تفسير
29/12/2025

s-11-a-45-46-47-48-49

s-11-a-45-46-47-48-49

‏القرابة للرِّسالة لا للنّسب ‏

‏وبقيت لدى نوح - النّبيِّ - الإنسان مسألةٌ يريد أن يعرف أبعادها، هي موضوع ولده، فقد وعده الله أن ينقذ أهله، وولدُه من أهله، فكيف غرق؟ هذا ما أُبهم أمره عليه، فواجه ربّه بالسُّؤال، في خشوعٍ واستعطافٍ. ‏{‏‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، في ما وعدتني أن تنقذ أهلي عندما أمرتني أن أحملهم، وهو منهم، ولكنّ ذلك لم يحدث، {‏‏وَأَنْتَ‏‏ ‏‏أَحْكَمُ‏‏ ‏‏الْحَاكِمِينَ‏‏}، فلا يصدر عنك شيءٌ إلاّ لحكمةٍ لا يدركها أحدٌ غيرك. ‏

{قال يا نُوحُ إِنّهُ ليْس مِنْ أهْلِك} الّذين أمرتك بحملهم معك، وتعهّدت لك بإنقاذهم؛ {إِنّهُ عملٌ غيْرُ صالِحٍ}، فقد بالغ في الانحراف، والابتعاد عن الصّلاح في عمله، حتّى كأنّه العمل غير الصّالح مجسّداً في ذاته. وليست القضيّة في نجاة أهلك قربهم النّسبيّ إليك، بل القضيّة هي أخذهم بأسباب الصّلاح في إيمانهم وعملهم الصّالح. ‏

‏أمّا أهلك فهم الصّالحون السّائرون على طريقك؛ لأنّهم هم الّذين يرثون الأرض ليصلحوها، أمّا غير الصّالحين فلا فرق بينهم وبين الآخرين من الكافرين، ولا يمكن أن تطلب منِّي أن أقرِّبهم إليّ لقربهم منك، فلا فرق عندي بين عبادي جميعاً؛‏‏ ‏‏لأنّهم يتساوون أمامي في الخلق، فأقربهم إليّ أقربهم إلى خطِّ الرِّسالات، وأبعدهم عنِّي أبعدهم عنه. ‏

‏وهكذا تتحدّد القرابة لا على أساس ما تربطه العاطفة النّسبيّة بالرّسول، بل الأساس هو العلاقة الرِّساليّة. وكان الأمر في بدايته واضحاً عند المراجعة والتّأمُّل؛ فالوعد بحمل أهلك كان مختصّاً بغير من سبق عليه القول بالهلاك، وقد كان ولدك منهم، فلا تستسلم للعاطفة في انفعالاتك. ‏

‏وربّما نستوحي من هذه الآية الّتي تنفي ولد نوح عنه لأنّه عملٌ غير صالح، أنّ المنهج الإسلاميّ للانتماء يرتكز على أساس الالتزام العمليِّ به، إيماناً وحركةً؛ فقد ينتمي إلى المجموعة الإسلاميّة من ليس منها نسباً، كما ورد في الحديث الشّريف: «سلمانٌ منّا أهل البيت»‏(1)‏، وقد ينتفي عنها من هو منها، كما في حديث الإمام عليٍّ الرِّضا عليه السلام ، حيث سأل عليه السلام بعض أصحابه يوماً: كيف يفسِّر لنا النّاس هذه الآية: {إِنّهُ عملٌ غيْرُ صالِحٍ}؟ فأجابه أحد الحاضرين يوماً أنّهم يرون أنّه ليس الابن الحقيقيّ لنوح، فأجابه الإمام عليه السلام: «كلا، لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، كذا من كان منّا لم يُطِعِ الله عزّ وجلّ فليس منّا»‏(2)‏. ‏

‏وقد جاءت الأحاديث في هذه المجال في نفي بعض المسلمين من المجتمع الإسلاميِّ، إذا قاموا ببعض المعاصي، كما جاء عن النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منّا من غشّ مسلماً»‏(3)‏، و«من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»‏(4)‏، و«من سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم»‏(5)‏، و«من أكرمه النّاس اتِّقاء شرِّه فليس منِّي»‏(6)‏، وعن الإمام‏‏ ‏‏الكاظم عليه السلام: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه»‏(7)‏، وعن الإمام الصّادق عليه السلام: «ليس من شيعتنا من يظلم النّاس»‏(8)‏، وغير ذلك ممّا تضافرت به الأحاديث المأثورة، الّتي تؤكِّد أنّ الانتماء إلى الإسلام، وإلى النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلى أهل البيت عليهم السلام ، يرتكز على الالتزام بالإسلام عملاً، بالإضافة إلى الالتزام الفكريِّ، وأنّ الاسم لا يحقِّق عمقاً في معنى الإسلام أو التّشيُّع الّذي هو خطُّ الإسلام الأصيل. ‏

‏كيف ينحرف أقرباء الأنبياء؟ ‏

‏وربّما يسأل البعض: كيف ينحرف أولاد الأنبياء وزوجاتهم، وهم العاملون في هداية النّاس في خطِّ الاستقامة؟ ‏

‏والجواب: إنّ المشكلة في ذلك هو أنّ النّبيّ لا يملك أهله من ناحيةٍ تكوينيّةٍ في حركة الهداية، تماماً كما لا يملك النّاس من حوله؛ لأنّ الله أراد في سنّته التّاريخيّة أن يكون الاختيار هو الأساس في حركة الإنسان في التزاماته الفكريّة والعمليّة، وأن يكون للبيئة دورها في الضّغط على عمليّة الاختيار في هذا الاتِّجاه أو ذاك، لا سيّما إذا كانت الأُمُّ إحدى هذه العناصر بالنِّسبة إلى الطِّفل، كما إذا كانت الأُمُّ كافرةً متمرِّدةً على زوجها في مسألة الإيمان؛ لتأثُّرها بأهلها الّذين كانوا يقفون موقف الحرب على نوح، وربّما كانوا يستفيدون من موقعها في بيت نوح ليربكوا حياته المنزليّة، وذلك بتربية ولده على الكفر والعصيان، بما تلقيه أُمُّه في فكره وإحساسه من أفكارٍ سلبيّةٍ ضدّ الإيمان، وبما توجِّهه من التّمرُّد على أبيه وعلى الخطِّ المستقيم الّذي يتحرّك فيه في جانب الفكر والعمل، ومن الطّبيعيِّ أن تكون علاقته بأُمِّه فرصةً لهم ليحتضنوه وليدخلوه في مجتمعهم مع شبابهم اللاّهي العابث. وربّما كان ذلك بالخفية عن أبيه، لا سيّما أنّه كان مشغولاً عنه - بشكلٍ طبيعيٍّ - بالدّعوة إلى الله، وبالمواجهة الصّعبة للتّحدِّيات الموجّهة إليه في ساحة الصِّراع مع الكُفّار. وربّما كان ولده - بالتّعاون مع أُمِّه - يُخفي عنه ذلك، بحيث قد تظهر منه بعض علامات الصّلاح، الأمر الّذي قد يجعل نوحاً مطمئنّاً إلى إيمانه، وقد‏‏ ‏‏يوضح ذلك نداء أبيه له: {يا بُنيّ اِرْكبْ معنا ولا تكُنْ مع الْكافِرِين}، معتقداً أنّ هذا النِّداء يكفي لاستجابة ولده له، باعتبار أنّه لا ينتمي إلى الكافرين. ‏

‏وهناك نقطةٌ حيويّةٌ مهمّةٌ، وهي أنّ أهل النّبيِّ أو الدّاعية قد يكونون أقلّ النّاس تأثُّراً به؛ باعتبار أنّ العلاقة الطّبيعيّة بين أفراد الأسرة الواحدة في الحياة اليوميّة العاديّة قد تترك تأثيراً لاشعوريّاً في الذّات بحيث يفقد النّبيُّ أو الدّاعية هيبته المؤثِّرة في أنفسهم، وبالتّالي تفقد دعوته حيويّتها عندهم، تماماً كما لو كانت شيئاً من خصوصيّات البيت، ومن الأشياء التّقليديّة عندهم. ولا بُدّ أن يكون نوح قد حاول -بكلِّ قوّةٍ - هداية زوجته وتربية ولده على الإيمان، ولكنّ ضغط البيئة عليهما كان أقوى منه، لا سيّما إذا كان النّاس القريبون منهما أو المحيطون بهما يفتحون لهما أبواب التّحرُّر من مستلزمات الإيمان، ويهيِّئون لهما وسائل تغذية شهواتهما. ‏

‏ولعلّ هذا هو الّذي يفسِّر كثيراً من الانحرافات الّتي قد تتمثّل في أولاد الأئمّة والعلماء والصُّلحاء؛ فإنّ مؤثِّرات البيئة الخارجيّة قد تضغط بشكلٍ قاهرٍ على مؤثِّرات البيئة الدّاخليّة، لا سيّما إذا كانت تحتوي في عناصرها بعض عوامل الانحراف، كما في حالة امرأة نوح بالنِّسبة إلى ولدها، وهذا هو الّذي قد يوحي إلى الآباء أن يتوفّروا على مراقبة أولادهم في حركة النُّموِّ السّلبيِّ أو الإيجابيِّ، من النّاحية الفكريّة والعمليّة، وأن يختاروا لهم أُمّاً تملك الإمكانات الرُّوحيّة في العقيدة والالتزام، بما يساعد الأب المؤمن على إبعاد ولده عن أجواء الانحراف، خصوصاً أنّنا نعرف أنّ الولد يعيش مع أُمِّه أكثر ممّا يعيش مع أبيه، ويخضع لبعض تأثيراتها العاطفيّة أكثر ممّا يخضع لأبيه. ‏

‏اللّه يعظ نبيّه ‏

{فلا تسْئلْنِ ما ليْس لك بِهِ عِلْمٌ}. ولعلّ المراد من هذا التّعبير الكناية عن عدم كونه حقّاً لتعرف عنه ذلك؛ باعتبار أنّ الباطل لا أساس له، ليتعلّق به العلم. وربّما كان المقصود به الكناية عن الفعل الإلهيِّ الّذي يخفى سرُّه عن النّاس، أي: فلا تسأل ما لا تستطيع معرفته. وقد فسّره الكثيرون بأنّه يتعلّق بنجاة ابنه‏(9)‏. وهو غير واضحٍ من‏‏ ‏‏سياق اللّفظ. {إِنِّي أعِظُك أنْ تكُون مِن الْجاهِلِين}، الّذين لا ينطلقون في رغباتهم من الخطِّ الصّحيح الّذي يتناسب مع خطِّ الحقِّ المرتبط بالإيمان؛ لأنّ ذلك يعبِّر عن جهلٍ في شخصيّة الإنسان، بينما ينطلق العالمون بحقائق الأشياء وفق ارتباط رغباتهم بالحقِّ؛ لأنّ الإيمان يمثِّل الانسجام بين الفكر والرّغبة؛ كيلا يعيش المؤمن الازدواجيّة بين ما يفكِّر فيه، وبين ما يشتهيه ويطلبه. ‏

{قال ربِّ إِنِّي أعُوذُ بِك أنْ أسْئلك ما ليْس لِي بِهِ عِلْمٌ}، ممّا لا يتّفق مع الحقِّ؛ لأنّ إيماني بك يفرض عليّ أن أريد ما تريده، وأرفض ما ترفضه في كلِّ شيءٍ، وأنت المسدِّد لي في ذلك كلِّه، وأنت الهادي إلى طريق الصّواب، فأجرني من الانحراف، واعصمني من كلِّ ما لا يلتقي مع إرادتك، {وإِلاّ تغْفِرْ لِي وترْحمْنِي}، في ما تعبِّر عنه العبوديّة لله من خشوعٍ واستكانةٍ، تتمثّل بطلب المغفرة والرّحمة، وإن لم يكن هناك ذنبٌ؛ لأنّ الكلمة‏(10)‏ أصبحت تعبيراً عن المضمون الرُّوحيِّ الخاشع أمام الله، أكثر ممّا هي تعبيرٌ عن مضمونها اللُّغويِّ، {أكُنْ مِن الْخاسِرِين}؛ لأنّ الخسارة العظمى هي فقدان رحمة الله ومغفرته الّتي تمثِّل البُعد عن مصدر القوّة الّذي يمدُّ الإنسان بالثّبات والحياة. ‏

‏بين العصمة والعاطفة الأبويّة ‏

‏وقد يتساءل المتسائل عن مدى انسجام هذه الآيات في مدلولها مع عصمة الأنبياء: فكيف يمكن لنوحٍ - النّبيِّ الّذي وقف أمام كلِّ تحديات الانحراف الكافر، من كلِّ القوى الشِّرِّيرة، طوال هذا العمر المديد الّذي يقارب الألف سنة، كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضّعف أمام عاطفة الأبوّة، ليقف بين يدي الله طالباً إنقاذ ولده الكافر، من بين كلِّ الكافرين؟! وكيف يخاطبه الله بهذا الأسلوب الّذي يقطر توبيخاً وتأنيباً، ويتراجع نوح مستغفراً طالباً الرّحمة كيلا يكون من الخاسرين؟! ‏

‏ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك: أنّ المسألة ليست مسألة عاطفةً تتمرّد، ولكنّها عاطفةُ تأمُّلٍ وتساؤلٍ، فربّما كان نوحٌ يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل، وربّما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل؛ لأنّه من أهله، ولم يلتفت إلى كلمة {إِلاّ منْ سبق عليْهِ الْقوْلُ}؛ لأنّها لم تكن واضحةً. ‏

‏فربّما كان يتصوّر أنّ المقصود به امرأته، أو أنّه كان يأمل في اهتداء ابنه. ولا ينافي ذلك عصمته؛ لأنّ المسألة ليست تبليغيّةً، بل كانت شخصيّةً في تجربته الذّاتيّة، وهي لا تمثِّل الخطأ، بل قد تمثِّل عدم الالتفات إلى المصداق، ولا مشكلة في ذلك. ‏

‏وهكذا كان منسجماً مع خطِّ الإيمان عندما نادى نداء المتوسِّل المستفهم، وكان الردُّ الإلهيُّ منسجماً مع ما أراده الله له من العصمة، كأسلوبٍ من أساليب تربية الله لأنبيائه، ليمنع عنهم الانحراف العاطفيّ، قبل حدوثه، إذا ما كانت الأجواء جاهزةً لذلك، لولا لطف الله بهم. وقد تكون الشِّدّة في الرّدِّ لوناً من ألوان التّأكيد على ذلك، من خلال التّعبير عن الخطِّ الرِّساليِّ الّذي لا بُدّ من الالتزام به من قبل النّبيِّ القدوة، ومن قبل النّاس، في عمليّةٍ إيحائيّةٍ بأنّ الخطاب للنّبيِّ إذا كان بهذه القوّة أو الشِّدّة في مثل هذا الأمر، مع أنّه لا ينحرف عن الخطِّ، فكيف يكون الخطاب بالنِّسبة إلى النّاس إذا انحرفوا عنه. ‏

‏وكان الانسجام النّبويُّ مع خطِّ التّربية الإلهيِّ رائعاً في التّعبير عن روحيّة الخضوع والخشوع بالكلمات المستغفرة المسترحمة الخائفة من الخسران؛ خشية أن يكون في هذه الحالة المستفهمة المتأمِّلة بعضاً من ذنب، وإن لم يكن ذنباً، أو بعضاً من تمرُّد، وإن لم يكن كذلك، ومن الطّبيعيِّ ألاّ يبتعد ذلك عن خطِّ النُّبوّة المستقيم الّذي عاش العمر كلّه جهاداً في سبيل الدّعوة إلى الله، تحت رعاية الله، ووقف الآن في خطِّ الاستقامة محاولاً إخضاع كلِّ عواطفه لروحيّتها بتوفيق الله وبرحمته. ‏

‏معنى استغفار الأنبياء ‏

‏وهنا نفهم، من الأسلوب القرآنيِّ في استغفار الأنبياء، أنّه واردٌ مورد الإقرار بالعبوديّة، والخشوع الرُّوحيِّ، والخضوع الإراديِّ الّذي يقف بين يدي الله وقفة الانفتاح على الرُّبوبيّة في الوصول إلى أعلى درجات الرِّضوان، فقد كان يأمل أن ينجو ولده وأن يكون مشمولاً بالوعد الإلهيِّ، ويتمنّى أن يصدق ظنُّه به، ولكن كانت المفاجأة الصّعبة أنّه غرق مع الّذين غرقوا من الكافرين، وجاء يسأل ربّه الوضوح، وعندما عرف الحقيقة خاف أن يكون قد أساء الكلمة في الطّلب، فكان الخضوع والخشوع والاستسلام، في معنى الرّجاء والمحبّة وطلب العفو والمغفرة، ممّا يعبِّر عنه المفسِّرون أو علماء الكلام بترك الأولى. والله العالم. ‏

‏مهبط السّلام ‏

{قِيل يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسلامٍ مِنّا وبركاتٍ عليْك}، فقد منحه الله نعمة السّلام الرُّوحيِّ المتمثِّل في الطُّمأنينة النّفسيّة الّتي تشيع في داخله، والسّلام الإلهيّ الّذي يتمثّل في رحمة الله المرفرفة حوله، كما أعطاه نعمة البركات الفيّاضة الّتي تجعل منه عنصر خير ونفعٍ للنّاس وللحياة من حوله. {وعلى‏ أُممٍ مِمّنْ معك}، أي: واهبط أنت وأُممٌ معك بسلامٍ منّا وبركاتٍ؛ لأنّهم اتّبعوك وآمنوا بك، وشاركوك في خطِّ جهادك الطّويل، فكان لهم من الخير والثّواب ما كان لك. ‏

{وأُممٌ سنُمتِّعُهُمْ}، وهذه جملة مستأنفةٌ تشير إلى أنّ المستقبل سيتمخّض عن أُممٍ أخرى لا تؤمن بك وبالرِّسالات والرُّسل من بعدك، بل تتحرّك في خطِّ الكفر والضّلال والعصيان، وسنمتِّعهم ما امتدّت بهم الحياة الّتي قدّرناها لهم، ولكنّهم لن يفلتوا من العقاب، مهما امتدّ بهم العمر، وأقبلت عليهم الحياة، بل سيواجهون نتائج المسؤوليّة وجهاً لوجهٍ يوم القيامة، {ثُمّ يمسُّهُمْ مِنّا عذابٌ ألِيمٌ}. ‏

‏تلك أنباء الغيب ‏

{تِلْك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيها إِليْك}، في ما نكشفه لك من غيب التّاريخ الّذي لم تحضره، ولم يحضره أحدٌ معك، {ما كُنْت تعْلمُها أنْت ولا قوْمُك} لأنّها لم تُنقل إليكم في كتابٍ، أو في رواية شاهدٍ من النّاس. وفي هذا ‏‏إ‏‏شارةٌ إلى أنّ العلم بالغيب لم يكن ملكةً كامنةً في عقل النّبيِّ، بحيث يصل إليه بنفسه من دون تعليمٍ مباشرٍ بمفرداته، بل هو نبأٌ يوحي به الله إليه، وهذا هو ما ورد فيما روي عن الإمام عليٍّ عليه السلام في حديثه عن بعض جوابه للسّائل: هل هذا علم غيبٍ؟ قال: «ليس هو بعلم غيبٍ، وإنّما هو تعلُّمٌ من ذي علم»‏(11)‏. والله العالم. ‏

{مِنْ قبْلِ هذا فاصْبِرْ إِنّ الْعاقِبة لِلْمُتّقِين}؛ فإنّ لك في الصّبر على ما تلاقيه من قومك، وفي الامتداد في خطِّ الدّعوة دون تراجعٍ، ممّا توحيه التّقوى الّتي تستمدُّ القوّة والثّبات في الموقف من الله، كلّ خير وعاقبةٍ طيِّبةٍ، تماماً كما حصل عليها نوح وقومه، في ما اتّقوا الله وأطاعوه. ‏

‏وقد تكون في هذه الآية إشارةٌ إلى النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الصّبر على ما يلاقيه من إعراضٍ عن الرِّسالة وتمرُّدٍ عليه يمثِّل السّير التّاريخيّ الّذي سار عليه الأنبياء من قبله، فعليه أن يصبر كما صبروا.‏


‏ ‏

‏(1) الشّيخ الصّدوق، عيون أخبار الرِّضا، منشورات الشّريف الرّضي، قم - إيران، 1378 هـ- ش، ج 2، ص‏70، ح 282. ابن هشام، أبو محمّد عبد الملك الحميري (ت 218 هـ-)، السِّيرة النّبويّة، تحقيق محمّد محيي الدِّين عبد الحميد، مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده، مصر، 1383 هـ- - 1963 م ، ج 1، ص 46. ‏

‏(2) الشّيخ الصّدوق، م. ن، ص 257 - 258، ح 1. ‏

‏(3) م. ن، ص 32، ح 26. ‏

‏(4) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 163، ح 1. ‏

‏(5) م. ن، ص 164، ح 5. ‏

‏(6) الشّيخ الصّدوق، الخصال، منشورات جماعة المدرِّسين بالحوزة العلميّة بقم المشرّفة، قم - إيران، 1403هـ-، ص 14، ح 49.‏

‏(‏‏7‏‏) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج‏2، ص 453، ح 2. ‏

‏(‏‏8‏‏) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، م. س، ص 303.‏

‏(‏‏9‏‏) انظر على سبيل المثال لا الحصر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 286. الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 2، ص 273. الفخر الرّازي، مفاتيح الغيب، م. س، ج 18، ص 3.‏

‏(‏‏10‏‏) يعني: طلب المغفرة.‏

‏(‏‏1‏‏1) نهج البلاغة، م. س، ص 57، الخطبة 128.‏

‏القرابة للرِّسالة لا للنّسب ‏

‏وبقيت لدى نوح - النّبيِّ - الإنسان مسألةٌ يريد أن يعرف أبعادها، هي موضوع ولده، فقد وعده الله أن ينقذ أهله، وولدُه من أهله، فكيف غرق؟ هذا ما أُبهم أمره عليه، فواجه ربّه بالسُّؤال، في خشوعٍ واستعطافٍ. ‏{‏‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، في ما وعدتني أن تنقذ أهلي عندما أمرتني أن أحملهم، وهو منهم، ولكنّ ذلك لم يحدث، {‏‏وَأَنْتَ‏‏ ‏‏أَحْكَمُ‏‏ ‏‏الْحَاكِمِينَ‏‏}، فلا يصدر عنك شيءٌ إلاّ لحكمةٍ لا يدركها أحدٌ غيرك. ‏

{قال يا نُوحُ إِنّهُ ليْس مِنْ أهْلِك} الّذين أمرتك بحملهم معك، وتعهّدت لك بإنقاذهم؛ {إِنّهُ عملٌ غيْرُ صالِحٍ}، فقد بالغ في الانحراف، والابتعاد عن الصّلاح في عمله، حتّى كأنّه العمل غير الصّالح مجسّداً في ذاته. وليست القضيّة في نجاة أهلك قربهم النّسبيّ إليك، بل القضيّة هي أخذهم بأسباب الصّلاح في إيمانهم وعملهم الصّالح. ‏

‏أمّا أهلك فهم الصّالحون السّائرون على طريقك؛ لأنّهم هم الّذين يرثون الأرض ليصلحوها، أمّا غير الصّالحين فلا فرق بينهم وبين الآخرين من الكافرين، ولا يمكن أن تطلب منِّي أن أقرِّبهم إليّ لقربهم منك، فلا فرق عندي بين عبادي جميعاً؛‏‏ ‏‏لأنّهم يتساوون أمامي في الخلق، فأقربهم إليّ أقربهم إلى خطِّ الرِّسالات، وأبعدهم عنِّي أبعدهم عنه. ‏

‏وهكذا تتحدّد القرابة لا على أساس ما تربطه العاطفة النّسبيّة بالرّسول، بل الأساس هو العلاقة الرِّساليّة. وكان الأمر في بدايته واضحاً عند المراجعة والتّأمُّل؛ فالوعد بحمل أهلك كان مختصّاً بغير من سبق عليه القول بالهلاك، وقد كان ولدك منهم، فلا تستسلم للعاطفة في انفعالاتك. ‏

‏وربّما نستوحي من هذه الآية الّتي تنفي ولد نوح عنه لأنّه عملٌ غير صالح، أنّ المنهج الإسلاميّ للانتماء يرتكز على أساس الالتزام العمليِّ به، إيماناً وحركةً؛ فقد ينتمي إلى المجموعة الإسلاميّة من ليس منها نسباً، كما ورد في الحديث الشّريف: «سلمانٌ منّا أهل البيت»‏(1)‏، وقد ينتفي عنها من هو منها، كما في حديث الإمام عليٍّ الرِّضا عليه السلام ، حيث سأل عليه السلام بعض أصحابه يوماً: كيف يفسِّر لنا النّاس هذه الآية: {إِنّهُ عملٌ غيْرُ صالِحٍ}؟ فأجابه أحد الحاضرين يوماً أنّهم يرون أنّه ليس الابن الحقيقيّ لنوح، فأجابه الإمام عليه السلام: «كلا، لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، كذا من كان منّا لم يُطِعِ الله عزّ وجلّ فليس منّا»‏(2)‏. ‏

‏وقد جاءت الأحاديث في هذه المجال في نفي بعض المسلمين من المجتمع الإسلاميِّ، إذا قاموا ببعض المعاصي، كما جاء عن النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منّا من غشّ مسلماً»‏(3)‏، و«من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»‏(4)‏، و«من سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم»‏(5)‏، و«من أكرمه النّاس اتِّقاء شرِّه فليس منِّي»‏(6)‏، وعن الإمام‏‏ ‏‏الكاظم عليه السلام: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه»‏(7)‏، وعن الإمام الصّادق عليه السلام: «ليس من شيعتنا من يظلم النّاس»‏(8)‏، وغير ذلك ممّا تضافرت به الأحاديث المأثورة، الّتي تؤكِّد أنّ الانتماء إلى الإسلام، وإلى النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلى أهل البيت عليهم السلام ، يرتكز على الالتزام بالإسلام عملاً، بالإضافة إلى الالتزام الفكريِّ، وأنّ الاسم لا يحقِّق عمقاً في معنى الإسلام أو التّشيُّع الّذي هو خطُّ الإسلام الأصيل. ‏

‏كيف ينحرف أقرباء الأنبياء؟ ‏

‏وربّما يسأل البعض: كيف ينحرف أولاد الأنبياء وزوجاتهم، وهم العاملون في هداية النّاس في خطِّ الاستقامة؟ ‏

‏والجواب: إنّ المشكلة في ذلك هو أنّ النّبيّ لا يملك أهله من ناحيةٍ تكوينيّةٍ في حركة الهداية، تماماً كما لا يملك النّاس من حوله؛ لأنّ الله أراد في سنّته التّاريخيّة أن يكون الاختيار هو الأساس في حركة الإنسان في التزاماته الفكريّة والعمليّة، وأن يكون للبيئة دورها في الضّغط على عمليّة الاختيار في هذا الاتِّجاه أو ذاك، لا سيّما إذا كانت الأُمُّ إحدى هذه العناصر بالنِّسبة إلى الطِّفل، كما إذا كانت الأُمُّ كافرةً متمرِّدةً على زوجها في مسألة الإيمان؛ لتأثُّرها بأهلها الّذين كانوا يقفون موقف الحرب على نوح، وربّما كانوا يستفيدون من موقعها في بيت نوح ليربكوا حياته المنزليّة، وذلك بتربية ولده على الكفر والعصيان، بما تلقيه أُمُّه في فكره وإحساسه من أفكارٍ سلبيّةٍ ضدّ الإيمان، وبما توجِّهه من التّمرُّد على أبيه وعلى الخطِّ المستقيم الّذي يتحرّك فيه في جانب الفكر والعمل، ومن الطّبيعيِّ أن تكون علاقته بأُمِّه فرصةً لهم ليحتضنوه وليدخلوه في مجتمعهم مع شبابهم اللاّهي العابث. وربّما كان ذلك بالخفية عن أبيه، لا سيّما أنّه كان مشغولاً عنه - بشكلٍ طبيعيٍّ - بالدّعوة إلى الله، وبالمواجهة الصّعبة للتّحدِّيات الموجّهة إليه في ساحة الصِّراع مع الكُفّار. وربّما كان ولده - بالتّعاون مع أُمِّه - يُخفي عنه ذلك، بحيث قد تظهر منه بعض علامات الصّلاح، الأمر الّذي قد يجعل نوحاً مطمئنّاً إلى إيمانه، وقد‏‏ ‏‏يوضح ذلك نداء أبيه له: {يا بُنيّ اِرْكبْ معنا ولا تكُنْ مع الْكافِرِين}، معتقداً أنّ هذا النِّداء يكفي لاستجابة ولده له، باعتبار أنّه لا ينتمي إلى الكافرين. ‏

‏وهناك نقطةٌ حيويّةٌ مهمّةٌ، وهي أنّ أهل النّبيِّ أو الدّاعية قد يكونون أقلّ النّاس تأثُّراً به؛ باعتبار أنّ العلاقة الطّبيعيّة بين أفراد الأسرة الواحدة في الحياة اليوميّة العاديّة قد تترك تأثيراً لاشعوريّاً في الذّات بحيث يفقد النّبيُّ أو الدّاعية هيبته المؤثِّرة في أنفسهم، وبالتّالي تفقد دعوته حيويّتها عندهم، تماماً كما لو كانت شيئاً من خصوصيّات البيت، ومن الأشياء التّقليديّة عندهم. ولا بُدّ أن يكون نوح قد حاول -بكلِّ قوّةٍ - هداية زوجته وتربية ولده على الإيمان، ولكنّ ضغط البيئة عليهما كان أقوى منه، لا سيّما إذا كان النّاس القريبون منهما أو المحيطون بهما يفتحون لهما أبواب التّحرُّر من مستلزمات الإيمان، ويهيِّئون لهما وسائل تغذية شهواتهما. ‏

‏ولعلّ هذا هو الّذي يفسِّر كثيراً من الانحرافات الّتي قد تتمثّل في أولاد الأئمّة والعلماء والصُّلحاء؛ فإنّ مؤثِّرات البيئة الخارجيّة قد تضغط بشكلٍ قاهرٍ على مؤثِّرات البيئة الدّاخليّة، لا سيّما إذا كانت تحتوي في عناصرها بعض عوامل الانحراف، كما في حالة امرأة نوح بالنِّسبة إلى ولدها، وهذا هو الّذي قد يوحي إلى الآباء أن يتوفّروا على مراقبة أولادهم في حركة النُّموِّ السّلبيِّ أو الإيجابيِّ، من النّاحية الفكريّة والعمليّة، وأن يختاروا لهم أُمّاً تملك الإمكانات الرُّوحيّة في العقيدة والالتزام، بما يساعد الأب المؤمن على إبعاد ولده عن أجواء الانحراف، خصوصاً أنّنا نعرف أنّ الولد يعيش مع أُمِّه أكثر ممّا يعيش مع أبيه، ويخضع لبعض تأثيراتها العاطفيّة أكثر ممّا يخضع لأبيه. ‏

‏اللّه يعظ نبيّه ‏

{فلا تسْئلْنِ ما ليْس لك بِهِ عِلْمٌ}. ولعلّ المراد من هذا التّعبير الكناية عن عدم كونه حقّاً لتعرف عنه ذلك؛ باعتبار أنّ الباطل لا أساس له، ليتعلّق به العلم. وربّما كان المقصود به الكناية عن الفعل الإلهيِّ الّذي يخفى سرُّه عن النّاس، أي: فلا تسأل ما لا تستطيع معرفته. وقد فسّره الكثيرون بأنّه يتعلّق بنجاة ابنه‏(9)‏. وهو غير واضحٍ من‏‏ ‏‏سياق اللّفظ. {إِنِّي أعِظُك أنْ تكُون مِن الْجاهِلِين}، الّذين لا ينطلقون في رغباتهم من الخطِّ الصّحيح الّذي يتناسب مع خطِّ الحقِّ المرتبط بالإيمان؛ لأنّ ذلك يعبِّر عن جهلٍ في شخصيّة الإنسان، بينما ينطلق العالمون بحقائق الأشياء وفق ارتباط رغباتهم بالحقِّ؛ لأنّ الإيمان يمثِّل الانسجام بين الفكر والرّغبة؛ كيلا يعيش المؤمن الازدواجيّة بين ما يفكِّر فيه، وبين ما يشتهيه ويطلبه. ‏

{قال ربِّ إِنِّي أعُوذُ بِك أنْ أسْئلك ما ليْس لِي بِهِ عِلْمٌ}، ممّا لا يتّفق مع الحقِّ؛ لأنّ إيماني بك يفرض عليّ أن أريد ما تريده، وأرفض ما ترفضه في كلِّ شيءٍ، وأنت المسدِّد لي في ذلك كلِّه، وأنت الهادي إلى طريق الصّواب، فأجرني من الانحراف، واعصمني من كلِّ ما لا يلتقي مع إرادتك، {وإِلاّ تغْفِرْ لِي وترْحمْنِي}، في ما تعبِّر عنه العبوديّة لله من خشوعٍ واستكانةٍ، تتمثّل بطلب المغفرة والرّحمة، وإن لم يكن هناك ذنبٌ؛ لأنّ الكلمة‏(10)‏ أصبحت تعبيراً عن المضمون الرُّوحيِّ الخاشع أمام الله، أكثر ممّا هي تعبيرٌ عن مضمونها اللُّغويِّ، {أكُنْ مِن الْخاسِرِين}؛ لأنّ الخسارة العظمى هي فقدان رحمة الله ومغفرته الّتي تمثِّل البُعد عن مصدر القوّة الّذي يمدُّ الإنسان بالثّبات والحياة. ‏

‏بين العصمة والعاطفة الأبويّة ‏

‏وقد يتساءل المتسائل عن مدى انسجام هذه الآيات في مدلولها مع عصمة الأنبياء: فكيف يمكن لنوحٍ - النّبيِّ الّذي وقف أمام كلِّ تحديات الانحراف الكافر، من كلِّ القوى الشِّرِّيرة، طوال هذا العمر المديد الّذي يقارب الألف سنة، كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضّعف أمام عاطفة الأبوّة، ليقف بين يدي الله طالباً إنقاذ ولده الكافر، من بين كلِّ الكافرين؟! وكيف يخاطبه الله بهذا الأسلوب الّذي يقطر توبيخاً وتأنيباً، ويتراجع نوح مستغفراً طالباً الرّحمة كيلا يكون من الخاسرين؟! ‏

‏ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك: أنّ المسألة ليست مسألة عاطفةً تتمرّد، ولكنّها عاطفةُ تأمُّلٍ وتساؤلٍ، فربّما كان نوحٌ يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل، وربّما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل؛ لأنّه من أهله، ولم يلتفت إلى كلمة {إِلاّ منْ سبق عليْهِ الْقوْلُ}؛ لأنّها لم تكن واضحةً. ‏

‏فربّما كان يتصوّر أنّ المقصود به امرأته، أو أنّه كان يأمل في اهتداء ابنه. ولا ينافي ذلك عصمته؛ لأنّ المسألة ليست تبليغيّةً، بل كانت شخصيّةً في تجربته الذّاتيّة، وهي لا تمثِّل الخطأ، بل قد تمثِّل عدم الالتفات إلى المصداق، ولا مشكلة في ذلك. ‏

‏وهكذا كان منسجماً مع خطِّ الإيمان عندما نادى نداء المتوسِّل المستفهم، وكان الردُّ الإلهيُّ منسجماً مع ما أراده الله له من العصمة، كأسلوبٍ من أساليب تربية الله لأنبيائه، ليمنع عنهم الانحراف العاطفيّ، قبل حدوثه، إذا ما كانت الأجواء جاهزةً لذلك، لولا لطف الله بهم. وقد تكون الشِّدّة في الرّدِّ لوناً من ألوان التّأكيد على ذلك، من خلال التّعبير عن الخطِّ الرِّساليِّ الّذي لا بُدّ من الالتزام به من قبل النّبيِّ القدوة، ومن قبل النّاس، في عمليّةٍ إيحائيّةٍ بأنّ الخطاب للنّبيِّ إذا كان بهذه القوّة أو الشِّدّة في مثل هذا الأمر، مع أنّه لا ينحرف عن الخطِّ، فكيف يكون الخطاب بالنِّسبة إلى النّاس إذا انحرفوا عنه. ‏

‏وكان الانسجام النّبويُّ مع خطِّ التّربية الإلهيِّ رائعاً في التّعبير عن روحيّة الخضوع والخشوع بالكلمات المستغفرة المسترحمة الخائفة من الخسران؛ خشية أن يكون في هذه الحالة المستفهمة المتأمِّلة بعضاً من ذنب، وإن لم يكن ذنباً، أو بعضاً من تمرُّد، وإن لم يكن كذلك، ومن الطّبيعيِّ ألاّ يبتعد ذلك عن خطِّ النُّبوّة المستقيم الّذي عاش العمر كلّه جهاداً في سبيل الدّعوة إلى الله، تحت رعاية الله، ووقف الآن في خطِّ الاستقامة محاولاً إخضاع كلِّ عواطفه لروحيّتها بتوفيق الله وبرحمته. ‏

‏معنى استغفار الأنبياء ‏

‏وهنا نفهم، من الأسلوب القرآنيِّ في استغفار الأنبياء، أنّه واردٌ مورد الإقرار بالعبوديّة، والخشوع الرُّوحيِّ، والخضوع الإراديِّ الّذي يقف بين يدي الله وقفة الانفتاح على الرُّبوبيّة في الوصول إلى أعلى درجات الرِّضوان، فقد كان يأمل أن ينجو ولده وأن يكون مشمولاً بالوعد الإلهيِّ، ويتمنّى أن يصدق ظنُّه به، ولكن كانت المفاجأة الصّعبة أنّه غرق مع الّذين غرقوا من الكافرين، وجاء يسأل ربّه الوضوح، وعندما عرف الحقيقة خاف أن يكون قد أساء الكلمة في الطّلب، فكان الخضوع والخشوع والاستسلام، في معنى الرّجاء والمحبّة وطلب العفو والمغفرة، ممّا يعبِّر عنه المفسِّرون أو علماء الكلام بترك الأولى. والله العالم. ‏

‏مهبط السّلام ‏

{قِيل يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسلامٍ مِنّا وبركاتٍ عليْك}، فقد منحه الله نعمة السّلام الرُّوحيِّ المتمثِّل في الطُّمأنينة النّفسيّة الّتي تشيع في داخله، والسّلام الإلهيّ الّذي يتمثّل في رحمة الله المرفرفة حوله، كما أعطاه نعمة البركات الفيّاضة الّتي تجعل منه عنصر خير ونفعٍ للنّاس وللحياة من حوله. {وعلى‏ أُممٍ مِمّنْ معك}، أي: واهبط أنت وأُممٌ معك بسلامٍ منّا وبركاتٍ؛ لأنّهم اتّبعوك وآمنوا بك، وشاركوك في خطِّ جهادك الطّويل، فكان لهم من الخير والثّواب ما كان لك. ‏

{وأُممٌ سنُمتِّعُهُمْ}، وهذه جملة مستأنفةٌ تشير إلى أنّ المستقبل سيتمخّض عن أُممٍ أخرى لا تؤمن بك وبالرِّسالات والرُّسل من بعدك، بل تتحرّك في خطِّ الكفر والضّلال والعصيان، وسنمتِّعهم ما امتدّت بهم الحياة الّتي قدّرناها لهم، ولكنّهم لن يفلتوا من العقاب، مهما امتدّ بهم العمر، وأقبلت عليهم الحياة، بل سيواجهون نتائج المسؤوليّة وجهاً لوجهٍ يوم القيامة، {ثُمّ يمسُّهُمْ مِنّا عذابٌ ألِيمٌ}. ‏

‏تلك أنباء الغيب ‏

{تِلْك مِنْ أنْباءِ الْغيْبِ نُوحِيها إِليْك}، في ما نكشفه لك من غيب التّاريخ الّذي لم تحضره، ولم يحضره أحدٌ معك، {ما كُنْت تعْلمُها أنْت ولا قوْمُك} لأنّها لم تُنقل إليكم في كتابٍ، أو في رواية شاهدٍ من النّاس. وفي هذا ‏‏إ‏‏شارةٌ إلى أنّ العلم بالغيب لم يكن ملكةً كامنةً في عقل النّبيِّ، بحيث يصل إليه بنفسه من دون تعليمٍ مباشرٍ بمفرداته، بل هو نبأٌ يوحي به الله إليه، وهذا هو ما ورد فيما روي عن الإمام عليٍّ عليه السلام في حديثه عن بعض جوابه للسّائل: هل هذا علم غيبٍ؟ قال: «ليس هو بعلم غيبٍ، وإنّما هو تعلُّمٌ من ذي علم»‏(11)‏. والله العالم. ‏

{مِنْ قبْلِ هذا فاصْبِرْ إِنّ الْعاقِبة لِلْمُتّقِين}؛ فإنّ لك في الصّبر على ما تلاقيه من قومك، وفي الامتداد في خطِّ الدّعوة دون تراجعٍ، ممّا توحيه التّقوى الّتي تستمدُّ القوّة والثّبات في الموقف من الله، كلّ خير وعاقبةٍ طيِّبةٍ، تماماً كما حصل عليها نوح وقومه، في ما اتّقوا الله وأطاعوه. ‏

‏وقد تكون في هذه الآية إشارةٌ إلى النّبيِّ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الصّبر على ما يلاقيه من إعراضٍ عن الرِّسالة وتمرُّدٍ عليه يمثِّل السّير التّاريخيّ الّذي سار عليه الأنبياء من قبله، فعليه أن يصبر كما صبروا.‏


‏ ‏

‏(1) الشّيخ الصّدوق، عيون أخبار الرِّضا، منشورات الشّريف الرّضي، قم - إيران، 1378 هـ- ش، ج 2، ص‏70، ح 282. ابن هشام، أبو محمّد عبد الملك الحميري (ت 218 هـ-)، السِّيرة النّبويّة، تحقيق محمّد محيي الدِّين عبد الحميد، مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده، مصر، 1383 هـ- - 1963 م ، ج 1، ص 46. ‏

‏(2) الشّيخ الصّدوق، م. ن، ص 257 - 258، ح 1. ‏

‏(3) م. ن، ص 32، ح 26. ‏

‏(4) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 163، ح 1. ‏

‏(5) م. ن، ص 164، ح 5. ‏

‏(6) الشّيخ الصّدوق، الخصال، منشورات جماعة المدرِّسين بالحوزة العلميّة بقم المشرّفة، قم - إيران، 1403هـ-، ص 14، ح 49.‏

‏(‏‏7‏‏) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج‏2، ص 453، ح 2. ‏

‏(‏‏8‏‏) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، م. س، ص 303.‏

‏(‏‏9‏‏) انظر على سبيل المثال لا الحصر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 286. الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 2، ص 273. الفخر الرّازي، مفاتيح الغيب، م. س، ج 18، ص 3.‏

‏(‏‏10‏‏) يعني: طلب المغفرة.‏

‏(‏‏1‏‏1) نهج البلاغة، م. س، ص 57، الخطبة 128.‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية