معاني المفردات
{وفار}: الفور: الغليان، وأصله: الارتفاع؛ يُقال: فار القدر يفور فوراً وفوراناً: ارتفع ما فيه بالغليان، ومنه قوله: فعل ذلك من فوره، أي: من قبْل أن يسكن.
{التّنُّورُ}: جاء في (مجمع البيان): «في التّنُّور أقوال: أوّلها: إنّه تنور الخابزة، وأنّه تنورٌ كان لآدم، فار الماء منه علامةً لنوح عليه السلام ، إذ نبع الماء من موضعٍ غير معهودٍ خروجه منه... وثانيها: إنّ التّنُّور وجه الأرض... ويؤيِّده قوله: {وفجّرْنا الْأرْض عُيُوناً}[القمر: 12]. وثالثها: إنّ معنى قوله: {وفار التّنُّورُ}: طلع الفجر، وظهرت أمارات دخول النّهار وتقضِّي اللّيل، من قولهم: نوّر الصبح تنويراً... ورابعها: إنّ التّنُّور أعلى الأرض وأشرفها، والمعنى: نبع الماء من الأمكنة المرتفعة، فشبِّهت بالتّنانير لعلوِّها... وخامسها: إنّ «فار التّنُّور» معناه: اشتدّ غضب الله عليهم، ووقعت نقمته بهم، كما تقول العرب: حمي الوطيس: إذا اشتدّ الحرب، وفار قدر القوم: إذا اشتدّ حربهم؛ قال الشّاعر:
#x200f #x200f#x200fتفور علينا قدرهم فنذيمها#x200f ونفثأها عنّا إذا حميُها غلا
يريد بالقدر الحرب، ونذيمها: نسكنها. وهذا أبعد الأقوال من الأثر. وحمل الكلام على الحقيقة الّتي تشهد بها الرِّواية أولى»(1).
{مجْراها}: مجراها: من الجري، وهو السّير.
{ومُرْساها}: الإرساء: إمساك السّفينة بما تقف عليه، يُقال: أرساها الله فرست.
{موْجٍ}: الموج جمع موجةٍ، وهي قطعةٌ عظيمةٌ ترتفع عن جملة الماء الكثير.
{معْزِلٍ}: المعزل: مكان عزلةٍ وانفرادٍ.
{لا عاصِم}: أي: لا مانع. والعصمة: المنع.
{اِبْلعِي ماءكِ}: البلع: إجراء الشّيء في الحلق إلى الجوف.
{أقْلِعِي}: أي: أمسكي عن المطر. والإقلاع: إذهاب الشّيء من أصله حتّى لا يُرى له أثرٌ. يُقال: أقلعت السّماء: إذا ذهب مطرها حتّى لا يبقى منه شيءٌ، وأقلع عن الأمر: إذا تركه رأساً.
{وغِيض الْماءُ}: ذُهب به عن وجه الأرض إلى باطنه.
{الْجُودِيِّ}: اسم جبل، قيل إنّه بالموصل. وقال الزّجّاج: هو بناحية آمد. وقال أبو مسلم: الجوديُّ: اسمٌ لكلِّ جبلٍ وأرضٍ صلبةٍ(2).
أُعدّت السّفينة وكان الطُّوفان
وتمّ صنع السّفينة، وأُعدّت للانطلاق، واستكمل نوحٌ عمله الّذي أمره به الله، {حتّى إِذا جاء أمْرُنا وفار التّنُّورُ} أي: وارتفع التّنُّور وتفجّر. والمراد به وجه الأرض -كما قيل - وهناك أقوالٌ أخرى. ويمكن أن يكون ذلك على وجه الكناية، تشبيهاً لفوران الماء من الأرض بفوران النّار وارتفاع اللّهب من التّنُّور. وامتدّ الماء من الأرض، وأصبحت السّفينة صالحةً للانطلاق، {قُلْنا اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زوْجيْنِ اِثْنيْنِ}، أي: ذكراً وأنثى من الحيوان ممّا يستطيع حمله، {وأهْلك إِلاّ منْ سبق عليْهِ الْقوْلُ}: واحمل أهلك معك جميعاً إلاّ من حكم الله عليه بالهلاك، {ومنْ آمن وما آمن معهُ إِلاّ قلِيلٌ}، فهؤلاء من كُتب لهم النّجاة مع نوح، أمّا الآخرون فقد كان حقّ عليهم القول بالغرق والهلاك.
{وقال اِرْكبُوا فِيها}. قالها لكلِّ الّذين أمره الله بحملهم معه، وابتدأ خطُّ السّير بـ- {بِسْمِ اللّهِ مجْراها ومُرْساها}، فهي تجري باسمه وبإرادته وبقدرته، وترسو وتقف باسمه وبإرادته وبقدرته. وهذا هو ما تتمثّل فيه التّربية الإسلاميّة في برنامجها العمليِّ، في الابتداء باسم الله في كلِّ قولٍ أو عملٍ، فقد ورد في الحديث النّبويِّ الشّريف: «كلُّ كلامٍ أو أمرٍ ذي بالٍ لا يُفتح بذكر الله عزّ وجلّ فهو أبتر»(3)، أي: مقطوع. ولعلّ السِّرّ في ذلك هو أنّ الإسلام يريد للنّاس المؤمنين أن يلتفتوا دائماً إلى أنّ حركة الإنسان والحياة في كلِّ التّقلُّبات والظّواهر والأوضاع خاضعةٌ لإرادة الله في خلقه وتقديره وتدبيره، فيزداد إيماناً به، وإحساساً بحضوره، ويبتعد عن الغفلة عنه وعن نسيانه، ولعلّ هذا هو ما أراد نوح أن يؤكِّده لأصحابه في التّحرُّك باسم الله، ليشعروا بالأمن والطُّمأنينة في رحلتهم الجديدة.
{إِنّ ربِّي لغفُورٌ رحِيمٌ}، فهو الّذي يغفر لنا ذنوبنا الّتي أسلفناها بلطفه الإلهيِّ، وهو الّذي يرحمنا في ما ننتظره من رحمة الله في كلِّ أمورنا المستقبليّة.
الولد العاقُّ
{وهِي تجْرِي بِهِمْ فِي موْجٍ كالْجِبالِ}. وسارت السّفينة بهم، وارتفع الموج حتّى كاد أن يصبح كالجبال في علوِّها، وأيقن الجميع هلاكهم عندما أخذ كلُّ شيءٍ يغرق. وأسرع الكثيرون يطلبون الهرب، ومن بينهم ابن نوح الّذي كان قد تمرّد على أبيه، فلم يؤمن بدعوته، وعاش مع قومه تحت تأثير أُمِّه، في حركة الكفر، حتّى إذا جاء أمر الله لم يصعد إلى السّفينة مع منْ صعد، فنظر إليه نوحٌ وناداه. {ونادى نُوحٌ اِبْنهُ وكان فِي معْزِلٍ}، فقد اعتزل أباه: {يا بُنيّ اِرْكبْ معنا}، فهذا هو سبيل النّجاة الوحيد، {ولا تكُنْ مع الْكافِرِين} الّذين سينتهي أمرهم إلى الهلاك.
ولكنّ هذا الولد الضّالّ العاقّ لم يلتفت إلى نداء أبيه؛ لأنّه يعيش التّمرُّد ضدّ رسالته أوّلاً؛ ولأنّه لم يعرف طبيعة هذا الطُّوفان ثانياً. {قال سآوِي إِلى جبلٍ يعْصِمُنِي مِن الْماءِ}؛ ظنّاً منه بأنّه سينجو؛ لأنّ ارتفاع الماء إلى أعالي الجبل ليس أمراً طبيعيّاً. {قال لا عاصِم الْيوْم مِنْ أمْرِ اللّهِ إِلاّ منْ رحِم}؛ لأنّ القضيّة أبعد من الوضع الطّبيعيِّ المعتاد لصورة الفيضان عند النّاس، فالمسألة مسألة غضب الله الّذي أراد تدمير كلّ مظاهر الحياة الكافرة للبشريّة، على الأرض. {وغِيض الْماءُ}، وأبوه ينظر إليه في حسرةٍ ولهفةٍ، ولكنّها ليست حسرة الأب الّذي يفقد ولده في الدُّنيا، بل هي حسرة الأب الّذي يفقده في الدُّنيا والآخرة.
نهاية تاريخٍ وبداية آخر
وانتهى كلُّ شيءٍ بإرادة الله وقدرته، ولم يبق إلاّ المؤمنون الّذين بدأ بهم تاريخ الجيل الثّاني للبشريّة. {وقِيل يا أرْضُ اِبْلعِي ماءكِ}، لتختزنها عيوناً تتفجّر في المستقبل، {ويا سماءُ أقْلِعِي}، وكفِّي عن إهطال الأمطار الّتي أغرقت الأرض. {وغِيض الْماءُ}، وغار في أعماق الأرض، فلم يبق منه إلاّ ما كان فيها - قبل ذلك - من أنهارٍ وعيونٍ، {وقُضِي الْأمْرُ واِسْتوتْ على الْجُودِيِّ}، فوقفت السّفينة واستقرّت على جبل الجودي، وهو جبلٌ بالموصل - في ما قيل - {وقِيل بُعْداً لِلْقوْمِ الظّالِمِين} الّذين أبعدهم الله عن رحمته بكفرهم، وضلالهم، وتمرُّدهم على الرُّسل والرِّسالات.
هل كان الطُّوفان عالميّاً؟
وقد يبرز هنا سؤالٌ عن طوفان نوح: هل كان في حجم العالم، أو كان في منطقةٍ معيّنةٍ من الأرض ممّا كان يسكنه نوح وقومه؟
والجواب: إنّنا لا نجد في الآيات القرآنيّة المتحدِّثة عنه ما يشير إلى حجم مساحة الطُّوفان، فإنّ ورود كلمة «الأرض» بصورةٍ مطلقةٍ لا يدلُّ على ذلك، فقد يكون جيل البشريّة آنذاك محصوراً بمنطقةٍ معيّنةٍ منها، فلا ينافي ذلك قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}[النّحل: 59]؛ لأنّه ليس من الضّروريِّ أن يكون هناك إنسانٌ آخر في منطقةٍ أخرى. وهكذا قوله: {وقِيل يا أرْضُ اِبْلعِي ماءكِ}؛ فإنّ النِّداء - هنا - قد يكون للأرض الّتي فاضت عيوناً، لا لكلِّ الأرض، وليس فيما ذكره المؤرِّخون ما يوحي بذلك، ولا في تحليلات التّاريخ الطّبيعيِّ ما يؤكِّده. أمّا نقل الحيوانات في السّفينة لئلاّ ينقطع نسلها، فقد تكون الحياة الحيوانيّة محصورةً هناك، وقد يكون انتقالها إلى المنطقة الّتي سوف يعيش فيها المؤمنون من قوم نوح أمراً صعباً.
وإنّنا نتصوّر أنّ البحث في هذا الموضوع قد لا يصل بنا إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، ويكفينا منه أن نؤمن بهذا الطُّوفان العظيم المعجز الّذي يغطِّي الجبال، من خلال السّماء الّتي تهطل مدراراً، والأرض الّتي تتفجّر عيوناً، ما يوحي بقدرة الله سبحانه، ليعتبر النّاس بذلك، ويعرفوا أنّ الله إذا أراد أن يعاقب المتمرِّدين عليه فلا يعجزه من ذلك شيءٌ.
الهوامش:
(1) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 278 - 279.
(2) انظر: م. ن، ص 281.
(3) أحمد بن حنبل (ت 241 هـ-)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت - لبنان، (د ت)، ج 2، ص 359. وروي بلفظ قريب في التّفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ انظر: تفسير العسكري، مدرسة الإمام المهدي (عج)، قم - إيران، (د ت)، ص 25، ح7.
معاني المفردات
{وفار}: الفور: الغليان، وأصله: الارتفاع؛ يُقال: فار القدر يفور فوراً وفوراناً: ارتفع ما فيه بالغليان، ومنه قوله: فعل ذلك من فوره، أي: من قبْل أن يسكن.
{التّنُّورُ}: جاء في (مجمع البيان): «في التّنُّور أقوال: أوّلها: إنّه تنور الخابزة، وأنّه تنورٌ كان لآدم، فار الماء منه علامةً لنوح عليه السلام ، إذ نبع الماء من موضعٍ غير معهودٍ خروجه منه... وثانيها: إنّ التّنُّور وجه الأرض... ويؤيِّده قوله: {وفجّرْنا الْأرْض عُيُوناً}[القمر: 12]. وثالثها: إنّ معنى قوله: {وفار التّنُّورُ}: طلع الفجر، وظهرت أمارات دخول النّهار وتقضِّي اللّيل، من قولهم: نوّر الصبح تنويراً... ورابعها: إنّ التّنُّور أعلى الأرض وأشرفها، والمعنى: نبع الماء من الأمكنة المرتفعة، فشبِّهت بالتّنانير لعلوِّها... وخامسها: إنّ «فار التّنُّور» معناه: اشتدّ غضب الله عليهم، ووقعت نقمته بهم، كما تقول العرب: حمي الوطيس: إذا اشتدّ الحرب، وفار قدر القوم: إذا اشتدّ حربهم؛ قال الشّاعر:
#x200f #x200f#x200fتفور علينا قدرهم فنذيمها#x200f ونفثأها عنّا إذا حميُها غلا
يريد بالقدر الحرب، ونذيمها: نسكنها. وهذا أبعد الأقوال من الأثر. وحمل الكلام على الحقيقة الّتي تشهد بها الرِّواية أولى»(1).
{مجْراها}: مجراها: من الجري، وهو السّير.
{ومُرْساها}: الإرساء: إمساك السّفينة بما تقف عليه، يُقال: أرساها الله فرست.
{موْجٍ}: الموج جمع موجةٍ، وهي قطعةٌ عظيمةٌ ترتفع عن جملة الماء الكثير.
{معْزِلٍ}: المعزل: مكان عزلةٍ وانفرادٍ.
{لا عاصِم}: أي: لا مانع. والعصمة: المنع.
{اِبْلعِي ماءكِ}: البلع: إجراء الشّيء في الحلق إلى الجوف.
{أقْلِعِي}: أي: أمسكي عن المطر. والإقلاع: إذهاب الشّيء من أصله حتّى لا يُرى له أثرٌ. يُقال: أقلعت السّماء: إذا ذهب مطرها حتّى لا يبقى منه شيءٌ، وأقلع عن الأمر: إذا تركه رأساً.
{وغِيض الْماءُ}: ذُهب به عن وجه الأرض إلى باطنه.
{الْجُودِيِّ}: اسم جبل، قيل إنّه بالموصل. وقال الزّجّاج: هو بناحية آمد. وقال أبو مسلم: الجوديُّ: اسمٌ لكلِّ جبلٍ وأرضٍ صلبةٍ(2).
أُعدّت السّفينة وكان الطُّوفان
وتمّ صنع السّفينة، وأُعدّت للانطلاق، واستكمل نوحٌ عمله الّذي أمره به الله، {حتّى إِذا جاء أمْرُنا وفار التّنُّورُ} أي: وارتفع التّنُّور وتفجّر. والمراد به وجه الأرض -كما قيل - وهناك أقوالٌ أخرى. ويمكن أن يكون ذلك على وجه الكناية، تشبيهاً لفوران الماء من الأرض بفوران النّار وارتفاع اللّهب من التّنُّور. وامتدّ الماء من الأرض، وأصبحت السّفينة صالحةً للانطلاق، {قُلْنا اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زوْجيْنِ اِثْنيْنِ}، أي: ذكراً وأنثى من الحيوان ممّا يستطيع حمله، {وأهْلك إِلاّ منْ سبق عليْهِ الْقوْلُ}: واحمل أهلك معك جميعاً إلاّ من حكم الله عليه بالهلاك، {ومنْ آمن وما آمن معهُ إِلاّ قلِيلٌ}، فهؤلاء من كُتب لهم النّجاة مع نوح، أمّا الآخرون فقد كان حقّ عليهم القول بالغرق والهلاك.
{وقال اِرْكبُوا فِيها}. قالها لكلِّ الّذين أمره الله بحملهم معه، وابتدأ خطُّ السّير بـ- {بِسْمِ اللّهِ مجْراها ومُرْساها}، فهي تجري باسمه وبإرادته وبقدرته، وترسو وتقف باسمه وبإرادته وبقدرته. وهذا هو ما تتمثّل فيه التّربية الإسلاميّة في برنامجها العمليِّ، في الابتداء باسم الله في كلِّ قولٍ أو عملٍ، فقد ورد في الحديث النّبويِّ الشّريف: «كلُّ كلامٍ أو أمرٍ ذي بالٍ لا يُفتح بذكر الله عزّ وجلّ فهو أبتر»(3)، أي: مقطوع. ولعلّ السِّرّ في ذلك هو أنّ الإسلام يريد للنّاس المؤمنين أن يلتفتوا دائماً إلى أنّ حركة الإنسان والحياة في كلِّ التّقلُّبات والظّواهر والأوضاع خاضعةٌ لإرادة الله في خلقه وتقديره وتدبيره، فيزداد إيماناً به، وإحساساً بحضوره، ويبتعد عن الغفلة عنه وعن نسيانه، ولعلّ هذا هو ما أراد نوح أن يؤكِّده لأصحابه في التّحرُّك باسم الله، ليشعروا بالأمن والطُّمأنينة في رحلتهم الجديدة.
{إِنّ ربِّي لغفُورٌ رحِيمٌ}، فهو الّذي يغفر لنا ذنوبنا الّتي أسلفناها بلطفه الإلهيِّ، وهو الّذي يرحمنا في ما ننتظره من رحمة الله في كلِّ أمورنا المستقبليّة.
الولد العاقُّ
{وهِي تجْرِي بِهِمْ فِي موْجٍ كالْجِبالِ}. وسارت السّفينة بهم، وارتفع الموج حتّى كاد أن يصبح كالجبال في علوِّها، وأيقن الجميع هلاكهم عندما أخذ كلُّ شيءٍ يغرق. وأسرع الكثيرون يطلبون الهرب، ومن بينهم ابن نوح الّذي كان قد تمرّد على أبيه، فلم يؤمن بدعوته، وعاش مع قومه تحت تأثير أُمِّه، في حركة الكفر، حتّى إذا جاء أمر الله لم يصعد إلى السّفينة مع منْ صعد، فنظر إليه نوحٌ وناداه. {ونادى نُوحٌ اِبْنهُ وكان فِي معْزِلٍ}، فقد اعتزل أباه: {يا بُنيّ اِرْكبْ معنا}، فهذا هو سبيل النّجاة الوحيد، {ولا تكُنْ مع الْكافِرِين} الّذين سينتهي أمرهم إلى الهلاك.
ولكنّ هذا الولد الضّالّ العاقّ لم يلتفت إلى نداء أبيه؛ لأنّه يعيش التّمرُّد ضدّ رسالته أوّلاً؛ ولأنّه لم يعرف طبيعة هذا الطُّوفان ثانياً. {قال سآوِي إِلى جبلٍ يعْصِمُنِي مِن الْماءِ}؛ ظنّاً منه بأنّه سينجو؛ لأنّ ارتفاع الماء إلى أعالي الجبل ليس أمراً طبيعيّاً. {قال لا عاصِم الْيوْم مِنْ أمْرِ اللّهِ إِلاّ منْ رحِم}؛ لأنّ القضيّة أبعد من الوضع الطّبيعيِّ المعتاد لصورة الفيضان عند النّاس، فالمسألة مسألة غضب الله الّذي أراد تدمير كلّ مظاهر الحياة الكافرة للبشريّة، على الأرض. {وغِيض الْماءُ}، وأبوه ينظر إليه في حسرةٍ ولهفةٍ، ولكنّها ليست حسرة الأب الّذي يفقد ولده في الدُّنيا، بل هي حسرة الأب الّذي يفقده في الدُّنيا والآخرة.
نهاية تاريخٍ وبداية آخر
وانتهى كلُّ شيءٍ بإرادة الله وقدرته، ولم يبق إلاّ المؤمنون الّذين بدأ بهم تاريخ الجيل الثّاني للبشريّة. {وقِيل يا أرْضُ اِبْلعِي ماءكِ}، لتختزنها عيوناً تتفجّر في المستقبل، {ويا سماءُ أقْلِعِي}، وكفِّي عن إهطال الأمطار الّتي أغرقت الأرض. {وغِيض الْماءُ}، وغار في أعماق الأرض، فلم يبق منه إلاّ ما كان فيها - قبل ذلك - من أنهارٍ وعيونٍ، {وقُضِي الْأمْرُ واِسْتوتْ على الْجُودِيِّ}، فوقفت السّفينة واستقرّت على جبل الجودي، وهو جبلٌ بالموصل - في ما قيل - {وقِيل بُعْداً لِلْقوْمِ الظّالِمِين} الّذين أبعدهم الله عن رحمته بكفرهم، وضلالهم، وتمرُّدهم على الرُّسل والرِّسالات.
هل كان الطُّوفان عالميّاً؟
وقد يبرز هنا سؤالٌ عن طوفان نوح: هل كان في حجم العالم، أو كان في منطقةٍ معيّنةٍ من الأرض ممّا كان يسكنه نوح وقومه؟
والجواب: إنّنا لا نجد في الآيات القرآنيّة المتحدِّثة عنه ما يشير إلى حجم مساحة الطُّوفان، فإنّ ورود كلمة «الأرض» بصورةٍ مطلقةٍ لا يدلُّ على ذلك، فقد يكون جيل البشريّة آنذاك محصوراً بمنطقةٍ معيّنةٍ منها، فلا ينافي ذلك قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}[النّحل: 59]؛ لأنّه ليس من الضّروريِّ أن يكون هناك إنسانٌ آخر في منطقةٍ أخرى. وهكذا قوله: {وقِيل يا أرْضُ اِبْلعِي ماءكِ}؛ فإنّ النِّداء - هنا - قد يكون للأرض الّتي فاضت عيوناً، لا لكلِّ الأرض، وليس فيما ذكره المؤرِّخون ما يوحي بذلك، ولا في تحليلات التّاريخ الطّبيعيِّ ما يؤكِّده. أمّا نقل الحيوانات في السّفينة لئلاّ ينقطع نسلها، فقد تكون الحياة الحيوانيّة محصورةً هناك، وقد يكون انتقالها إلى المنطقة الّتي سوف يعيش فيها المؤمنون من قوم نوح أمراً صعباً.
وإنّنا نتصوّر أنّ البحث في هذا الموضوع قد لا يصل بنا إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، ويكفينا منه أن نؤمن بهذا الطُّوفان العظيم المعجز الّذي يغطِّي الجبال، من خلال السّماء الّتي تهطل مدراراً، والأرض الّتي تتفجّر عيوناً، ما يوحي بقدرة الله سبحانه، ليعتبر النّاس بذلك، ويعرفوا أنّ الله إذا أراد أن يعاقب المتمرِّدين عليه فلا يعجزه من ذلك شيءٌ.
الهوامش:
(1) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 278 - 279.
(2) انظر: م. ن، ص 281.
(3) أحمد بن حنبل (ت 241 هـ-)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت - لبنان، (د ت)، ج 2، ص 359. وروي بلفظ قريب في التّفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ انظر: تفسير العسكري، مدرسة الإمام المهدي (عج)، قم - إيران، (د ت)، ص 25، ح7.