يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التّوبة: 36].
في هذا اليوم، نلتقي بمناسبة رأس السنة الميلاديَّة، ومرور ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين عاماً على ولادة السيّد المسيح (ع)، كما نعيش أجواء شهر رجب الحرام، الَّذي هو واحد من الأشهر الحرم الأربع الَّتي أراد الله فيها للنَّاس أن يعيشوا أجواء السَّلام في العالم، والأشهر هي: ذو القعدة الحرام، وذو الحجَّة الحرام، ومحرَّم الحرام، ورجب الحرام.
أشهر السَّلام
هذه الأشهر الَّتي حرَّم الله فيها القتال. ولم يكن هذا التَّشريع تشريعاً جديداً في الإسلام، بل كان استمراراً للتَّشريع الَّذي سبق الإسلام منذ أيَّام إبراهيم (ع)، ولذلك، كان العرب قبل الإسلام يلتزمون بذلك. وكان مجيء الشَّهر الحرام بمثابة التزام طبيعيّ عفويّ يجعل النَّاس يمتنعون عن الدّخول في أيّ قتال، وأيّاً كانت الظّروف.
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنَّ بعض العرب كانوا إذا أرادوا الدّخول في قتال، أو الاستمرار في قتال، وقد أدركهم الشَّهر الحرام، قاموا بحيلة، وذلك بأن يستبدلوا بشهر محرَّم شهر صفر، ليكون صفر هو الشَّهر الحرام بدل شهر رجب. والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ – والنّسيء من النَّسيئة، يعني التَّأخير، أنسأ الشَّيء إذا أخَّره - يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}[التّوبة: 37]. وقول الله سبحانه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، يعني كفرهم من خلال الشّرك، وكفرهم بتحليل ما حرَّم الله.
هاتان المناسبتان لا بدَّ لنا أن نستوحيهما في حياتنا العامَّة أو الخاصَّة.
لا عقدةَ من أيّ تاريخ
في المناسبة الأولى، وهي مناسبة رأس السنة الميلاديَّة، نلاحظ أنَّ مسألة بداية التَّاريخ تختلف حسب اختلاف الأمم والأديان، فهناك التَّاريخ العبريّ الّذي يعتقد اليهود أنَّه تاريخ بدء الخليقة، وهو ستّة آلاف سنة وكسور، وهناك التَّاريخ الميلاديّ، والّذي يبدأ بميلاد السيّد المسيح (ع)، وهناك التَّاريخ الهجري، وهو التَّاريخ الإسلامي الّذي يرتبط بهجرة النَّبيّ محمَّد (ص) من مكَّة إلى المدينة، وهي بدء انطلاقة الإسلام في العالم وحركته.
ونحن لا نتعقَّد من أيّ تاريخ، لأنَّ الإسلام ينطلق من الآية القرآنيَّة: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285]، فنحن نؤمن بموسى وعيسى وإبراهيم ومحمَّد، عليهم السَّلام جميعاً. فليست عندنا عقدة من عيسى (ع)، ولا من موسى (ع)، ولا من إبراهيم (ع)، فكلّهم أنبياء الله. ونحن عندما نتحدَّث عن رسول الله (ص)، فباعتباره خاتم النبيّين الَّذي ختمت به الرّسالات، فهو يقف في المرحلة الأخيرة من خطّ الرّسالات ومسيرتها.. فإذا انفتحنا على ميلاد السيّد المسيح (ع) في تاريخنا أو في احتفالاتنا، فإنَّ ذلك لا يخرج عن خطّ الانسجام مع التَّاريخ الدّيني.
ونحن نلاحظ أنَّ القرآن الكريم تحدَّث عن ميلاد السيّد المسيح (ع) باعتباره آيةً من الله ورحمةً منه تعالى، كما لم يتحدَّث أيّ كتاب آخر، وتحدَّث أيضاً عن الإنجيل وعمَّا فيه، ورأى أنَّ على أهل الإنجيل أن يحكموا بالإنجيل، وعلى أهل التَّوراة أن يحكموا بالتَّوراة، كما أنَّ على أهل القرآن أن يحكموا بالقرآن، لأنَّها كلّها كتب الله، وإن كانت هناك بعض الاختلافات فيما تنسخ به شريعةٌ شريعةً..
بينَ ميلادٍ وهجرة
ولكنَّنا عندما نريد أن نبدأ سنة جديدة باسم السيّد المسيح (ع)، أو باسم النَّبيّ محمَّد (ص)، فلا بدَّ أن نستوحي الاسم الَّذي انطلق منه التَّاريخ، والحدث الَّذي ابتدأنا التَّاريخ به.
فما معنى أن نبدأ عاماً هجريّاً جديداً من دون أن ننفتح على الهجرة في مدلولها العميق، وفي آفاقها الواسعة ونتائجها البعيدة، ومن دون أن نتأمَّل حركة النَّبيّ (ص) قبلها وبعدها، وتأثيراتها في مسيرة الإسلام وقوَّته؟ إنَّ البدء بالتَّاريخ من نقطةٍ محدَّدة، يعني أن نستحضر تلك النقطة في كلّ عامٍ يعود فيه التَّاريخ إلينا، فنستذكرها لا كتاريخٍ مضى، بل كحركةٍ حيّةٍ تتجدَّد في واقعنا وحياتنا.
إنَّ معنى أن يكون تاريخنا تاريخ الهجرة النبويَّة الشَّريفة، هو أن تكون لنا في كلّ سنة هجرة إسلاميَّة جديدة، من خلال عزَّة الإسلام وحرَّيته وكرامته وانتشاره في العالم، تماماً كما كانت الهجرة النبويَّة الأولى؛ هجرةً تصنع هجرات، وموقفاً يفسح المجال لمواقف، وحركة تنتقل من موقع ضعف إلى موقع قوَّة، لننطلق في واقعنا لنحوّل كلّ موقع ضعف إلى موقع قوّة، لتبقى الهجرة روحاً حيَّةً تتجدَّد في حياتنا وعالمنا.
إنَّ معنى أن ننطلق كمسلمين من تاريخ الهجرة، أنَّ علينا أن نفكّر دائماً، كما أنَّنا كنّا ضعفاء يتخطَّفنا النَّاس في مكَّة، فأصبحنا قوَّة، ودخل النَّاس بعدها في دين الله أفواجاً، فلنحاول إذا ضعفنا أن نستوحي ذاك التَّاريخ، لنتحرَّك في هجرة حركيَّة في الدَّاخل وفي الخارج، من أجل أن نصنع القوَّة الجديدة لأنفسنا.
وهكذا، عندما ننطلق من ميلاد السيّد المسيح (ع) في التَّاريخ الميلاديّ، فإنَّ معنى ذلك، أنَّكم، أيُّها النَّاس، عندما تضعون رقماً جديداً في سنة معيَّنة، فاذكروا أنَّ هذا الرَّقم الجديد يربطكم بالسَّنة الأولى الَّتي ولد فيها السيّد المسيح (ع) الّذي هو عبد الله ونبيّه، والَّذي آتاه الله الكتاب، وكان نافعاً للنَّاس، ومباركاً في حياته، والّذي بذل كلّ طاقته في سبيل الخير، وبذل العلم في سبيل الوعي، وكان الإنسان البارّ بوالدته، وكان مقيم الصَّلاة، ومُؤتي الزكاة، ولم يكن جبّاراً شقيّاً...
أيُّها النَّاس، تذكّروا هذا الإنسان العظيم كلّما انطلقتم في تاريخكم، وتأمَّلوا: هل التّاريخ الَّذي تصنعونه وتعيشونه اليوم ينسجم مع بدايته الَّتي ارتبطت بعيسى (ع)؟ هل فيكم شيء من روحه، من صفائه، من عبوديّته لله؟ وهل تنطلقون في حياتكم على أساس أن تجدّدوا العبوديّة لله كلّما امتدَّ بكم الزّمن، لتستشعروا مسؤوليّتكم أمامه؟ وعندما تتذكَّرون عيسى (ع)، هل تلتزمون بالكتاب الَّذي أنزله الله عليه، كما التزمه هو في طاعته وإيمانه وعطائه؟ هل تعيشون حركتكم في الحياة لتكونوا نفعاً للنَّاس لا لتكونوا ضرراً لهم؟ هل تتحمَّلون مسؤوليَّة رفع مستوى النَّاس في حياتهم وفي تفكيرهم؟ هل تعيشون البرّ بوالديكم وبكلّ ما أراده الله لكم في ممارسة البرّ؟ هل تقيمون الصَّلاة، أيُّها المحتفلون بميلاد عيسى وبسنته؟ هل تؤتون الزكاة؟ هل أنتم بعيدون عن الجبروت والاستكبار؟ هل أنتم ضدَّ الجبابرة، كما أنَّ عيسى كان ضدَّ الجبابرة، هل أنتم ضدَّ الأشقياء، كما كان عيسى ضدَّ الأشقياء...؟
إنَّ التَّاريخ عندما ينفصل عن قاعدته يفقد معناه...فإذا كنتم لا تعيشون روحيَّة عيسى (ع) ولا خطَّه، ولا آفاقه الرّوحيَّة والأخلاقيَّة وخططه العمليَّة في الحياة الَّتي تلتقي بخطط كلّ الأنبياء من قبله ومن بعده، إذا كنتم لا تعيشون ذلك، فما معنى أن تحتفلوا بمولده؟ وما معنى أن تجعلوا تاريخكم منطلقاً من بداية تاريخه؟
التَّاريخُ مسؤوليَّةٌ ووعي
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قيمة الإنسان في الحياة أن يعيش مواقفه والتزاماته بوعيٍ وبصيرة، لا أن ينقاد إليها من غير فهم. فعلى الإنسان أن يدرك بعمق معنى ما يلتزم به، ليكون التزامه نابعاً من وعيٍ وإيمانٍ، لا من تقليدٍ أو عادة.
إنَّ التاريخ ليس مجرّد أرقامٍ تتزايد أو تتناقص، بل هو حركةٌ إنسانيّةٌ حيّة، تفتح عقل الإنسان وقلبه على مسؤوليَّاته في الحاضر والمستقبل. وقد أراد الله لنا أن نتعامل مع التَّاريخ بعين البصيرة، فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2]، فذلك هو تاريخ الأقدمين الَّذي نتعلَّم منه العبرة، أمَّا تاريخكم أنتم، فمسؤوليَّتكم أن تصنعوه بوعيٍ وعملٍ وإيمان، كما قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141].
محاسبةُ النَّفسِ على تاريخِها
ومن هنا، تحدَّث الإسلام كثيراً عن قضيَّة محاسبة النَّفس، لأنّها تعني أن يحاسب الإنسان حركته في تاريخه، فكلّ واحدٍ منَّا يحمل في عمره تاريخاً هو خلاصةُ ما عاشه وما صنعه، فإذا كنت في العشرين من عمرك، فقفْ لحظةً وتأمَّل: كيف كانت هذه السنوات العشرون من حياتك؛
هل كانت طريقاً إلى الخير أم إلى الشَّرّ؟ هل كنت إنساناً صالحاً في مجتمعك أم سبباً في فساده؟
ماذا قدَّمت للحياة؛ هل منحتها عملاً نافعاً وأثراً طيّباً، أم تركت فيها ما هو خبيث وضارّ؟
هل كنت مجرمًا في محيطك؟ أم خائنًا لأمَّتك؟ أم كنت ذاك الإنسان الصَّادق المخلص الَّذي يتحرّك في الحياة من أجل نفع النَّاس أجمعين؟ تلك هي القضيَّة في محاسبة النفس... وكذلك إذا كنت ابن الثَّلاثين أو الأربعين، فكّر ما الَّذي بقي لك من الثَّلاثين أو الأربعين...
إنَّ كلّ سنة تمضي من عمرنا هي قطعة من عمرنا تذهب إلى الأبد. وهنا على الإنسان أن يفكّر، أنَّه عندما ذهب ما ذهب من عمره، هل ذهب تماماً، أم بقي منه شيء له؟ وما بقي، هل هو من حسناته الَّتي بها يقف أمام الله رافعاً رأسه، أم هو من سيّئاته الَّتي يقف بها مطأطئ الرَّأس أمامه؟ ما الَّذي بقي من عمره؟ ما الَّذي قدَّمه؟ إنَّ الآية تصرخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]، لأنَّ الله يريد لنا أن نقدّم أعمالنا بين يدي أعمارنا. ماذا قدَّمنا؟ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمّل: 20]، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
مواجهةُ الأعمالِ يومَ القيامة
أقرأ عليكم بعض الأحاديث في هذا المجال، الَّتي تعطينا فكرة عن طريقة مواجهتنا لأعمالنا من خلال نتائج المصير. هناك حديث يقول: "يُفتَحُ لِلعَبدِ يَومَ القِيامَةِ عَلى كُلِّ يَومٍ مِن أيّامِ عُمرِهِ أربَعَةٌ وعِشرونَ خَزانَةً عَدَدَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ - فما نوعيَّة هذه الخزائن؟ وماذا فيها؟ - فخَزانَةٌ يَجِدُها مَملوءَةً نوراً وسُروراً، فيَنالُهُ عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرورِ ما لَو وُزِّعَ عَلى أهلِ النّارِ لأَدهَشَهُم عَنِ الإحساسِ بِألَمِ النّارِ، وهِيَ السّاعَةُ الّتي أطاعَ فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خَزانَةٌ أخرى، فيَراها مُظلِمَةً مُنتِنَةً مُفزِعَةً، فيَنالُهُ عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَزَعِ والجَزَعِ ما لَو قُسِّمَ عَلى أهلِ الجَنَّةِ لَنَغَّصَ عَلَيهِم نَعيمَها، وهِيَ السّاعَةُ الّتي عَصى فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خَزانَةٌ أخرى، فيَراها فارِغَةً، لَيسَ فيها ما يَسُرُّهُ ولا ما يَسوؤهُ، وهِيَ السّاعَةُ الّتي نامَ فيها أوِ اشتَغَلَ فيها بِشَيءٍ مِن مُباحاتِ الدّنيا، فيَنالُهُ مِنَ الغَبنِ والأسَفِ عَلى فَواتِها ما لا يوصَفُ، ومِن هذا قَولُهُ تَعالى: {ٰذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن}"[التّغابن: 9]، اليوم الَّذي يشعر فيه الإنسان بالغبن، وأنَّه ضيَّع الكثير من الفرص الَّتي لو انتهزها لكان في حال أفضل، أو لم يكن في هذه الحال من السّوء، ما يعني أنَّ كلَّ ساعة من ساعات عمرنا ليست مجرَّد دقائق وثوانٍ نستعجل ذهابها أو نستبطئ مجيئها، ولكنَّها تختزن في داخلها مسؤوليَّتنا، من حيث إنّها تختزن في داخلها مستقبلنا.
يحدّثنا الله عن بعض النَّاس الَّذين يطلبون منه يوم الحساب أن يرجعهم إلى الدّنيا ليتداركوا ما فاتهم، وخصوصًا أهل النَّار الَّذين يتمنّون فرصة أخرى لتصحيح مسارهم، لأنَّ أهل الجنَّة لا يحتاجون إلى ذلك، فهم في نعيم دائم...
ويروى أنَّ بعض العلماء رآه عالم في المنام، فسأله: كيف حالك؟ فأجاب: الحمد لله، أنا في نعيم الله وجنَّته. فسأله: هل تحبّ أن ترجع إلى الدّنيا؟ فقال: لا، إلَّا لقضيَّة واحدة أحبّ أن أرجع لأجلها، وهي قضاء حوائج المؤمنين، فقد رأيت من الثَّواب العظيم على ذلك ما يجعلني أشتاق للعودة إلى الدّنيا، لأعمل هذا الخير، ولأرتفع درجةً عند الله بذلك.
أمَّا أهل النَّار، فلاحظوا كيف يتحدَّث القرآن عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ – سنبدّل، يا ربّ، ونغيّر، ولكنَّ الله يقول لهم - أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم - كم سنة بقيتم في الدّنيا؟ وقد ذكَّرناكم من خلال الأنبياء والرّسل - مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}[فاطر: 37].
مسؤوليّتُنا حيالَ الزّمن
هذه هي مسؤوليَّتنا، أيُّها الأحبَّة، فإيماننا يعني أنَّ للزَّمن مسؤوليَّة في حياتنا، وأنَّ علينا أن نملأ الزّمن بما ينفعنا في آخرتنا.
من الأحاديث الواردة عن الإمام عليَّ (ع): "إِنَّ اللَّيلَ وَالنـَّهارَ يَعْمـَلانِ فيـكَ - لأنَّهما يأخذان من عمرك ومن قوَّتك، فأنت تكون شابّاً، ثمَّ تكون بعد ذلك شيخاً: "مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اَللَّيْلَ وَاَلنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً"، كما يقول الإمام عليّ (ع) - فَاعْمَلْ فيهِما - فإذا أذاك أحدهم، ألا تردُّ عليه؟ فكما يعمل اللَّيل والنَّهار فيك، اعمل فيهما - وَيَأخُذانِ مِنْكَ، فَخُذْ مِنْهُما"، يأخذان منك قوَّتك، ويأخذان منك شبابك، فخذ منهما عملك، وخذ منهما ما يرفع درجتك عند ربّك، وخذ منهما ما يجعل لك القوَّة في دنياك وآخرتك.
وعن رسول الله (ص): "بَادِرْ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ أَرْبَعٍ؛ بِشَبَابِكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَمَاتِكَ". فهذه الأمور تمثّل رصيداً لك، وتمثّل إمكاناتك.. إنَّ الشَّباب طاقة، والصحَّة طاقة، والحياة طاقة، والغنى طاقة، وأنت تستطيع أن تحرّك هذه الطَّاقات في سبيل أن تنتج منها طاقةً لدنياك وآخرتك. بادر، لأنّها لن تنتظرك، لن ينتظرك شبابك إذا أردت أن تقضي وقتك في البطالة، لأنَّ لعمرك حدّاً محدوداً، ولن تنتظرك صحَّتك، ولن ينتظرك مالك الَّذي تستهلكه، ولن تنتظرك حياتك {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34].
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الإحساس بالزَّمن، إنَّ هناك من النَّاس من سهروا بالأمس إلى ما بعد نصف اللَّيل احتفالاً برأس السَّنة، ولكن علينا أن نحتفل برأس السَّنة بين يدي الله سبحانه وتعالى، حتَّى نحتفل احتفالاً واعياً يفتح عقولنا وقلوبنا، وحياتنا على المسؤوليَّة، لأنَّ هذه الاحتفالات الَّتي اعتادها النَّاس في العالم، هي احتفالات تغلق القلوب عن الله، وتغلق الحياة عن المسؤوليَّة، وتغلق العقول عن وعي الأخطار...
إنَّ الله يحدّثنا أنّه يسأل النَّاس في يوم القيامة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِين * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 112 - 113]. لماذا يقولون يوماً أو بعض يوم؟ لأنَّ الزَّمن كان يمرّ عليهم من دون أن يشعروا بأنَّه العمر الَّذي يمثّل مسؤوليَّتهم.
عندما يكون لديك رأس مال ولا تتاجر به أو تشغّله، فإنَّه يوماً بعد يوم سينفد دون أن تشعر بذلك، حتّى لو كنت تملك الملايين، وكذلك العمر، فإذا لم تحسن توظيفه فيما ينفعك، فستخسر كلّ شيء في نهاية الأمر، والإمام عليّ (ع) يقول: "مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!".
لذلك عندما يقولون: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}، يأتي الرّدّ من الله سبحانه وتعالى في هذا المجال: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا - لأنَّه مهما طال العمر فسيفنى - لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون: 114].
ثم َّبعد ذلك يقول الله لهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، لقد كنتم تسيرون في الحياة في سلبيَّة، وفي غفلة ولا مبالاة؛ تخوضون، وتلعبون، وتعملون ما تشاؤون، كانت الحياة بالنّسبة إليكم فرصةً للّهو واللَّغو والعبث وعدم المسؤوليَّة. ألأجل ذلك خلقكم الله؟ بل إنَّ الله خلقكم وجعل لخلقكم برنامجاً؛ لكم بداية، ولكم نهاية في الدّنيا، ولكم نهاية النّهاية في الحياة {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64].
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا – فلم تستعدّوا ولم تعملوا ولم تتحمَّلوا مسؤوليَّاتكم - وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115]. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 16 - 18]. فالله خلق السَّماوات والأرض على أساس الحقّ {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الدّخان: 39]، ويريد للإنسان أن ينسجم مع الحقّ.
التَّخطيطُ لعمرِنا
أيُّها الأحبَّة، إنَّ حياتنا تستحقُّ أن نفكّر فيها، وإنَّ آخرتنا تستحقُّ أن نفكّر فيها، لأنَّ المسألة هي أنَّنا قد نعيش في سكرة ونحن غافلون، ونستفيق على صراخ في كلّ المصير {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: 19 - 22].
لذلك، الفكرة الّتي أحبّها لنفسي وأحبّها لكم، أنَّنا عندما ننطلق مع النّهايات ومع البدايات؛ مع نهاية يوم وبداية يوم، نهاية أسبوع وبداية أسبوع، نهاية شهر وبداية شهر، نهاية سنة وبداية سنة... عندما ننطلق، علينا أن نعمل دائماً حساباً لما مضى، وتخطيطاً لما يُستقبل، أي أن يكون إحساسنا بالزَّمن واعياً. ماذا لو كان الزَّمن في حياة كلّ منَّا إنساناً يحرسك ويراقبك؟ إذا كان الصَّباح شاهداً عليك في محكمة ما على ما فعلت، وإذا كان المساء شاهداً عليك في محكمة ما على ما عملت، فهل تتعامل مع الصَّباح بلا مبالاة؟ وهل تتعامل مع اللَّيل بلا مبالاة؟ فكّروا. لا تستغرقوا في سماع ما أقول، ولكن استغرقوا في التَّفكير في ذلك.
إنَّ الإمام زين العابدين (ع) يحدّثنا في دعاء الصَّباح والمساء، أنَّ الله يجعل الزَّمن شاهداً علينا: "اللَّهُمَّ وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ - كيف يشهد علينا؟ - إِنْ أَحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْدٍ - وصل معنا حتّى الباب وسلَّم علينا - وَإِنْ أَسَأْنَا فَارَقَنَا بِذَنْبٍ - أدار ظهره ومشى. لاحظوا، توديع فيه إكرام، ومفارقة فيها إهانة - اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ، وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوءِ مُفَارَقَتِهِ، بِارْتِكَابِ جَرِيرَةٍ، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ".
وهكذا تمتدّ الطَّلبات؛ أن يملأه الله بالحسنات، وأن يخليه من السيّئات، وأن يحفظه حفظاً عاصماً من معصيته، إلى أن يجيء البرنامج اليوميّ، وهو برنامج الحياة لكلّ مسلم، حتَّى يكون يومك يوماً مسلماً، وحتَّى يكون شهرك شهراً مسلماً، وحتَّى تكون سنتك سنة مسلمة، لتكون هناك عناوين تحكم حركتك في الحياة: "اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا وَلَيْلَتِنَا هَذِهِ - ولنا أن نقول: في سنتنا هذه - لِاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وَهِجْرَانِ الشَّرِّ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدَعِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحِيَاطَةِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِقَاصِ الْبَاطِلِ وَإِذْلَالِهِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ، وَإِرْشَادِ الضَّالِّ، وَمُعَاوَنَةِ الضَّعِيفِ، وَإِدْرَاكِ اللَّهِيفِ".
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، أنَّه لا بدَّ أن يكون لنا برنامج نخطّطه في حركة عمرنا، بحيث نوزّع أعمالنا على كلّ هذه العناوين، حتَّى لا ننطلق في حياتنا من دون هدى ومن دون وعي.
أنت لا بدَّ أن تقول في كلّ يوم: هل استعملت حياتي في الحقّ؟ هل هجرت الشّرّ؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المنكر؟ هل سرت على السُّنَّة؟ هل اجتنبت البدعة؟ هل انتقصت الباطل وأذللته؟ هل نصرت الحقَّ وأعززته؟ هل أحطت الإسلام؟ هل أرشدت الضَّالّ؟ هل أعنت الضَّعيف؟ هل أدركت اللَّهيف؟ هذه عناوين حركة الإنسان على مستوى العلاقات الفرديَّة والاجتماعيَّة، وعلى مستوى النَّشاط الخاصّ والنَّشاط العامّ. فحتَّى تكون مسلماً، لا بدَّ أن يكون لك برنامج إسلاميّ تنفتح فيه على كلّ ما تملكه من طاقات...
والله يحكي لنا عن الدّنيا في سورة الحديد، فيقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ - اللّعب واللَّهو في حياة الإنسان عندما يكون طفلاً – وَزِينَةٌ – عندما يصبح الإنسان شابّاً، تراه يعتني بشكله وهندامه - وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ - هذا يتفاخر بماله، وذاك يتفاخر بأولاده، إلى ما هناك من حالات التَّفاخر. هذه هي الحياة الدّنيا بحسب طبيعتها.
فإذا أردت أن تفهم عمرك وتفهم دنياك، فتطلَّع إلى النَّبات - كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ - والمراد بالكفَّار هنا الزرَّاع، فالفلَّاح يقال له كافر، ليس من الكفر بالله، بل الكفر بمعنى السّتر، لأنَّه يستر البذرة. وهذه تلاحظونها مثلاً في أسماء القرى عندنا في جبل عامل، كما في: كفردونين، كفركلا، كفرفيلا، كفرملكي... فالكَفَر هنا يعني مزرعة، أي أرض فلاحة، باعتبار أنَّ الفلَّاح يستر البذرة في داخل الأرض. والكافر إنّما سمّي كافراً لأنَّه يستر الحقّ ولا يظهره ولا يعلنه.. فالأمر في الإنسان كمثل هذا النَّبات الَّذي زرعه الفلّاحون واستأنسوا به - ثُمَّ يَهِيجُ - تصيبه الحرارة والاشتعال، وتجفّ فيه الرّطوبة - فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا – بحيث تنقلب الخضرة إلى اصفرار، ثمَّ يزيد الاصفرار- ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا - فيتفتَّت ويتحوَّل إلى تراب.
هكذا الإنسان أيضاً؛ تراه ينمو، ويعجب به الأبوان والنَّاس، ويقولون ما أجمل هذا الطّفل! ما ألطف حركاته! ثمَّ بعد ذلك يزداد الإعجاب به عندما يصير شابّاً في اخضرار الشَّباب ونضارته، ثمَّ تأتي الكهولة، وتظهر عليه علامات الشَّيب والتَّجاعيد، ومرض من هنا ومرض من هناك، ثمَّ يزحف إليه الضّعف، ويصير في الستّين والسَّبعين، ثمَّ يصير حطاماً، فينزل إلى القبر، ويتحوَّل إلى تراب. ولذلك نقول: "وارْحَمْنِي عِنْدَ تَغَيُّرِ صُورَتِي وحَالِي إِذَا بَلِيَ جِسْمِي، وتَفَرَّقَتْ أَعْضَائِي، وتَقَطَّعَتْ أَوْصَالِي، يَا غَفْلَتِي عَمَّا يُرَادُ بِي!". أليست المسألة كذلك؟
فالله يقول للنَّاس إنَّ دنياكم الَّتي تشغلون أنفسكم بها، هي لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، وبعد ذلك ماذا هناك؟ هناك الموت، تماماً كما هو الزَّرع يتحوَّل حطاماً.
ثمَّ يأتي وقت الحساب - وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ - من جهة - وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ - فاختر لنفسك أيّهما تريد؛ هل تريد الدّنيا بكلّ ما فيها من لهو وزينة وتفاخر، والّتي ستتحوَّل في النّهاية إلى حطام ولا يبقى منها شيء، لينتظرك في الآخرة عذاب شديد مما ينطلق من الجانب السَّلبيّ في إدارة حياتك، أم أنَّك تريد الآخرة الّتي فيها مغفرة من الله ورضوان، والّتي تنطلق في الجانب الإيجابيّ من إدارة حياتك - وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد: 20]، لأنّها تفنى، ولأنَّها تخدع الإنسان، ولا تعطيه أيَّ شيء ثابت في نهاية المطاف.
هذه هي المفاهيم القرآنيَّة الَّتي تتحرَّك في هذا الاتجاه.
الفرحُ المسؤول
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا – ونحن ما زلنا في رأس السَّنة، وعلينا أن نعمل على أن نضع تخطيطاً للسَّنة القادمة - لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون: 9].
أنت مسؤولٌ عن مالك، لكن اذكر الله في حركة مالك، حتَّى يكون مالك في خطّ الله.. أنت مسؤول عن وُلدك، ولكن اذكر الله عندما ترزق الولد، واذكر الله عندما تنفتح على ولدك وعلى مسؤوليَّتك {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]. تلك هي المسألة في كلّ حياتنا.
وعلى هذا الأساس، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نواجه سنة تمضي وسنة تأتي.. لا مانع من أن نعيش الفرح، لأنَّ الله أبقانا وقد أخذ غيرنا، كما يرد في دعاء الإمام زين العابدين (ع) يوم الأربعاء، عندما يستفيق الإنسان من النَّوم، فيقول: "لَكَ الْحَمْدُ أَنْ بَعَثْتَنِي مِنْ مَرْقَدِي، وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَداً"، فلمجرَّد أن يفتح الإنسان عينيه، يقول: الحمد لله أنا حيّ، أبصر وأسمع وأحيا، وهذه نعمة جديدة من نعم الله عليَّ، فهناك من ناموا وكانت نومتهم أبديّة.
احتفل بالسَّنة الجديدة كما تحتفل باليوم الجديد بحمد الله، افرح لأنَّ الله أنعم عليك بالحياة بعد أن كان من الممكن أن تموت وأنت في المنام، وإنَّكم، كما يقول النَّبيّ (ص) فيما يروى عنه: "لتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتَبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ".
علينا أن نعيش هذا الجوّ، أن لا نستسلم للغفلة الَّتي يريد النَّاس فيها أن يبعدونا عن وعينا، أن لا نستسلم لأجواء اللَّهو الَّتي يراد لنا أن نستهلك فيها عمرنا. إنَّ الله لم يحرّم لهواً، ولكنّه يريدنا أن لا نستغرق فيه، وأن لا ننطلق فيما حرَّمه منه، لأنَّ هناك لهواً حراماً وهناك لهو حلال، وللإنسان أن يأخذ باللَّهو الحلال بطريقة متوازنة.
وهكذا، إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من الفرح، بل إنَّه يريد منَّا أن نفرح من خلال ما يعطينا من فضل ورحمة؛ أن نعيش الفرح في عمل الخير، والفرح بنعم الله وعفوه ومغفرته والقرب منه... فأيّ فرح أعظم من هذا الفرح الَّذي يقبل فيه الإنسان على السَّعادة في الدّنيا والآخرة؛ يقبل على الجنَّة، وعلى هذا الاستقبال الَّذي يُستقبل به يوم القيامة؟ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصّلت: 30 - 32].
هذا هو الفرح الَّذي لا حزن بعده، وكلّ فرح يحمل في داخله سخط الله، فلا ريب أنّه يختزن الحزن الكبير؛ حزن الدّنيا وحزن الآخرة، لأنَّ الإنسان عندما ينفتح على ربّه، ينفتح على السَّعادة كلّها في الدّنيا قبل الآخرة. إنَّ الَّذين يعيشون مع الله لا ييأسون، ولا يحزنون، ولا يجزعون، ويعرفون كيف يديرون الأمور وكيف يفهمونها.
لذلك، ليكن احتفالنا بكلّ سنة جديدة استيحاءً من القاعدة الَّتي انطلقت فيها السَّنة وانطلق فيها التَّاريخ؛ من هجرة النبيّ (ص) وحركته الَّتي أطلقت مسار التَّاريخ الإسلاميّ في السَّنة الهجريَّة، ومن روحانيَّة السيّد المسيح (ع) وانفتاحه على الله وعلى النَّاس في التَّاريخ الميلاديّ، أن نستشعر مسؤوليَّتنا، أن نفرح بإدخال السّرور بعضنا على بعض، وبالتَّعاون فيما بيننا، وأن نفرح بأن نحقّق لحياتنا القوَّة والحريَّة والكرامة والعزَّة والعدالة… فهذا هو الفرح الحقيقيّ والكبير، فالفرح ليس شعوراً غريزيّاً عابراً، بل هو خطَّة عمل ومشروع حياة؛ فرح المسؤوليَّة، وفرح الأهداف الكبرى الَّتي تصنع معنى وجودنا.
سلامُ الأقوياءِ لا الضّعفاء!
وفي رجب أيضاً، الَّذي هو شهر الله الحرام وشهر السَّلام، يريد الله فيه للنَّاس، كما في بقيَّة الأشهر الحرم، أن يعيشوا السَّلام، لأنَّ النَّاس عندما يستغرقون في الحرب، لا يفهمون معنى السَّلام، لأنَّ جوَّ الحرب يبعدهم عن هذا الوعي.
لذلك، الَّذين يأخذون لأنفسهم فرصة أربعة أشهر في السَّنة للسَّلام، يمكن أن يفكّروا في السَّلام فيما بينهم، في أسس السَّلام وقاعدته وآفاقه، لأنَّ السَّلام ليس مجرَّد شيء تبتعد فيه عن الحرب الآن لتخوض حرباً بعد مدَّة. السَّلام ليس خدعة، هناك سلام خدعة، وهناك سلام الواقع، وسلام الخدعة هو السَّلام الَّذي يلوّح لك فيه الأقوياء حتَّى يسقطوا مقاومتك، وحتَّى يسقطوا استعدادك وروحيَّتك، وحتَّى يشغلوك عن أهدافهم. هناك فرق بين سلام الأقوياء وبين سلام الضّعفاء؛ إنَّ السَّلام الَّذي يعطَى للضّعفاء هو سلام الأقوياء الَّذين يريدون أن يحموا أنفسهم بإبعاد الضّعفاء عن ساحة الصّراع، وليس سلام الضّعفاء.
لذلك، عندما نريد أن نفكّر في السَّلام، فإنَّ علينا أن نفكّر فيه بالطَّريقة الَّتي تجعل قضايانا في سلام، وتجعل أهدافنا في سلام، وتجعل أمَّتنا في سلام، وتجعل اقتصادنا في سلام، لا أن تُسقِط حركةَ الحرب بالسّلاح، لتبدأ حرب الاقتصاد وحرب السّياسة وحرب الأمن وحرب الثَّقافة وما إلى ذلك.
*من خطبة الجماعة لسماحته للرّجال، في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 01/01/1993م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التّوبة: 36].
في هذا اليوم، نلتقي بمناسبة رأس السنة الميلاديَّة، ومرور ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين عاماً على ولادة السيّد المسيح (ع)، كما نعيش أجواء شهر رجب الحرام، الَّذي هو واحد من الأشهر الحرم الأربع الَّتي أراد الله فيها للنَّاس أن يعيشوا أجواء السَّلام في العالم، والأشهر هي: ذو القعدة الحرام، وذو الحجَّة الحرام، ومحرَّم الحرام، ورجب الحرام.
أشهر السَّلام
هذه الأشهر الَّتي حرَّم الله فيها القتال. ولم يكن هذا التَّشريع تشريعاً جديداً في الإسلام، بل كان استمراراً للتَّشريع الَّذي سبق الإسلام منذ أيَّام إبراهيم (ع)، ولذلك، كان العرب قبل الإسلام يلتزمون بذلك. وكان مجيء الشَّهر الحرام بمثابة التزام طبيعيّ عفويّ يجعل النَّاس يمتنعون عن الدّخول في أيّ قتال، وأيّاً كانت الظّروف.
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنَّ بعض العرب كانوا إذا أرادوا الدّخول في قتال، أو الاستمرار في قتال، وقد أدركهم الشَّهر الحرام، قاموا بحيلة، وذلك بأن يستبدلوا بشهر محرَّم شهر صفر، ليكون صفر هو الشَّهر الحرام بدل شهر رجب. والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ – والنّسيء من النَّسيئة، يعني التَّأخير، أنسأ الشَّيء إذا أخَّره - يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}[التّوبة: 37]. وقول الله سبحانه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، يعني كفرهم من خلال الشّرك، وكفرهم بتحليل ما حرَّم الله.
هاتان المناسبتان لا بدَّ لنا أن نستوحيهما في حياتنا العامَّة أو الخاصَّة.
لا عقدةَ من أيّ تاريخ
في المناسبة الأولى، وهي مناسبة رأس السنة الميلاديَّة، نلاحظ أنَّ مسألة بداية التَّاريخ تختلف حسب اختلاف الأمم والأديان، فهناك التَّاريخ العبريّ الّذي يعتقد اليهود أنَّه تاريخ بدء الخليقة، وهو ستّة آلاف سنة وكسور، وهناك التَّاريخ الميلاديّ، والّذي يبدأ بميلاد السيّد المسيح (ع)، وهناك التَّاريخ الهجري، وهو التَّاريخ الإسلامي الّذي يرتبط بهجرة النَّبيّ محمَّد (ص) من مكَّة إلى المدينة، وهي بدء انطلاقة الإسلام في العالم وحركته.
ونحن لا نتعقَّد من أيّ تاريخ، لأنَّ الإسلام ينطلق من الآية القرآنيَّة: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285]، فنحن نؤمن بموسى وعيسى وإبراهيم ومحمَّد، عليهم السَّلام جميعاً. فليست عندنا عقدة من عيسى (ع)، ولا من موسى (ع)، ولا من إبراهيم (ع)، فكلّهم أنبياء الله. ونحن عندما نتحدَّث عن رسول الله (ص)، فباعتباره خاتم النبيّين الَّذي ختمت به الرّسالات، فهو يقف في المرحلة الأخيرة من خطّ الرّسالات ومسيرتها.. فإذا انفتحنا على ميلاد السيّد المسيح (ع) في تاريخنا أو في احتفالاتنا، فإنَّ ذلك لا يخرج عن خطّ الانسجام مع التَّاريخ الدّيني.
ونحن نلاحظ أنَّ القرآن الكريم تحدَّث عن ميلاد السيّد المسيح (ع) باعتباره آيةً من الله ورحمةً منه تعالى، كما لم يتحدَّث أيّ كتاب آخر، وتحدَّث أيضاً عن الإنجيل وعمَّا فيه، ورأى أنَّ على أهل الإنجيل أن يحكموا بالإنجيل، وعلى أهل التَّوراة أن يحكموا بالتَّوراة، كما أنَّ على أهل القرآن أن يحكموا بالقرآن، لأنَّها كلّها كتب الله، وإن كانت هناك بعض الاختلافات فيما تنسخ به شريعةٌ شريعةً..
بينَ ميلادٍ وهجرة
ولكنَّنا عندما نريد أن نبدأ سنة جديدة باسم السيّد المسيح (ع)، أو باسم النَّبيّ محمَّد (ص)، فلا بدَّ أن نستوحي الاسم الَّذي انطلق منه التَّاريخ، والحدث الَّذي ابتدأنا التَّاريخ به.
فما معنى أن نبدأ عاماً هجريّاً جديداً من دون أن ننفتح على الهجرة في مدلولها العميق، وفي آفاقها الواسعة ونتائجها البعيدة، ومن دون أن نتأمَّل حركة النَّبيّ (ص) قبلها وبعدها، وتأثيراتها في مسيرة الإسلام وقوَّته؟ إنَّ البدء بالتَّاريخ من نقطةٍ محدَّدة، يعني أن نستحضر تلك النقطة في كلّ عامٍ يعود فيه التَّاريخ إلينا، فنستذكرها لا كتاريخٍ مضى، بل كحركةٍ حيّةٍ تتجدَّد في واقعنا وحياتنا.
إنَّ معنى أن يكون تاريخنا تاريخ الهجرة النبويَّة الشَّريفة، هو أن تكون لنا في كلّ سنة هجرة إسلاميَّة جديدة، من خلال عزَّة الإسلام وحرَّيته وكرامته وانتشاره في العالم، تماماً كما كانت الهجرة النبويَّة الأولى؛ هجرةً تصنع هجرات، وموقفاً يفسح المجال لمواقف، وحركة تنتقل من موقع ضعف إلى موقع قوَّة، لننطلق في واقعنا لنحوّل كلّ موقع ضعف إلى موقع قوّة، لتبقى الهجرة روحاً حيَّةً تتجدَّد في حياتنا وعالمنا.
إنَّ معنى أن ننطلق كمسلمين من تاريخ الهجرة، أنَّ علينا أن نفكّر دائماً، كما أنَّنا كنّا ضعفاء يتخطَّفنا النَّاس في مكَّة، فأصبحنا قوَّة، ودخل النَّاس بعدها في دين الله أفواجاً، فلنحاول إذا ضعفنا أن نستوحي ذاك التَّاريخ، لنتحرَّك في هجرة حركيَّة في الدَّاخل وفي الخارج، من أجل أن نصنع القوَّة الجديدة لأنفسنا.
وهكذا، عندما ننطلق من ميلاد السيّد المسيح (ع) في التَّاريخ الميلاديّ، فإنَّ معنى ذلك، أنَّكم، أيُّها النَّاس، عندما تضعون رقماً جديداً في سنة معيَّنة، فاذكروا أنَّ هذا الرَّقم الجديد يربطكم بالسَّنة الأولى الَّتي ولد فيها السيّد المسيح (ع) الّذي هو عبد الله ونبيّه، والَّذي آتاه الله الكتاب، وكان نافعاً للنَّاس، ومباركاً في حياته، والّذي بذل كلّ طاقته في سبيل الخير، وبذل العلم في سبيل الوعي، وكان الإنسان البارّ بوالدته، وكان مقيم الصَّلاة، ومُؤتي الزكاة، ولم يكن جبّاراً شقيّاً...
أيُّها النَّاس، تذكّروا هذا الإنسان العظيم كلّما انطلقتم في تاريخكم، وتأمَّلوا: هل التّاريخ الَّذي تصنعونه وتعيشونه اليوم ينسجم مع بدايته الَّتي ارتبطت بعيسى (ع)؟ هل فيكم شيء من روحه، من صفائه، من عبوديّته لله؟ وهل تنطلقون في حياتكم على أساس أن تجدّدوا العبوديّة لله كلّما امتدَّ بكم الزّمن، لتستشعروا مسؤوليّتكم أمامه؟ وعندما تتذكَّرون عيسى (ع)، هل تلتزمون بالكتاب الَّذي أنزله الله عليه، كما التزمه هو في طاعته وإيمانه وعطائه؟ هل تعيشون حركتكم في الحياة لتكونوا نفعاً للنَّاس لا لتكونوا ضرراً لهم؟ هل تتحمَّلون مسؤوليَّة رفع مستوى النَّاس في حياتهم وفي تفكيرهم؟ هل تعيشون البرّ بوالديكم وبكلّ ما أراده الله لكم في ممارسة البرّ؟ هل تقيمون الصَّلاة، أيُّها المحتفلون بميلاد عيسى وبسنته؟ هل تؤتون الزكاة؟ هل أنتم بعيدون عن الجبروت والاستكبار؟ هل أنتم ضدَّ الجبابرة، كما أنَّ عيسى كان ضدَّ الجبابرة، هل أنتم ضدَّ الأشقياء، كما كان عيسى ضدَّ الأشقياء...؟
إنَّ التَّاريخ عندما ينفصل عن قاعدته يفقد معناه...فإذا كنتم لا تعيشون روحيَّة عيسى (ع) ولا خطَّه، ولا آفاقه الرّوحيَّة والأخلاقيَّة وخططه العمليَّة في الحياة الَّتي تلتقي بخطط كلّ الأنبياء من قبله ومن بعده، إذا كنتم لا تعيشون ذلك، فما معنى أن تحتفلوا بمولده؟ وما معنى أن تجعلوا تاريخكم منطلقاً من بداية تاريخه؟
التَّاريخُ مسؤوليَّةٌ ووعي
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قيمة الإنسان في الحياة أن يعيش مواقفه والتزاماته بوعيٍ وبصيرة، لا أن ينقاد إليها من غير فهم. فعلى الإنسان أن يدرك بعمق معنى ما يلتزم به، ليكون التزامه نابعاً من وعيٍ وإيمانٍ، لا من تقليدٍ أو عادة.
إنَّ التاريخ ليس مجرّد أرقامٍ تتزايد أو تتناقص، بل هو حركةٌ إنسانيّةٌ حيّة، تفتح عقل الإنسان وقلبه على مسؤوليَّاته في الحاضر والمستقبل. وقد أراد الله لنا أن نتعامل مع التَّاريخ بعين البصيرة، فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2]، فذلك هو تاريخ الأقدمين الَّذي نتعلَّم منه العبرة، أمَّا تاريخكم أنتم، فمسؤوليَّتكم أن تصنعوه بوعيٍ وعملٍ وإيمان، كما قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141].
محاسبةُ النَّفسِ على تاريخِها
ومن هنا، تحدَّث الإسلام كثيراً عن قضيَّة محاسبة النَّفس، لأنّها تعني أن يحاسب الإنسان حركته في تاريخه، فكلّ واحدٍ منَّا يحمل في عمره تاريخاً هو خلاصةُ ما عاشه وما صنعه، فإذا كنت في العشرين من عمرك، فقفْ لحظةً وتأمَّل: كيف كانت هذه السنوات العشرون من حياتك؛
هل كانت طريقاً إلى الخير أم إلى الشَّرّ؟ هل كنت إنساناً صالحاً في مجتمعك أم سبباً في فساده؟
ماذا قدَّمت للحياة؛ هل منحتها عملاً نافعاً وأثراً طيّباً، أم تركت فيها ما هو خبيث وضارّ؟
هل كنت مجرمًا في محيطك؟ أم خائنًا لأمَّتك؟ أم كنت ذاك الإنسان الصَّادق المخلص الَّذي يتحرّك في الحياة من أجل نفع النَّاس أجمعين؟ تلك هي القضيَّة في محاسبة النفس... وكذلك إذا كنت ابن الثَّلاثين أو الأربعين، فكّر ما الَّذي بقي لك من الثَّلاثين أو الأربعين...
إنَّ كلّ سنة تمضي من عمرنا هي قطعة من عمرنا تذهب إلى الأبد. وهنا على الإنسان أن يفكّر، أنَّه عندما ذهب ما ذهب من عمره، هل ذهب تماماً، أم بقي منه شيء له؟ وما بقي، هل هو من حسناته الَّتي بها يقف أمام الله رافعاً رأسه، أم هو من سيّئاته الَّتي يقف بها مطأطئ الرَّأس أمامه؟ ما الَّذي بقي من عمره؟ ما الَّذي قدَّمه؟ إنَّ الآية تصرخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]، لأنَّ الله يريد لنا أن نقدّم أعمالنا بين يدي أعمارنا. ماذا قدَّمنا؟ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمّل: 20]، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
مواجهةُ الأعمالِ يومَ القيامة
أقرأ عليكم بعض الأحاديث في هذا المجال، الَّتي تعطينا فكرة عن طريقة مواجهتنا لأعمالنا من خلال نتائج المصير. هناك حديث يقول: "يُفتَحُ لِلعَبدِ يَومَ القِيامَةِ عَلى كُلِّ يَومٍ مِن أيّامِ عُمرِهِ أربَعَةٌ وعِشرونَ خَزانَةً عَدَدَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ - فما نوعيَّة هذه الخزائن؟ وماذا فيها؟ - فخَزانَةٌ يَجِدُها مَملوءَةً نوراً وسُروراً، فيَنالُهُ عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرورِ ما لَو وُزِّعَ عَلى أهلِ النّارِ لأَدهَشَهُم عَنِ الإحساسِ بِألَمِ النّارِ، وهِيَ السّاعَةُ الّتي أطاعَ فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خَزانَةٌ أخرى، فيَراها مُظلِمَةً مُنتِنَةً مُفزِعَةً، فيَنالُهُ عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَزَعِ والجَزَعِ ما لَو قُسِّمَ عَلى أهلِ الجَنَّةِ لَنَغَّصَ عَلَيهِم نَعيمَها، وهِيَ السّاعَةُ الّتي عَصى فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خَزانَةٌ أخرى، فيَراها فارِغَةً، لَيسَ فيها ما يَسُرُّهُ ولا ما يَسوؤهُ، وهِيَ السّاعَةُ الّتي نامَ فيها أوِ اشتَغَلَ فيها بِشَيءٍ مِن مُباحاتِ الدّنيا، فيَنالُهُ مِنَ الغَبنِ والأسَفِ عَلى فَواتِها ما لا يوصَفُ، ومِن هذا قَولُهُ تَعالى: {ٰذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن}"[التّغابن: 9]، اليوم الَّذي يشعر فيه الإنسان بالغبن، وأنَّه ضيَّع الكثير من الفرص الَّتي لو انتهزها لكان في حال أفضل، أو لم يكن في هذه الحال من السّوء، ما يعني أنَّ كلَّ ساعة من ساعات عمرنا ليست مجرَّد دقائق وثوانٍ نستعجل ذهابها أو نستبطئ مجيئها، ولكنَّها تختزن في داخلها مسؤوليَّتنا، من حيث إنّها تختزن في داخلها مستقبلنا.
يحدّثنا الله عن بعض النَّاس الَّذين يطلبون منه يوم الحساب أن يرجعهم إلى الدّنيا ليتداركوا ما فاتهم، وخصوصًا أهل النَّار الَّذين يتمنّون فرصة أخرى لتصحيح مسارهم، لأنَّ أهل الجنَّة لا يحتاجون إلى ذلك، فهم في نعيم دائم...
ويروى أنَّ بعض العلماء رآه عالم في المنام، فسأله: كيف حالك؟ فأجاب: الحمد لله، أنا في نعيم الله وجنَّته. فسأله: هل تحبّ أن ترجع إلى الدّنيا؟ فقال: لا، إلَّا لقضيَّة واحدة أحبّ أن أرجع لأجلها، وهي قضاء حوائج المؤمنين، فقد رأيت من الثَّواب العظيم على ذلك ما يجعلني أشتاق للعودة إلى الدّنيا، لأعمل هذا الخير، ولأرتفع درجةً عند الله بذلك.
أمَّا أهل النَّار، فلاحظوا كيف يتحدَّث القرآن عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ – سنبدّل، يا ربّ، ونغيّر، ولكنَّ الله يقول لهم - أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم - كم سنة بقيتم في الدّنيا؟ وقد ذكَّرناكم من خلال الأنبياء والرّسل - مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}[فاطر: 37].
مسؤوليّتُنا حيالَ الزّمن
هذه هي مسؤوليَّتنا، أيُّها الأحبَّة، فإيماننا يعني أنَّ للزَّمن مسؤوليَّة في حياتنا، وأنَّ علينا أن نملأ الزّمن بما ينفعنا في آخرتنا.
من الأحاديث الواردة عن الإمام عليَّ (ع): "إِنَّ اللَّيلَ وَالنـَّهارَ يَعْمـَلانِ فيـكَ - لأنَّهما يأخذان من عمرك ومن قوَّتك، فأنت تكون شابّاً، ثمَّ تكون بعد ذلك شيخاً: "مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اَللَّيْلَ وَاَلنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً"، كما يقول الإمام عليّ (ع) - فَاعْمَلْ فيهِما - فإذا أذاك أحدهم، ألا تردُّ عليه؟ فكما يعمل اللَّيل والنَّهار فيك، اعمل فيهما - وَيَأخُذانِ مِنْكَ، فَخُذْ مِنْهُما"، يأخذان منك قوَّتك، ويأخذان منك شبابك، فخذ منهما عملك، وخذ منهما ما يرفع درجتك عند ربّك، وخذ منهما ما يجعل لك القوَّة في دنياك وآخرتك.
وعن رسول الله (ص): "بَادِرْ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ أَرْبَعٍ؛ بِشَبَابِكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَمَاتِكَ". فهذه الأمور تمثّل رصيداً لك، وتمثّل إمكاناتك.. إنَّ الشَّباب طاقة، والصحَّة طاقة، والحياة طاقة، والغنى طاقة، وأنت تستطيع أن تحرّك هذه الطَّاقات في سبيل أن تنتج منها طاقةً لدنياك وآخرتك. بادر، لأنّها لن تنتظرك، لن ينتظرك شبابك إذا أردت أن تقضي وقتك في البطالة، لأنَّ لعمرك حدّاً محدوداً، ولن تنتظرك صحَّتك، ولن ينتظرك مالك الَّذي تستهلكه، ولن تنتظرك حياتك {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34].
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الإحساس بالزَّمن، إنَّ هناك من النَّاس من سهروا بالأمس إلى ما بعد نصف اللَّيل احتفالاً برأس السَّنة، ولكن علينا أن نحتفل برأس السَّنة بين يدي الله سبحانه وتعالى، حتَّى نحتفل احتفالاً واعياً يفتح عقولنا وقلوبنا، وحياتنا على المسؤوليَّة، لأنَّ هذه الاحتفالات الَّتي اعتادها النَّاس في العالم، هي احتفالات تغلق القلوب عن الله، وتغلق الحياة عن المسؤوليَّة، وتغلق العقول عن وعي الأخطار...
إنَّ الله يحدّثنا أنّه يسأل النَّاس في يوم القيامة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِين * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 112 - 113]. لماذا يقولون يوماً أو بعض يوم؟ لأنَّ الزَّمن كان يمرّ عليهم من دون أن يشعروا بأنَّه العمر الَّذي يمثّل مسؤوليَّتهم.
عندما يكون لديك رأس مال ولا تتاجر به أو تشغّله، فإنَّه يوماً بعد يوم سينفد دون أن تشعر بذلك، حتّى لو كنت تملك الملايين، وكذلك العمر، فإذا لم تحسن توظيفه فيما ينفعك، فستخسر كلّ شيء في نهاية الأمر، والإمام عليّ (ع) يقول: "مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!".
لذلك عندما يقولون: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}، يأتي الرّدّ من الله سبحانه وتعالى في هذا المجال: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا - لأنَّه مهما طال العمر فسيفنى - لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون: 114].
ثم َّبعد ذلك يقول الله لهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، لقد كنتم تسيرون في الحياة في سلبيَّة، وفي غفلة ولا مبالاة؛ تخوضون، وتلعبون، وتعملون ما تشاؤون، كانت الحياة بالنّسبة إليكم فرصةً للّهو واللَّغو والعبث وعدم المسؤوليَّة. ألأجل ذلك خلقكم الله؟ بل إنَّ الله خلقكم وجعل لخلقكم برنامجاً؛ لكم بداية، ولكم نهاية في الدّنيا، ولكم نهاية النّهاية في الحياة {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64].
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا – فلم تستعدّوا ولم تعملوا ولم تتحمَّلوا مسؤوليَّاتكم - وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115]. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 16 - 18]. فالله خلق السَّماوات والأرض على أساس الحقّ {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الدّخان: 39]، ويريد للإنسان أن ينسجم مع الحقّ.
التَّخطيطُ لعمرِنا
أيُّها الأحبَّة، إنَّ حياتنا تستحقُّ أن نفكّر فيها، وإنَّ آخرتنا تستحقُّ أن نفكّر فيها، لأنَّ المسألة هي أنَّنا قد نعيش في سكرة ونحن غافلون، ونستفيق على صراخ في كلّ المصير {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: 19 - 22].
لذلك، الفكرة الّتي أحبّها لنفسي وأحبّها لكم، أنَّنا عندما ننطلق مع النّهايات ومع البدايات؛ مع نهاية يوم وبداية يوم، نهاية أسبوع وبداية أسبوع، نهاية شهر وبداية شهر، نهاية سنة وبداية سنة... عندما ننطلق، علينا أن نعمل دائماً حساباً لما مضى، وتخطيطاً لما يُستقبل، أي أن يكون إحساسنا بالزَّمن واعياً. ماذا لو كان الزَّمن في حياة كلّ منَّا إنساناً يحرسك ويراقبك؟ إذا كان الصَّباح شاهداً عليك في محكمة ما على ما فعلت، وإذا كان المساء شاهداً عليك في محكمة ما على ما عملت، فهل تتعامل مع الصَّباح بلا مبالاة؟ وهل تتعامل مع اللَّيل بلا مبالاة؟ فكّروا. لا تستغرقوا في سماع ما أقول، ولكن استغرقوا في التَّفكير في ذلك.
إنَّ الإمام زين العابدين (ع) يحدّثنا في دعاء الصَّباح والمساء، أنَّ الله يجعل الزَّمن شاهداً علينا: "اللَّهُمَّ وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ - كيف يشهد علينا؟ - إِنْ أَحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْدٍ - وصل معنا حتّى الباب وسلَّم علينا - وَإِنْ أَسَأْنَا فَارَقَنَا بِذَنْبٍ - أدار ظهره ومشى. لاحظوا، توديع فيه إكرام، ومفارقة فيها إهانة - اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ، وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوءِ مُفَارَقَتِهِ، بِارْتِكَابِ جَرِيرَةٍ، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ".
وهكذا تمتدّ الطَّلبات؛ أن يملأه الله بالحسنات، وأن يخليه من السيّئات، وأن يحفظه حفظاً عاصماً من معصيته، إلى أن يجيء البرنامج اليوميّ، وهو برنامج الحياة لكلّ مسلم، حتَّى يكون يومك يوماً مسلماً، وحتَّى يكون شهرك شهراً مسلماً، وحتَّى تكون سنتك سنة مسلمة، لتكون هناك عناوين تحكم حركتك في الحياة: "اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا وَلَيْلَتِنَا هَذِهِ - ولنا أن نقول: في سنتنا هذه - لِاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وَهِجْرَانِ الشَّرِّ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدَعِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحِيَاطَةِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِقَاصِ الْبَاطِلِ وَإِذْلَالِهِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ، وَإِرْشَادِ الضَّالِّ، وَمُعَاوَنَةِ الضَّعِيفِ، وَإِدْرَاكِ اللَّهِيفِ".
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، أنَّه لا بدَّ أن يكون لنا برنامج نخطّطه في حركة عمرنا، بحيث نوزّع أعمالنا على كلّ هذه العناوين، حتَّى لا ننطلق في حياتنا من دون هدى ومن دون وعي.
أنت لا بدَّ أن تقول في كلّ يوم: هل استعملت حياتي في الحقّ؟ هل هجرت الشّرّ؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المنكر؟ هل سرت على السُّنَّة؟ هل اجتنبت البدعة؟ هل انتقصت الباطل وأذللته؟ هل نصرت الحقَّ وأعززته؟ هل أحطت الإسلام؟ هل أرشدت الضَّالّ؟ هل أعنت الضَّعيف؟ هل أدركت اللَّهيف؟ هذه عناوين حركة الإنسان على مستوى العلاقات الفرديَّة والاجتماعيَّة، وعلى مستوى النَّشاط الخاصّ والنَّشاط العامّ. فحتَّى تكون مسلماً، لا بدَّ أن يكون لك برنامج إسلاميّ تنفتح فيه على كلّ ما تملكه من طاقات...
والله يحكي لنا عن الدّنيا في سورة الحديد، فيقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ - اللّعب واللَّهو في حياة الإنسان عندما يكون طفلاً – وَزِينَةٌ – عندما يصبح الإنسان شابّاً، تراه يعتني بشكله وهندامه - وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ - هذا يتفاخر بماله، وذاك يتفاخر بأولاده، إلى ما هناك من حالات التَّفاخر. هذه هي الحياة الدّنيا بحسب طبيعتها.
فإذا أردت أن تفهم عمرك وتفهم دنياك، فتطلَّع إلى النَّبات - كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ - والمراد بالكفَّار هنا الزرَّاع، فالفلَّاح يقال له كافر، ليس من الكفر بالله، بل الكفر بمعنى السّتر، لأنَّه يستر البذرة. وهذه تلاحظونها مثلاً في أسماء القرى عندنا في جبل عامل، كما في: كفردونين، كفركلا، كفرفيلا، كفرملكي... فالكَفَر هنا يعني مزرعة، أي أرض فلاحة، باعتبار أنَّ الفلَّاح يستر البذرة في داخل الأرض. والكافر إنّما سمّي كافراً لأنَّه يستر الحقّ ولا يظهره ولا يعلنه.. فالأمر في الإنسان كمثل هذا النَّبات الَّذي زرعه الفلّاحون واستأنسوا به - ثُمَّ يَهِيجُ - تصيبه الحرارة والاشتعال، وتجفّ فيه الرّطوبة - فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا – بحيث تنقلب الخضرة إلى اصفرار، ثمَّ يزيد الاصفرار- ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا - فيتفتَّت ويتحوَّل إلى تراب.
هكذا الإنسان أيضاً؛ تراه ينمو، ويعجب به الأبوان والنَّاس، ويقولون ما أجمل هذا الطّفل! ما ألطف حركاته! ثمَّ بعد ذلك يزداد الإعجاب به عندما يصير شابّاً في اخضرار الشَّباب ونضارته، ثمَّ تأتي الكهولة، وتظهر عليه علامات الشَّيب والتَّجاعيد، ومرض من هنا ومرض من هناك، ثمَّ يزحف إليه الضّعف، ويصير في الستّين والسَّبعين، ثمَّ يصير حطاماً، فينزل إلى القبر، ويتحوَّل إلى تراب. ولذلك نقول: "وارْحَمْنِي عِنْدَ تَغَيُّرِ صُورَتِي وحَالِي إِذَا بَلِيَ جِسْمِي، وتَفَرَّقَتْ أَعْضَائِي، وتَقَطَّعَتْ أَوْصَالِي، يَا غَفْلَتِي عَمَّا يُرَادُ بِي!". أليست المسألة كذلك؟
فالله يقول للنَّاس إنَّ دنياكم الَّتي تشغلون أنفسكم بها، هي لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، وبعد ذلك ماذا هناك؟ هناك الموت، تماماً كما هو الزَّرع يتحوَّل حطاماً.
ثمَّ يأتي وقت الحساب - وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ - من جهة - وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ - فاختر لنفسك أيّهما تريد؛ هل تريد الدّنيا بكلّ ما فيها من لهو وزينة وتفاخر، والّتي ستتحوَّل في النّهاية إلى حطام ولا يبقى منها شيء، لينتظرك في الآخرة عذاب شديد مما ينطلق من الجانب السَّلبيّ في إدارة حياتك، أم أنَّك تريد الآخرة الّتي فيها مغفرة من الله ورضوان، والّتي تنطلق في الجانب الإيجابيّ من إدارة حياتك - وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد: 20]، لأنّها تفنى، ولأنَّها تخدع الإنسان، ولا تعطيه أيَّ شيء ثابت في نهاية المطاف.
هذه هي المفاهيم القرآنيَّة الَّتي تتحرَّك في هذا الاتجاه.
الفرحُ المسؤول
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا – ونحن ما زلنا في رأس السَّنة، وعلينا أن نعمل على أن نضع تخطيطاً للسَّنة القادمة - لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون: 9].
أنت مسؤولٌ عن مالك، لكن اذكر الله في حركة مالك، حتَّى يكون مالك في خطّ الله.. أنت مسؤول عن وُلدك، ولكن اذكر الله عندما ترزق الولد، واذكر الله عندما تنفتح على ولدك وعلى مسؤوليَّتك {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]. تلك هي المسألة في كلّ حياتنا.
وعلى هذا الأساس، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نواجه سنة تمضي وسنة تأتي.. لا مانع من أن نعيش الفرح، لأنَّ الله أبقانا وقد أخذ غيرنا، كما يرد في دعاء الإمام زين العابدين (ع) يوم الأربعاء، عندما يستفيق الإنسان من النَّوم، فيقول: "لَكَ الْحَمْدُ أَنْ بَعَثْتَنِي مِنْ مَرْقَدِي، وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَداً"، فلمجرَّد أن يفتح الإنسان عينيه، يقول: الحمد لله أنا حيّ، أبصر وأسمع وأحيا، وهذه نعمة جديدة من نعم الله عليَّ، فهناك من ناموا وكانت نومتهم أبديّة.
احتفل بالسَّنة الجديدة كما تحتفل باليوم الجديد بحمد الله، افرح لأنَّ الله أنعم عليك بالحياة بعد أن كان من الممكن أن تموت وأنت في المنام، وإنَّكم، كما يقول النَّبيّ (ص) فيما يروى عنه: "لتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتَبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ".
علينا أن نعيش هذا الجوّ، أن لا نستسلم للغفلة الَّتي يريد النَّاس فيها أن يبعدونا عن وعينا، أن لا نستسلم لأجواء اللَّهو الَّتي يراد لنا أن نستهلك فيها عمرنا. إنَّ الله لم يحرّم لهواً، ولكنّه يريدنا أن لا نستغرق فيه، وأن لا ننطلق فيما حرَّمه منه، لأنَّ هناك لهواً حراماً وهناك لهو حلال، وللإنسان أن يأخذ باللَّهو الحلال بطريقة متوازنة.
وهكذا، إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من الفرح، بل إنَّه يريد منَّا أن نفرح من خلال ما يعطينا من فضل ورحمة؛ أن نعيش الفرح في عمل الخير، والفرح بنعم الله وعفوه ومغفرته والقرب منه... فأيّ فرح أعظم من هذا الفرح الَّذي يقبل فيه الإنسان على السَّعادة في الدّنيا والآخرة؛ يقبل على الجنَّة، وعلى هذا الاستقبال الَّذي يُستقبل به يوم القيامة؟ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصّلت: 30 - 32].
هذا هو الفرح الَّذي لا حزن بعده، وكلّ فرح يحمل في داخله سخط الله، فلا ريب أنّه يختزن الحزن الكبير؛ حزن الدّنيا وحزن الآخرة، لأنَّ الإنسان عندما ينفتح على ربّه، ينفتح على السَّعادة كلّها في الدّنيا قبل الآخرة. إنَّ الَّذين يعيشون مع الله لا ييأسون، ولا يحزنون، ولا يجزعون، ويعرفون كيف يديرون الأمور وكيف يفهمونها.
لذلك، ليكن احتفالنا بكلّ سنة جديدة استيحاءً من القاعدة الَّتي انطلقت فيها السَّنة وانطلق فيها التَّاريخ؛ من هجرة النبيّ (ص) وحركته الَّتي أطلقت مسار التَّاريخ الإسلاميّ في السَّنة الهجريَّة، ومن روحانيَّة السيّد المسيح (ع) وانفتاحه على الله وعلى النَّاس في التَّاريخ الميلاديّ، أن نستشعر مسؤوليَّتنا، أن نفرح بإدخال السّرور بعضنا على بعض، وبالتَّعاون فيما بيننا، وأن نفرح بأن نحقّق لحياتنا القوَّة والحريَّة والكرامة والعزَّة والعدالة… فهذا هو الفرح الحقيقيّ والكبير، فالفرح ليس شعوراً غريزيّاً عابراً، بل هو خطَّة عمل ومشروع حياة؛ فرح المسؤوليَّة، وفرح الأهداف الكبرى الَّتي تصنع معنى وجودنا.
سلامُ الأقوياءِ لا الضّعفاء!
وفي رجب أيضاً، الَّذي هو شهر الله الحرام وشهر السَّلام، يريد الله فيه للنَّاس، كما في بقيَّة الأشهر الحرم، أن يعيشوا السَّلام، لأنَّ النَّاس عندما يستغرقون في الحرب، لا يفهمون معنى السَّلام، لأنَّ جوَّ الحرب يبعدهم عن هذا الوعي.
لذلك، الَّذين يأخذون لأنفسهم فرصة أربعة أشهر في السَّنة للسَّلام، يمكن أن يفكّروا في السَّلام فيما بينهم، في أسس السَّلام وقاعدته وآفاقه، لأنَّ السَّلام ليس مجرَّد شيء تبتعد فيه عن الحرب الآن لتخوض حرباً بعد مدَّة. السَّلام ليس خدعة، هناك سلام خدعة، وهناك سلام الواقع، وسلام الخدعة هو السَّلام الَّذي يلوّح لك فيه الأقوياء حتَّى يسقطوا مقاومتك، وحتَّى يسقطوا استعدادك وروحيَّتك، وحتَّى يشغلوك عن أهدافهم. هناك فرق بين سلام الأقوياء وبين سلام الضّعفاء؛ إنَّ السَّلام الَّذي يعطَى للضّعفاء هو سلام الأقوياء الَّذين يريدون أن يحموا أنفسهم بإبعاد الضّعفاء عن ساحة الصّراع، وليس سلام الضّعفاء.
لذلك، عندما نريد أن نفكّر في السَّلام، فإنَّ علينا أن نفكّر فيه بالطَّريقة الَّتي تجعل قضايانا في سلام، وتجعل أهدافنا في سلام، وتجعل أمَّتنا في سلام، وتجعل اقتصادنا في سلام، لا أن تُسقِط حركةَ الحرب بالسّلاح، لتبدأ حرب الاقتصاد وحرب السّياسة وحرب الأمن وحرب الثَّقافة وما إلى ذلك.
*من خطبة الجماعة لسماحته للرّجال، في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 01/01/1993م.