسألوا عن شي‏ءٍ آخر غيرها، وهو أمرٌ يثير الغرابة؛ باعتبار أنّ طبيعة القضايا الّتي طرحتها الدّعوة الإسلاميّة ونوعيّة التّحدِّيات الّتي أطلقتها في الواقع، والمشاكل الّتي أثارتها، لا بُدّ من أن تثير علامات استفهامٍ كثيرةً تتّصل بالعقيدة والتّشريع والحرب والسِّلم ونحو ذلك من الأمور الخاصّة والعامّة. هذا، بالإضافة إلى أنّ الآخرين من المشركين واليهود كانوا يثيرون أكثر من مسألةٍ حول أكثر القضايا، ما ينعكس على تصوُّر المسلمين للإسلام في مفاهيمه. كما أنّ الّذين يدخلون في الإسلام لا بُدّ من أن يحملوا في ذهنيّتهم أكثر من علامة استفهامٍ في الدِّين الجديد الّذي دخلوا فيه. ‏

‏ ثانياً: إنّ رواية ابن عبّاس توحي بالذِّهنيّة الواقعيّة الجدِّيّة في الأسئلة الّتي يثيرونها أمام القضايا الّتي يجهلون تفاصيلها، أو تقع مثاراً للجدل بين النّاس، فلا يسألون عن الأمور التّجريديّة الّتي لا علاقة لها بالعقيدة أو بالعمل؛ لأنّها لا تنفعهم في حياتهم الدُّنيويّة والأخرويّة، بل يسألون عمّا ينفعهم في ما يعتقدون أو ما يعملون؛ حتّى يكون للأفكار الجديدة في الأجوبة دورٌ فاعلٌ في إغناء التّجربة الثّقافيّة الّتي تبني لهم شخصيّتهم الإسلاميّة الإنسانيّة، وتركِّزها على قاعدةٍ ثابتةٍ من حقائق الدِّين والحياة. ‏

‏وجاء في (الدُّرّ المنثور) عن ابن المنذر، عن ابن حبّان، قال: «إنّ عمرو بن الجموح سأل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت: {ويسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون}الآية. فهذا مواضع نفقة أموالكم»‏(2)‏. ‏

‏وردّ صاحب (الميزان) الاستدلال بهذه الرِّواية، فقال: «وقد استضعفوا الرِّواية، وهي مع ذلك غير منطبقٍ على الآية؛ حيث لم يوضع في الآية إلاّ السُّؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه»‏(3)‏. ‏

‏وقد جاء في (الدُّرّ المنثور) - أيضاً - الرِّواية عن ابن جرير وابن المنذر، عن ابن جريج قال: «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: {يسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون قُلْ ما أنْفقْتُمْ مِنْ خيْرٍ}الآية، فذلك النّفقة في التّطوُّع، والزّكاة سوى ذلك كلِّه»‏(4)‏. ‏

‏ونظيرها، ما رواه عن السُّدِّيِّ، قال: «يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النّفقة ينفقها الرّجل على أهله، والصّدقة يتصدّق بها، فنسختها الزّكاة»‏(5)‏. ‏

‏ولكنّ هذا الاتِّجاه في الرِّوايتين الأخيرتين يوحي بوجود منافاةٍ بين آية الصّدقة وهذه الآية وآية الزّكاة، حتّى تكون آية الزّكاة ناسخةً لها، أو شيئاً آخر يختلف عنها، بينما نجد أنّ المسألة تمثِّل تنوُّعاً يكتفي فيه الإنفاق بالصّدقة والزّكاة معاً في مسألة العطاء الإنسانيِّ كقيمةٍ أخلاقيّةٍ في وحي الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك كلِّه، نجد في هذه النّماذج المتعدِّدة في تحديد المناسبة الّتي نزلت هذه الآية فيها، تأكيداً على أنّ أسباب النُّزول كانت تمثِّل لوناً من ألوان الاجتهاد الذّاتيِّ، الّذي يستوحيه هذا الرّاوي أو ذاك ليحوِّله إلى روايةٍ عن الواقع القرآنيِّ في زمن الدّعوة، ما يجعلنا لا نجد في كثيرٍ من روايات أسباب النُّزول منطلقاً للفهم القرآنيِّ في الاستيحاء والتّفسير. ‏

‏السُّؤال باب المعرفة والعمل ‏

‏كان المسلمون يسألون النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض القضايا الّتي تشغل تفكيرهم في تفاصيل بعض الواجبات أو المحرّمات، وكانت في غالبها - كما يُنقل عن ابن عبّاس - خفيفةً لا تعقيد فيها، عمليّةً لا ترف فيها ولا تكلُّف؛ انطلاقاً من شعورهم بأنّ دور السُّؤال هو أن يحلّ للإنسان مشكلةً يواجهها في حياته العقيديّة أو العمليّة. فإذا لم تكن هناك مشكلةٌ مطروحةٌ في ساحة اهتماماته الطّبيعيّة، فلا معنى لأن يبادر بالسُّؤال الّذي يتحوّل إلى تكلُّفٍ لا فائدة فيه، وعبثٍ لا معنى له، وإضاعةٍ لوقت السّائل والمسؤول في ما لا جدوى منه. ‏

‏وهكذا نفهم الدّور المطلوب للسُّؤال في الإسلام، وهو أن يكون نافذةً فكريّةً تطلُّ على ما ينبغي للإنسان معرفته من شؤون الكون والحياة، في ما يتعلّق بأمر الدُّنيا والآخرة. وهذا ما نستوحيه من الحديث القرآنيِّ عن الأسئلة الّتي لا يريد الله للإنسان أن يخوض فيها، لأنّها لا تتّصل بالمعرفة المرتبطة بالمسؤوليّة، فلا تضيف للإنسان جديداً في حياته، كقوله تعالى: ‏{‏‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏‏*‏‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏‏*‏‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏‏*‏‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا‏‏}‏[النّازعات: 42 - 45]؛ فقد أغلق القرآن باب السُّؤال عن توقيت يوم القيامة؛ لأنّه لا يعود بفائدةٍ عقيديّةٍ أو عمليّةٍ؛ لأنّ من واجب الإنسان الاستعداد لها بعيداً عن أيِّ توقيتٍ معيّنٍ من خلال مسؤوليّته أمام الله، كما أنّ مهمّة النّبيِّ هي الحديث عمّا يحدث فيها، لا عن وقتها الّذي قد لا يكون محيطاً بعلمه، كما توحي به بعض الآيات الّتي تقول: {يسْئلُونك عنِ السّاعةِ أيّان مُرْساها قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد ربِّي لا يُجلِّيها لِوقْتِها إِلاّ هُو ثقُلتْ فِي السّماواتِ والْأرْضِ لا تأْتِيكُمْ إِلاّ بغْتةً يسْئلُونك كأنّك حفِيٌّ عنْها قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد اللّهِ و لكِنّ أكْثر النّاسِ لا يعْلمُون}[الأعراف: 187]. ونلاحظ ذلك أيضاً في قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تسْئلُوا عنْ أشْياء إِنْ تُبْد لكُمْ تسُؤْكُمْ}[المائدة: 101]. وفي بعض الأحاديث الّتي تقول: «سل تفقُّهاً ولا تسل تعنُّتاً»‏(6)‏. وفي الجانب المقابل، نجد أمامنا قول الله تعالى: {فسْئلُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}[النّحل: 43]. وهكذا نستوحي الدّور الإسلاميّ للسُّؤال الّذي يجب أن يكون نافذةً للمعرفة المتّصلة بالعقيدة والعمل والحياة. ‏

‏وكان النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يستجيب لكلِّ ما يُوجّه إليه من أسئلةٍ، فلم يكن ليضيق في الرّدِّ عن أيِّ سؤالٍ ممّا يريد المسلمون معرفته؛ لأنّه يشعر أنّ مهمّته الأساسيّة هي أن يُعلّم النّاس الكتاب والحكمة في ما يجهلونه من شؤونهما المتّصلة بحياتهم. ولكنّه كان دقيقاً في الإجابة من موقع رسالته، فيختار الجواب الّذي يتناسب مع حاجتهم، وإن كان بعيداً عن النّصِّ الحرفيِّ للسُّؤال؛ لأنّ دوره هو دور الموجِّه للسّائل، فيوحي له - من خلال الجواب - بما ينبغي له أن يسأل عنه، لا بما يحبُّ أن يعرفه. وهذا ما نستشعره من الجواب النّبويِّ الّذي علّمه الله لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّه أجاب عمّن يلزمهم الإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل، بدلاً من الجواب عمّا سألوا عنه ممّا يلزمهم الإنفاق منه من أنواع الطّعام، فقد نلاحظ: أنّه مرّ بها مروراً خاطفاً، ولم يتوقّف عند التّفاصيل؛ فقد يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء إليهم بأنّ نوع الطّعام الّذي يُقدّم ليس مشكلةً تبحث عن حلٍّ؛ باعتبار أنّه لا يقدِّم ولا يؤخِّر شيئاً في هذا المجال ما دام خيراً ونافعاً، بل القضيّة هي نوعيّة النّاس الّذين يتصدّق عليهم، من حيث علاقاتهم القريبة به الّتي تجعل من صلته لهم صلة رحم، ومن حيث حاجتهم الّتي تجعل من صلتهم إنفاقاً في حلِّ المشكلة الاجتماعيّة، فإذا خلا الأمر عن هذين النّحوين، أصبح شيئاً لا معنى له أو لا منفعة له. ولذا كان التّركيز الكبير على ذلك باعتبار أنّه هو الخير؛ لأنّ كون الإنفاق خيراً لا يتّصل بطبيعة المال الّذي ينفقه، بل يتّصل بطبيعة الحالة أو المشكلة الّتي عالجها، والإنسان الّذي أعانه. ‏

‏ثمّ انطلقت الآية في أسلوبٍ تشجيعيٍّ للخير القائم على الإنفاق في موارده الّتي يحبُّها الله، لتقرِّر الحقيقة الإلهيّة في قوله تعالى: {وما تفْعلُوا مِنْ خيْرٍ فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ}، الأمر الّذي يوحي إلينا بالاندفاع في هذا الاتِّجاه؛ لأنّه لا يضيع عند الله الّذي يعلم ما نعمل بكلِّ دوافعه ونتائجه الخيِّرة. ‏

‏أولويّات الإنفاق ‏

{يسْئلُونك}‏ ‏‏- يا محمّد - في حركة المعرفة التّفصيليّة في وجدان المسلمين، الّذين اتّبعوك وتابعوا معك الوحيّ الإلهيّ في العقيدة والشّريعة والحياة، وواجهوا من خلال ذلك أكثر من علامة استفهامٍ حول هذا الموضوع، أو هذه القضيّة، أو ذاك الواقع؛ ليحصلوا على الطُّمأنينة الفكريّة الوجدانيّة أمام الأسئلة الكثيرة عندهم، {ما ذا يُنْفِقُون}من أنواع الأموال الّتي يملكونها في حياتهم، من ألوان الطّعام والشّراب والألبسة والنُّقود وغيرها؟ هل هناك شي‏ءٌ معيّنٌ يلتزمونه في إنفاقاتهم؟ وهل هناك فريضةٌ محدّدةٌ في نوعيّةٍ خاصّةٍ منها؟ لأنّهم يريدون أن تكون التزاماتهم العمليّة - حتّى في العطاء - خاضعةً لتعليماتك الرِّساليّة الّتي تمتدُّ إلى كلِّ شؤون الإنسان في الواقع. ‏

{قُلْ}‏ ‏‏لهم - يا محمّد - جواباً عن هذا السُّؤال الّذي لا يختزن في داخله أيّة أهمِّيّةٍ في المفهوم الإنسانيِّ لقضيّة العطاء: إنّه من الطّبيعيِّ أن ينفق النّاس ممّا لديهم من الأموال الّتي تمثِّل حاجات النّاس المتنوِّعة، ليكون الإنفاق على كلِّ شخص بما يحتاجه في حياته الخاصّة بالطّريقة المألوفة في هذا السُّلوك الإنسانيِّ الّذي يتّصل بالآخرين، إلاّ أنّ الأهمِّيّة هي لتحديد النّاس الّذين نعطيهم من خلال تحديد الأولويّات في الإنفاق؛ لأنّنا لا نملك الإنفاق على كلِّ النّاس، فهناك النّاس الّذين لا يجدون أيّة فرصةٍ للحياة الكريمة وتأمين ما يحتاجونه من الطّعام والشّراب واللِّباس والمسكن وغيرها، لأنّ أبواب الحياة أُغلقت عليهم، ولأنّ الطُّرق الّتي يتحرّكون عليها إلى حاجاتهم سُدّت في وجوههم، وهكذا عاشوا في حصار الظُّروف القاسية الخانقة الّتي منعتهم من أن يتنفّسوا الهواء الطّلق الّذي يكفل لهم استمرار الحياة، فالسُّؤال ينبغي أن يكون عمّن هو الأولى بالإنفاق بين النّاس. ولذلك كانت الحكمة الإلهيّة توحي إليك بالجواب عن السُّؤال الّذي ينبغي لهم أن يسألوه، لا عمّا سألوه. ‏

{ما أنْفقْتُمْ مِنْ خيْرٍ}، من المال الّذي تملِّكونه وتعطونه، ليتحوّل إلى خيرٍ للنّاس؛ لأنّه يلبِّي لهم حاجاتهم، ويحقِّق لهم مشتهياتهم، ويبلغ بهم أهدافهم، من أيِّ نوعٍ من هذه الأنواع الّتي تمثِّل حاجة النّاس؛ باعتبار أنّ الخير هو عنوان العطاء، في دلالاته الرُّوحيّة المنفتحة على إنسانيّته القيِّمة في خطِّ التّكافل الاجتماعيِّ لرعاية الحالات الصّعبة أو المتّصلة بالعاطفة الإنسانيّة. ‏

‏وهذا ما تؤكِّده الفقرة التّالية في الآية، حيث الدّعوة إليه كعنوانٍ لا بُدّ للنّاس من أن يحرِّكوه في قضيّة الإنفاق، فما أنفقتم من خيرٍ {فلِلْوالِديْنِ}‏ ‏‏اللّذين هما سرُّ حياة الإنسان في وجوده الحيِّ، ما يفرض عليه الاهتمام بهما ورعايتهما في شيخوختهما ومرضهما وتعبهما، والإحسان إليهما في كلِّ أوضاعهما في الحياة كبادرة عرفان الجميل لما قاما به، على هدْي ما جاء في قوله تعالى، في إثارة ذكريات الطُّفولة الأولى في وجدان الإنسان في شبابه عندما يتذكّر ذلك كلّه: {وقضى‏ ربُّك ألاّ تعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وبِالْوالِديْنِ إِحْساناً إِمّا يبْلُغنّ عِنْدك الْكِبر أحدُهُما أوْ كِلاهُما فلا تقُلْ لهُما أُفٍّ ولا تنْهرْهُما وقُلْ لهُما قوْلاً كرِيماً}[الإسراء: 23]. ‏

{والْأقْربِين}، من أرحامكم الّذين يتّصل نسبكم بنسبهم، وتجري في عروقكم دماؤهم، أو تجري دماؤكم في عروقهم، هؤلاء الّذين يمثِّلون المجتمع الأوّل الّذي ترتبطون به من الدّاخل في حركة الوجود، ما يجعل منه الخليّة الاجتماعيّة الأولى الّتي تمنحكم الكثير من عناصر شخصيّتكم وملامحها الدّاخليّة والخارجيّة. وهذا ما أكّد الله فيه شريعته في اعتبار صلة الرّحم قيمةً أخلاقيّةً إيجابيّةً، وقطيعة الرّحم قيمةً سلبيّةً؛ لأنّ ذلك يوثِّق الرّابطة الاجتماعيّة الإنسانيّة الأقرب في الواقع الإنسانيِّ بما يؤهِّل المجتمع لتوثيق الرّوابط الأخرى. ‏

{والْيتامى‏}، الّذين فقدوا الآباء في طفولتهم، فلا يجدون الإنسان الّذي يرعاهم ويحضنهم ويمنحهم الحبّ والحنان، ويضمُّهم إلى صدره، ويفتح لهم روحه، فيُشبع جوعهم، ويروي ظمأهم، ويكسو عريهم، ما يجعل من الإنفاق عليهم تحصيناً للمجتمع من ضياع الفئة الضّعيفة فيه في متاهات الحياة، لتستند إلى قوّة المجتمع في مسؤوليّته المجتمعيّة بعد أن فقدت قوّة الأب أو الأُمِّ، فيمنحها الثِّقة بالذّات وبالحياة. ‏

{والْمساكِينِ}‏ ‏‏الّذين ضاقت بهم سبل الحياة، فلم يحصلوا على العيش الكريم من خلال الظُّروف القاسية الّتي مرّت بهم، والضُّغوط الصّعبة الّتي أطبقت عليهم، والأوضاع المعقّدة المتحرِّكة في داخل حياتهم، الأمر الّذي يجعل من الإنفاق عليهم موجداً لحالةٍ من التّوازن الاجتماعيِّ، ومحقِّقاً لنوعٍ من التّكافل الإنسانيِّ، بما يحقِّق للمجتمع الظُّروف الطّبيعيّة في سلامته واستقامته وقوّته، بدلاً من الاهتزاز الواقعيِّ النّاشئ من اختلال الأوضاع الاقتصاديّة للنّاس بين إنسانٍ يموت من التُّخمة وآخر يموت من الجوع! ‏

{واِبْنِ السّبِيلِ}‏ ‏‏الّذي انقطع به الطّريق، فلم يكن معه مالٌ يستخدمه لقضاء حاجات السّفر، ولم تكن له فرصةٌ في الحصول عليه بأيّة طريقةٍ، الأمر الّذي يفرض على الواقع الإسلاميِّ أن يجد له حلاًّ في إدخاله في دائرة الكفالة الاجتماعيّة في الحياة العامّة. ‏

{وما تفْعلُوا مِنْ خيْرٍ}، ممّا يمثِّله فعل الخير من انفتاح الإنسان في حياته على تفجير‏‏ ‏‏طاقاته في اتِّجاه حلِّ مشكلة إنسانٍ هنا، وقضاء حاجته هناك، ورفع مستواه المادِّيِّ والمعنويِّ، وتهيئة الظُّروف الملائمة لإيجاد واقع الخير والعدل للإنسان، {فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ}، فلا يخفى عليه شي‏ءٌ ممّا يقوم به عباده في السِّرِّ والعلانية. ولعلّ في التّأكيد على علم الله به إشارةً إلى أنّه تعالى لا يضيع لديه عمل أيِّ عاملٍ، مهما كان صغيراً، ولذا فإنّه يجزي به بمقتضى كرمه ولطفه. ‏

‏وبعبارةٍ أخرى: كأنّ الله يقول للإنسان: إنّك تُقدِّم الخير بين يدي الجواد الكريم الّذي يجازي الحسنة بأضعافها، فلا تخش أن يضيع عملك؛ لأنّ الله سبحانه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ. ‏

‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(1) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 244.‏

‏(2) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 243.‏

‏(3) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 163. ‏

‏(4) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 243.‏

‏(5) ‏‏م. ن. ‏

‏(6) ‏‏نهج البلاغة، م. س، ص 179، الحكمة 320. ‏

‏ ‏

‎ ‎

‏معاني المفردات ‏

{يسْئلُونك}: السُّؤال: طلب الجواب بصيغةٍ مخصوصةٍ من الكلام. ‏

{يُنْفِقُون}: النّفقة: إخراج ‏‏الشيء‏‏ من الملك ببيعٍ أو هبةٍ أو صلةٍ ونحو ذلك، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال من عين أو نقدٍ. ‏

{فلِلْوالِديْنِ}: الأب والأُمُّ، والجدُّ والجدّة وإن عليا. ‏

{والْأقْربِين}: أرحام المعطي. ‏

{والْيتامى‏}: اليتيم: كلُّ من لا أب له مع صغره. ‏

{واِبْنِ السّبِيلِ}: المنقطع به في السّفر. ‏

‏مناسبة النُّزول ‏

‏جاء في (الدُّرّ المنثور) للسّيوطيِّ، عن ابن عبّاس قال: «ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألةٍ حتّى قبض، كلُّهن في القرآن، منهنّ: {يسْئلُونك عنِ الْخمْرِ والْميْسِرِ}[البقرة: 219]، و {يسْئلُونك عنِ الشّهْرِ الْحرامِ}[البقرة: 217]، و {ويسْئلُونك عنِ الْيتامى‏}[البقرة: 220]، و {ويسْئلُونك عنِ الْمحِيضِ}[البقرة: 222]، و{يسْئلُونك عنِ الْأنْفالِ}[الأنفال: 1]، و {ويسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون}[البقرة: 219]، ما كانوا يسألون إلاّ عمّا كان ينفعهم»‏(1)‏. ‏

‏ونلاحظ في هذه الرِّواية:‏

‏أوّلاً:‏‏ إنّ ابن عبّاس يؤكِّد على تحديد الأسئلة بالثّلاثة عشر سؤالاً، فلم يسألوا عن شي‏ءٍ آخر غيرها، وهو أمرٌ يثير الغرابة؛ باعتبار أنّ طبيعة القضايا الّتي طرحتها الدّعوة الإسلاميّة ونوعيّة التّحدِّيات الّتي أطلقتها في الواقع، والمشاكل الّتي أثارتها، لا بُدّ من أن تثير علامات استفهامٍ كثيرةً تتّصل بالعقيدة والتّشريع والحرب والسِّلم ونحو ذلك من الأمور الخاصّة والعامّة. هذا، بالإضافة إلى أنّ الآخرين من المشركين واليهود كانوا يثيرون أكثر من مسألةٍ حول أكثر القضايا، ما ينعكس على تصوُّر المسلمين للإسلام في مفاهيمه. كما أنّ الّذين يدخلون في الإسلام لا بُدّ من أن يحملوا في ذهنيّتهم أكثر من علامة استفهامٍ في الدِّين الجديد الّذي دخلوا فيه. ‏

‏ ثانياً: إنّ رواية ابن عبّاس توحي بالذِّهنيّة الواقعيّة الجدِّيّة في الأسئلة الّتي يثيرونها أمام القضايا الّتي يجهلون تفاصيلها، أو تقع مثاراً للجدل بين النّاس، فلا يسألون عن الأمور التّجريديّة الّتي لا علاقة لها بالعقيدة أو بالعمل؛ لأنّها لا تنفعهم في حياتهم الدُّنيويّة والأخرويّة، بل يسألون عمّا ينفعهم في ما يعتقدون أو ما يعملون؛ حتّى يكون للأفكار الجديدة في الأجوبة دورٌ فاعلٌ في إغناء التّجربة الثّقافيّة الّتي تبني لهم شخصيّتهم الإسلاميّة الإنسانيّة، وتركِّزها على قاعدةٍ ثابتةٍ من حقائق الدِّين والحياة. ‏

‏وجاء في (الدُّرّ المنثور) عن ابن المنذر، عن ابن حبّان، قال: «إنّ عمرو بن الجموح سأل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت: {ويسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون}الآية. فهذا مواضع نفقة أموالكم»‏(2)‏. ‏

‏وردّ صاحب (الميزان) الاستدلال بهذه الرِّواية، فقال: «وقد استضعفوا الرِّواية، وهي مع ذلك غير منطبقٍ على الآية؛ حيث لم يوضع في الآية إلاّ السُّؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه»‏(3)‏. ‏

‏وقد جاء في (الدُّرّ المنثور) - أيضاً - الرِّواية عن ابن جرير وابن المنذر، عن ابن جريج قال: «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: {يسْئلُونك ما ذا يُنْفِقُون قُلْ ما أنْفقْتُمْ مِنْ خيْرٍ}الآية، فذلك النّفقة في التّطوُّع، والزّكاة سوى ذلك كلِّه»‏(4)‏. ‏

‏ونظيرها، ما رواه عن السُّدِّيِّ، قال: «يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النّفقة ينفقها الرّجل على أهله، والصّدقة يتصدّق بها، فنسختها الزّكاة»‏(5)‏. ‏

‏ولكنّ هذا الاتِّجاه في الرِّوايتين الأخيرتين يوحي بوجود منافاةٍ بين آية الصّدقة وهذه الآية وآية الزّكاة، حتّى تكون آية الزّكاة ناسخةً لها، أو شيئاً آخر يختلف عنها، بينما نجد أنّ المسألة تمثِّل تنوُّعاً يكتفي فيه الإنفاق بالصّدقة والزّكاة معاً في مسألة العطاء الإنسانيِّ كقيمةٍ أخلاقيّةٍ في وحي الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك كلِّه، نجد في هذه النّماذج المتعدِّدة في تحديد المناسبة الّتي نزلت هذه الآية فيها، تأكيداً على أنّ أسباب النُّزول كانت تمثِّل لوناً من ألوان الاجتهاد الذّاتيِّ، الّذي يستوحيه هذا الرّاوي أو ذاك ليحوِّله إلى روايةٍ عن الواقع القرآنيِّ في زمن الدّعوة، ما يجعلنا لا نجد في كثيرٍ من روايات أسباب النُّزول منطلقاً للفهم القرآنيِّ في الاستيحاء والتّفسير. ‏

‏السُّؤال باب المعرفة والعمل ‏

‏كان المسلمون يسألون النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض القضايا الّتي تشغل تفكيرهم في تفاصيل بعض الواجبات أو المحرّمات، وكانت في غالبها - كما يُنقل عن ابن عبّاس - خفيفةً لا تعقيد فيها، عمليّةً لا ترف فيها ولا تكلُّف؛ انطلاقاً من شعورهم بأنّ دور السُّؤال هو أن يحلّ للإنسان مشكلةً يواجهها في حياته العقيديّة أو العمليّة. فإذا لم تكن هناك مشكلةٌ مطروحةٌ في ساحة اهتماماته الطّبيعيّة، فلا معنى لأن يبادر بالسُّؤال الّذي يتحوّل إلى تكلُّفٍ لا فائدة فيه، وعبثٍ لا معنى له، وإضاعةٍ لوقت السّائل والمسؤول في ما لا جدوى منه. ‏

‏وهكذا نفهم الدّور المطلوب للسُّؤال في الإسلام، وهو أن يكون نافذةً فكريّةً تطلُّ على ما ينبغي للإنسان معرفته من شؤون الكون والحياة، في ما يتعلّق بأمر الدُّنيا والآخرة. وهذا ما نستوحيه من الحديث القرآنيِّ عن الأسئلة الّتي لا يريد الله للإنسان أن يخوض فيها، لأنّها لا تتّصل بالمعرفة المرتبطة بالمسؤوليّة، فلا تضيف للإنسان جديداً في حياته، كقوله تعالى: ‏{‏‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏‏*‏‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏‏*‏‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏‏*‏‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا‏‏}‏[النّازعات: 42 - 45]؛ فقد أغلق القرآن باب السُّؤال عن توقيت يوم القيامة؛ لأنّه لا يعود بفائدةٍ عقيديّةٍ أو عمليّةٍ؛ لأنّ من واجب الإنسان الاستعداد لها بعيداً عن أيِّ توقيتٍ معيّنٍ من خلال مسؤوليّته أمام الله، كما أنّ مهمّة النّبيِّ هي الحديث عمّا يحدث فيها، لا عن وقتها الّذي قد لا يكون محيطاً بعلمه، كما توحي به بعض الآيات الّتي تقول: {يسْئلُونك عنِ السّاعةِ أيّان مُرْساها قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد ربِّي لا يُجلِّيها لِوقْتِها إِلاّ هُو ثقُلتْ فِي السّماواتِ والْأرْضِ لا تأْتِيكُمْ إِلاّ بغْتةً يسْئلُونك كأنّك حفِيٌّ عنْها قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد اللّهِ و لكِنّ أكْثر النّاسِ لا يعْلمُون}[الأعراف: 187]. ونلاحظ ذلك أيضاً في قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تسْئلُوا عنْ أشْياء إِنْ تُبْد لكُمْ تسُؤْكُمْ}[المائدة: 101]. وفي بعض الأحاديث الّتي تقول: «سل تفقُّهاً ولا تسل تعنُّتاً»‏(6)‏. وفي الجانب المقابل، نجد أمامنا قول الله تعالى: {فسْئلُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}[النّحل: 43]. وهكذا نستوحي الدّور الإسلاميّ للسُّؤال الّذي يجب أن يكون نافذةً للمعرفة المتّصلة بالعقيدة والعمل والحياة. ‏

‏وكان النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يستجيب لكلِّ ما يُوجّه إليه من أسئلةٍ، فلم يكن ليضيق في الرّدِّ عن أيِّ سؤالٍ ممّا يريد المسلمون معرفته؛ لأنّه يشعر أنّ مهمّته الأساسيّة هي أن يُعلّم النّاس الكتاب والحكمة في ما يجهلونه من شؤونهما المتّصلة بحياتهم. ولكنّه كان دقيقاً في الإجابة من موقع رسالته، فيختار الجواب الّذي يتناسب مع حاجتهم، وإن كان بعيداً عن النّصِّ الحرفيِّ للسُّؤال؛ لأنّ دوره هو دور الموجِّه للسّائل، فيوحي له - من خلال الجواب - بما ينبغي له أن يسأل عنه، لا بما يحبُّ أن يعرفه. وهذا ما نستشعره من الجواب النّبويِّ الّذي علّمه الله لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّه أجاب عمّن يلزمهم الإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل، بدلاً من الجواب عمّا سألوا عنه ممّا يلزمهم الإنفاق منه من أنواع الطّعام، فقد نلاحظ: أنّه مرّ بها مروراً خاطفاً، ولم يتوقّف عند التّفاصيل؛ فقد يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء إليهم بأنّ نوع الطّعام الّذي يُقدّم ليس مشكلةً تبحث عن حلٍّ؛ باعتبار أنّه لا يقدِّم ولا يؤخِّر شيئاً في هذا المجال ما دام خيراً ونافعاً، بل القضيّة هي نوعيّة النّاس الّذين يتصدّق عليهم، من حيث علاقاتهم القريبة به الّتي تجعل من صلته لهم صلة رحم، ومن حيث حاجتهم الّتي تجعل من صلتهم إنفاقاً في حلِّ المشكلة الاجتماعيّة، فإذا خلا الأمر عن هذين النّحوين، أصبح شيئاً لا معنى له أو لا منفعة له. ولذا كان التّركيز الكبير على ذلك باعتبار أنّه هو الخير؛ لأنّ كون الإنفاق خيراً لا يتّصل بطبيعة المال الّذي ينفقه، بل يتّصل بطبيعة الحالة أو المشكلة الّتي عالجها، والإنسان الّذي أعانه. ‏

‏ثمّ انطلقت الآية في أسلوبٍ تشجيعيٍّ للخير القائم على الإنفاق في موارده الّتي يحبُّها الله، لتقرِّر الحقيقة الإلهيّة في قوله تعالى: {وما تفْعلُوا مِنْ خيْرٍ فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ}، الأمر الّذي يوحي إلينا بالاندفاع في هذا الاتِّجاه؛ لأنّه لا يضيع عند الله الّذي يعلم ما نعمل بكلِّ دوافعه ونتائجه الخيِّرة. ‏

‏أولويّات الإنفاق ‏

{يسْئلُونك}‏ ‏‏- يا محمّد - في حركة المعرفة التّفصيليّة في وجدان المسلمين، الّذين اتّبعوك وتابعوا معك الوحيّ الإلهيّ في العقيدة والشّريعة والحياة، وواجهوا من خلال ذلك أكثر من علامة استفهامٍ حول هذا الموضوع، أو هذه القضيّة، أو ذاك الواقع؛ ليحصلوا على الطُّمأنينة الفكريّة الوجدانيّة أمام الأسئلة الكثيرة عندهم، {ما ذا يُنْفِقُون}من أنواع الأموال الّتي يملكونها في حياتهم، من ألوان الطّعام والشّراب والألبسة والنُّقود وغيرها؟ هل هناك شي‏ءٌ معيّنٌ يلتزمونه في إنفاقاتهم؟ وهل هناك فريضةٌ محدّدةٌ في نوعيّةٍ خاصّةٍ منها؟ لأنّهم يريدون أن تكون التزاماتهم العمليّة - حتّى في العطاء - خاضعةً لتعليماتك الرِّساليّة الّتي تمتدُّ إلى كلِّ شؤون الإنسان في الواقع. ‏

{قُلْ}‏ ‏‏لهم - يا محمّد - جواباً عن هذا السُّؤال الّذي لا يختزن في داخله أيّة أهمِّيّةٍ في المفهوم الإنسانيِّ لقضيّة العطاء: إنّه من الطّبيعيِّ أن ينفق النّاس ممّا لديهم من الأموال الّتي تمثِّل حاجات النّاس المتنوِّعة، ليكون الإنفاق على كلِّ شخص بما يحتاجه في حياته الخاصّة بالطّريقة المألوفة في هذا السُّلوك الإنسانيِّ الّذي يتّصل بالآخرين، إلاّ أنّ الأهمِّيّة هي لتحديد النّاس الّذين نعطيهم من خلال تحديد الأولويّات في الإنفاق؛ لأنّنا لا نملك الإنفاق على كلِّ النّاس، فهناك النّاس الّذين لا يجدون أيّة فرصةٍ للحياة الكريمة وتأمين ما يحتاجونه من الطّعام والشّراب واللِّباس والمسكن وغيرها، لأنّ أبواب الحياة أُغلقت عليهم، ولأنّ الطُّرق الّتي يتحرّكون عليها إلى حاجاتهم سُدّت في وجوههم، وهكذا عاشوا في حصار الظُّروف القاسية الخانقة الّتي منعتهم من أن يتنفّسوا الهواء الطّلق الّذي يكفل لهم استمرار الحياة، فالسُّؤال ينبغي أن يكون عمّن هو الأولى بالإنفاق بين النّاس. ولذلك كانت الحكمة الإلهيّة توحي إليك بالجواب عن السُّؤال الّذي ينبغي لهم أن يسألوه، لا عمّا سألوه. ‏

{ما أنْفقْتُمْ مِنْ خيْرٍ}، من المال الّذي تملِّكونه وتعطونه، ليتحوّل إلى خيرٍ للنّاس؛ لأنّه يلبِّي لهم حاجاتهم، ويحقِّق لهم مشتهياتهم، ويبلغ بهم أهدافهم، من أيِّ نوعٍ من هذه الأنواع الّتي تمثِّل حاجة النّاس؛ باعتبار أنّ الخير هو عنوان العطاء، في دلالاته الرُّوحيّة المنفتحة على إنسانيّته القيِّمة في خطِّ التّكافل الاجتماعيِّ لرعاية الحالات الصّعبة أو المتّصلة بالعاطفة الإنسانيّة. ‏

‏وهذا ما تؤكِّده الفقرة التّالية في الآية، حيث الدّعوة إليه كعنوانٍ لا بُدّ للنّاس من أن يحرِّكوه في قضيّة الإنفاق، فما أنفقتم من خيرٍ {فلِلْوالِديْنِ}‏ ‏‏اللّذين هما سرُّ حياة الإنسان في وجوده الحيِّ، ما يفرض عليه الاهتمام بهما ورعايتهما في شيخوختهما ومرضهما وتعبهما، والإحسان إليهما في كلِّ أوضاعهما في الحياة كبادرة عرفان الجميل لما قاما به، على هدْي ما جاء في قوله تعالى، في إثارة ذكريات الطُّفولة الأولى في وجدان الإنسان في شبابه عندما يتذكّر ذلك كلّه: {وقضى‏ ربُّك ألاّ تعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وبِالْوالِديْنِ إِحْساناً إِمّا يبْلُغنّ عِنْدك الْكِبر أحدُهُما أوْ كِلاهُما فلا تقُلْ لهُما أُفٍّ ولا تنْهرْهُما وقُلْ لهُما قوْلاً كرِيماً}[الإسراء: 23]. ‏

{والْأقْربِين}، من أرحامكم الّذين يتّصل نسبكم بنسبهم، وتجري في عروقكم دماؤهم، أو تجري دماؤكم في عروقهم، هؤلاء الّذين يمثِّلون المجتمع الأوّل الّذي ترتبطون به من الدّاخل في حركة الوجود، ما يجعل منه الخليّة الاجتماعيّة الأولى الّتي تمنحكم الكثير من عناصر شخصيّتكم وملامحها الدّاخليّة والخارجيّة. وهذا ما أكّد الله فيه شريعته في اعتبار صلة الرّحم قيمةً أخلاقيّةً إيجابيّةً، وقطيعة الرّحم قيمةً سلبيّةً؛ لأنّ ذلك يوثِّق الرّابطة الاجتماعيّة الإنسانيّة الأقرب في الواقع الإنسانيِّ بما يؤهِّل المجتمع لتوثيق الرّوابط الأخرى. ‏

{والْيتامى‏}، الّذين فقدوا الآباء في طفولتهم، فلا يجدون الإنسان الّذي يرعاهم ويحضنهم ويمنحهم الحبّ والحنان، ويضمُّهم إلى صدره، ويفتح لهم روحه، فيُشبع جوعهم، ويروي ظمأهم، ويكسو عريهم، ما يجعل من الإنفاق عليهم تحصيناً للمجتمع من ضياع الفئة الضّعيفة فيه في متاهات الحياة، لتستند إلى قوّة المجتمع في مسؤوليّته المجتمعيّة بعد أن فقدت قوّة الأب أو الأُمِّ، فيمنحها الثِّقة بالذّات وبالحياة. ‏

{والْمساكِينِ}‏ ‏‏الّذين ضاقت بهم سبل الحياة، فلم يحصلوا على العيش الكريم من خلال الظُّروف القاسية الّتي مرّت بهم، والضُّغوط الصّعبة الّتي أطبقت عليهم، والأوضاع المعقّدة المتحرِّكة في داخل حياتهم، الأمر الّذي يجعل من الإنفاق عليهم موجداً لحالةٍ من التّوازن الاجتماعيِّ، ومحقِّقاً لنوعٍ من التّكافل الإنسانيِّ، بما يحقِّق للمجتمع الظُّروف الطّبيعيّة في سلامته واستقامته وقوّته، بدلاً من الاهتزاز الواقعيِّ النّاشئ من اختلال الأوضاع الاقتصاديّة للنّاس بين إنسانٍ يموت من التُّخمة وآخر يموت من الجوع! ‏

{واِبْنِ السّبِيلِ}‏ ‏‏الّذي انقطع به الطّريق، فلم يكن معه مالٌ يستخدمه لقضاء حاجات السّفر، ولم تكن له فرصةٌ في الحصول عليه بأيّة طريقةٍ، الأمر الّذي يفرض على الواقع الإسلاميِّ أن يجد له حلاًّ في إدخاله في دائرة الكفالة الاجتماعيّة في الحياة العامّة. ‏

{وما تفْعلُوا مِنْ خيْرٍ}، ممّا يمثِّله فعل الخير من انفتاح الإنسان في حياته على تفجير‏‏ ‏‏طاقاته في اتِّجاه حلِّ مشكلة إنسانٍ هنا، وقضاء حاجته هناك، ورفع مستواه المادِّيِّ والمعنويِّ، وتهيئة الظُّروف الملائمة لإيجاد واقع الخير والعدل للإنسان، {فإِنّ اللّه بِهِ علِيمٌ}، فلا يخفى عليه شي‏ءٌ ممّا يقوم به عباده في السِّرِّ والعلانية. ولعلّ في التّأكيد على علم الله به إشارةً إلى أنّه تعالى لا يضيع لديه عمل أيِّ عاملٍ، مهما كان صغيراً، ولذا فإنّه يجزي به بمقتضى كرمه ولطفه. ‏

‏وبعبارةٍ أخرى: كأنّ الله يقول للإنسان: إنّك تُقدِّم الخير بين يدي الجواد الكريم الّذي يجازي الحسنة بأضعافها، فلا تخش أن يضيع عملك؛ لأنّ الله سبحانه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ. ‏

‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(1) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 244.‏

‏(2) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 243.‏

‏(3) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 163. ‏

‏(4) ‏‏السّيوطي، الدُّرُّ المنثور، م. س، ج 1، ص 243.‏

‏(5) ‏‏م. ن. ‏

‏(6) ‏‏نهج البلاغة، م. س، ص 179، الحكمة 320. ‏

‏ ‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية