معاني المفردات
{تبْتئِسْ}: الابتئاس: حزنٌ في استكانةٍ، وهو افتعالٌ من البؤس. وقد يكون البؤس بمعنى الفقر أيضاً.
{واِصْنعِ}: الصُّنع: جعل الشّيء موجوداً بعد أن كان معدوماً، ومثله: الفعل. وينفصلان من الحدوث؛ من حيث إنّ الصّنعة تقتضي صانعاً، والفعل يقتضي فاعلاً من حيث اللّفظ، وليس كذلك الحدوث؛ لأنّه يفيد تجدُّد الوجود لا غير. والصِّناعة: الحرفة الّتي يُكتسب بها.
{الْفُلْك}: هي السّفينة، مفردها وجمعها واحدٌ.
{بِأعْيُنِنا}: الأعين: جمع قلّةٍ للعين، وإنّما جمع للدّلالة على كثرة المراقبة.
{سخِرُوا}: السُّخرية: إظهار خلاف الإبطان على وجهٍ يُفهم منه استضعاف العقل. ومنه التّسخير: التّذليل، يكون استضعافاً بالقهر.
{ويحِلُّ}: الحلول: النُّزول للمقام، وهو من الحلِّ، خلاف الارتحال. وحلول العرض وجودُه في الجوهر من غير شغل حيِّزٍ، والمصحِّح للحلول: التّحيُّز.
بداية النِّهاية لصراع الرِّسالة
وانتهت مهمّة نوح عليه السلام في الدّعوة، فقد استنفذ كلّ التّجارب والأساليب، فلم يؤمن له إلاّ نفرٌ من قومه، أمّا الباقون فقد ازدادوا تمرُّداً وطغياناً، فلم ينفع ترغيبٌ معهم أو ترهيبٌ، بحيث لم يبق أملٌ في هدايتهم وإيمانهم، وجاء دور العذاب. ولكنّ الله أراد أن يعلن ذلك لنوحٍ بأسلوبٍ ينعش روحيّته، ولا يشعر معه بالهزيمة، أو بالتّقصير؛ لقيامه بمهمّته كنبيٍّ خير قيام، وصبره على ما لا يملك عليه أحدٌ صبراً خلال مسيرة دعوته الّتي امتدّت طويلاً، امتداد عمره، دون تأفُّفٍ أو ضجر، ولم يسقط أمام كلِّ تحدِّيات الكُفّار.
{وأُوحِي إِلى نُوحٍ أنّهُ لنْ يُؤْمِن مِنْ قوْمِك إِلاّ منْ قدْ آمن فلا تبْتئِسْ بِما كانُوا يفْعلُون} من كفرٍ وعصيانٍ؛ لأنّك قد أقمت عليهم الحجّة بمختلف الوسائل، ويسّرت لهم كلّ سبل الهداية، فامتنعوا عن السّير فيها، وبذلك فإنّهم يتحمّلون مسؤوليّة أفعالهم كلِّها، فلا تتعقّد من جهتك الشّخصيّة؛ لأنّك لم تقصِّر، ولا من جهتهم؛ فهم لا يستحقُّون الرّحمة الّتي رفضوا إسباغها عليهم في ظلِّ الالتزام بدين الله، ولا تلتفت إلى كلِّ هذا التّاريخ الشّاقِّ المليء بالجهد والمعاناة، فقد أدّيت رسالتك، وقمت بمهمّتك خير قيام، ولم يبق عليك إلاّ أن تساهم في الإعداد لمرحلة العذاب، استجابةً لطلب الله في نطاق قدرتك.
وهذا الأمر من الإخبار بالغيب، باعتباره من شؤون المستقبل، ولكنّه ربّما يُفهم من طبيعة التّجربة الّتي خاضها نوح؛ فإنّه لم يترك وسيلةً للإيمان إلاّ اتّبعها، ولا أسلوباً إلاّ قدّمه. وهذا هو الّذي جعله يدعو عليهم بالاستئصال: {وقال نُوحٌ ربِّ لا تذرْ على الْأرْضِ مِن الْكافِرِين ديّاراً* `إِنّك إِنْ تذرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادك ولا يلِدُوا إِلاّ فاجِراً كفّاراً}[نوح: 26 - 27].
{واِصْنعِ الْفُلْك} أي: السّفينة، {بِأعْيُنِنا} أي: برعايتنا؛ باعتبار أنّ عمله كان بنظر الله، بحيث لا يستطيع أن يمنعه أحدٌ من ذلك، {ووحْيِنا} في ما أمره الله، وفي ما علّمه من طريقة الصُّنع، ومهّد له من تبيان وسائله. {ولا تُخاطِبْنِي فِي الّذِين ظلمُوا} بالعفو عنهم، انطلاقاً من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك، فقد صدر الحكم عليهم من الله، وانتهى أمرهم بذلك؛ لأنّهم لا يستحقُّون الرّحمة من الله، بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته، فحقّ عليهم العذاب، {إِنّهُمْ مُغْرقُون} بطريقةٍ عجيبةٍ معجزةٍ لا يتصوُّرها أحدٌ منهم، ولا تخطر لهم على بالٍ.
وهذا الحكم الإلهيُّ الحاسم ينطلق من مصلحة البشريّة في الأجيال القادمة، الّتي قد يترك هؤلاء تأثيراتهم السّلبيّة الكافرة على معتقداتهم واتِّجاهاتهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، وبالتّالي على الحياة كلِّها من خلال ذلك، فأراد الله أن يبدلهم بجيلٍ مؤمنٍ من الآباء المؤمنين من بقايا هذه الجماعة، ليبدؤوا الرِّحلة الجديدة لبناء الجيل الجديد للبشريّة بعد أن سقطت تجربة تلك الأجيال الماضية. وهذا ما توحي به الآية الكريمة في تقرير نوح: {إِنّك إِنْ تذرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادك ولا يلِدُوا إِلاّ فاجِراً كفّاراً}[نوح: 27].
منهج مواجهة سخرية الجاهلين
{ويصْنعُ الْفُلْك}، ويستمرُّ في صناعته بجدٍّ واجتهادٍ في اللّيل والنّهار. ولكنّ عمله ذاك كان محلّ استغرابٍ؛ لأنّ المنطقة الّتي يعيش فيها كانت فلاةً لا وجود للماء فيها، أو في المواقع القريبة منها، بما يوحي أنّ عمله ذاك كان حالةً من العبث، أو مظهراً لغياب العقل، لذا كان موضع سخرية قومه. {وكُلّما مرّ عليْهِ ملأٌ مِنْ قوْمِهِ سخِرُوا مِنْهُ}؛ بما يحملونه من عقدٍ خبيثةٍ ضدّه، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيّته، وعلى إذلاله، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحيّةٍ وتسرُّعٍ لا ينفذ إلى أعماق الأمور، فلو فكّروا بطريقةٍ موضوعيّةٍ، لنظروا إلى تاريخ حياته الّذي يكشف لهم عن قوّة فكره، وسلامة نظره، ولسألوه عن سرِّ عمله الغامض في الظّاهر، باعتباره صادراً عن شخصٍ يملك العقل الكامل، والذِّهنيّة المتوازنة، ليحكموا عليه بعد استجماع كلِّ عناصر الموضوع سلبيّاً أو إيجابيّاً، ولكنّهم كانوا ينطلقون من موقع الرّغبة في تحطيمه، لا من موقع الرّغبة في الفهم الصّحيح للأمور.
ولكنّ الله أراد لنوحٍ أن يردّ الأسلوب بمثله؛ لأنّ الفكر إنّما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار، أمّا من يريدون التّحطيم والتّدمير، عن قصدٍ وتصميمٍ شرِّيرٍ فلا بُدّ من مواجهتهم بأسلوبهم؛ لأنّ ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال، وهكذا أراد الله له أن يقول، في ما ألهمه من وحي الحكمة: {قال إِنْ تسْخرُوا مِنّا فإِنّا نسْخرُ مِنْكُمْ كما تسْخرُون}، فذلك هو ردُّ الفعل على الموقف، ولكنّه يختلف في دوافعه عمّا انطلقتم فيه، فإذا كانت سخريّتكم ناشئةً عن عقدةٍ، أو عن جهلٍ لطبيعة العمل الّذي أقوم به، فإنّا نسخر منكم من موقع اطِّلاعنا على النِّهاية السّيِّئة الّتي ستنتهون إليها. {فسوْف تعْلمُون منْ يأْتِيهِ عذابٌ يُخْزِيهِ ويحِلُّ عليْهِ عذابٌ مُقِيمٌ}، من دون أن تشعروا، أو تفكِّروا، أو تواجهوا ذلك بجدِّيّةٍ ومسؤوليّةٍ، فإنّ من يرقص في مأتمه، أو يعبث بما يمثِّل قضيّة المصير عنده أدعى للسُّخرية ممّا تسخرون منه؛ لأنّ مقدار العبث فيه أشدُّ من العبث الّذي تتصوّرونه في صنع السّفينة، الّتي ستكتشفون أنّ صناعتها أمرٌ جدِّيٌّ كلّ الجدِّيّة لا مجال فيه لأيِّ عبثٍ، أو جهلٍ، أو ما يشبه ذلك.
الحكمة في أسلوب الدّعوة
وهذا هو الأسلوب الّذي نستوحيه، في مقام الدّعوة إلى الله، عندما يعترضنا الكافرون بأسلوب السُّخرية، لتمييع الجوِّ المحيط بالدّعوة، وتعريضه للضّحك والعبث، بهدف إسقاط الدّعوة، ولا سيّما إذا وقف الدّاعية للدِّفاع عن الفكر بأسلوبٍ جدِّيٍّ، واستخدم في ذلك أدلّةً علميّةً، فإنّ الجوّ الضّاحك العابث يحوِّل ذلك إلى مادّةٍ جديدةٍ للسُّخرية، ليحطِّموا وقار العلم الّذي يمثِّله الفكر بأدوات الجهل، ما يجعل من الموقف الجادِّ موقفاً خاسراً على أكثر من صعيدٍ. ولذلك فإنّ الموقف الحكيم هو مواجهة هؤلاء بأساليبهم، سخريةً بسخريةٍ، واستهزاءً باستهزاءٍ؛ لإحداث صدمةٍ قويّةٍ عند المستهزئين تُسقط موقفهم، وتهزم أساليبهم، فيتراجعون أو ينهزمون، في حين يقف الدّاعية موقف المنتصر المتماسك، الّذي لم يسمح للعبث أن يحطِّم موقع الجدِّ من فكره، ولم يدع للضّعف أن يقترب من شخصيّته، لينعكس ذلك على موقع الرِّسالة الثّابتة في ساحة الحقِّ.
معاني المفردات
{تبْتئِسْ}: الابتئاس: حزنٌ في استكانةٍ، وهو افتعالٌ من البؤس. وقد يكون البؤس بمعنى الفقر أيضاً.
{واِصْنعِ}: الصُّنع: جعل الشّيء موجوداً بعد أن كان معدوماً، ومثله: الفعل. وينفصلان من الحدوث؛ من حيث إنّ الصّنعة تقتضي صانعاً، والفعل يقتضي فاعلاً من حيث اللّفظ، وليس كذلك الحدوث؛ لأنّه يفيد تجدُّد الوجود لا غير. والصِّناعة: الحرفة الّتي يُكتسب بها.
{الْفُلْك}: هي السّفينة، مفردها وجمعها واحدٌ.
{بِأعْيُنِنا}: الأعين: جمع قلّةٍ للعين، وإنّما جمع للدّلالة على كثرة المراقبة.
{سخِرُوا}: السُّخرية: إظهار خلاف الإبطان على وجهٍ يُفهم منه استضعاف العقل. ومنه التّسخير: التّذليل، يكون استضعافاً بالقهر.
{ويحِلُّ}: الحلول: النُّزول للمقام، وهو من الحلِّ، خلاف الارتحال. وحلول العرض وجودُه في الجوهر من غير شغل حيِّزٍ، والمصحِّح للحلول: التّحيُّز.
بداية النِّهاية لصراع الرِّسالة
وانتهت مهمّة نوح عليه السلام في الدّعوة، فقد استنفذ كلّ التّجارب والأساليب، فلم يؤمن له إلاّ نفرٌ من قومه، أمّا الباقون فقد ازدادوا تمرُّداً وطغياناً، فلم ينفع ترغيبٌ معهم أو ترهيبٌ، بحيث لم يبق أملٌ في هدايتهم وإيمانهم، وجاء دور العذاب. ولكنّ الله أراد أن يعلن ذلك لنوحٍ بأسلوبٍ ينعش روحيّته، ولا يشعر معه بالهزيمة، أو بالتّقصير؛ لقيامه بمهمّته كنبيٍّ خير قيام، وصبره على ما لا يملك عليه أحدٌ صبراً خلال مسيرة دعوته الّتي امتدّت طويلاً، امتداد عمره، دون تأفُّفٍ أو ضجر، ولم يسقط أمام كلِّ تحدِّيات الكُفّار.
{وأُوحِي إِلى نُوحٍ أنّهُ لنْ يُؤْمِن مِنْ قوْمِك إِلاّ منْ قدْ آمن فلا تبْتئِسْ بِما كانُوا يفْعلُون} من كفرٍ وعصيانٍ؛ لأنّك قد أقمت عليهم الحجّة بمختلف الوسائل، ويسّرت لهم كلّ سبل الهداية، فامتنعوا عن السّير فيها، وبذلك فإنّهم يتحمّلون مسؤوليّة أفعالهم كلِّها، فلا تتعقّد من جهتك الشّخصيّة؛ لأنّك لم تقصِّر، ولا من جهتهم؛ فهم لا يستحقُّون الرّحمة الّتي رفضوا إسباغها عليهم في ظلِّ الالتزام بدين الله، ولا تلتفت إلى كلِّ هذا التّاريخ الشّاقِّ المليء بالجهد والمعاناة، فقد أدّيت رسالتك، وقمت بمهمّتك خير قيام، ولم يبق عليك إلاّ أن تساهم في الإعداد لمرحلة العذاب، استجابةً لطلب الله في نطاق قدرتك.
وهذا الأمر من الإخبار بالغيب، باعتباره من شؤون المستقبل، ولكنّه ربّما يُفهم من طبيعة التّجربة الّتي خاضها نوح؛ فإنّه لم يترك وسيلةً للإيمان إلاّ اتّبعها، ولا أسلوباً إلاّ قدّمه. وهذا هو الّذي جعله يدعو عليهم بالاستئصال: {وقال نُوحٌ ربِّ لا تذرْ على الْأرْضِ مِن الْكافِرِين ديّاراً* `إِنّك إِنْ تذرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادك ولا يلِدُوا إِلاّ فاجِراً كفّاراً}[نوح: 26 - 27].
{واِصْنعِ الْفُلْك} أي: السّفينة، {بِأعْيُنِنا} أي: برعايتنا؛ باعتبار أنّ عمله كان بنظر الله، بحيث لا يستطيع أن يمنعه أحدٌ من ذلك، {ووحْيِنا} في ما أمره الله، وفي ما علّمه من طريقة الصُّنع، ومهّد له من تبيان وسائله. {ولا تُخاطِبْنِي فِي الّذِين ظلمُوا} بالعفو عنهم، انطلاقاً من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك، فقد صدر الحكم عليهم من الله، وانتهى أمرهم بذلك؛ لأنّهم لا يستحقُّون الرّحمة من الله، بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته، فحقّ عليهم العذاب، {إِنّهُمْ مُغْرقُون} بطريقةٍ عجيبةٍ معجزةٍ لا يتصوُّرها أحدٌ منهم، ولا تخطر لهم على بالٍ.
وهذا الحكم الإلهيُّ الحاسم ينطلق من مصلحة البشريّة في الأجيال القادمة، الّتي قد يترك هؤلاء تأثيراتهم السّلبيّة الكافرة على معتقداتهم واتِّجاهاتهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، وبالتّالي على الحياة كلِّها من خلال ذلك، فأراد الله أن يبدلهم بجيلٍ مؤمنٍ من الآباء المؤمنين من بقايا هذه الجماعة، ليبدؤوا الرِّحلة الجديدة لبناء الجيل الجديد للبشريّة بعد أن سقطت تجربة تلك الأجيال الماضية. وهذا ما توحي به الآية الكريمة في تقرير نوح: {إِنّك إِنْ تذرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادك ولا يلِدُوا إِلاّ فاجِراً كفّاراً}[نوح: 27].
منهج مواجهة سخرية الجاهلين
{ويصْنعُ الْفُلْك}، ويستمرُّ في صناعته بجدٍّ واجتهادٍ في اللّيل والنّهار. ولكنّ عمله ذاك كان محلّ استغرابٍ؛ لأنّ المنطقة الّتي يعيش فيها كانت فلاةً لا وجود للماء فيها، أو في المواقع القريبة منها، بما يوحي أنّ عمله ذاك كان حالةً من العبث، أو مظهراً لغياب العقل، لذا كان موضع سخرية قومه. {وكُلّما مرّ عليْهِ ملأٌ مِنْ قوْمِهِ سخِرُوا مِنْهُ}؛ بما يحملونه من عقدٍ خبيثةٍ ضدّه، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيّته، وعلى إذلاله، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحيّةٍ وتسرُّعٍ لا ينفذ إلى أعماق الأمور، فلو فكّروا بطريقةٍ موضوعيّةٍ، لنظروا إلى تاريخ حياته الّذي يكشف لهم عن قوّة فكره، وسلامة نظره، ولسألوه عن سرِّ عمله الغامض في الظّاهر، باعتباره صادراً عن شخصٍ يملك العقل الكامل، والذِّهنيّة المتوازنة، ليحكموا عليه بعد استجماع كلِّ عناصر الموضوع سلبيّاً أو إيجابيّاً، ولكنّهم كانوا ينطلقون من موقع الرّغبة في تحطيمه، لا من موقع الرّغبة في الفهم الصّحيح للأمور.
ولكنّ الله أراد لنوحٍ أن يردّ الأسلوب بمثله؛ لأنّ الفكر إنّما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار، أمّا من يريدون التّحطيم والتّدمير، عن قصدٍ وتصميمٍ شرِّيرٍ فلا بُدّ من مواجهتهم بأسلوبهم؛ لأنّ ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال، وهكذا أراد الله له أن يقول، في ما ألهمه من وحي الحكمة: {قال إِنْ تسْخرُوا مِنّا فإِنّا نسْخرُ مِنْكُمْ كما تسْخرُون}، فذلك هو ردُّ الفعل على الموقف، ولكنّه يختلف في دوافعه عمّا انطلقتم فيه، فإذا كانت سخريّتكم ناشئةً عن عقدةٍ، أو عن جهلٍ لطبيعة العمل الّذي أقوم به، فإنّا نسخر منكم من موقع اطِّلاعنا على النِّهاية السّيِّئة الّتي ستنتهون إليها. {فسوْف تعْلمُون منْ يأْتِيهِ عذابٌ يُخْزِيهِ ويحِلُّ عليْهِ عذابٌ مُقِيمٌ}، من دون أن تشعروا، أو تفكِّروا، أو تواجهوا ذلك بجدِّيّةٍ ومسؤوليّةٍ، فإنّ من يرقص في مأتمه، أو يعبث بما يمثِّل قضيّة المصير عنده أدعى للسُّخرية ممّا تسخرون منه؛ لأنّ مقدار العبث فيه أشدُّ من العبث الّذي تتصوّرونه في صنع السّفينة، الّتي ستكتشفون أنّ صناعتها أمرٌ جدِّيٌّ كلّ الجدِّيّة لا مجال فيه لأيِّ عبثٍ، أو جهلٍ، أو ما يشبه ذلك.
الحكمة في أسلوب الدّعوة
وهذا هو الأسلوب الّذي نستوحيه، في مقام الدّعوة إلى الله، عندما يعترضنا الكافرون بأسلوب السُّخرية، لتمييع الجوِّ المحيط بالدّعوة، وتعريضه للضّحك والعبث، بهدف إسقاط الدّعوة، ولا سيّما إذا وقف الدّاعية للدِّفاع عن الفكر بأسلوبٍ جدِّيٍّ، واستخدم في ذلك أدلّةً علميّةً، فإنّ الجوّ الضّاحك العابث يحوِّل ذلك إلى مادّةٍ جديدةٍ للسُّخرية، ليحطِّموا وقار العلم الّذي يمثِّله الفكر بأدوات الجهل، ما يجعل من الموقف الجادِّ موقفاً خاسراً على أكثر من صعيدٍ. ولذلك فإنّ الموقف الحكيم هو مواجهة هؤلاء بأساليبهم، سخريةً بسخريةٍ، واستهزاءً باستهزاءٍ؛ لإحداث صدمةٍ قويّةٍ عند المستهزئين تُسقط موقفهم، وتهزم أساليبهم، فيتراجعون أو ينهزمون، في حين يقف الدّاعية موقف المنتصر المتماسك، الّذي لم يسمح للعبث أن يحطِّم موقع الجدِّ من فكره، ولم يدع للضّعف أن يقترب من شخصيّته، لينعكس ذلك على موقع الرِّسالة الثّابتة في ساحة الحقِّ.