الإمام السجّاد... حركة وانطلاقة

الإمام السجّاد... حركة وانطلاقة

الإمام السجّاد... حركة وانطلاقة(*)
في هذه الأيام، مرَّت علينا ذكرى وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر محرَّم، ونحن بحاجة دائماً إلى أن نعيش في أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم كانوا يحيون حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهم الأدلاّء على الإسلام المخلصون له، الذين كانت حياتهم تجسيداً للإسلام وتضحية في سبيله، وكانوا يهتدون بهدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويعيشون مع الناس من أجل أن يحدِّدوا لهم خطّ السير على ما أخذوه من جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويدفعون بهم إلى أن يرتفعوا إلى المستوى الأعلى الذي أراد الله للنّاس من خلال رسوله أن يرتفعوا إليه.
التشيُّع خط أصيل في الإسلام
علينا أن لا نفصل بين الأئمّة(1) (عليهم السلام) وبين خطّ رسول الله، أن لا نعتقد أنّ هناك شيئاً يُسمّى التشيُّع، وأنّ هناك شيئاً يسمّى الإسلام، ليس هناك إلاّ الإسلام، ولا شيء غيره، فإنَّ الله أرادنا أن نكون المسلمين، وأن نسمّي أنفسنا بالمسلمين بلا زيادة ولا نقيصة، حتّى ونحن نلتزم بولاية أهل البيت (عليهم السلام) فإنّنا لا نلتزم بها كشيء زائد على الإسلام، بل نلتزم بها من خلال أنّها خطّ إسلامي، لأنَّ الله أرادنا أن نلتزم بهم بقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] وفي كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "إنّي مخلف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(1)، "مثلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح مَن رَكِبَ فيها نجا ومَنْ تخلَّف عنها غرق وهوى"(2)، فنحن مسلمون فقط، ولسنا شيئاً غير الإسلام، حتّى التشيُّع نفهمه على أساس أنّه خطّ في قلب الإسلام، وفي عمقه، وليس شيئاً خارجاً عنه. وعندما نلتزم هذا الخطّ الإسلامي، فإنّنا ننفتح على كلّ المسلمين، لأنَّ الله أرادنا أن ننفتح على كلّ المسلمين، ولأنّ أهل البيت (عليهم السلام) في ما كانوا يستلهمونه من كلام الله وسُنّة نبيّه، أرادونا أن نكون كذلك، وأنْ نتحرّك في سبيل ذلك.
إنّنا نحتاج إلى أن نعي أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كما نحتاج إلى أن نعيش أجواء الإسلام في روحانيّته، وأجواء الإسلام في أخلاقيّته، وأجواء الإسلام في كلّ شريعته وأحكامه ومناهجه. فإذا أخذنا بهديهم وتعاليمهم ونصائحهم؛ فقد أخذنا بهدي الإسلام وتعاليمه ونصائحه.
الإسلام قاعدة ارتباطنا بالأئمّة
إنّنا نحبّ أئمّة أهل البيت ونواليهم على أساس الإسلام، حتّى إنَّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال لبعض أصحابه "أَحِبُّونا حبَّ الإسلام"، لا تحبّونا كما يحبّ بعضكم بعضاً من ناحية عاطفية، ومن ناحية ذاتية، نحن نمثّل خطّ الإسلام في حياتنا فارتبطوا بنا من خلال خطّ الإسلام الذي نمثّله، ليكون ارتباطكم بنا ارتباطاً بالإسلام، وليكون حبّكم لنا حبّاً للإسلام، ولهذا ليس شيعياً مَن تَنَكَّر للإسلام، وليس شيعياً من انتمى إلى خطّ غير خطّ الإسلام، وليس شيعيّاً من انتمى إلى أعداء الإسلام، وعاون أعداء الإسلام، وليس شيعياً من انفتح في الحياة على غير خطّ الله وخطّ رسوله.
مَن يقول إنَّنا نحبّ عليّاً ونتولاَّه، ونحبّ الحسين ونتولاّه، ونحبّ الأئمّة ونتولاّهم، ثمّ نبتعد عن خطّهم وعن شرعهم وعن حلالهم وعن حرامهم؛ نشرب الخمر ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نلعب القمار ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نتجسَّس للأعداء ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نقاتل المسلمين والمؤمنين لمصلحة الكافرين والمستكبرين ونحبّ عليّ بن أبي طالب. إنَّ عليّ بن أبي طالب يرفضكم ويحاربكم بسيفه، كما حارَبَ الذين رفضوا الخطّ المستقيم وهم مسلمون.
كيف نفهم التشيُّع
عليُّ بن أبي طالب قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1)، لأنّه كان لا يُصادِق على حساب الحقّ، وإنّما كانت صداقته لحساب الحقّ، لا على حسابه. وكان ضدّ الباطل في كلّ مجالاته، كانت صداقته وعداوته على هذا الأساس. قال له عمرو بن عبد ودّ وهما في ساحة القتال والمبارزة، وكلّ منهما يريد أن يواجه الآخر، قال له "إنّي لا أحبّ أنْ أقتلك لأنَّ أباكَ كان صديقاً لي"، قال عليّ (عليه السلام): "وأنا أُحبّ أن أقتلك لأنّك عدوّ الله". ما قيمة أبي، وما قيمة كلّ الناس أمام قضية الله. إنّي أُعاديك وأُقاتلك لأنّك تقف حاجزاً بين الإسلام وبين أن ينطلق. كن صديقاً لأبي، كن صديقاً لعمّي، كن صديقاً لكلّ عشيرتي، ولكن ما دمت عدوّاً لله فأنتَ عدوّي. القصّة هي هذه.
هل نفهم التشيُّع على هذا الأساس أيُّها الإخوة، أم أنَّنا حوَّلنا التشيّع إلى حالة عاطفية عصبية ليست مفتوحة على الإسلام كلّه، وليست مفتوحة على التقوى كلّها، وليست مفتوحة على حلال الله وحرامه؟
التشيُّع خطّ في الإسلام؛ أن نحلَّ ما أحَلَّ الله، وأنْ نحرِّمَ ما حرَّم الله، هل تعتبرون الحسين (عليه السلام) شيعيّاً وهو القائل: "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي أُريد أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، والمعروف كلّ ما حمَّلنا الله مسؤوليّته، والمنكر هو كلّ ما أرادنا الله أن نبتعد عنه، تلك هي القضية؛ حبّ الله.. حبّ رسول الله.. حبّ عليّ.. حبّ الأئمّة.. حبّ الصالحين وحبّ العمل، وحبّ الخط:
تعصي الإله وأنتَ تُظْهِر حبّه هذا لَعَمْرُكَ في الفِعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعته إنَّ المحبّ لِمَنْ أحبَّ مُطيعُ
هذا هو الخطّ، خطّ الحبّ، الحبّ ليس العاطفة ولكن الحبّ الموقف.
أبعاد أساسية في شخصية الإمام السجَّاد (عليه السلام)
ونحن عندما نستذكر ذكرى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فنحن نستقبل هذه الحياة المتعدّدة الأجواء، والمتعدّدة الجوانب، لأنّنا نرى هناك حياة يتحرّك فيها الإمام ليملأ الحياة الإسلامية علماً، وعندما ندرس الذين أخذوا العلم عنه فإنَّنا نرى أنّه استطاع أن يعلّم أساتذة العالَم الإسلامي آنذاك وليسوا كلّهم شيعة، ومع ذلك كان الإمام يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشية، ومن ورعه ورعاً، وكانوا يقولون بصوتٍ واحد: ليس هناك شخص في المسلمين أشدّ وَرَعاً وفضلاً من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كانوا يقولون ذلك بشكلٍ عفوي، وكانت مكانته التي انطلقت في هذا الخطّ وفي كلّ الخطوط، تعيش في قلوب الناس بشكلٍ عفوي طبيعي، كان الناس يعيشون هناك في ظلال الحكم الأموي، وكانت مصالحهم مع بني أُميّة، وكانوا يجاملونهم، ولكن كان عمق إخلاصهم ومحبّتهم للإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهذا هو الفرق بين أن تدخل أعماق الناس من خلال استقامتك، وبين أن تدخل حياة الناس من خلال سيفك، أو من خلال سلطتك.
أنتم تسمعون دائماً تلك القصّة عندما كان هشام بن عبد الملك وهو ولي العهد للخلافة آنذاك، كان أبوه هو الحاكم، وكان يستعدُّ بعد أبيه ليحكم المسلمين، وكان الفرزدق الشاعر يمدحهم ليحصل على جوائزهم، وجاء هشام بن عبد الملك ليحجّ بيت الله الحرام، جاء ليطوف وكان المطاف مزدحماً بالناس فلم يمكّنوه من أن يطوف براحة وهو على كرسي، ثمّ أقبل رجل عليه سيماء الصالحين، ناحلاً من شدّة العبادة، جاء وليس معه حرس، وليس معه أحد، وأقبل على الطواف وحدَّق الناس به، وانفرجوا له بشكل طبيعي، واستطاع أن يطوف بكلّ راحة، وهنا تعجَّبَ مَن كان مع هشام؛ مَن هذا؟ قالوا له لقد بذلنا الجهد لكي تطوف، لم نستطع أن نفسح لك، مَن هذا الذي جاء وافسح الناس له من دون أيّة مشكلة، قال لا أعرفه. وكان الفرزدق واقفاً وقد أغضبه هذا التجاهل، قال لذلك الشامي: أنا أعرفه، أتعرف مَن هذا؟
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه والبيتُ يعرفه والحِلّ والحَرَمُ
وليس قولك من هذا بضائره العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرْتَ والعَجَمُ
إذا رَأَتْهُ قُريشٌ قال قائلُها إلى مكارمِ هذا ينتهي الكَرَمُ
إلى آخر القصيدة
كيف كانت حياة هذا الإنسان مع الناس حتّى استطاع أن يعيش مع الناس ويحصل على هذه الهيبة التي جاء الحديث فيها "مَن أراد عِزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(1). هذا الإنسان العظيم كيف كان سلوكه مع الناس؟ كان يعيش مع الناس من الموقع الإسلامي البسيط، ينفتح على الناس كلّهم، يعفو عن مسيئهم، ويعطي فقيرهم، ويهدي ضالهم، ويعلم جاهلهم، ولا يمنّن أحداً بشيء. كان إذا سافر لا يسافر مع قوم يعرفونه، بل يسافر مع قوم يجهلونه، حتّى كان يكلّف بما يكلّف به كلّ أهل القافلة، ورُوي أنّه سافر سفرة مع قوم لا يعرفونه وأوكلوا إليه بعض المهمّات، واندفع إليها بكلّ إخلاص، وجاءت قافلة من طريقٍ آخر، وبدرت التفاتة من بعضهم، فشاهَدَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) يجمع الحطب، فجاء إلى أصحاب القافلة الذين كان الإمام معهم، وقال لهم أتعرفون مَن هذا؟ قالوا رجل من أهل المدينة لا نعرفه. قال لهم هذا عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وكانوا قد سمعوا عنه ولم يعرفوا شخصيّته جاؤوا يهرعون إليه. قالوا له يا بن رسول الله هل تريد أن تصلينا نار جهنّم، ربّما بدرت من بعضنا إليك بادرة من يد أو من لسان، فأسأنا إليك من حيث لا نعرف، لماذا لم تعرِّفنا بنفسك؟ قال لهم: "أكره أن آخذ برسول الله ما لا أُعطي مثله"(1) صحيح أنّي ابن رسول الله، ابن بنت رسول الله، ولكن، إنّي أحبّ أن أنظر إلى النسب لا على أساس أنّه يحقّق لي امتيازاً، بل على أساس أنّه يحمّلني مسؤولية، وإذا كان الناس يعطونني باسم رسول الله من خلال قرابتي تكريماً واحتراماً وتعظيماً وغير ذلك، فلا بدّ من أن أقدِّم إلى الناس من نفسي شيئاً في مستوى ما يعطيني الناس في مستوى انتسابي لرسول الله. إذا كنتُ أنتسب إلى رسول الله، فقد كان رسول الله داعية لدين الله، وكان يخدم الناس، وكان يحقّق للنّاس ما يستطيع أن يحقّقه. إنّي أُريد أن أعيش مع الناس لأعطيهم من جهدي ما يكون في مستوى ما يعطيني الناس من تكريم. تلك كانت أخلاقه العملية.. فأين هو الفرق بيننا وبينه، الفرق بيننا في ما نحصل عليه من امتيازات. بعضنا إذا انتسب إلى رسول الله وحمل شجرة النسب بيديه، أراد للنّاس أن يحملوه على ظهورهم، أن يقدِّروه، أن يحترموه، أن يكون البطَّال وهم يشتغلون له، أن يكون المنحرف وهم يستقيمون.
العمل والنسب في ميزان الدين
المسألة أنّ رسول الله لم يبعثه الله ليحمل أقاربه على ظهور الناس وعلى أعناقهم. "إنَّ ولي محمّد مَن أطاع الله وإنْ بَعُدَتْ لحمته، وإنّ عدوّ محمّد مَن عَصَى الله وإن قربت قرابته"(2) المسألة هي هذه. قال له أحد أصحابه وقد رآه ساجداً يبكي في الكعبة، وهو يقول سيّدي "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك" ويبكي بين يديّ الله من خشية الله ويقول "ويلي إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمَعَ المستخفين أجوز أم مع المثقلين أحط، ويلي كلّما كَبُرَ عمري كثرت خطاياي، أَمَا آنَ لي أن أستحي من ربّي" وتنهمر دموعه، ويقول له أحدهم سيّدي جدّك رسول الله، جدّك عليّ بن أبي طالب، جدّتك الزهراء، عمّك الحسن، أبوك الحسين، ماذا نقول نحن؟ إذا كنتَ أنت تقول ذلك، تبكي وتعيش هذه الحالة الصعبة في بكائك ـــ وهذا موجَّه لكلّ الذين يعلون بنسبهم وبعشائرهم ـــ "دع عنك ذكر أبي وأُمّي وجدّي، خَلَقَ الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً"(1) هذا هو الخطّ.
في يوم القيامة ليس هناك أنساب {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101] ليس هناك نَسَب، هناك عمل. إنَّ الله لم يقل قدّروا أنسابكم ولكنّه قال {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105]. وروي عن رسول الله أنّه قال: "أيُّها الناس، لا يتمنّ متمنٍّ لي، ولا يدَّع مدَّع، أمّا إنّه ليس بين الله وبين أحد من خلق شيء يعطيه به خيراً، أو يدفع به عنه شرّاً، إلاّ العمل، ولو عصيت لهويت"(2). هذا هو الخطّ، قال الله لرسوله {... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47] رسول الله يقول له الله ذلك، وأنتَ الذي تتنسب إلى رسول الله، تعصي وتخون وتعمل ما تعمل، وتريد أن يجعلك الله في دار قدسه، لقد أنزل الله في أبي لهب عمّ رسول الله سورة، وقال رسول الله "سلمان منّا أهل البيت"(3).
نماذج من أخلاق السجّاد (عليه السلام)
هذا هو الخطّ الذي أراد الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن يؤكّده، كانت أخلاقه العملية أخلاق المسلم الذي يريد أن يعطي الناس درساً بعمله، قبل أن يعطيهم درساً بكلامه. كان يتعرَّض لكثير من الحالات الصعبة التي قد لا يتحمّلها الكثيرون منّا، كأن يشتم من قبل بعض أرحامه وعلى ملأ من الناس. مرَّ عليه شخص من أقاربه وشتمه وذهب، وهو جالس بين أصحابه، فَوَثَبَ القوم ليضربوه فأومأ إليهم ثمّ قال ما مضمونه، اذهبوا بنا لنصفّي حساباتنا مع فلان، فظنُّوا أنّه يأخذهم حتّى يستعين بهم عليه، سار وساروا خلفه، وكان يقرأ قول الله {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] كان يريد أن يعطيهم درساً في كيفيّة كظم غيظهم، والعفو عن الناس، وكان يريد أن يعطي للمعتدي درساً آخر، كيف يكون عباد الله وأولياؤه في المستوى الأعلى الذي يرتفعون فيه عن أحقادهم، وعن غيظهم، فَطَرَقَ الباب، خَرَجَ الرجل الذي سبَّه وهو متوثّب للشرّ، قال له على مهلك، إنّك قلتَ فيَّ كلاماً، فإنْ كان ما قلته فيّ، فأسأل الله أن يغفر لي، وإنْ كان ما قلته ليس فيَّ فأسأل الله أن يغفر لك؛ فقط أُريد أن أحكي لكَ هذا وأنا ماضٍ، فالتفت هذا الرجل وقد فوجئ لأنّه عرف أنّ الإمام لا يتكلّم من موقع ضعف، وإنّما يتكلّم من موقع قوّة، لأنّه كان قادراً أن يقول لأصحابه ألحقوا الأذى له. عند ذلك قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"(1) ما قلته ليس فيك، ولكن أسأل الله أن يغفر لي. وهكذا كان يعيش هذا المستوى من الأخلاق.
ما هي مشاعر عليّ بن الحسين سلام الله عليه مع بني أُميّة؟ كيف تتصوَّرونه؟ هل يمكن أن يكون في قلبه ذرّة من أيّ تعاطف نحوهم. أنتم ونحن وكلّ الناس، لو أنَّ شخصاً قتل أخاك أو ولدك أو قريبك خطأ، وأنتَ تعرف أنّه خطأ، تقول: "لا تفرجوني" عليه، لا أُطيق أن أراه، صحيح أنّ الرجل ليس مذنباً لكن لا أُطيق أن أراه. هكذا نتصرّف، إذاً كيف بنا بهذا الإنسان الذي وَجَدَ أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء، وقد قطِّعت رؤوسهم، وقد سبي ورُبِّط بالحبال على الناقة، وكانت معه أخواته وعمّاته وكلّ نساء أبيه من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام. كيف تكون مشاعره؟
لاحظوا بعد وقعة كربلاء ثارت المدينة على يزيد، وأعلنت الثورة والعصيان المدني، وكان مروان بن الحكم في ما تقول السيرة الحسينيّة، من الأشخاص الذين لهم عائلة تقدَّر بأربعمئة شخص من أولاده وأحفاده ونسائه وما إلى ذلك، عرض نفسه على كثير من وجوه أهل المدينة عبد الله بن عمر وغيره على أن يجيروا عائلته، لأنَّ المدينة كلّها ثارت عليه وعلى جماعته. وفي هذا الجوّ يهاجم الثوّار بدون وعي؛ يضربون ويقتلون لاسيّما إذا كانت هذه الجماعة قد ارتكبت أعمالاً سيّئة. عَرَضَ نفسه على وجوه أهل المدينة فلم يقبل أحد أن يجيره، وجاء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) وذكر له حاله فقال له "ضع عيالك إلى عيالي". وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يطعمهم ممّا يطعم به أهله ويسقيهم، حتّى إِنّ إحدى بنات مروان قالت في ما يروى، لم أجد هناك من الرعاية عند أبي لمّا كنت معه، كما وجدت عند عليّ بن الحسين (عليه السلام)، هذا ومروان بن الحكم هو الذي قال لوالي المدينة عندما دعا الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة، وقال الحسين له نرى وترون، قال: "خذ منه البيعة وإلا اقتله" أنظر كيف تصرَّف الإمام زين العابدين (عليه السلام) لقد تصرَّف مثلما قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفوُ مِنّا سجيّةً فلمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالما غَدَوْنا عن الأسرى نكفّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنَا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وكان هناك أحد ولاة المدينة من قبل بني أُميّة، يسيء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) إساءة بالغة وإلى كلّ أهله، حقداً منه وعداوة. دارت الأيام وعُزِلَ هذا الوالي، وأمر الوالي الذي جاء بعده، أن يقف ويعرض أمام الناس، وجَمَعَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) أهل بيته وقال لهم: "لا يعرض لهذا الرجل أحد منكم بسوء" قالوا كيف وقد فعل بنا ما فعل قال: نكله إلى الله" أصبح الرجل ضعيفاً وعلينا أن لا نستغلّ ضعفه لنثأر منه. علينا أن نكون أكبر منه، وأفضل منه، سنعفو عند المقدرة، وعندما مرَّ عليه عليّ بن الحسين (عليه السلام) سلَّم عليه، وذاك الرجل ـــ في ما يروى ـــ قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

بين العفو وَرَدّ العدوان
هذا الجوّ الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين سلام الله عليه، نحتاج إلى أن نستهديه، وأن نستوحي منه الكثير، أن نرتفع عن مستوى الحقد، وعن مستوى البغضاء، وعن مستوى العداوة المقيتة في أنفسنا. لقد جعل الله لنا الحقّ في أن نأخذ مَنْ ظَلَمَنا بظلمه، وأن نردّ العدوان بمثله. ولكنَّ الله فضَّل لنا العفو عندما لا يكون العفو ضرراً على الأُمّة، وفضَّل لنا أن نعطي الناس قدرة في حُسن الخُلق وقدوة في القلب الكبير والصدر الواسع. وطالما حدَّثنا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) تلميذ القرآن الذي تربَّى على القرآن، منذ أن نزل القرآن، وتربّى على القرآن في كلّ حياته، وأراد أن يربّي الناس على القرآن، لقد سمع قول الله {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237] وأراد أن يجعل هناك بعض الوسائل التي تعلِّم الإنسان كيف يتفادى المشكلة، فقال في بعض كلماته: "احصدِ الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1). إذا أردت أن تقلع الشرّ من صدر غيرك، فحاول أن تفكِّر أنتَ بالشرّ فإذا استطعت أن تحصد الشرّ من صدرك، وتكون صاحب الصدر الواسع، "وآلة الرئاسة سعة الصدر"؛ عند ذلك يمكن لك أن تقلع الشرّ من غيرك، لأنّك قد تحاول أن تبحث عن الوسائل التي تحوِّل عدوّك إلى صديق، بدلاً من أن تزيد في عداوته {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} الله يعرف أنّ هذا صعب، صعب أن تكظم غيظك في الوقت الذي يكون الغيظ يحرق صدرك، ويحرق أعصابك، ولاسيّما في كثير من القضايا التي تجد فيها نفسك مظلوماً كلّ الظلامة، الله يقول: {... وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126] لكم الحقّ في العقاب، ولكن إذا صبرتم وركّزتم الفكرة في كيف تحلُّون المشكلة، وكيف تتفادون المشكلة، فإنَّ ذلك خير.
هكذا أراد الإمام زين العابدين سلام الله عليه، أن يعلِّمنا أنّ الإنسان الذي يحمل رسالة الله في عقله وفي قلبه، هو الإنسان الذي لا بدّ أن يكون عقله كبيراً، وصدره واسعاً، وحياته ساحة مفتوحة لكلّ مَن يريد أن يتراجع عن خطئه. القصّة تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أن ينطلق الإنسان لينظر في ثواب الله أكثر ممّا ينظر في الغيظ الذي يريد أن ينفّسه، هكذا كما ورد في حديث الإمام عليّ (عليه السلام): "من أحبّ الأشياء إليَّ جرعتان: جرعة غيظ أردّها بحلم ــــ أشرب الغيظ، ويمتلأ صدري بالغيظ، وأريد أن أُنَفِّس هذا الغيظ فأردّه بالحلم ــــ وجرعة حزن أو بلاء أردّها بصبر"(1). عندما يأتيني الحزن أو البلاء أجزع، وأكاد أسقط، لكنّي أتماسك أقول لا بأس، أشرب كلّ هذا الحزن، أشرب كلّ هذا البلاء، يكون ردّ الفعل أنّي أصبر عليه حتّى لا أسقط، هذا كلام قد يكون سهلاً في الحديث ولكنّه صعب في التنفيذ لكنَّ الحلّ في هذه الأمور هو أن نربّي أنفسنا على أن نعتبر ثواب الله مهمّاً عندنا، ولكن يبدو أنّنا في تربيتنا غير المنظّمة، وغير المركّزة، لا يمثّل ثواب الله عندنا شيئاً حقيقياً.
المؤمن بين حساب الله وحساب الناس
لو جاءك إنسان، وقال لك اصبر على ما أساء به إليك فلان ولك ألف دولار. إنّك عند ذلك تأخذه بالأحضان، لكنّ الله يقول: {... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]، "شكّ مفتوح" هذا الشيء نختبر فيه أنفسنا، لو جاءك شخص وقال لك حلّ لنا المشكلة على حساب الله، أو جاءك شخص وقال لك، حلّ لنا المشكلة على حساب فلان، وفلان شخص عظيم خطير، من تُقدم إذا كنت في عفويّتك، هل تقدم حساب الله، أم حساب الناس، إنَّنا نفضِّل الناس على الله لأنّ حساب الله دَيْن ولا أحد يُدَيّن في هذه الأيام، وحساب الناس نقدي والناس يتعاملون بالنقدي ولا يتعاملون بالدين.


حبّ الله هو الأساس
كلّما استطعنا أن يكون اهتمامنا بالآخرة أكثر، ونشعر بالحاجة إلى ثواب الله بمقدار ما نشعر بالحاجة إلى الله، نستطيع عند ذلك أن نندفع في طريق الخير. الإمام عليّ (عليه السلام) في آخر وصيّته قال: "قولا بالحقّ واعملا للآخرة"(2)، اعمل على أساس أنّ الله يعطيك أجر عملك. هذا الجوّ الذي نحتاج أن نعيشه جيّداً حتّى نستطيع أن نتقرَّب إلى الله أكثر، وأن نعيش مع الله أكثر.
لا بدّ للعمل الإسلامي من أن ينطلق من عمق هذه الروحية، قد يكون عندك الفكر الإسلامي المبدع الأعلى العالي... قد تصلّي وتصوم وتحجّ، لكن لا يوجد عند نبع روحانية يرجعك إلى قلبك، تراه جافاً، روحيّتك جافّة، نفسك قاسية {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء...} [البقرة : 74] هذه القسوة لا تعطينا إسلاماً، الإسلام بقدر ما نحبّ الله أكثر، بقدر ما نخشى الله أكثر {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة : 165] أحبَّ الله، صادِق الله، اعمل علاقة مع الله، تستغنِ بالله عن كلّ شيء.
هذه درجة عظيمة، وهذه بلغها الإمام سلام الله عليه والأئمّة (عليهم السلام) قال له: "كيف تُعَذِّبني وحبُّك في قلبي"، ونتعلَّم من أمير المؤمنين "هبني صبرتُ على حرِّ نارِك فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك". هذه الروح التي يعيشها الإنسان بين يديّ الله، هذه المحبّة، محبّة متبادلة. عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قيمته هذه، "لَأُعْطِيَنَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُه"(1) محبّة متبادلة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. لماذا نهرب من الله؟ لماذا نبتعد عن زين العابدين سلام الله عليه؟ تصوَّر هذه الأدعية العظيمة التي دائماً تقرؤونها: "مِن أينَ لِيَ الخير يا ربّ ولا يوجد إلاَّ من عندك، ومن أين لِيَ النَّجاة ولا تُسْتَطاعُ إلاّ بك، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساءَ واجْتَرَأَ عليك ولم يرضِك خَرجَ عن قدرتك".
لاحظوا كيف هي محبّة عليّ بن الحسين (عليه السلام)، نحن الآن بحسب وضعنا، إذا ابتلانا الله في مسألة بسيطة نبدأ بالكلمات غير المسؤولة تجاه الله: ماذا أخطأنا، ماذا فعلنا حتّى يفعل الله بنا ذلك؟ ونحن نصلّي ونصوم نقول هكذا أم لا؟ قد نفكّر بالله إذا فَقَدَ أحدنا ابنه، أو فَقَدَ عزيزاً عليه، انظروا إلى عليّ بن الحسين ماذا يقول: "إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودَلَلْتَ على فضائحي عيون العباد وأَمَرْتَ بي إلى النار وحُلْتَ بيني وبين الأبرار ما قطعتُ رجائي منك ولا صرفتُ وجه تأميلي للعفو عنك ولا خَرَجَ حبّك من قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي وسترك عليَّ في دار الدُّنيا" ثمّ بعد ذلك "سيّدي أَخْرِجْ حبَّ الدنيا من قلبي واجمعْ بيني وبين المصطفى وآله خيرتك من خلقك وانقُلْنِي إلى درجة التوبة عندَك وأعِنِّي بالبكاء على نفسي فقد أفنيتُ بالتسويفِ والآمالِ عمري، وقد نزلْتُ منزلةَ الآيسين من خيري، فَمَن يكونُ أسوأ حالاً منّي إنْ أنا نُقِلْتُ على مثلِ حالي إلى قبرٍ لم أُمَهِّدْه لِرَقْدَتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي، فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون إليه مصيري وأرى نفسي تُخادِعُني وأيّامي تُخاتِلُني وقد خَفَقَتْ عندَ رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي، أبكي لخروجِ نفسي أبكي لِظُلْمَةِ قبري، أبكي لِضِيْقِ لَحْدي، أبكي لسؤالِ مُنْكَرٍ ونكيرٍ إيَّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً، حامِلاً ثقلي على ظهري، أَنْظُرُ مرّةً عن يميني وأخرى عن شمالي إذ الخلائقُ في شأنٍ غير شأني، لِكُلِّ امرئ يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرة ضاحكة مستبشرة، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرَة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ وذلّة".
هكذا تحدَّث الإمام مع الله سبحانه وتعالى، وعندما يطلب من الله: "اللّهم إنّي أسألك أن تملأَ قلبي حبّاً لك وخشيةً منك وتصديقاً بكتابك وإيماناً بك وفَرَقاً منك وشوقاً إليك، يا ذا الجلال والإكرام، حَبِّب إليَّ لقاءك وأَحْبِب لقائي"، اجعلني أخبّ لقائك واجعلني ممّن تحبّ لقاءه لأنّك رضيت عنه "وأعِنِّي على نفسي بما تُعينُ بهِ الصالحين على أنفسهم".
تعامل السجّاد (عليه السلام) مع الخدم
هكذا كان يتحرّك الإمام في حياته. وفي زمانه سلام الله عليه كان موجوداً في ذلك الوقت عبيد وإماء، وذلك قبل الانتهاء من تحرير العبيد والإماء الذين أطلقهم الإسلام، كان الإمام هو محرّر العبيد، كان يشتري العبيد، يربّيهم تربية جيّدة، ثم لاحظوا كيف كان سلوكه معهم، ومتّى يعتقهم. لاحظوا ودقِّقوا حتّى تروا روعة الخشية من الله لدى الإمام وكيف يربّي الناس على أن يفكِّروا. الآن لو فرضنا أنّ عندك عبيداً، وأنتَ رجل غني كبير، خطير، وعندك عمَّال، قد تتحدّث مع عمّالك بدرجة متساوية، أو تعطي هيبتك، وتتكلَّم من فوق، لاحظوا أسلوب التربية عند الإمام زين العابدين (عليه السلام)، كان لا يضرب عبداً ولا أَمَة، وكان إذا أذنب العبد، أو أذنبت الأَمَة لم يعاقبهما. عادةً الخادم يقصّر بالخدمة، يعصي، يتمرّد، يكذب، فكان لا يعاقب أحداً ممّن أذنب أو أخطأ حتّى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثمّ أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم أُؤدّبك أتذكر ذلك، فيقول له يا بن رسول الله أذكر ذلك، حتّى إذا أتى على آخرهم وقرَّرهم جميعاً وعرف كلّ واحدٍ ماذا أذنب وماذا عمل وماذا أخطأ، واعترفوا جميعاً بأخطائهم قام في وسطهم قائلاً: "ارفعوا أصواتكم ردُّوا عليَّ"، إذا كان لدى أحد خدم أو عمّال أو موظّفون وأذنب أحدهم أو بعضهم فإنّه قد يعفو عنهم ولكن بطريقة فوقية، ولكنَّ الإمام يتصرّف عكس ذلك، إنّه يخلق جواً تربوياً، يربّيهم، ويظهر لله تواضعه، ويقول لهم: قولوا يا عليّ بن الحسين إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلّ ما عملت، كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، ليس فقط أنتَ تحصي أعمالنا، فالله يحصي عملك، {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف : 49] وتجد كلّ ما عملت، يعلّمهم كيف يقولون: "كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ، قولوا لي هكذا: اعفُ واصفحْ يعفُ عنك المليك ويصفح فإنّه يقول: {... وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22] وهو ينادي بذلك على أنفسهم، فيعلّمهم ماذا يقولون، ويلقّنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول: "ربّنا إنّك أمرتنا أن نعفو عمَّن ظلمنا وقد عفونا عمَّن ظلمنا كما أمرت فاعفُ عنّا فإنّك أوْلى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني إذا كنت من سؤالك وجدت بالمعروف اخلطني بأهل نوالك يا كريم" ثمّ يقبل عليهم ويقول قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي، ما كان منّي إليكم فإنّي مليك سوء مالك سوء لئيم ظالم مملوك لمليكٍ كريم جواد محسن متفضّل، فيقولون قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت يعني: نقول عفونا عنك لكن أنتَ لم تسئ إلينا، فيقول قولوا: اللّهم اعفُ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) كما عفا عنّا واعتقه من النار كما أعتق رقابنا فيقولون ذلك، فيقول اللّهم آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي.
فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، هذه علامة أهل البيت (عليهم السلام) وهذه علامة عليّ بن الحسين (عليه السلام): هذه الدرجة العالية التي يجمع فيها بين إحسانه لهؤلاء، وتحريرهم من الرّق، وتربيتهم وكفّ ماء وجوههم عن الناس والانفتاح بهم على الله سبحانه وتعالى. لهذا نحبّ أهل البيت، لأنّهم بلغوا القمّة في الأخلاق والتقرُّب إلى الله، ونحن نحتاج دائماً أن ننطلق حتّى نستطيع أن نصل إلى بعض هذا المستوى، لأنَّ من الصعب أن نصل إليه كلّه.
يذكر التاريخ أنّ عبد الملك بن مروان وكان خليفة، بلغه أنّ عند عليّ بن الحسين (عليه السلام) سيفاً لرسول الله، فاستوهبه منه، فأبى عليه، فبعث إليه يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال ـــ وبيت المال كان لكلّ المسلمين ـــ فكيف أجابه عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال له: إنَّ الله أَمَّن للمتقين المخرَج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلَّ ذكره {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج : 38] فانظر أيّنا أَوْلى بهذه الآية، قالها له من موقع قوّة ومن موقع الإنسان الذي يقول له مَنْ أنت حتّى تهدِّدني بقطع رزقي والله قال: {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...} [الطلاق: 2 ـــ 3] وهكذا قال له شخص من الناس إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله، نكّس رأسه، نحن عادة إذا أتى أحد ليمدحنا ننتفخ، وقد نقول بيننا وبين نفسنا "قصّر، لازم يحكي أكثر في بعض الحالات"، قال له: إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله فنكَّس رأسه وقال وهو يتّجه إلى الله، اللّهم إنّي أعوذ بك أن أحبّ فيك وأنت لي مُبغض. تتقرَّب لي بالله، وأخاف يا ربّي أن تكون أنتَ مبغضاً لي، والناس يحبّونني على حسابك، ثمّ قال للرجل إنّي أحبّك في الذي تحبّني فيه، إذا كنتَ تحبّني في الله لا للطمع، فأنا أحبّك في الله أيضاً، لا لشيءٍ آخر. هذه الدرجة العالية أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله، أن لا يكون حبّك طمعاً بل يكون حبّك على أساس أخوة الإيمان، وعلى أساس مشاعر الإيمان. ثمّ للإمام كلمة نحتاجها أيضاً، روى عنه بعض الناس أنّه قال وهو يتحدّث عن العصبية "مَن تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"(1) والعصبية التي يأثم عليها صاحبها "أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين"(2).

الإمام السجّاد... حركة وانطلاقة(*)
في هذه الأيام، مرَّت علينا ذكرى وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر محرَّم، ونحن بحاجة دائماً إلى أن نعيش في أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم كانوا يحيون حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهم الأدلاّء على الإسلام المخلصون له، الذين كانت حياتهم تجسيداً للإسلام وتضحية في سبيله، وكانوا يهتدون بهدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويعيشون مع الناس من أجل أن يحدِّدوا لهم خطّ السير على ما أخذوه من جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويدفعون بهم إلى أن يرتفعوا إلى المستوى الأعلى الذي أراد الله للنّاس من خلال رسوله أن يرتفعوا إليه.
التشيُّع خط أصيل في الإسلام
علينا أن لا نفصل بين الأئمّة(1) (عليهم السلام) وبين خطّ رسول الله، أن لا نعتقد أنّ هناك شيئاً يُسمّى التشيُّع، وأنّ هناك شيئاً يسمّى الإسلام، ليس هناك إلاّ الإسلام، ولا شيء غيره، فإنَّ الله أرادنا أن نكون المسلمين، وأن نسمّي أنفسنا بالمسلمين بلا زيادة ولا نقيصة، حتّى ونحن نلتزم بولاية أهل البيت (عليهم السلام) فإنّنا لا نلتزم بها كشيء زائد على الإسلام، بل نلتزم بها من خلال أنّها خطّ إسلامي، لأنَّ الله أرادنا أن نلتزم بهم بقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] وفي كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "إنّي مخلف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(1)، "مثلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح مَن رَكِبَ فيها نجا ومَنْ تخلَّف عنها غرق وهوى"(2)، فنحن مسلمون فقط، ولسنا شيئاً غير الإسلام، حتّى التشيُّع نفهمه على أساس أنّه خطّ في قلب الإسلام، وفي عمقه، وليس شيئاً خارجاً عنه. وعندما نلتزم هذا الخطّ الإسلامي، فإنّنا ننفتح على كلّ المسلمين، لأنَّ الله أرادنا أن ننفتح على كلّ المسلمين، ولأنّ أهل البيت (عليهم السلام) في ما كانوا يستلهمونه من كلام الله وسُنّة نبيّه، أرادونا أن نكون كذلك، وأنْ نتحرّك في سبيل ذلك.
إنّنا نحتاج إلى أن نعي أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كما نحتاج إلى أن نعيش أجواء الإسلام في روحانيّته، وأجواء الإسلام في أخلاقيّته، وأجواء الإسلام في كلّ شريعته وأحكامه ومناهجه. فإذا أخذنا بهديهم وتعاليمهم ونصائحهم؛ فقد أخذنا بهدي الإسلام وتعاليمه ونصائحه.
الإسلام قاعدة ارتباطنا بالأئمّة
إنّنا نحبّ أئمّة أهل البيت ونواليهم على أساس الإسلام، حتّى إنَّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال لبعض أصحابه "أَحِبُّونا حبَّ الإسلام"، لا تحبّونا كما يحبّ بعضكم بعضاً من ناحية عاطفية، ومن ناحية ذاتية، نحن نمثّل خطّ الإسلام في حياتنا فارتبطوا بنا من خلال خطّ الإسلام الذي نمثّله، ليكون ارتباطكم بنا ارتباطاً بالإسلام، وليكون حبّكم لنا حبّاً للإسلام، ولهذا ليس شيعياً مَن تَنَكَّر للإسلام، وليس شيعياً من انتمى إلى خطّ غير خطّ الإسلام، وليس شيعيّاً من انتمى إلى أعداء الإسلام، وعاون أعداء الإسلام، وليس شيعياً من انفتح في الحياة على غير خطّ الله وخطّ رسوله.
مَن يقول إنَّنا نحبّ عليّاً ونتولاَّه، ونحبّ الحسين ونتولاّه، ونحبّ الأئمّة ونتولاّهم، ثمّ نبتعد عن خطّهم وعن شرعهم وعن حلالهم وعن حرامهم؛ نشرب الخمر ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نلعب القمار ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نتجسَّس للأعداء ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نقاتل المسلمين والمؤمنين لمصلحة الكافرين والمستكبرين ونحبّ عليّ بن أبي طالب. إنَّ عليّ بن أبي طالب يرفضكم ويحاربكم بسيفه، كما حارَبَ الذين رفضوا الخطّ المستقيم وهم مسلمون.
كيف نفهم التشيُّع
عليُّ بن أبي طالب قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1)، لأنّه كان لا يُصادِق على حساب الحقّ، وإنّما كانت صداقته لحساب الحقّ، لا على حسابه. وكان ضدّ الباطل في كلّ مجالاته، كانت صداقته وعداوته على هذا الأساس. قال له عمرو بن عبد ودّ وهما في ساحة القتال والمبارزة، وكلّ منهما يريد أن يواجه الآخر، قال له "إنّي لا أحبّ أنْ أقتلك لأنَّ أباكَ كان صديقاً لي"، قال عليّ (عليه السلام): "وأنا أُحبّ أن أقتلك لأنّك عدوّ الله". ما قيمة أبي، وما قيمة كلّ الناس أمام قضية الله. إنّي أُعاديك وأُقاتلك لأنّك تقف حاجزاً بين الإسلام وبين أن ينطلق. كن صديقاً لأبي، كن صديقاً لعمّي، كن صديقاً لكلّ عشيرتي، ولكن ما دمت عدوّاً لله فأنتَ عدوّي. القصّة هي هذه.
هل نفهم التشيُّع على هذا الأساس أيُّها الإخوة، أم أنَّنا حوَّلنا التشيّع إلى حالة عاطفية عصبية ليست مفتوحة على الإسلام كلّه، وليست مفتوحة على التقوى كلّها، وليست مفتوحة على حلال الله وحرامه؟
التشيُّع خطّ في الإسلام؛ أن نحلَّ ما أحَلَّ الله، وأنْ نحرِّمَ ما حرَّم الله، هل تعتبرون الحسين (عليه السلام) شيعيّاً وهو القائل: "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي أُريد أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، والمعروف كلّ ما حمَّلنا الله مسؤوليّته، والمنكر هو كلّ ما أرادنا الله أن نبتعد عنه، تلك هي القضية؛ حبّ الله.. حبّ رسول الله.. حبّ عليّ.. حبّ الأئمّة.. حبّ الصالحين وحبّ العمل، وحبّ الخط:
تعصي الإله وأنتَ تُظْهِر حبّه هذا لَعَمْرُكَ في الفِعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعته إنَّ المحبّ لِمَنْ أحبَّ مُطيعُ
هذا هو الخطّ، خطّ الحبّ، الحبّ ليس العاطفة ولكن الحبّ الموقف.
أبعاد أساسية في شخصية الإمام السجَّاد (عليه السلام)
ونحن عندما نستذكر ذكرى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فنحن نستقبل هذه الحياة المتعدّدة الأجواء، والمتعدّدة الجوانب، لأنّنا نرى هناك حياة يتحرّك فيها الإمام ليملأ الحياة الإسلامية علماً، وعندما ندرس الذين أخذوا العلم عنه فإنَّنا نرى أنّه استطاع أن يعلّم أساتذة العالَم الإسلامي آنذاك وليسوا كلّهم شيعة، ومع ذلك كان الإمام يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشية، ومن ورعه ورعاً، وكانوا يقولون بصوتٍ واحد: ليس هناك شخص في المسلمين أشدّ وَرَعاً وفضلاً من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كانوا يقولون ذلك بشكلٍ عفوي، وكانت مكانته التي انطلقت في هذا الخطّ وفي كلّ الخطوط، تعيش في قلوب الناس بشكلٍ عفوي طبيعي، كان الناس يعيشون هناك في ظلال الحكم الأموي، وكانت مصالحهم مع بني أُميّة، وكانوا يجاملونهم، ولكن كان عمق إخلاصهم ومحبّتهم للإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهذا هو الفرق بين أن تدخل أعماق الناس من خلال استقامتك، وبين أن تدخل حياة الناس من خلال سيفك، أو من خلال سلطتك.
أنتم تسمعون دائماً تلك القصّة عندما كان هشام بن عبد الملك وهو ولي العهد للخلافة آنذاك، كان أبوه هو الحاكم، وكان يستعدُّ بعد أبيه ليحكم المسلمين، وكان الفرزدق الشاعر يمدحهم ليحصل على جوائزهم، وجاء هشام بن عبد الملك ليحجّ بيت الله الحرام، جاء ليطوف وكان المطاف مزدحماً بالناس فلم يمكّنوه من أن يطوف براحة وهو على كرسي، ثمّ أقبل رجل عليه سيماء الصالحين، ناحلاً من شدّة العبادة، جاء وليس معه حرس، وليس معه أحد، وأقبل على الطواف وحدَّق الناس به، وانفرجوا له بشكل طبيعي، واستطاع أن يطوف بكلّ راحة، وهنا تعجَّبَ مَن كان مع هشام؛ مَن هذا؟ قالوا له لقد بذلنا الجهد لكي تطوف، لم نستطع أن نفسح لك، مَن هذا الذي جاء وافسح الناس له من دون أيّة مشكلة، قال لا أعرفه. وكان الفرزدق واقفاً وقد أغضبه هذا التجاهل، قال لذلك الشامي: أنا أعرفه، أتعرف مَن هذا؟
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه والبيتُ يعرفه والحِلّ والحَرَمُ
وليس قولك من هذا بضائره العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرْتَ والعَجَمُ
إذا رَأَتْهُ قُريشٌ قال قائلُها إلى مكارمِ هذا ينتهي الكَرَمُ
إلى آخر القصيدة
كيف كانت حياة هذا الإنسان مع الناس حتّى استطاع أن يعيش مع الناس ويحصل على هذه الهيبة التي جاء الحديث فيها "مَن أراد عِزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(1). هذا الإنسان العظيم كيف كان سلوكه مع الناس؟ كان يعيش مع الناس من الموقع الإسلامي البسيط، ينفتح على الناس كلّهم، يعفو عن مسيئهم، ويعطي فقيرهم، ويهدي ضالهم، ويعلم جاهلهم، ولا يمنّن أحداً بشيء. كان إذا سافر لا يسافر مع قوم يعرفونه، بل يسافر مع قوم يجهلونه، حتّى كان يكلّف بما يكلّف به كلّ أهل القافلة، ورُوي أنّه سافر سفرة مع قوم لا يعرفونه وأوكلوا إليه بعض المهمّات، واندفع إليها بكلّ إخلاص، وجاءت قافلة من طريقٍ آخر، وبدرت التفاتة من بعضهم، فشاهَدَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) يجمع الحطب، فجاء إلى أصحاب القافلة الذين كان الإمام معهم، وقال لهم أتعرفون مَن هذا؟ قالوا رجل من أهل المدينة لا نعرفه. قال لهم هذا عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وكانوا قد سمعوا عنه ولم يعرفوا شخصيّته جاؤوا يهرعون إليه. قالوا له يا بن رسول الله هل تريد أن تصلينا نار جهنّم، ربّما بدرت من بعضنا إليك بادرة من يد أو من لسان، فأسأنا إليك من حيث لا نعرف، لماذا لم تعرِّفنا بنفسك؟ قال لهم: "أكره أن آخذ برسول الله ما لا أُعطي مثله"(1) صحيح أنّي ابن رسول الله، ابن بنت رسول الله، ولكن، إنّي أحبّ أن أنظر إلى النسب لا على أساس أنّه يحقّق لي امتيازاً، بل على أساس أنّه يحمّلني مسؤولية، وإذا كان الناس يعطونني باسم رسول الله من خلال قرابتي تكريماً واحتراماً وتعظيماً وغير ذلك، فلا بدّ من أن أقدِّم إلى الناس من نفسي شيئاً في مستوى ما يعطيني الناس في مستوى انتسابي لرسول الله. إذا كنتُ أنتسب إلى رسول الله، فقد كان رسول الله داعية لدين الله، وكان يخدم الناس، وكان يحقّق للنّاس ما يستطيع أن يحقّقه. إنّي أُريد أن أعيش مع الناس لأعطيهم من جهدي ما يكون في مستوى ما يعطيني الناس من تكريم. تلك كانت أخلاقه العملية.. فأين هو الفرق بيننا وبينه، الفرق بيننا في ما نحصل عليه من امتيازات. بعضنا إذا انتسب إلى رسول الله وحمل شجرة النسب بيديه، أراد للنّاس أن يحملوه على ظهورهم، أن يقدِّروه، أن يحترموه، أن يكون البطَّال وهم يشتغلون له، أن يكون المنحرف وهم يستقيمون.
العمل والنسب في ميزان الدين
المسألة أنّ رسول الله لم يبعثه الله ليحمل أقاربه على ظهور الناس وعلى أعناقهم. "إنَّ ولي محمّد مَن أطاع الله وإنْ بَعُدَتْ لحمته، وإنّ عدوّ محمّد مَن عَصَى الله وإن قربت قرابته"(2) المسألة هي هذه. قال له أحد أصحابه وقد رآه ساجداً يبكي في الكعبة، وهو يقول سيّدي "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك" ويبكي بين يديّ الله من خشية الله ويقول "ويلي إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمَعَ المستخفين أجوز أم مع المثقلين أحط، ويلي كلّما كَبُرَ عمري كثرت خطاياي، أَمَا آنَ لي أن أستحي من ربّي" وتنهمر دموعه، ويقول له أحدهم سيّدي جدّك رسول الله، جدّك عليّ بن أبي طالب، جدّتك الزهراء، عمّك الحسن، أبوك الحسين، ماذا نقول نحن؟ إذا كنتَ أنت تقول ذلك، تبكي وتعيش هذه الحالة الصعبة في بكائك ـــ وهذا موجَّه لكلّ الذين يعلون بنسبهم وبعشائرهم ـــ "دع عنك ذكر أبي وأُمّي وجدّي، خَلَقَ الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً"(1) هذا هو الخطّ.
في يوم القيامة ليس هناك أنساب {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101] ليس هناك نَسَب، هناك عمل. إنَّ الله لم يقل قدّروا أنسابكم ولكنّه قال {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105]. وروي عن رسول الله أنّه قال: "أيُّها الناس، لا يتمنّ متمنٍّ لي، ولا يدَّع مدَّع، أمّا إنّه ليس بين الله وبين أحد من خلق شيء يعطيه به خيراً، أو يدفع به عنه شرّاً، إلاّ العمل، ولو عصيت لهويت"(2). هذا هو الخطّ، قال الله لرسوله {... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47] رسول الله يقول له الله ذلك، وأنتَ الذي تتنسب إلى رسول الله، تعصي وتخون وتعمل ما تعمل، وتريد أن يجعلك الله في دار قدسه، لقد أنزل الله في أبي لهب عمّ رسول الله سورة، وقال رسول الله "سلمان منّا أهل البيت"(3).
نماذج من أخلاق السجّاد (عليه السلام)
هذا هو الخطّ الذي أراد الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن يؤكّده، كانت أخلاقه العملية أخلاق المسلم الذي يريد أن يعطي الناس درساً بعمله، قبل أن يعطيهم درساً بكلامه. كان يتعرَّض لكثير من الحالات الصعبة التي قد لا يتحمّلها الكثيرون منّا، كأن يشتم من قبل بعض أرحامه وعلى ملأ من الناس. مرَّ عليه شخص من أقاربه وشتمه وذهب، وهو جالس بين أصحابه، فَوَثَبَ القوم ليضربوه فأومأ إليهم ثمّ قال ما مضمونه، اذهبوا بنا لنصفّي حساباتنا مع فلان، فظنُّوا أنّه يأخذهم حتّى يستعين بهم عليه، سار وساروا خلفه، وكان يقرأ قول الله {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] كان يريد أن يعطيهم درساً في كيفيّة كظم غيظهم، والعفو عن الناس، وكان يريد أن يعطي للمعتدي درساً آخر، كيف يكون عباد الله وأولياؤه في المستوى الأعلى الذي يرتفعون فيه عن أحقادهم، وعن غيظهم، فَطَرَقَ الباب، خَرَجَ الرجل الذي سبَّه وهو متوثّب للشرّ، قال له على مهلك، إنّك قلتَ فيَّ كلاماً، فإنْ كان ما قلته فيّ، فأسأل الله أن يغفر لي، وإنْ كان ما قلته ليس فيَّ فأسأل الله أن يغفر لك؛ فقط أُريد أن أحكي لكَ هذا وأنا ماضٍ، فالتفت هذا الرجل وقد فوجئ لأنّه عرف أنّ الإمام لا يتكلّم من موقع ضعف، وإنّما يتكلّم من موقع قوّة، لأنّه كان قادراً أن يقول لأصحابه ألحقوا الأذى له. عند ذلك قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"(1) ما قلته ليس فيك، ولكن أسأل الله أن يغفر لي. وهكذا كان يعيش هذا المستوى من الأخلاق.
ما هي مشاعر عليّ بن الحسين سلام الله عليه مع بني أُميّة؟ كيف تتصوَّرونه؟ هل يمكن أن يكون في قلبه ذرّة من أيّ تعاطف نحوهم. أنتم ونحن وكلّ الناس، لو أنَّ شخصاً قتل أخاك أو ولدك أو قريبك خطأ، وأنتَ تعرف أنّه خطأ، تقول: "لا تفرجوني" عليه، لا أُطيق أن أراه، صحيح أنّ الرجل ليس مذنباً لكن لا أُطيق أن أراه. هكذا نتصرّف، إذاً كيف بنا بهذا الإنسان الذي وَجَدَ أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء، وقد قطِّعت رؤوسهم، وقد سبي ورُبِّط بالحبال على الناقة، وكانت معه أخواته وعمّاته وكلّ نساء أبيه من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام. كيف تكون مشاعره؟
لاحظوا بعد وقعة كربلاء ثارت المدينة على يزيد، وأعلنت الثورة والعصيان المدني، وكان مروان بن الحكم في ما تقول السيرة الحسينيّة، من الأشخاص الذين لهم عائلة تقدَّر بأربعمئة شخص من أولاده وأحفاده ونسائه وما إلى ذلك، عرض نفسه على كثير من وجوه أهل المدينة عبد الله بن عمر وغيره على أن يجيروا عائلته، لأنَّ المدينة كلّها ثارت عليه وعلى جماعته. وفي هذا الجوّ يهاجم الثوّار بدون وعي؛ يضربون ويقتلون لاسيّما إذا كانت هذه الجماعة قد ارتكبت أعمالاً سيّئة. عَرَضَ نفسه على وجوه أهل المدينة فلم يقبل أحد أن يجيره، وجاء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) وذكر له حاله فقال له "ضع عيالك إلى عيالي". وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يطعمهم ممّا يطعم به أهله ويسقيهم، حتّى إِنّ إحدى بنات مروان قالت في ما يروى، لم أجد هناك من الرعاية عند أبي لمّا كنت معه، كما وجدت عند عليّ بن الحسين (عليه السلام)، هذا ومروان بن الحكم هو الذي قال لوالي المدينة عندما دعا الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة، وقال الحسين له نرى وترون، قال: "خذ منه البيعة وإلا اقتله" أنظر كيف تصرَّف الإمام زين العابدين (عليه السلام) لقد تصرَّف مثلما قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفوُ مِنّا سجيّةً فلمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالما غَدَوْنا عن الأسرى نكفّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنَا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وكان هناك أحد ولاة المدينة من قبل بني أُميّة، يسيء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) إساءة بالغة وإلى كلّ أهله، حقداً منه وعداوة. دارت الأيام وعُزِلَ هذا الوالي، وأمر الوالي الذي جاء بعده، أن يقف ويعرض أمام الناس، وجَمَعَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) أهل بيته وقال لهم: "لا يعرض لهذا الرجل أحد منكم بسوء" قالوا كيف وقد فعل بنا ما فعل قال: نكله إلى الله" أصبح الرجل ضعيفاً وعلينا أن لا نستغلّ ضعفه لنثأر منه. علينا أن نكون أكبر منه، وأفضل منه، سنعفو عند المقدرة، وعندما مرَّ عليه عليّ بن الحسين (عليه السلام) سلَّم عليه، وذاك الرجل ـــ في ما يروى ـــ قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

بين العفو وَرَدّ العدوان
هذا الجوّ الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين سلام الله عليه، نحتاج إلى أن نستهديه، وأن نستوحي منه الكثير، أن نرتفع عن مستوى الحقد، وعن مستوى البغضاء، وعن مستوى العداوة المقيتة في أنفسنا. لقد جعل الله لنا الحقّ في أن نأخذ مَنْ ظَلَمَنا بظلمه، وأن نردّ العدوان بمثله. ولكنَّ الله فضَّل لنا العفو عندما لا يكون العفو ضرراً على الأُمّة، وفضَّل لنا أن نعطي الناس قدرة في حُسن الخُلق وقدوة في القلب الكبير والصدر الواسع. وطالما حدَّثنا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) تلميذ القرآن الذي تربَّى على القرآن، منذ أن نزل القرآن، وتربّى على القرآن في كلّ حياته، وأراد أن يربّي الناس على القرآن، لقد سمع قول الله {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237] وأراد أن يجعل هناك بعض الوسائل التي تعلِّم الإنسان كيف يتفادى المشكلة، فقال في بعض كلماته: "احصدِ الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1). إذا أردت أن تقلع الشرّ من صدر غيرك، فحاول أن تفكِّر أنتَ بالشرّ فإذا استطعت أن تحصد الشرّ من صدرك، وتكون صاحب الصدر الواسع، "وآلة الرئاسة سعة الصدر"؛ عند ذلك يمكن لك أن تقلع الشرّ من غيرك، لأنّك قد تحاول أن تبحث عن الوسائل التي تحوِّل عدوّك إلى صديق، بدلاً من أن تزيد في عداوته {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} الله يعرف أنّ هذا صعب، صعب أن تكظم غيظك في الوقت الذي يكون الغيظ يحرق صدرك، ويحرق أعصابك، ولاسيّما في كثير من القضايا التي تجد فيها نفسك مظلوماً كلّ الظلامة، الله يقول: {... وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126] لكم الحقّ في العقاب، ولكن إذا صبرتم وركّزتم الفكرة في كيف تحلُّون المشكلة، وكيف تتفادون المشكلة، فإنَّ ذلك خير.
هكذا أراد الإمام زين العابدين سلام الله عليه، أن يعلِّمنا أنّ الإنسان الذي يحمل رسالة الله في عقله وفي قلبه، هو الإنسان الذي لا بدّ أن يكون عقله كبيراً، وصدره واسعاً، وحياته ساحة مفتوحة لكلّ مَن يريد أن يتراجع عن خطئه. القصّة تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أن ينطلق الإنسان لينظر في ثواب الله أكثر ممّا ينظر في الغيظ الذي يريد أن ينفّسه، هكذا كما ورد في حديث الإمام عليّ (عليه السلام): "من أحبّ الأشياء إليَّ جرعتان: جرعة غيظ أردّها بحلم ــــ أشرب الغيظ، ويمتلأ صدري بالغيظ، وأريد أن أُنَفِّس هذا الغيظ فأردّه بالحلم ــــ وجرعة حزن أو بلاء أردّها بصبر"(1). عندما يأتيني الحزن أو البلاء أجزع، وأكاد أسقط، لكنّي أتماسك أقول لا بأس، أشرب كلّ هذا الحزن، أشرب كلّ هذا البلاء، يكون ردّ الفعل أنّي أصبر عليه حتّى لا أسقط، هذا كلام قد يكون سهلاً في الحديث ولكنّه صعب في التنفيذ لكنَّ الحلّ في هذه الأمور هو أن نربّي أنفسنا على أن نعتبر ثواب الله مهمّاً عندنا، ولكن يبدو أنّنا في تربيتنا غير المنظّمة، وغير المركّزة، لا يمثّل ثواب الله عندنا شيئاً حقيقياً.
المؤمن بين حساب الله وحساب الناس
لو جاءك إنسان، وقال لك اصبر على ما أساء به إليك فلان ولك ألف دولار. إنّك عند ذلك تأخذه بالأحضان، لكنّ الله يقول: {... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]، "شكّ مفتوح" هذا الشيء نختبر فيه أنفسنا، لو جاءك شخص وقال لك حلّ لنا المشكلة على حساب الله، أو جاءك شخص وقال لك، حلّ لنا المشكلة على حساب فلان، وفلان شخص عظيم خطير، من تُقدم إذا كنت في عفويّتك، هل تقدم حساب الله، أم حساب الناس، إنَّنا نفضِّل الناس على الله لأنّ حساب الله دَيْن ولا أحد يُدَيّن في هذه الأيام، وحساب الناس نقدي والناس يتعاملون بالنقدي ولا يتعاملون بالدين.


حبّ الله هو الأساس
كلّما استطعنا أن يكون اهتمامنا بالآخرة أكثر، ونشعر بالحاجة إلى ثواب الله بمقدار ما نشعر بالحاجة إلى الله، نستطيع عند ذلك أن نندفع في طريق الخير. الإمام عليّ (عليه السلام) في آخر وصيّته قال: "قولا بالحقّ واعملا للآخرة"(2)، اعمل على أساس أنّ الله يعطيك أجر عملك. هذا الجوّ الذي نحتاج أن نعيشه جيّداً حتّى نستطيع أن نتقرَّب إلى الله أكثر، وأن نعيش مع الله أكثر.
لا بدّ للعمل الإسلامي من أن ينطلق من عمق هذه الروحية، قد يكون عندك الفكر الإسلامي المبدع الأعلى العالي... قد تصلّي وتصوم وتحجّ، لكن لا يوجد عند نبع روحانية يرجعك إلى قلبك، تراه جافاً، روحيّتك جافّة، نفسك قاسية {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء...} [البقرة : 74] هذه القسوة لا تعطينا إسلاماً، الإسلام بقدر ما نحبّ الله أكثر، بقدر ما نخشى الله أكثر {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة : 165] أحبَّ الله، صادِق الله، اعمل علاقة مع الله، تستغنِ بالله عن كلّ شيء.
هذه درجة عظيمة، وهذه بلغها الإمام سلام الله عليه والأئمّة (عليهم السلام) قال له: "كيف تُعَذِّبني وحبُّك في قلبي"، ونتعلَّم من أمير المؤمنين "هبني صبرتُ على حرِّ نارِك فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك". هذه الروح التي يعيشها الإنسان بين يديّ الله، هذه المحبّة، محبّة متبادلة. عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قيمته هذه، "لَأُعْطِيَنَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُه"(1) محبّة متبادلة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. لماذا نهرب من الله؟ لماذا نبتعد عن زين العابدين سلام الله عليه؟ تصوَّر هذه الأدعية العظيمة التي دائماً تقرؤونها: "مِن أينَ لِيَ الخير يا ربّ ولا يوجد إلاَّ من عندك، ومن أين لِيَ النَّجاة ولا تُسْتَطاعُ إلاّ بك، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساءَ واجْتَرَأَ عليك ولم يرضِك خَرجَ عن قدرتك".
لاحظوا كيف هي محبّة عليّ بن الحسين (عليه السلام)، نحن الآن بحسب وضعنا، إذا ابتلانا الله في مسألة بسيطة نبدأ بالكلمات غير المسؤولة تجاه الله: ماذا أخطأنا، ماذا فعلنا حتّى يفعل الله بنا ذلك؟ ونحن نصلّي ونصوم نقول هكذا أم لا؟ قد نفكّر بالله إذا فَقَدَ أحدنا ابنه، أو فَقَدَ عزيزاً عليه، انظروا إلى عليّ بن الحسين ماذا يقول: "إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودَلَلْتَ على فضائحي عيون العباد وأَمَرْتَ بي إلى النار وحُلْتَ بيني وبين الأبرار ما قطعتُ رجائي منك ولا صرفتُ وجه تأميلي للعفو عنك ولا خَرَجَ حبّك من قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي وسترك عليَّ في دار الدُّنيا" ثمّ بعد ذلك "سيّدي أَخْرِجْ حبَّ الدنيا من قلبي واجمعْ بيني وبين المصطفى وآله خيرتك من خلقك وانقُلْنِي إلى درجة التوبة عندَك وأعِنِّي بالبكاء على نفسي فقد أفنيتُ بالتسويفِ والآمالِ عمري، وقد نزلْتُ منزلةَ الآيسين من خيري، فَمَن يكونُ أسوأ حالاً منّي إنْ أنا نُقِلْتُ على مثلِ حالي إلى قبرٍ لم أُمَهِّدْه لِرَقْدَتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي، فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون إليه مصيري وأرى نفسي تُخادِعُني وأيّامي تُخاتِلُني وقد خَفَقَتْ عندَ رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي، أبكي لخروجِ نفسي أبكي لِظُلْمَةِ قبري، أبكي لِضِيْقِ لَحْدي، أبكي لسؤالِ مُنْكَرٍ ونكيرٍ إيَّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً، حامِلاً ثقلي على ظهري، أَنْظُرُ مرّةً عن يميني وأخرى عن شمالي إذ الخلائقُ في شأنٍ غير شأني، لِكُلِّ امرئ يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرة ضاحكة مستبشرة، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرَة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ وذلّة".
هكذا تحدَّث الإمام مع الله سبحانه وتعالى، وعندما يطلب من الله: "اللّهم إنّي أسألك أن تملأَ قلبي حبّاً لك وخشيةً منك وتصديقاً بكتابك وإيماناً بك وفَرَقاً منك وشوقاً إليك، يا ذا الجلال والإكرام، حَبِّب إليَّ لقاءك وأَحْبِب لقائي"، اجعلني أخبّ لقائك واجعلني ممّن تحبّ لقاءه لأنّك رضيت عنه "وأعِنِّي على نفسي بما تُعينُ بهِ الصالحين على أنفسهم".
تعامل السجّاد (عليه السلام) مع الخدم
هكذا كان يتحرّك الإمام في حياته. وفي زمانه سلام الله عليه كان موجوداً في ذلك الوقت عبيد وإماء، وذلك قبل الانتهاء من تحرير العبيد والإماء الذين أطلقهم الإسلام، كان الإمام هو محرّر العبيد، كان يشتري العبيد، يربّيهم تربية جيّدة، ثم لاحظوا كيف كان سلوكه معهم، ومتّى يعتقهم. لاحظوا ودقِّقوا حتّى تروا روعة الخشية من الله لدى الإمام وكيف يربّي الناس على أن يفكِّروا. الآن لو فرضنا أنّ عندك عبيداً، وأنتَ رجل غني كبير، خطير، وعندك عمَّال، قد تتحدّث مع عمّالك بدرجة متساوية، أو تعطي هيبتك، وتتكلَّم من فوق، لاحظوا أسلوب التربية عند الإمام زين العابدين (عليه السلام)، كان لا يضرب عبداً ولا أَمَة، وكان إذا أذنب العبد، أو أذنبت الأَمَة لم يعاقبهما. عادةً الخادم يقصّر بالخدمة، يعصي، يتمرّد، يكذب، فكان لا يعاقب أحداً ممّن أذنب أو أخطأ حتّى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثمّ أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم أُؤدّبك أتذكر ذلك، فيقول له يا بن رسول الله أذكر ذلك، حتّى إذا أتى على آخرهم وقرَّرهم جميعاً وعرف كلّ واحدٍ ماذا أذنب وماذا عمل وماذا أخطأ، واعترفوا جميعاً بأخطائهم قام في وسطهم قائلاً: "ارفعوا أصواتكم ردُّوا عليَّ"، إذا كان لدى أحد خدم أو عمّال أو موظّفون وأذنب أحدهم أو بعضهم فإنّه قد يعفو عنهم ولكن بطريقة فوقية، ولكنَّ الإمام يتصرّف عكس ذلك، إنّه يخلق جواً تربوياً، يربّيهم، ويظهر لله تواضعه، ويقول لهم: قولوا يا عليّ بن الحسين إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلّ ما عملت، كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، ليس فقط أنتَ تحصي أعمالنا، فالله يحصي عملك، {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف : 49] وتجد كلّ ما عملت، يعلّمهم كيف يقولون: "كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ، قولوا لي هكذا: اعفُ واصفحْ يعفُ عنك المليك ويصفح فإنّه يقول: {... وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22] وهو ينادي بذلك على أنفسهم، فيعلّمهم ماذا يقولون، ويلقّنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول: "ربّنا إنّك أمرتنا أن نعفو عمَّن ظلمنا وقد عفونا عمَّن ظلمنا كما أمرت فاعفُ عنّا فإنّك أوْلى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني إذا كنت من سؤالك وجدت بالمعروف اخلطني بأهل نوالك يا كريم" ثمّ يقبل عليهم ويقول قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي، ما كان منّي إليكم فإنّي مليك سوء مالك سوء لئيم ظالم مملوك لمليكٍ كريم جواد محسن متفضّل، فيقولون قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت يعني: نقول عفونا عنك لكن أنتَ لم تسئ إلينا، فيقول قولوا: اللّهم اعفُ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) كما عفا عنّا واعتقه من النار كما أعتق رقابنا فيقولون ذلك، فيقول اللّهم آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي.
فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، هذه علامة أهل البيت (عليهم السلام) وهذه علامة عليّ بن الحسين (عليه السلام): هذه الدرجة العالية التي يجمع فيها بين إحسانه لهؤلاء، وتحريرهم من الرّق، وتربيتهم وكفّ ماء وجوههم عن الناس والانفتاح بهم على الله سبحانه وتعالى. لهذا نحبّ أهل البيت، لأنّهم بلغوا القمّة في الأخلاق والتقرُّب إلى الله، ونحن نحتاج دائماً أن ننطلق حتّى نستطيع أن نصل إلى بعض هذا المستوى، لأنَّ من الصعب أن نصل إليه كلّه.
يذكر التاريخ أنّ عبد الملك بن مروان وكان خليفة، بلغه أنّ عند عليّ بن الحسين (عليه السلام) سيفاً لرسول الله، فاستوهبه منه، فأبى عليه، فبعث إليه يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال ـــ وبيت المال كان لكلّ المسلمين ـــ فكيف أجابه عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال له: إنَّ الله أَمَّن للمتقين المخرَج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلَّ ذكره {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج : 38] فانظر أيّنا أَوْلى بهذه الآية، قالها له من موقع قوّة ومن موقع الإنسان الذي يقول له مَنْ أنت حتّى تهدِّدني بقطع رزقي والله قال: {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...} [الطلاق: 2 ـــ 3] وهكذا قال له شخص من الناس إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله، نكّس رأسه، نحن عادة إذا أتى أحد ليمدحنا ننتفخ، وقد نقول بيننا وبين نفسنا "قصّر، لازم يحكي أكثر في بعض الحالات"، قال له: إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله فنكَّس رأسه وقال وهو يتّجه إلى الله، اللّهم إنّي أعوذ بك أن أحبّ فيك وأنت لي مُبغض. تتقرَّب لي بالله، وأخاف يا ربّي أن تكون أنتَ مبغضاً لي، والناس يحبّونني على حسابك، ثمّ قال للرجل إنّي أحبّك في الذي تحبّني فيه، إذا كنتَ تحبّني في الله لا للطمع، فأنا أحبّك في الله أيضاً، لا لشيءٍ آخر. هذه الدرجة العالية أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله، أن لا يكون حبّك طمعاً بل يكون حبّك على أساس أخوة الإيمان، وعلى أساس مشاعر الإيمان. ثمّ للإمام كلمة نحتاجها أيضاً، روى عنه بعض الناس أنّه قال وهو يتحدّث عن العصبية "مَن تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"(1) والعصبية التي يأثم عليها صاحبها "أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين"(2).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية