منهج وانتماء(*)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
تذكر الروايات الواردة عن طريق السُنّة والشيعة أنّ المقصود بذلك هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الغلام، الذي ربَّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تربية روحية تنفتح على الله كما كان هو ينفتح على الله.
عليّ (عليه السلام) في بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
احتضن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً (عليه السلام) قبل البعثة، إذ أخذه من عمّه أبي طالب ليخفّف عنه ثقل العيال، وبذلك كان الولد الروحي لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يتأمَّل في آفاق الله وفي آفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل الرسالة، وكان يشرك علياً في أجواء هذه التأمّلات ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميَّزت شخصيّته. فكان رسول الله الصادق الأمين، وربّى عليّاً ـــ وهو طفل ـــ على أن يكون الصادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلِّمني شيئاً أبلغ به المنزلة العليا عندك قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ علياً بلغ ما بلغ لأنّه كان الصادق الأمين" وكان صدقه هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عليّ عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة. وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلّ المراحل التي عاشها وفي كلّ المواقع التي تحرَّك فيها.
ذلك هو عليّ الذي عاش مع الله، حتّى إذا بُعث رسول الله، دعاء إلى الإسلام فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره. ويذكر بعض المؤرّخين أنّ علياً كان أوّل مَن أسلم من الصبيان. يريدون من ذلك أن يوحوا بأنّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن عندما دعاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟
وعندما قيل لعليّ: كيف تدخل في الإسلام قبل أن تستشير أباك؟ قال لهم: إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فكيف أستشيره عندما أؤمن برسالة الله؟ إنَّ مسألة الآباء والأجداد والأُمّهات تتعلّق ببعض شؤون الحياة، في العلاقات العامّة والتصرّفات الخاصّة من حياة الإنسان، أمّا عندما يتعلّق الأمر بالله فلن يكون هنالك دور للآباء أو الأُمّهات، بل للنّاس جميعاً، إذ لا معنى للناس أمام الله، لأنّنا نرتبط بالناس من خلال أمر الله. فنحن نحسن إلى آبائنا وأُمّهاتنا، ونحسن إلى أرحامنا وجيراننا وكلّ الناس من حولنا، لأنّ الله أمرنا أن نحسن إليهم.
عليّ (عليه السلام) بعد البعثة
أَسْلَمَ عليّ وانطلق مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان معه في بيته يسمع حفيف أجنحة الوحي عندما ينزل إلى رسول الله، وكان يعيش مع رسول الله، ليسمع منه كلّ آية تنزل عليه وكلّ حكم يوحي به الله إليه. وكان يتعلَّم من رسول الله كيف يكون الصابر عندما تحتاج الرسالة إلى صبر، وكيف يكون المتحرّك عندما تحتاج الرسالة إلى حركة، وكيف يكون الشديد عندما تحتاج الرسالة إلى شدّة، وكيف يكون المتسامح عندما تحتاج الرسالة إلى التسامح. فكانت أخلاقه صورة لأخلاق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). حتّى إذا جاء نصارى نجران ليباهلوا رسول الله، نزلت هذه الآية: {... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61]. وجاء رسول الله بابنيه وابنته، وجاء بعليّ كأنّه يقول: إنَّ علياً هو نفسي وليس ذلك امتيازاً لقرابته، فلرسول الله أبناء عمّ كثيرون، ولكنّه امتاز لعمق شخصية عليّ، لأنّ رسول الله ربّى نفس عليّ من عمق نفسه، وأطلق خطّ الأخلاق عند عليّ من خلال أخلاقه.
التجارة مع الله
كان عليّ المسلم المطيع لرسول الله في كلّ مواقع الحياة، وانطبع بالإسلام في كلّ فكره وفي كلّ مشاعره وفي كلّ عواطفه. ونحن نفهم من سيرته ومن كلماته ومن كلّ أجوائه أنّ معنى الإسلام عنده هو بيع النفس لله، فلا يكون الإنسان مسلماً إذا كان يحسب لنفسه حساباً غير حساب الله، أو يرى لها مصالح غير مصالح رسالة الله، أو علاقات غير العلاقات التي يحبّها الله، أي أن تكون حياته كلّها لله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
باع عليّ حياته لله عندما أكّد إسلامه ليخطّط لنا الطريق. وقد حدَّثنا الله عنه في الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة : 207] وفي رأي بعض المفسّرين أن {يَشْرِي} تعني يبيع.
وهناك تفسيرٌ آخر يقول: إنّ الإنسان إذا سار في خطّ الله فقد شَرَى نفسه لأنّه يربحها في الجنّة، بينما مَنْ يمضي في غير خطّ الله يخسر نفسه {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. عندما تطيع الله فقد اشتريت نفسك، لأنّك ربحتها؛ وعندما تعصي الله وتكفر به فقد فقدت نفسك وخسرتها.
وكان عليّ (عليه السلام) يريد أن يربح نفسه، وعرف أنّه لن يربحها عند الله إلاّ إذا جعلها في خدمته وبذلها في سبيله. ولذلك عندما طلب إليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبيت على فراشه ليلة الهجرة، فإنّه لم يتردَّد في القبول، على الرغم من كلّ الخطر المحدق به، ولم يسأله عمّا يلحق به من أذى، بل سأله عن شيء واحد ليطمئن على حياة الرسول ومستقبل الرسالة، إذ قال له: "أَوَتَسْلَم يا رسول الله؟ قال: بلى. قال: إذاً اذهب راشداً مهدياً".
هكذا بات على فراش رسول الله، ولولا ذلك لم يستطع رسول الله أن يغطّي انسحابه، فقد كان يُخيّل إلى القوم وهم يجدون شخصاً نائماً في الفراش أنّ ذلك هو الرسول.
الهجرة إلى المدينة
وانطلق عليّ (عليه السلام) إلى المدينة، ولم يكن الرسول قد دخلها حتى التحق به عليّ، وبدأ عليّ يتحرّك مع رسول الله، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه ويندفع لتنفيذ كلّ ما يريد منه.
وجاءت المعارك وكان عليّ فارسها. وقد ذكر المؤرّخون أنّ عليّاً قتل في بدر نصف قتلى قريش، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر. وينقل هو عن نفسه، أنّه كان في أثناء المعركة يُقاتِل ويقتُل ثمّ يأتي ليطمئن على رسول الله فيجده ساجداً، يدعو في سجوده فكان يعيش في أجواء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى وهو يقاتل، وكان هو الذي دافع عن رسول الله.
وعندما دارت الدائرة على المسلمين في أُحُد، كان هو الذي دافع عن رسول الله، حتّى حماه بنفسه، فقد كان الرسول يقول له: ادفع عنّي هذه يا عليّ، كلّما هجمت عليه كتيبة من قريش.
وكان في جميع معارك رسول الله الفارس البطل، حتّى إِنّ الرسول قال عنه حينما برز في معركة الأحزاب لعمرو بن عبد ود العامري، قال: "بَرَزَ الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(1). وقد وقف عليّ (عليه السلام) إزاء عمرو، فقال الأخير: لقد كان أبوك نديماً لي صديقاً، فارجع فإنّي لا أحبّ أن أقتلك. فقال عليّ (عليه السلام): ولكنّي أحبّ أن أقتلك.
لم يكن مهمّاً لديه أن يحافظ على صداقات أبيه أو صداقات قومه، بل كان كلّ همّه أن يحافظ على صدقيّته أمام الله. لعلَّكم تستغرقون في معركة الخندق فتبتهجون لانتصار عليّ (عليه السلام) على عمرو بن عبد ودّ، وتبتهجون لبطولته. ولكن ليكن ابتهاجكم بدروسه أكثر من ابتهاجكم بشجاعته، لأنَّ شجاعته كانت في دائرة المعركة، أمّا درسه فهو في دائرة الحياة كلّها. ومن ثمّ فإنَّ دفاعكم عن الصديق إذا كان عدوّاً لله، أمر لا ينسجم مع التزامكم بخطّ عليّ، الذي هو خطّ الإسلام.
إذا كنتم تحبُّون عليّاً (عليه السلام) فأحبُّوا خطّه وأحبُّوا أخلاقه وأحبّوا فكره وجهاده؛ فهذا هو عليّ (عليه السلام)، وليس هو مجرّد إنسان تلتزمون بحبّه وتتنكَّرون لمواقفه ولخطّه.
منزلة عليّ (عليه السلام) من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
وهكذا انطلق عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يدفعه إلى كلّ المعارك، حتّى كانت وقعة تبوك فأبقاه في المدينة واحتجّ عليّ (عليه السلام) احتجاج الشكوى، لا احتجاج الاعتراض. فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ السفرة ليست سفرة حرب، ولن يكون فيها حرب. ثم قال له: "أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 ــ 32] وجعل الله عليّاً (عليه السلام) وزيراً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولم يجعله نبيّاً كما جعل هارون. وهكذا رضي عليّ (عليه السلام) بما رضي به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
علم عليّ (عليه السلام)
كان رسول الله يريد للمسلمين أن يتعرّفوا عمق المعرفة عند عليّ (عليه السلام)، وسعة العلم لديه. فقد كان المسلمون يتطلّعون إلى رسول الله باعتباره يحمل كلّ علم الإنسان، لأنَّ الله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه بالإسلام وألهمه علم ذلك كلّه. وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يحاذر أن ينسى فطمأنه الله، أنّه سيجمع له علم ذلك كلّه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 ـــ 17] فكان المسلمون يتطلَّعون إليه وَيَحَارون كيف يستطيعون أن يأخذوا العلم منه، والوقت قد لا يتّسع لذلك. فقال لهم: "أنا مدينةُ العِلْم وعليٌّ بابها(1)، فمن أرادَ دخول المدينة فليدخلها من بابها"، ذلك لأنَّ عليّاً عاشَ علم رسول الله كلّه ومن ثمّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة، إلاّ وأجاب عنها. وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلّ أمورهم. حتّى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبويه" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلّف أوّل قاموس في اللّغة العربية.. قيل له: لم آثرت عليّاً (عليه السلام) على غيره؟ وكان الخليل يلتزم ولاية عليّ (عليه السلام). فقال احتياج الكلّ إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعليّ (عليه السلام) واستغناؤه عن الكلّ.. (لم نجد عليّاً (عليه السلام) محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنّه إمام الكلّ. وقد بلغ عليّ (عليه السلام) ما بلغ من العلم، لأنّه كان يستمدّ علمه ـــ مباشرة ـــ من النبع الذي كان يعيش في أجوائه دائماً. حتى قالت بعض نساء النبيّ إنَّهن كنَّ يغرن من عليّ (عليه السلام)، لأنّه كان يأخذ الكثير من وقت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، على أساس أنّه يعطيه في كلّ ليلة علماً من علمه، ويذكر له محلّ نزول كلّ آية قرآنية وما هي مواقعها وما هي آفاقها.. ويستلهم عليّ ذلك كلّه.
من هنا فإنَّ علم عليّ (عليه السلام) مُستمدّ من الإسلام وليس له فكر غير فكر الإسلام، وحتّى أفكاره في تجاربه كان يستمدّها من الخطّ الإسلامي العام ونستطيع أن نقول: إنَّ فكر عليّ (عليه السلام) هو فكر الإسلام بعينه.
عليّ (عليه السلام) مع الحقّ
وفي عودة الرسول من حجّة الوداع أنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} [المائدة : 67] وبلَّغ رسول الله الرسالة، وقال للمسلمين وقد رفع يَدَيْ عليّ (عليه السلام) حتّى بانَ بياض إبطيهما للناس: "أَلاَ مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَن عاداه، وأَدِر الحقَّ معه حيثما دار"(1). كان يقول ذلك للمسلمين وهو أعرف الناسَ بعليّ (عليه السلام) وهو الذي يعرف أنَّ عليّاً (عليه السلام) لم ينطلق بكلمة باطل، ولم يقف موقف باطل منذ أن كان طفلاً، ولم يتحرّك حركة باطل، أو علاقة باطل. بل "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار"(2).
من هنا نعرف أنّ من يُرِد الارتباط بعليّ (عليه السلام) فعليه أن يرتبط بالحقّ، ومن يتحرّك مع الباطل ليحصل على بعض أطماعه، ومن يتكلَّم بكلمات الباطل حتى يرضى عنه أهل الباطل ثمّ يقول: أنا مع عليّ (عليه السلام) فإنَّ الحقّ الذي يمثّله عليّ (عليه السلام) يقول له: لست مع عليّ (عليه السلام) لأنّك مع الباطل، وليست هناك مساحة بين عليّ (عليه السلام) وبين الحقّ يمكن أن ينفذ الباطل منها.
كانت مشكلة عليّ (عليه السلام) في حياته، أنّه معه الحقّ وكان الناس يريدون منه أن يمزج الحقّ بالباطل ويقولون له: إنَّ عليك إذا أردت أن تعيش في المجتمع، أن تأخذ من الباطل قليلاً وتأخذ من الحقّ قليلاً وتمزجهما، حتى يستطيع الناس أن يتقبَّلوا الحقّ الذي فيه شيء من الباطل. وكان يرفض ذلك، ويقول: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق".
كان عليّ (عليه السلام) مُتعباً لأصحابه، ولكلّ الناس من حوله؛ لأنّه كان يريد أن يسيّرهم على المحجّة البيضاء، على الطريق الأبيض الواضح ولأنّه كان الإنسان الرافض للباطل الذي يلتزم الحقّ في كلّ مجالات الحياة. حتّى إذا وقف بين الحكم والحقّ، رَكَلَ الحكم برجله وفضَّل أن يقف مع الحقّ.
يقول ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها: فقال: "والله لهي أَحَبّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلاّ أنْ أُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"(3)، حتّى الحكم وظَّفه عليّ (عليه السلام) في خدمة الموقف والأسلوب الحقّ، لأنّه كان يريد حكم الرسالة ولا يريد حكم الذّات. ولهذا فإنّه انفتح على الواقع من خلال الرسالة، وكان كلّ همّه هو الله وكلّ فكره هو سلامة الإسلام وسلامة المسلمين. ومن ثمّ نراه يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ التي إِنَّما هِيَ مَتَاعُ أَيّام قَلائِلَ يَزولُ مِنْها ما كانَ كَما يزولُ السَّرابُ، أَوْ كَما يَتَقَشَّعُ السَّحابُ"(1) ويقول في حديثٍ آخر: "لَأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمورُ المسلمين"(2).
من هنا لم تكن معارضته ـــ وقد أُبعِد عن حقّه ـــ معارضة عقدة في الذّات، بل كانت معارضة موقف في الحقّ. فكان يستجيب لهؤلاء الذين تقدَّموا عليه وأبعدوه عن حقّه، فيقدّم لهم المشورة والنصيحة والتعاون، لأنَّ الإسلام يفرض ذلك. حتّى قال قائلهم: لولا عليّ لهلك عمر(3). وكان عليّ لا يشعر بأنّ هناك مشكلة في هذا المجال؛ لأنَّ قضية الحكم لم تكن قضية ذاتية يحجب من خلالها موقفه الذي يحتاجه الإنسان، لمجرّد أنّ الذين يقفون على الحكم هم أشخاص أبعدوه عن الحقّ ولأنَّ المسألة هي مسألة الإسلام كلّه.
مواجهة الخلافات بأسلوب عليّ (عليه السلام)
هذا ما يجب أن نتعلّمه؛ فعندما نواجه المواقف في الدائرة الإسلامية فعلينا أن ننظر مصلحة الإسلام، قبل أن ننظر مصلحة الأشخاص أو مصلحة الطائفة؛ لأنَّ عليّاً (عليه السلام) علَّمنا ذلك. وإذا كنّا نتنازع من خلال عليّ (عليه السلام)، فقد علَّمنا عليّ (عليه السلام) كيف نقف مع حقّنا عندما تفرض الساحة ذلك، وكيف نحرِّك الساحة بطريقة متوازنة، حتّى نحميها من الأعداء الذين يحاولون استغلال خلافاتنا، ليقضوا على الإسلام كلّه. وهذا يحمّلنا مسؤولية كبيرة ـــ ولا سيّما في الدائرة الإسلامية ـــ عندما يعمل الكفر كلّه والاستكبار كلّه على الاستفادة من الخلافات المذهبية أو الخلافات الخاصّة في سبيل إسقاط الإسلام كلّه، ليربطونا بطوائفنا بعيداً عن الإسلام، ولتكون الطائفة هي الأساس وليس الإسلام. ولكن لا قيمة لشيعي لا يلتزم الإسلام خطّاً له، ولا قيمة لسنّي لا يلتزم الإسلام خطّاً. كلّ المسلمين يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، ولكن قد يفهم فريق من المسلمين القضية بطريقة ويفهمها فريقٌ آخر بطريقة أخرى. فإذا اختلفنا في المفردات فعلينا أن نردّ الأمر إلى الله ورسوله، كما علَّمنا القرآن.
وحدة المسلمين
إذا كنتم تفكِّرون كمسلمين فإنّكم تستطيعون أن تلتقوا مع المسلمين الآخرين، ولكن عندما تفكِّرون من مواقعكم الطائفية، فإنّ كلّ الواقع السياسي يبعد بعضكم عن بعض، لأنَّ كلّ طائفة تعمل على أن تكون مستقلّة عن الطائفة الأخرى في كلّ قضاياها وتعمل على أنْ تتقوَّى على الطائفة الأخرى، حتّى بالكافرين. وهذا ما يحدث في داخل اللّعبة اللبنانية وفي داخل واقع العالَم الإسلامي، الذي يتحرَّك فيه المستعمرون ليثيروا المسألة المذهبية، على أساس أنّ الشيعة يريدون أن يُسقطوا السنّة، وأنّ السنّة يريدون أن يسقطوا الشيعة. حتّى ينشغل المسلمون بعضهم مع بعض، وينطلق المستعمرون من أجل أن يصادروا كلّ ثرواتهم وكلّ مواقفهم. فإذا كنّا نلتزم عليّاً (عليه السلام)، فإنّه لم يكن يفكّر إلاّ بالإسلام ووحدة المسلمين، حيث يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُم هذه...".
إنَّ معنى التزامنا عليّاً (عليه السلام) هو أن نلتزم الإسلام ومصلحته، وإلاّ فقد نلتقي بعليّ (عليه السلام) يوم القيامة، وقد عبثنا بوحدة المسلمين وأَعَنَّا المستعمرين عليهم، وناصرنا الكافرين ضدّهم نتيجة عقدة. فنقول له: يا عليّ لقد حاربنا من أجلك وسببنا الناس من أجلك وعملنا كلّ ما عملنا من أجلك فأعطنا جائزتنا، فيقول عليّ (عليه السلام): مَنْ قال لكم إنّكم عملتم من أجل عليّ (عليه السلام)، لأنَّ عليّاً (عليه السلام) باع نفسه لله ولم يبعها لنفسه. ولم يكن يعمل لذاته بل كان يعمل للإسلام، فإذا كنتم تعملون لعليّ (عليه السلام) فاعملوا للإسلام من خلال خطّه.
عليّ (عليه السلام) في الحكم
وإذا كان عليّ (عليه السلام) متسامحاً خارج الحكم فإنّه كان شديداً حين أمسك به، على عكس الواقع السياسي، حيث يكون المعارضون ـــ عادة ـــ أشدَّاء خارج الحكم، ثم يكونون متسامحين داخله، لأنّهم يعارضون بشدّة حتى يصلوا إلى الحكم، فإذا وصلوا انتهى الأمر وأصبحوا يتسامحون مع مَنْ كانوا يتشدَّدون بشأنه. ولكنَّ عليّاً (عليه السلام) كان في خطّ المعارضة ينظر مصلحة الإسلام، ولذا لم يقاتل بل أعطى كلّ النصيحة. وعندما حكم كانت المسألة عند ذلك هي مصلحة الإسلام والمسلمين، فكان يمثّل الحكم الذي يريده رسول الله، فيقف حيث وقف رسول الله ويتحرّك من خلال شريعة الله. ولهذا كان قويّاً وشديداً وحاسماً.
ولكنّه كان يؤمن بمنطق الحوار ويفتح قلبه للذين أعلنوا الثورة عليه ليعيدهم إلى الحقّ. ففي حوارٍ له مع طلحة والزبير قال لهما: "لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً. فاستغفرا الله يغفر لكما ألا تخبراني، أدفعتكما عن حقّ وجَبَ إيّاه؟ قالا: معاذ الله. قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطّاب في القسم إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا وسويت بيننا وبين مَن لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسراً وقهراً ممّن لا يرى الإسلام إلاّ كرهاً. فقال (عليه السلام): "أمّا ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليّ نظرت إلى الكتاب وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلت، فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأُسوة، فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوىً منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد فَرَغَ منه، فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ الله من قسمِهِ، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما، والله، عندي ولا لغيركما في هذا عتبي. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيَّاكم الصبر"(1).
ثم قال: "رَحِمَ الله رجلاً رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"(2). هذا هو منطق عليّ (عليه السلام) عندما وقف هذان الشيخان الصحابيّان ليطلبا منه أن يعطيهما امتيازات في الخلافة، وقف وقفة حاسمة، وتحدَّث إليهما بهذا المنطق الهادئ.
وعندما أعلنا عليه الحرب وجاءا بأمّ المؤمنين عائشة، حاول بكلّ الطرق أن يتفادى الحرب، ولكنّه اضطر لدخولها ـــ في ما بعد ـــ لحفظ نظام الأُمّة.
وهكذا كانت مسألته مع معاوية، فهو لم يدخل الحرب إلاّ بعد أن استقرّ معاوية بالشام، ليقف ضدّ السلطة التي يمثّلها الإمام عليّ (عليه السلام)، من خلال موقعه عند الله ويمثّلها من خلال بيعة المسلمين له.
وحين احتجّ عليه الخوارج لدخوله التحكيم وكفّروه، لم يعرض لهم بسوء لمجرّد أنّهم تكلَّموا عليه، ولم يعرض لهم بالقتال لمجرّد أنّهم عارضوه أو سبّوه.. بل تدخّل لقتالهم عندما عرضوا لبعض المؤمنين وهو خَبابُ فقتلوه، وقتلوا زوجته بعدما بقروا بطنها. عند ذلك تدخّل عليّ (عليه السلام) وحاربهم ليعيد النظام إلى نصابه، لأنّهم تحوَّلوا إلى قطَّاع طرق.
من هنا فإنَّ عليّاً (عليه السلام) لم يحارب أحداً لمجرّد كونه معارضاً، بل إنّه أعطى معارضيه الحريّة في أن يسألوا وأن يعارضوا ولكن عندما يسيئون إلى النظام فإنّه يتدخّل. وقد روي أنّ بعض الخوارج كان جالساً في مجلس عليّ (عليه السلام) وهو يتحدّث، فقال الخارجي: "قاتله الله كافراً ما أفقهه" فوثب القوم ليقتلوه، فقال لهم الإمام عليّ (عليه السلام): "رويداً إنّما هو سبٌّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب!"(3).
عليّ (عليه السلام) والمساواة الاجتماعية
كان الإمام يلتزم حكم الله حتّى في مسائله الخاصّة، فكانت كلّ حياته التزاماً بالحقّ، بكلّ ما لكلمة الحقّ من معنى، والتزاماً بالإسلام بكلّ ما يحتاجه الإسلام من دعم ومن قوّة، والتزاماً بالله في كلّ أموره وإدارة أمور المسلمين بمسؤولية لا مهادنة فيها. وهو يقول في ذلك: "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).. فعليّ لا يعترف بالطبقيّة في الحكم ويرى الشريف والضعيف سواء أمام الحقّ. وقد تعلَّم ذلك من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يقول: "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرَقَ الشريف تركوه وإذا سرقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها".
ليس في الإسلام فرق ـــ أمام الحقّ ـــ بين مَن كان في أعلى الدرجات الاجتماعية وبين مَن كان في أسفلها، لأنَّ قضايا الحقّ والباطل ليست متعلّقة بمراكز الأشخاص، بل هي متعلّقة بمواقع الحقّ في حركة هؤلاء الأشخاص وواقعهم.
عليّ (عليه السلام) وتوعية الأُمّة
كان الإمام (عليه السلام) يعمل على تثقيف الناس بالإسلام، ويبدو ذلك واضحاً من خطب نهج البلاغة، حيث كان يستفيد من كلّ المناسبات لتوعية الناس بكلّ قضايا الساحة؛ فكان الحاكم الذي يريد أن يرفع المستوى الثقافي لشعبه، وليس الحاكم الذي يريد أن يستثير عواطف شعبه ليربطه به، وهذه هي مسؤولية المسؤولين في الساحة الإسلامية، إذ عليهم أن يُثقّفوا الأُمّة في كلّ ما تحتاجه من ثقافة سياسية أو اجتماعية أو دينية؛ لأنَّ الله فَرَض على كلّ عالمٍ يملك علم الإسلام ويدرك حاجة الناس، أن يلاحق الناس ليعلم، ويقتحم عليهم بيوتهم ليعلّمهم، وينتهز كلّ الفرص في ذلك ليرفع مستواهم، ولاسيّما في المواقع التي يتحرّك فيها أهل البِدَع وأهل الكفر والضلال ليضلّلوا المسلمين، إذ لا يجوز ـــ حينئذٍ ـــ لإنسان أن يبقى في بيته ليكتب ويخطب ويتحدّث ويناقش ويحاور، سواء كان في مستوى المسؤولية الرسمية أو لم يكن.
فقد وَرَدَ في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159]. وفي حديثٍ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إذا ظهرت البِدَع في أُمّتي فليُظهر العالِم علمه فَمَنْ لم يفعل فعليه لعنةُ الله"(1)؛ ذلك لأنَّ الإسلام لا يريد للأُمّة أن تبقى جاهلة وساذجة ومغفّلة.
فالأُمّة إذا كانت جاهلة بقضاياها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية فإنَّ الأعداء يستطيعون أن يستغلُّوا جهلها فيورّطوها في مشاكل كثيرة.
وقد أوْلى الإسلام مسألة التعلُّم أهمية خاصّة. ومن هنا يقسّم الإمام عليّ (عليه السلام) الناس في حديثه لكميل بن زياد: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ"(2).
ثم يقول: "يا كميل، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، والْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ"(3)، ثمّ يحدِّد الإمام (عليه السلام) للناس قيمة الإنسان فيقول: "قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه"(4). وقد ورد في القرآن الكريم: {... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 9].
نعرف من كلّ ذلك أنّ الله يريدنا أن نكون الواعين، ويريد من العلماء أن يوعوا الناس في كلّ أمورهم، ويعظوهم ويذكّروهم بالله، ويذكّروهم بعذابه وثوابه، ويعرّفوهم أحكامه، ويوجّهوهم نحو ما يحبّ، ويعرّفوهم كلّ قضاياهم، ولا يجاملوهم في الحقّ بل يقفوا ليقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو رجمهم الناس بالحجارة.
هذا ما يجب أن نستذكره في ذكرى ولادة هذا الرجل العظيم الذي ولد في بيت الله، وجعل حياته كلّها في خدمة الله. فكانت شهادته بين يديه في بيته. ولذلك قال حين ضربه ابن ملجم: "فزتُ وربّ الكعبة"(1) لأنّه رأى أنّ حياته كلّها كانت على حقّ، ولهذا كان يبتسم في هذا المجال على الرغم من أنّه عانى الكثير وتألَّم وواجَه المشاكل، ولم يمكّنه أهل الجمل وصفّين والنهروان من أن ينفّذ برنامجه، ولم يمكّنوه من أن ينفّذ ما عنده.
وحين كان يشعر بأنَّ الموت يدنو منه، كان يفكِّر بتعليم الناس، فكان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"(2) وهو يكاد يلفظ أنفاسه. ذلك لأنّه كان يحبّ أن ينشر الوعي في حياة الناس.
هذا هو عليّ (عليه السلام) الذي نعتزّ به من خلال جهاده العظيم، وعلمه الجمّ الذي يخشع أمامه المسلم وغير المسلم، وعدله الذي أكّده في كلّ مواقع حياته، وإخلاصه لله وللإسلام.
الانتماء لعليّ (عليه السلام) مسؤولية
من هنا، فإنَّ انتماءنا لعليّ (عليه السلام) يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأمناء وأن نكون المحقّين، الذين يتحرّكون مع أهل الحقّ. فعليّ (عليه السلام) ليس كلمة نهتف بها، بل هو موقف رسالة لا بدّ أن نلتزمها ونتبعها. وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نقف مع عليّ (عليه السلام) فلا بدّ أن نواجه الباطل كلّه كما واجَه الباطل كلّه. لقد واجَه عليّ (عليه السلام) الباطل في الكفر فوقف ضدّ الكفر وحارَبَ كلّ الكافرين. وواجه عليّ (عليه السلام) الباطل في داخل المسلمين فوقف ضدّ أهل الباطل منهم في ما كانوا يتحرّكون فيه من فكر ومن ممارسات ومناهج.. وقف عليّ (عليه السلام) ضدّ ذلك كلّه، فكيف يمكن أن يكون موقفنا في كلّ ما يثار حولنا من قضايا، وفي كلّ ما يتحرّك عندنا من أوضاعٍ؟.
أميركا والانتفاضة الفلسطينية
نحن نجد في الدائرة الدولية العالمية التي تطلّ على مواقعنا الإسلامية تحرُّكاً أميركياً، ينطلق فيه المندوبون الأميركيون من وزير خارجية أميركا إلى آخر مبعوث لهم في رحلات مكوكيّة؛ فلماذا هذه اليقظة الأميركية الجديدة التي تأتي في آخر سنة من سنوات الإدارة الأميركية التي يعرف الجميع أنّ أميركا عادة ما تكون مشغولة فيها بالانتخابات، وأنّها لا تستطيع أن تنتج مشاريع أساسية في الخطّ السياسي الدولي أو الإقليمي، لأنّها تترك ذلك كلّه للإدارة الجديدة، ما عدا القضايا الأساسية التي تمثّل السياسة القومية لأميركا؟.
لماذا هذه اليقظة أو الصحوة أو الاهتمام الأميركي الجديد بقضايا المنطقة والقضية الفلسطينية بالذّات؟
الحقيقة هي أنّ أميركا تشعر ـــ ومعها كلّ دول أوروبا ـــ بأنَّ القضية الفلسطينية سائرة على الخطّ، الذي رسم لها من قِبَل السياسة الأميركية. وهو الخطّ الذي يضغط على الفلسطينيين وعلى العرب من أجل أن يقدّموا تنازلات، تبدأ بالاعتراف بــ "إسرائيل" واقعياً أو رسمياً، حتى تنتهيَ بالتنازل "لإسرائيل" عن أكثر فلسطين أو كلّها إنْ أمكن ذلك.
وإذا كانت السياسة الأميركية تتحرّك في هذا الاتجاه، فإنَّ الوضع العربي يتحرّك في الاتجاه نفسه من قمّة إلى أخرى، حتى كانت قمّة عمان، التي اتّفق فيها الزعماء العرب على أنّ القضية الفلسطينية هي قضية ثانوية وأنّها قضية نزاع مع "إسرائيل" وليست صراعاً! وبذلك ارتاحت أميركا وأخمدت الوضع كلّه؛ لأنَّ الذين اعتبروها قضية ثانوية سوف يصلون بها إلى مستوى أنّها ليست قضية وليست مشكلة.
ولكن جاءت الانتفاضة الإسلامية في فلسطين، لتربك الوضع وتنسف كلّ تلك المخطّطات، حيث إِنّها فاجأت العرب وفاجأت الفلسطينيين الذين يتحرّكون في دائرة الحلول الأميركية العربية وفاجأت الواقع الدولي كلّه.
وكانوا ينتظرون لهذه الانتفاضة أن تتحرّك يوماً أو يومين أو أسبوعاً، ولكنّها وصلت إلى الشهر الثالث ولا تزال قويّة لا تجمد في مكان، حتّى تتحرّك في مكانٍ آخر. واستطاعت أن تُثقل الضمير العالمي حيث أصبح مثقلاً أمام تأييده "لإسرائيل". ثمّ تحوَّلت فعملت على أن تثير كلّ تلك الطاقات الإسلامية في البلاد العربية، وفي غيرها، لتتحرّك من جديد بعدما استطاع الحكّام المرتهنون لأميركا أن يجمدوا الروحية في شعوبهم ويضغطوا عليها.. تحرّكت الانتفاضة، فبدأت التظاهرات تنطلق في مصر وفي المغرب وهما البَلَدان المخلصان كلّ الإخلاص "لإسرائيل" ضدّ الإسلام والمسلمين، فقمعت التظاهرات فيهما، ولم يُسمح للتظاهرات في بقيّة البلدان العربية بأن تنطلق تأييداً للانتفاضة أو رفضاً للمؤامرات.
وأوجدت الانتفاضة إرباكاً في داخل فلسطين المحتلّة، في المجتمع الإسرائيلي، وبدأت توقظ ضمائر ومشاعر كثير من الجنود والطلاّب أمام هذه الوحشية التي يمارسها الجندي الإسرائيلي، من خلال أوامر قادته بكسر أذرع الشباب وقتل الأطفال والنساء ودفن بعضهم أحياء، فأصبحت تُثقل الضمير الداخلي عندهم وتربك أميركا التي تلتزم "إسرائيل" بالكامل.
جاء شولتز إلى المنطقة كداعية سلام، ولكنّه في الواقع جاء ليجمّد الانتفاضة وليحاصرها من خلال الحكّام العرب، ومن خلال الذين لا يزالون يراهنون على الحلّ الأميركي في الدائرة الفلسطينية، ويعمل على تطويقها بكلّ الوسائل لمصلحة الساحة الانتخابية التي تحتاج إلى الأصوات اليهودية في أميركا، ولمصلحة إنقاذ "إسرائيل" من هذا الواقع، ولكنّه كان يتكلّم بغباء عن الماء والكهرباء في الضفّة الغربية وغزّة وعن تعبيد الطرقات وعن تقديم المساعدات الغذائية، ثمّ يتصدّق عليهم بانتخابات بلدية؛ وكلّ ذلك يتمّ تحت المظلّة الإسرائيلية، ويُسْكِتَ هؤلاء الجائعين الذين لا يعيشون في النور.
ثمّ بدأ يتحدّث داخل "إسرائيل" بلغة العواطف. ونحن نعتبر أنّ رفض الفلسطينيين الاجتماع به يمثّل موقفاً حادّاً، ولكنّنا نجد أنّ هناك مسؤولين فلسطينيين يعملون على أن يجتمعوا به، وقد أعلن هو عن عدم استعداده للاجتماع بمنظّمة التحرير إلاّ إذا اعترفت بــ "إسرائيل" واعترفت بالقرار 242 على أساس أن يحوِّلوا قضية الفلسطينيين إلى قضية لاجئين يطلبون المساعدات الإنسانية، بعد أن كانت قضية شعب يطلب الحريّة.
لا للمفاوضات مع أميركا
إنّنا نقول لكلّ المجاهدين هناك، ولا نريد أن نقدِّم لهم مواعظ، لأنّهم استطاعوا أن يقدِّموا لكلّ الأُمّة المواقف، التي تعظّ كلّ الذين يراهنون على الحلّ الأميركي الإسرائيلي.. نقول لهم: إنّكم استطعتم أن تعدموا بعض العملاء وتحاصروا البعض، فحاصروا كلّ مَن يحاول أن يتحرّك لمخاطبة هذا الشخص الذي جاء من أجل أن يحاصر الانتفاضة وينقذ "إسرائيل"، ولم يأتِ من أجل أن ينقذ الشعب الفلسطيني.
لا بدّ من وقفة تواجه الواقع كلّه على هذا الأساس، لأنّ الإدارة الأميركية لا تختلف عن الإدارة الإسرائيلية في المسألة الفلسطينية، وإن كانت تختلف عنها في طريقة الإخراج وتوزيع الأدوار.
إنَّ المطروح هو أن تتحوَّل المسألة الفلسطينية إلى مسألة العلاقات بين "إسرائيل" والدول العربية لا مسألة الشعب الفلسطيني.
أنموذج المقاومة
إنّ الشعب الفلسطيني المسلم قد أمسك الآن بقضيّته، وعليه أن لا يعيد الكرة فيسلّم قضيّته لهؤلاء الحكّام الذين باعوها. فعندما انطلقت مصر، كانت تفكّر بأنَّ مسألتها مع "إسرائيل" هي مسألة مصريّة، ولهذا صالحت "إسرائيل" وتركت المسألة الفلسطينية والآن يأتي دور الأردن، ليعتبر أنّ هناك مشكلة أردنية ـــ إسرائيلية وليست مشكلة فلسطينية، ولهذا فإنّه سوف يبيع القضية الفلسطينية كما سيبيعها غيره من الحكّام العرب.
وعلينا أن نعرف أنّ استمرار الانتفاضة يُحرج السياسة الأميركية، لأنّها بدأت في إعادة الروح الإسلامية إلى المسلمين في المنطقة وإلى كلّ المستضعفين حتّى من غير المسلمين. وقد امتدّت الذهنية الجديدة وهي الذهنية الإسلامية التي تقف في الخطّ الثابت من أجل مواجهة "إسرائيل"، وهم يخافون من هذه الذهنية وهذه الروحية الجديدة، ولهذا يريدون أن يقمعوها.
لقد انطلقت هذه الروحية من إيران الإسلام ومن اللبنانيين المسلمين الملتزمين، الذين يتحرّكون مع الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ في فلسطين. وعلينا أن نحافظ على هذه الروحية التي تخلق النموذج الذي يقول لكلّ مسلم في العالم إنَّ بإمكانه أن ينتصر، إذا أصرَّ على الثبات وعلى الوقوف وعلى الإرادة الواقعية الواعية مهما كانت الظروف، كما تقول الآية الكريمة: {... كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ...} [البقرة : 249].
ثمّ هناك مسألة القصف الإجرامي المجنون للشعب الإيراني المسلم في طهران، حيث يطال القصف المستشفيات والمراكز العلمية، وقد قصف الطاغية صدام مدينة قم العلمية المقدّسة ـــ ولم تمنعه قداستها من قصفها ـــ ثم قصف الأبرياء في كلّ المدن الإيرانية الأخرى بصواريخ، قالت الجمهورية الإسلامية عنها إنّها سوفياتية الصنع، وهي صادقة في ما تقول. وبذلك فإنّها خطّة أميركية تنفّذ بأسلحة سوفياتية.
نريد أوّلاً أن نسأل الدول الكبرى: كيف تتحدّثون عن حقوق الإنسان وعن الحقوق المدنية للناس، ثمّ تسلِّمون الأسلحة الفتّاكة المدمّرة لطاغية مجنون، تعرفون أنّه يتحرّك عسكرياً من خلال جنونه المتأصّل في شخصيّته، كما يعرفه كلّ الذين عاشوا معه. إنّ معنى ذلك أنّكم أنتم الذين تقصفون الشعب الإيراني المسلم.
قد يقول البعض إنَّ الحرب تقتضي الردّ بالمثل، فإذا قصفت الآخرين، فمن الطبيعي أن يردّوا عليك. ولكن مَن يتابع الأخبار يعرف أنّ الإيرانيين لم يبادروا بقصف مدني، بل إنّ الذي بادر هو هذا الطاغية، الذي لم يبرّر فعله بردّ الفعل، وإنْ لجأ أخيراً إلى ذلك، بعد أن حدثت ضجّة في الرأي العام. قال: إنَّنا سنظل نقصف المدن الإيرانية ونبيدها، حتّى يقبل الإيرانيون بوقف إطلاق النار في الحرب. إنّه يريد أن يحلّ المشكلة بخلق مشكلة أخرى. ذلك لأنّه رأى أنّ الوضع السياسي في العالم قد انشغل بمسألة الانتفاضة في الضفة الغربية وغزة، وبدأت دول الخليج تعمل على أساس أن تتكامل أو تتعاون أو تتحاور مع إيران، وبدأت أميركا تسحب بعض بوارجها من الخليج. ولذلك كان هذا التصرّف منه من أجل أن يعيد الاهتمام العالمي إلى قضيّته. والإيرانيون يقولون لا خيار لنا، إنّ الشعب العراقي هو شعب مسلم، ولا فرق عندنا بين الشعب العراقي والشعب الإيراني، ولذا امتنعوا مدّة عن ذلك، ولكنّ هذا الجوّ استُغلّ، فأخذوا يوجّهون النداء للشعب العراقي قبل 24 ساعة، لينطلق بعيداً عن المواقع العسكرية حتّى لا يبتلى بهذه الحرب.
وقد عبَّر الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ عن الموقف، بأنّ إطلاق الصواريخ لن يخيف الشعب الإيراني المسلم، الذي يسعى إلى الاستشهاد ويعتبر الشهادة شرفاً له.
من هنا، لا بدّ من أن نواجه المسألة من خلال وعينا لطبيعتها، التي تتحرّك من خلال السياسة الدولية التي تعمل على محاصرة الشعب الإيراني المسلم، من أجل محاصرة الثورة الإسلامية.
الأزمة اللبنانية
وأخيراً عندما نواجه واقعنا الذي نعيشه، علينا أن نعرف أنّ الموقف في المسألة الداخلية لا يزال على حاله، وليس هناك حلّ للمسألة اللبنانية في المستقبل المنظور. فكلّ الحديث عن الإصلاح يتحرّك في دائرة معقّدة، لأنّ كلّ فريق يعمل على أن يثير المشاكل بوجه الفريق الآخر، فتبقى المسألة تراوح مكانها في كلّ الحوار اللبناني ـــ اللبناني الذي يمرّ بوساطة سورية من خلال وساطة أميركية.
كلّ ذلك من أجل أن يُنتخب رئيس جمهورية، حتّى يستطيع أن يدير الأزمة، أو يصرف الأعمال، لأنَّ الطبخة اللبنانية لم تنضج بعد، فهي مرتبطة بالطبخة الفلسطينية ومرتبطة بالطبخة الخليجية على حسب التعبيرات السياسية.
من هنا ينبغي أن لا نضع أنفسنا في أجواء الأحلام، بل علينا أن نتعايش مع المشكلة وأن نحدّق في الساحة جيداً. ولا بدّ أن نفكّر بأنّ القضية تتحرّك في الدائرة الصغيرة، وهي دائرة الشخص الذي سينتخب رئيساً. وقد دخلت "إسرائيل" على الخطّ علناً لتقوّيَ فريقاً ولتحرّك الصراعات اللبنانية. فعلينا من خلال التصريح الإسرائيلي أن نحدّق بالساحة، لنعرف مَن هو الفريق الإسرائيلي، وأين يتحرّك، وكيف ينطلق؟
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية نلاحظ أنّه حتّى الفريق الآخر، الذي يعتبر نفسه في مواجهة الفريق الإسرائيلي، لم يستطع أفراده أن يجتمع بعضهم مع بعض حيث كان اللّقاء بهم في دمشق كلاًّ على حِدَة.
وختاماً نعرج على ساحة المشاكل الإسلامية، التي نحمد الله على أنّها استطاعت أن تصل إلى حدّ التعقُّل والاتّزان. ونحن نسجِّل لساحتنا ولشعبنا ولكلّ أهلنا في الجنوب أنّهم استطاعوا بوعيهم واتّزانهم أن يمنعوا المشكلة، التي كان الجميع يعملون على إثارتها، ليقاتل المؤمن أخاه. ونحن نقول لجميع مَنْ في السّاحة إنَّ عليهم إذا اختلفوا سياسياً، أن يتحاوروا ويجلس بعضهم مع بعض؛ لأنَّ ذلك هو السبيل للوصول إلى نتائج إيجابية، وليس السبيل إلى ذلك هو التقاتل أو التراشق بالاتّهامات أو إطلاق التصريحات.
إنَّ علينا أن نكون الصادقين الأمناء الواعين، الذين يتحرّكون من خلال خطّ الإسلام وفي طريق الإسلام، حتّى نلتقيَ بالله ونحن مسلمون.
والحمد لله ربّ العالمين
منهج وانتماء(*)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
تذكر الروايات الواردة عن طريق السُنّة والشيعة أنّ المقصود بذلك هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الغلام، الذي ربَّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تربية روحية تنفتح على الله كما كان هو ينفتح على الله.
عليّ (عليه السلام) في بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
احتضن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً (عليه السلام) قبل البعثة، إذ أخذه من عمّه أبي طالب ليخفّف عنه ثقل العيال، وبذلك كان الولد الروحي لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يتأمَّل في آفاق الله وفي آفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل الرسالة، وكان يشرك علياً في أجواء هذه التأمّلات ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميَّزت شخصيّته. فكان رسول الله الصادق الأمين، وربّى عليّاً ـــ وهو طفل ـــ على أن يكون الصادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلِّمني شيئاً أبلغ به المنزلة العليا عندك قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ علياً بلغ ما بلغ لأنّه كان الصادق الأمين" وكان صدقه هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عليّ عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة. وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلّ المراحل التي عاشها وفي كلّ المواقع التي تحرَّك فيها.
ذلك هو عليّ الذي عاش مع الله، حتّى إذا بُعث رسول الله، دعاء إلى الإسلام فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره. ويذكر بعض المؤرّخين أنّ علياً كان أوّل مَن أسلم من الصبيان. يريدون من ذلك أن يوحوا بأنّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن عندما دعاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟
وعندما قيل لعليّ: كيف تدخل في الإسلام قبل أن تستشير أباك؟ قال لهم: إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فكيف أستشيره عندما أؤمن برسالة الله؟ إنَّ مسألة الآباء والأجداد والأُمّهات تتعلّق ببعض شؤون الحياة، في العلاقات العامّة والتصرّفات الخاصّة من حياة الإنسان، أمّا عندما يتعلّق الأمر بالله فلن يكون هنالك دور للآباء أو الأُمّهات، بل للنّاس جميعاً، إذ لا معنى للناس أمام الله، لأنّنا نرتبط بالناس من خلال أمر الله. فنحن نحسن إلى آبائنا وأُمّهاتنا، ونحسن إلى أرحامنا وجيراننا وكلّ الناس من حولنا، لأنّ الله أمرنا أن نحسن إليهم.
عليّ (عليه السلام) بعد البعثة
أَسْلَمَ عليّ وانطلق مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان معه في بيته يسمع حفيف أجنحة الوحي عندما ينزل إلى رسول الله، وكان يعيش مع رسول الله، ليسمع منه كلّ آية تنزل عليه وكلّ حكم يوحي به الله إليه. وكان يتعلَّم من رسول الله كيف يكون الصابر عندما تحتاج الرسالة إلى صبر، وكيف يكون المتحرّك عندما تحتاج الرسالة إلى حركة، وكيف يكون الشديد عندما تحتاج الرسالة إلى شدّة، وكيف يكون المتسامح عندما تحتاج الرسالة إلى التسامح. فكانت أخلاقه صورة لأخلاق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). حتّى إذا جاء نصارى نجران ليباهلوا رسول الله، نزلت هذه الآية: {... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61]. وجاء رسول الله بابنيه وابنته، وجاء بعليّ كأنّه يقول: إنَّ علياً هو نفسي وليس ذلك امتيازاً لقرابته، فلرسول الله أبناء عمّ كثيرون، ولكنّه امتاز لعمق شخصية عليّ، لأنّ رسول الله ربّى نفس عليّ من عمق نفسه، وأطلق خطّ الأخلاق عند عليّ من خلال أخلاقه.
التجارة مع الله
كان عليّ المسلم المطيع لرسول الله في كلّ مواقع الحياة، وانطبع بالإسلام في كلّ فكره وفي كلّ مشاعره وفي كلّ عواطفه. ونحن نفهم من سيرته ومن كلماته ومن كلّ أجوائه أنّ معنى الإسلام عنده هو بيع النفس لله، فلا يكون الإنسان مسلماً إذا كان يحسب لنفسه حساباً غير حساب الله، أو يرى لها مصالح غير مصالح رسالة الله، أو علاقات غير العلاقات التي يحبّها الله، أي أن تكون حياته كلّها لله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
باع عليّ حياته لله عندما أكّد إسلامه ليخطّط لنا الطريق. وقد حدَّثنا الله عنه في الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة : 207] وفي رأي بعض المفسّرين أن {يَشْرِي} تعني يبيع.
وهناك تفسيرٌ آخر يقول: إنّ الإنسان إذا سار في خطّ الله فقد شَرَى نفسه لأنّه يربحها في الجنّة، بينما مَنْ يمضي في غير خطّ الله يخسر نفسه {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. عندما تطيع الله فقد اشتريت نفسك، لأنّك ربحتها؛ وعندما تعصي الله وتكفر به فقد فقدت نفسك وخسرتها.
وكان عليّ (عليه السلام) يريد أن يربح نفسه، وعرف أنّه لن يربحها عند الله إلاّ إذا جعلها في خدمته وبذلها في سبيله. ولذلك عندما طلب إليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبيت على فراشه ليلة الهجرة، فإنّه لم يتردَّد في القبول، على الرغم من كلّ الخطر المحدق به، ولم يسأله عمّا يلحق به من أذى، بل سأله عن شيء واحد ليطمئن على حياة الرسول ومستقبل الرسالة، إذ قال له: "أَوَتَسْلَم يا رسول الله؟ قال: بلى. قال: إذاً اذهب راشداً مهدياً".
هكذا بات على فراش رسول الله، ولولا ذلك لم يستطع رسول الله أن يغطّي انسحابه، فقد كان يُخيّل إلى القوم وهم يجدون شخصاً نائماً في الفراش أنّ ذلك هو الرسول.
الهجرة إلى المدينة
وانطلق عليّ (عليه السلام) إلى المدينة، ولم يكن الرسول قد دخلها حتى التحق به عليّ، وبدأ عليّ يتحرّك مع رسول الله، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه ويندفع لتنفيذ كلّ ما يريد منه.
وجاءت المعارك وكان عليّ فارسها. وقد ذكر المؤرّخون أنّ عليّاً قتل في بدر نصف قتلى قريش، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر. وينقل هو عن نفسه، أنّه كان في أثناء المعركة يُقاتِل ويقتُل ثمّ يأتي ليطمئن على رسول الله فيجده ساجداً، يدعو في سجوده فكان يعيش في أجواء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى وهو يقاتل، وكان هو الذي دافع عن رسول الله.
وعندما دارت الدائرة على المسلمين في أُحُد، كان هو الذي دافع عن رسول الله، حتّى حماه بنفسه، فقد كان الرسول يقول له: ادفع عنّي هذه يا عليّ، كلّما هجمت عليه كتيبة من قريش.
وكان في جميع معارك رسول الله الفارس البطل، حتّى إِنّ الرسول قال عنه حينما برز في معركة الأحزاب لعمرو بن عبد ود العامري، قال: "بَرَزَ الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(1). وقد وقف عليّ (عليه السلام) إزاء عمرو، فقال الأخير: لقد كان أبوك نديماً لي صديقاً، فارجع فإنّي لا أحبّ أن أقتلك. فقال عليّ (عليه السلام): ولكنّي أحبّ أن أقتلك.
لم يكن مهمّاً لديه أن يحافظ على صداقات أبيه أو صداقات قومه، بل كان كلّ همّه أن يحافظ على صدقيّته أمام الله. لعلَّكم تستغرقون في معركة الخندق فتبتهجون لانتصار عليّ (عليه السلام) على عمرو بن عبد ودّ، وتبتهجون لبطولته. ولكن ليكن ابتهاجكم بدروسه أكثر من ابتهاجكم بشجاعته، لأنَّ شجاعته كانت في دائرة المعركة، أمّا درسه فهو في دائرة الحياة كلّها. ومن ثمّ فإنَّ دفاعكم عن الصديق إذا كان عدوّاً لله، أمر لا ينسجم مع التزامكم بخطّ عليّ، الذي هو خطّ الإسلام.
إذا كنتم تحبُّون عليّاً (عليه السلام) فأحبُّوا خطّه وأحبُّوا أخلاقه وأحبّوا فكره وجهاده؛ فهذا هو عليّ (عليه السلام)، وليس هو مجرّد إنسان تلتزمون بحبّه وتتنكَّرون لمواقفه ولخطّه.
منزلة عليّ (عليه السلام) من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
وهكذا انطلق عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يدفعه إلى كلّ المعارك، حتّى كانت وقعة تبوك فأبقاه في المدينة واحتجّ عليّ (عليه السلام) احتجاج الشكوى، لا احتجاج الاعتراض. فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ السفرة ليست سفرة حرب، ولن يكون فيها حرب. ثم قال له: "أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 ــ 32] وجعل الله عليّاً (عليه السلام) وزيراً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولم يجعله نبيّاً كما جعل هارون. وهكذا رضي عليّ (عليه السلام) بما رضي به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
علم عليّ (عليه السلام)
كان رسول الله يريد للمسلمين أن يتعرّفوا عمق المعرفة عند عليّ (عليه السلام)، وسعة العلم لديه. فقد كان المسلمون يتطلّعون إلى رسول الله باعتباره يحمل كلّ علم الإنسان، لأنَّ الله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه بالإسلام وألهمه علم ذلك كلّه. وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يحاذر أن ينسى فطمأنه الله، أنّه سيجمع له علم ذلك كلّه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 ـــ 17] فكان المسلمون يتطلَّعون إليه وَيَحَارون كيف يستطيعون أن يأخذوا العلم منه، والوقت قد لا يتّسع لذلك. فقال لهم: "أنا مدينةُ العِلْم وعليٌّ بابها(1)، فمن أرادَ دخول المدينة فليدخلها من بابها"، ذلك لأنَّ عليّاً عاشَ علم رسول الله كلّه ومن ثمّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة، إلاّ وأجاب عنها. وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلّ أمورهم. حتّى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبويه" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلّف أوّل قاموس في اللّغة العربية.. قيل له: لم آثرت عليّاً (عليه السلام) على غيره؟ وكان الخليل يلتزم ولاية عليّ (عليه السلام). فقال احتياج الكلّ إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعليّ (عليه السلام) واستغناؤه عن الكلّ.. (لم نجد عليّاً (عليه السلام) محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنّه إمام الكلّ. وقد بلغ عليّ (عليه السلام) ما بلغ من العلم، لأنّه كان يستمدّ علمه ـــ مباشرة ـــ من النبع الذي كان يعيش في أجوائه دائماً. حتى قالت بعض نساء النبيّ إنَّهن كنَّ يغرن من عليّ (عليه السلام)، لأنّه كان يأخذ الكثير من وقت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، على أساس أنّه يعطيه في كلّ ليلة علماً من علمه، ويذكر له محلّ نزول كلّ آية قرآنية وما هي مواقعها وما هي آفاقها.. ويستلهم عليّ ذلك كلّه.
من هنا فإنَّ علم عليّ (عليه السلام) مُستمدّ من الإسلام وليس له فكر غير فكر الإسلام، وحتّى أفكاره في تجاربه كان يستمدّها من الخطّ الإسلامي العام ونستطيع أن نقول: إنَّ فكر عليّ (عليه السلام) هو فكر الإسلام بعينه.
عليّ (عليه السلام) مع الحقّ
وفي عودة الرسول من حجّة الوداع أنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} [المائدة : 67] وبلَّغ رسول الله الرسالة، وقال للمسلمين وقد رفع يَدَيْ عليّ (عليه السلام) حتّى بانَ بياض إبطيهما للناس: "أَلاَ مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَن عاداه، وأَدِر الحقَّ معه حيثما دار"(1). كان يقول ذلك للمسلمين وهو أعرف الناسَ بعليّ (عليه السلام) وهو الذي يعرف أنَّ عليّاً (عليه السلام) لم ينطلق بكلمة باطل، ولم يقف موقف باطل منذ أن كان طفلاً، ولم يتحرّك حركة باطل، أو علاقة باطل. بل "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار"(2).
من هنا نعرف أنّ من يُرِد الارتباط بعليّ (عليه السلام) فعليه أن يرتبط بالحقّ، ومن يتحرّك مع الباطل ليحصل على بعض أطماعه، ومن يتكلَّم بكلمات الباطل حتى يرضى عنه أهل الباطل ثمّ يقول: أنا مع عليّ (عليه السلام) فإنَّ الحقّ الذي يمثّله عليّ (عليه السلام) يقول له: لست مع عليّ (عليه السلام) لأنّك مع الباطل، وليست هناك مساحة بين عليّ (عليه السلام) وبين الحقّ يمكن أن ينفذ الباطل منها.
كانت مشكلة عليّ (عليه السلام) في حياته، أنّه معه الحقّ وكان الناس يريدون منه أن يمزج الحقّ بالباطل ويقولون له: إنَّ عليك إذا أردت أن تعيش في المجتمع، أن تأخذ من الباطل قليلاً وتأخذ من الحقّ قليلاً وتمزجهما، حتى يستطيع الناس أن يتقبَّلوا الحقّ الذي فيه شيء من الباطل. وكان يرفض ذلك، ويقول: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق".
كان عليّ (عليه السلام) مُتعباً لأصحابه، ولكلّ الناس من حوله؛ لأنّه كان يريد أن يسيّرهم على المحجّة البيضاء، على الطريق الأبيض الواضح ولأنّه كان الإنسان الرافض للباطل الذي يلتزم الحقّ في كلّ مجالات الحياة. حتّى إذا وقف بين الحكم والحقّ، رَكَلَ الحكم برجله وفضَّل أن يقف مع الحقّ.
يقول ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها: فقال: "والله لهي أَحَبّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلاّ أنْ أُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"(3)، حتّى الحكم وظَّفه عليّ (عليه السلام) في خدمة الموقف والأسلوب الحقّ، لأنّه كان يريد حكم الرسالة ولا يريد حكم الذّات. ولهذا فإنّه انفتح على الواقع من خلال الرسالة، وكان كلّ همّه هو الله وكلّ فكره هو سلامة الإسلام وسلامة المسلمين. ومن ثمّ نراه يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ التي إِنَّما هِيَ مَتَاعُ أَيّام قَلائِلَ يَزولُ مِنْها ما كانَ كَما يزولُ السَّرابُ، أَوْ كَما يَتَقَشَّعُ السَّحابُ"(1) ويقول في حديثٍ آخر: "لَأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمورُ المسلمين"(2).
من هنا لم تكن معارضته ـــ وقد أُبعِد عن حقّه ـــ معارضة عقدة في الذّات، بل كانت معارضة موقف في الحقّ. فكان يستجيب لهؤلاء الذين تقدَّموا عليه وأبعدوه عن حقّه، فيقدّم لهم المشورة والنصيحة والتعاون، لأنَّ الإسلام يفرض ذلك. حتّى قال قائلهم: لولا عليّ لهلك عمر(3). وكان عليّ لا يشعر بأنّ هناك مشكلة في هذا المجال؛ لأنَّ قضية الحكم لم تكن قضية ذاتية يحجب من خلالها موقفه الذي يحتاجه الإنسان، لمجرّد أنّ الذين يقفون على الحكم هم أشخاص أبعدوه عن الحقّ ولأنَّ المسألة هي مسألة الإسلام كلّه.
مواجهة الخلافات بأسلوب عليّ (عليه السلام)
هذا ما يجب أن نتعلّمه؛ فعندما نواجه المواقف في الدائرة الإسلامية فعلينا أن ننظر مصلحة الإسلام، قبل أن ننظر مصلحة الأشخاص أو مصلحة الطائفة؛ لأنَّ عليّاً (عليه السلام) علَّمنا ذلك. وإذا كنّا نتنازع من خلال عليّ (عليه السلام)، فقد علَّمنا عليّ (عليه السلام) كيف نقف مع حقّنا عندما تفرض الساحة ذلك، وكيف نحرِّك الساحة بطريقة متوازنة، حتّى نحميها من الأعداء الذين يحاولون استغلال خلافاتنا، ليقضوا على الإسلام كلّه. وهذا يحمّلنا مسؤولية كبيرة ـــ ولا سيّما في الدائرة الإسلامية ـــ عندما يعمل الكفر كلّه والاستكبار كلّه على الاستفادة من الخلافات المذهبية أو الخلافات الخاصّة في سبيل إسقاط الإسلام كلّه، ليربطونا بطوائفنا بعيداً عن الإسلام، ولتكون الطائفة هي الأساس وليس الإسلام. ولكن لا قيمة لشيعي لا يلتزم الإسلام خطّاً له، ولا قيمة لسنّي لا يلتزم الإسلام خطّاً. كلّ المسلمين يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، ولكن قد يفهم فريق من المسلمين القضية بطريقة ويفهمها فريقٌ آخر بطريقة أخرى. فإذا اختلفنا في المفردات فعلينا أن نردّ الأمر إلى الله ورسوله، كما علَّمنا القرآن.
وحدة المسلمين
إذا كنتم تفكِّرون كمسلمين فإنّكم تستطيعون أن تلتقوا مع المسلمين الآخرين، ولكن عندما تفكِّرون من مواقعكم الطائفية، فإنّ كلّ الواقع السياسي يبعد بعضكم عن بعض، لأنَّ كلّ طائفة تعمل على أن تكون مستقلّة عن الطائفة الأخرى في كلّ قضاياها وتعمل على أنْ تتقوَّى على الطائفة الأخرى، حتّى بالكافرين. وهذا ما يحدث في داخل اللّعبة اللبنانية وفي داخل واقع العالَم الإسلامي، الذي يتحرَّك فيه المستعمرون ليثيروا المسألة المذهبية، على أساس أنّ الشيعة يريدون أن يُسقطوا السنّة، وأنّ السنّة يريدون أن يسقطوا الشيعة. حتّى ينشغل المسلمون بعضهم مع بعض، وينطلق المستعمرون من أجل أن يصادروا كلّ ثرواتهم وكلّ مواقفهم. فإذا كنّا نلتزم عليّاً (عليه السلام)، فإنّه لم يكن يفكّر إلاّ بالإسلام ووحدة المسلمين، حيث يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُم هذه...".
إنَّ معنى التزامنا عليّاً (عليه السلام) هو أن نلتزم الإسلام ومصلحته، وإلاّ فقد نلتقي بعليّ (عليه السلام) يوم القيامة، وقد عبثنا بوحدة المسلمين وأَعَنَّا المستعمرين عليهم، وناصرنا الكافرين ضدّهم نتيجة عقدة. فنقول له: يا عليّ لقد حاربنا من أجلك وسببنا الناس من أجلك وعملنا كلّ ما عملنا من أجلك فأعطنا جائزتنا، فيقول عليّ (عليه السلام): مَنْ قال لكم إنّكم عملتم من أجل عليّ (عليه السلام)، لأنَّ عليّاً (عليه السلام) باع نفسه لله ولم يبعها لنفسه. ولم يكن يعمل لذاته بل كان يعمل للإسلام، فإذا كنتم تعملون لعليّ (عليه السلام) فاعملوا للإسلام من خلال خطّه.
عليّ (عليه السلام) في الحكم
وإذا كان عليّ (عليه السلام) متسامحاً خارج الحكم فإنّه كان شديداً حين أمسك به، على عكس الواقع السياسي، حيث يكون المعارضون ـــ عادة ـــ أشدَّاء خارج الحكم، ثم يكونون متسامحين داخله، لأنّهم يعارضون بشدّة حتى يصلوا إلى الحكم، فإذا وصلوا انتهى الأمر وأصبحوا يتسامحون مع مَنْ كانوا يتشدَّدون بشأنه. ولكنَّ عليّاً (عليه السلام) كان في خطّ المعارضة ينظر مصلحة الإسلام، ولذا لم يقاتل بل أعطى كلّ النصيحة. وعندما حكم كانت المسألة عند ذلك هي مصلحة الإسلام والمسلمين، فكان يمثّل الحكم الذي يريده رسول الله، فيقف حيث وقف رسول الله ويتحرّك من خلال شريعة الله. ولهذا كان قويّاً وشديداً وحاسماً.
ولكنّه كان يؤمن بمنطق الحوار ويفتح قلبه للذين أعلنوا الثورة عليه ليعيدهم إلى الحقّ. ففي حوارٍ له مع طلحة والزبير قال لهما: "لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً. فاستغفرا الله يغفر لكما ألا تخبراني، أدفعتكما عن حقّ وجَبَ إيّاه؟ قالا: معاذ الله. قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطّاب في القسم إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا وسويت بيننا وبين مَن لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسراً وقهراً ممّن لا يرى الإسلام إلاّ كرهاً. فقال (عليه السلام): "أمّا ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليّ نظرت إلى الكتاب وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلت، فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأُسوة، فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوىً منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد فَرَغَ منه، فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ الله من قسمِهِ، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما، والله، عندي ولا لغيركما في هذا عتبي. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيَّاكم الصبر"(1).
ثم قال: "رَحِمَ الله رجلاً رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"(2). هذا هو منطق عليّ (عليه السلام) عندما وقف هذان الشيخان الصحابيّان ليطلبا منه أن يعطيهما امتيازات في الخلافة، وقف وقفة حاسمة، وتحدَّث إليهما بهذا المنطق الهادئ.
وعندما أعلنا عليه الحرب وجاءا بأمّ المؤمنين عائشة، حاول بكلّ الطرق أن يتفادى الحرب، ولكنّه اضطر لدخولها ـــ في ما بعد ـــ لحفظ نظام الأُمّة.
وهكذا كانت مسألته مع معاوية، فهو لم يدخل الحرب إلاّ بعد أن استقرّ معاوية بالشام، ليقف ضدّ السلطة التي يمثّلها الإمام عليّ (عليه السلام)، من خلال موقعه عند الله ويمثّلها من خلال بيعة المسلمين له.
وحين احتجّ عليه الخوارج لدخوله التحكيم وكفّروه، لم يعرض لهم بسوء لمجرّد أنّهم تكلَّموا عليه، ولم يعرض لهم بالقتال لمجرّد أنّهم عارضوه أو سبّوه.. بل تدخّل لقتالهم عندما عرضوا لبعض المؤمنين وهو خَبابُ فقتلوه، وقتلوا زوجته بعدما بقروا بطنها. عند ذلك تدخّل عليّ (عليه السلام) وحاربهم ليعيد النظام إلى نصابه، لأنّهم تحوَّلوا إلى قطَّاع طرق.
من هنا فإنَّ عليّاً (عليه السلام) لم يحارب أحداً لمجرّد كونه معارضاً، بل إنّه أعطى معارضيه الحريّة في أن يسألوا وأن يعارضوا ولكن عندما يسيئون إلى النظام فإنّه يتدخّل. وقد روي أنّ بعض الخوارج كان جالساً في مجلس عليّ (عليه السلام) وهو يتحدّث، فقال الخارجي: "قاتله الله كافراً ما أفقهه" فوثب القوم ليقتلوه، فقال لهم الإمام عليّ (عليه السلام): "رويداً إنّما هو سبٌّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب!"(3).
عليّ (عليه السلام) والمساواة الاجتماعية
كان الإمام يلتزم حكم الله حتّى في مسائله الخاصّة، فكانت كلّ حياته التزاماً بالحقّ، بكلّ ما لكلمة الحقّ من معنى، والتزاماً بالإسلام بكلّ ما يحتاجه الإسلام من دعم ومن قوّة، والتزاماً بالله في كلّ أموره وإدارة أمور المسلمين بمسؤولية لا مهادنة فيها. وهو يقول في ذلك: "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).. فعليّ لا يعترف بالطبقيّة في الحكم ويرى الشريف والضعيف سواء أمام الحقّ. وقد تعلَّم ذلك من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يقول: "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرَقَ الشريف تركوه وإذا سرقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها".
ليس في الإسلام فرق ـــ أمام الحقّ ـــ بين مَن كان في أعلى الدرجات الاجتماعية وبين مَن كان في أسفلها، لأنَّ قضايا الحقّ والباطل ليست متعلّقة بمراكز الأشخاص، بل هي متعلّقة بمواقع الحقّ في حركة هؤلاء الأشخاص وواقعهم.
عليّ (عليه السلام) وتوعية الأُمّة
كان الإمام (عليه السلام) يعمل على تثقيف الناس بالإسلام، ويبدو ذلك واضحاً من خطب نهج البلاغة، حيث كان يستفيد من كلّ المناسبات لتوعية الناس بكلّ قضايا الساحة؛ فكان الحاكم الذي يريد أن يرفع المستوى الثقافي لشعبه، وليس الحاكم الذي يريد أن يستثير عواطف شعبه ليربطه به، وهذه هي مسؤولية المسؤولين في الساحة الإسلامية، إذ عليهم أن يُثقّفوا الأُمّة في كلّ ما تحتاجه من ثقافة سياسية أو اجتماعية أو دينية؛ لأنَّ الله فَرَض على كلّ عالمٍ يملك علم الإسلام ويدرك حاجة الناس، أن يلاحق الناس ليعلم، ويقتحم عليهم بيوتهم ليعلّمهم، وينتهز كلّ الفرص في ذلك ليرفع مستواهم، ولاسيّما في المواقع التي يتحرّك فيها أهل البِدَع وأهل الكفر والضلال ليضلّلوا المسلمين، إذ لا يجوز ـــ حينئذٍ ـــ لإنسان أن يبقى في بيته ليكتب ويخطب ويتحدّث ويناقش ويحاور، سواء كان في مستوى المسؤولية الرسمية أو لم يكن.
فقد وَرَدَ في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159]. وفي حديثٍ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إذا ظهرت البِدَع في أُمّتي فليُظهر العالِم علمه فَمَنْ لم يفعل فعليه لعنةُ الله"(1)؛ ذلك لأنَّ الإسلام لا يريد للأُمّة أن تبقى جاهلة وساذجة ومغفّلة.
فالأُمّة إذا كانت جاهلة بقضاياها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية فإنَّ الأعداء يستطيعون أن يستغلُّوا جهلها فيورّطوها في مشاكل كثيرة.
وقد أوْلى الإسلام مسألة التعلُّم أهمية خاصّة. ومن هنا يقسّم الإمام عليّ (عليه السلام) الناس في حديثه لكميل بن زياد: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ"(2).
ثم يقول: "يا كميل، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، والْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ"(3)، ثمّ يحدِّد الإمام (عليه السلام) للناس قيمة الإنسان فيقول: "قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه"(4). وقد ورد في القرآن الكريم: {... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 9].
نعرف من كلّ ذلك أنّ الله يريدنا أن نكون الواعين، ويريد من العلماء أن يوعوا الناس في كلّ أمورهم، ويعظوهم ويذكّروهم بالله، ويذكّروهم بعذابه وثوابه، ويعرّفوهم أحكامه، ويوجّهوهم نحو ما يحبّ، ويعرّفوهم كلّ قضاياهم، ولا يجاملوهم في الحقّ بل يقفوا ليقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو رجمهم الناس بالحجارة.
هذا ما يجب أن نستذكره في ذكرى ولادة هذا الرجل العظيم الذي ولد في بيت الله، وجعل حياته كلّها في خدمة الله. فكانت شهادته بين يديه في بيته. ولذلك قال حين ضربه ابن ملجم: "فزتُ وربّ الكعبة"(1) لأنّه رأى أنّ حياته كلّها كانت على حقّ، ولهذا كان يبتسم في هذا المجال على الرغم من أنّه عانى الكثير وتألَّم وواجَه المشاكل، ولم يمكّنه أهل الجمل وصفّين والنهروان من أن ينفّذ برنامجه، ولم يمكّنوه من أن ينفّذ ما عنده.
وحين كان يشعر بأنَّ الموت يدنو منه، كان يفكِّر بتعليم الناس، فكان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"(2) وهو يكاد يلفظ أنفاسه. ذلك لأنّه كان يحبّ أن ينشر الوعي في حياة الناس.
هذا هو عليّ (عليه السلام) الذي نعتزّ به من خلال جهاده العظيم، وعلمه الجمّ الذي يخشع أمامه المسلم وغير المسلم، وعدله الذي أكّده في كلّ مواقع حياته، وإخلاصه لله وللإسلام.
الانتماء لعليّ (عليه السلام) مسؤولية
من هنا، فإنَّ انتماءنا لعليّ (عليه السلام) يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأمناء وأن نكون المحقّين، الذين يتحرّكون مع أهل الحقّ. فعليّ (عليه السلام) ليس كلمة نهتف بها، بل هو موقف رسالة لا بدّ أن نلتزمها ونتبعها. وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نقف مع عليّ (عليه السلام) فلا بدّ أن نواجه الباطل كلّه كما واجَه الباطل كلّه. لقد واجَه عليّ (عليه السلام) الباطل في الكفر فوقف ضدّ الكفر وحارَبَ كلّ الكافرين. وواجه عليّ (عليه السلام) الباطل في داخل المسلمين فوقف ضدّ أهل الباطل منهم في ما كانوا يتحرّكون فيه من فكر ومن ممارسات ومناهج.. وقف عليّ (عليه السلام) ضدّ ذلك كلّه، فكيف يمكن أن يكون موقفنا في كلّ ما يثار حولنا من قضايا، وفي كلّ ما يتحرّك عندنا من أوضاعٍ؟.
أميركا والانتفاضة الفلسطينية
نحن نجد في الدائرة الدولية العالمية التي تطلّ على مواقعنا الإسلامية تحرُّكاً أميركياً، ينطلق فيه المندوبون الأميركيون من وزير خارجية أميركا إلى آخر مبعوث لهم في رحلات مكوكيّة؛ فلماذا هذه اليقظة الأميركية الجديدة التي تأتي في آخر سنة من سنوات الإدارة الأميركية التي يعرف الجميع أنّ أميركا عادة ما تكون مشغولة فيها بالانتخابات، وأنّها لا تستطيع أن تنتج مشاريع أساسية في الخطّ السياسي الدولي أو الإقليمي، لأنّها تترك ذلك كلّه للإدارة الجديدة، ما عدا القضايا الأساسية التي تمثّل السياسة القومية لأميركا؟.
لماذا هذه اليقظة أو الصحوة أو الاهتمام الأميركي الجديد بقضايا المنطقة والقضية الفلسطينية بالذّات؟
الحقيقة هي أنّ أميركا تشعر ـــ ومعها كلّ دول أوروبا ـــ بأنَّ القضية الفلسطينية سائرة على الخطّ، الذي رسم لها من قِبَل السياسة الأميركية. وهو الخطّ الذي يضغط على الفلسطينيين وعلى العرب من أجل أن يقدّموا تنازلات، تبدأ بالاعتراف بــ "إسرائيل" واقعياً أو رسمياً، حتى تنتهيَ بالتنازل "لإسرائيل" عن أكثر فلسطين أو كلّها إنْ أمكن ذلك.
وإذا كانت السياسة الأميركية تتحرّك في هذا الاتجاه، فإنَّ الوضع العربي يتحرّك في الاتجاه نفسه من قمّة إلى أخرى، حتى كانت قمّة عمان، التي اتّفق فيها الزعماء العرب على أنّ القضية الفلسطينية هي قضية ثانوية وأنّها قضية نزاع مع "إسرائيل" وليست صراعاً! وبذلك ارتاحت أميركا وأخمدت الوضع كلّه؛ لأنَّ الذين اعتبروها قضية ثانوية سوف يصلون بها إلى مستوى أنّها ليست قضية وليست مشكلة.
ولكن جاءت الانتفاضة الإسلامية في فلسطين، لتربك الوضع وتنسف كلّ تلك المخطّطات، حيث إِنّها فاجأت العرب وفاجأت الفلسطينيين الذين يتحرّكون في دائرة الحلول الأميركية العربية وفاجأت الواقع الدولي كلّه.
وكانوا ينتظرون لهذه الانتفاضة أن تتحرّك يوماً أو يومين أو أسبوعاً، ولكنّها وصلت إلى الشهر الثالث ولا تزال قويّة لا تجمد في مكان، حتّى تتحرّك في مكانٍ آخر. واستطاعت أن تُثقل الضمير العالمي حيث أصبح مثقلاً أمام تأييده "لإسرائيل". ثمّ تحوَّلت فعملت على أن تثير كلّ تلك الطاقات الإسلامية في البلاد العربية، وفي غيرها، لتتحرّك من جديد بعدما استطاع الحكّام المرتهنون لأميركا أن يجمدوا الروحية في شعوبهم ويضغطوا عليها.. تحرّكت الانتفاضة، فبدأت التظاهرات تنطلق في مصر وفي المغرب وهما البَلَدان المخلصان كلّ الإخلاص "لإسرائيل" ضدّ الإسلام والمسلمين، فقمعت التظاهرات فيهما، ولم يُسمح للتظاهرات في بقيّة البلدان العربية بأن تنطلق تأييداً للانتفاضة أو رفضاً للمؤامرات.
وأوجدت الانتفاضة إرباكاً في داخل فلسطين المحتلّة، في المجتمع الإسرائيلي، وبدأت توقظ ضمائر ومشاعر كثير من الجنود والطلاّب أمام هذه الوحشية التي يمارسها الجندي الإسرائيلي، من خلال أوامر قادته بكسر أذرع الشباب وقتل الأطفال والنساء ودفن بعضهم أحياء، فأصبحت تُثقل الضمير الداخلي عندهم وتربك أميركا التي تلتزم "إسرائيل" بالكامل.
جاء شولتز إلى المنطقة كداعية سلام، ولكنّه في الواقع جاء ليجمّد الانتفاضة وليحاصرها من خلال الحكّام العرب، ومن خلال الذين لا يزالون يراهنون على الحلّ الأميركي في الدائرة الفلسطينية، ويعمل على تطويقها بكلّ الوسائل لمصلحة الساحة الانتخابية التي تحتاج إلى الأصوات اليهودية في أميركا، ولمصلحة إنقاذ "إسرائيل" من هذا الواقع، ولكنّه كان يتكلّم بغباء عن الماء والكهرباء في الضفّة الغربية وغزّة وعن تعبيد الطرقات وعن تقديم المساعدات الغذائية، ثمّ يتصدّق عليهم بانتخابات بلدية؛ وكلّ ذلك يتمّ تحت المظلّة الإسرائيلية، ويُسْكِتَ هؤلاء الجائعين الذين لا يعيشون في النور.
ثمّ بدأ يتحدّث داخل "إسرائيل" بلغة العواطف. ونحن نعتبر أنّ رفض الفلسطينيين الاجتماع به يمثّل موقفاً حادّاً، ولكنّنا نجد أنّ هناك مسؤولين فلسطينيين يعملون على أن يجتمعوا به، وقد أعلن هو عن عدم استعداده للاجتماع بمنظّمة التحرير إلاّ إذا اعترفت بــ "إسرائيل" واعترفت بالقرار 242 على أساس أن يحوِّلوا قضية الفلسطينيين إلى قضية لاجئين يطلبون المساعدات الإنسانية، بعد أن كانت قضية شعب يطلب الحريّة.
لا للمفاوضات مع أميركا
إنّنا نقول لكلّ المجاهدين هناك، ولا نريد أن نقدِّم لهم مواعظ، لأنّهم استطاعوا أن يقدِّموا لكلّ الأُمّة المواقف، التي تعظّ كلّ الذين يراهنون على الحلّ الأميركي الإسرائيلي.. نقول لهم: إنّكم استطعتم أن تعدموا بعض العملاء وتحاصروا البعض، فحاصروا كلّ مَن يحاول أن يتحرّك لمخاطبة هذا الشخص الذي جاء من أجل أن يحاصر الانتفاضة وينقذ "إسرائيل"، ولم يأتِ من أجل أن ينقذ الشعب الفلسطيني.
لا بدّ من وقفة تواجه الواقع كلّه على هذا الأساس، لأنّ الإدارة الأميركية لا تختلف عن الإدارة الإسرائيلية في المسألة الفلسطينية، وإن كانت تختلف عنها في طريقة الإخراج وتوزيع الأدوار.
إنَّ المطروح هو أن تتحوَّل المسألة الفلسطينية إلى مسألة العلاقات بين "إسرائيل" والدول العربية لا مسألة الشعب الفلسطيني.
أنموذج المقاومة
إنّ الشعب الفلسطيني المسلم قد أمسك الآن بقضيّته، وعليه أن لا يعيد الكرة فيسلّم قضيّته لهؤلاء الحكّام الذين باعوها. فعندما انطلقت مصر، كانت تفكّر بأنَّ مسألتها مع "إسرائيل" هي مسألة مصريّة، ولهذا صالحت "إسرائيل" وتركت المسألة الفلسطينية والآن يأتي دور الأردن، ليعتبر أنّ هناك مشكلة أردنية ـــ إسرائيلية وليست مشكلة فلسطينية، ولهذا فإنّه سوف يبيع القضية الفلسطينية كما سيبيعها غيره من الحكّام العرب.
وعلينا أن نعرف أنّ استمرار الانتفاضة يُحرج السياسة الأميركية، لأنّها بدأت في إعادة الروح الإسلامية إلى المسلمين في المنطقة وإلى كلّ المستضعفين حتّى من غير المسلمين. وقد امتدّت الذهنية الجديدة وهي الذهنية الإسلامية التي تقف في الخطّ الثابت من أجل مواجهة "إسرائيل"، وهم يخافون من هذه الذهنية وهذه الروحية الجديدة، ولهذا يريدون أن يقمعوها.
لقد انطلقت هذه الروحية من إيران الإسلام ومن اللبنانيين المسلمين الملتزمين، الذين يتحرّكون مع الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ في فلسطين. وعلينا أن نحافظ على هذه الروحية التي تخلق النموذج الذي يقول لكلّ مسلم في العالم إنَّ بإمكانه أن ينتصر، إذا أصرَّ على الثبات وعلى الوقوف وعلى الإرادة الواقعية الواعية مهما كانت الظروف، كما تقول الآية الكريمة: {... كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ...} [البقرة : 249].
ثمّ هناك مسألة القصف الإجرامي المجنون للشعب الإيراني المسلم في طهران، حيث يطال القصف المستشفيات والمراكز العلمية، وقد قصف الطاغية صدام مدينة قم العلمية المقدّسة ـــ ولم تمنعه قداستها من قصفها ـــ ثم قصف الأبرياء في كلّ المدن الإيرانية الأخرى بصواريخ، قالت الجمهورية الإسلامية عنها إنّها سوفياتية الصنع، وهي صادقة في ما تقول. وبذلك فإنّها خطّة أميركية تنفّذ بأسلحة سوفياتية.
نريد أوّلاً أن نسأل الدول الكبرى: كيف تتحدّثون عن حقوق الإنسان وعن الحقوق المدنية للناس، ثمّ تسلِّمون الأسلحة الفتّاكة المدمّرة لطاغية مجنون، تعرفون أنّه يتحرّك عسكرياً من خلال جنونه المتأصّل في شخصيّته، كما يعرفه كلّ الذين عاشوا معه. إنّ معنى ذلك أنّكم أنتم الذين تقصفون الشعب الإيراني المسلم.
قد يقول البعض إنَّ الحرب تقتضي الردّ بالمثل، فإذا قصفت الآخرين، فمن الطبيعي أن يردّوا عليك. ولكن مَن يتابع الأخبار يعرف أنّ الإيرانيين لم يبادروا بقصف مدني، بل إنّ الذي بادر هو هذا الطاغية، الذي لم يبرّر فعله بردّ الفعل، وإنْ لجأ أخيراً إلى ذلك، بعد أن حدثت ضجّة في الرأي العام. قال: إنَّنا سنظل نقصف المدن الإيرانية ونبيدها، حتّى يقبل الإيرانيون بوقف إطلاق النار في الحرب. إنّه يريد أن يحلّ المشكلة بخلق مشكلة أخرى. ذلك لأنّه رأى أنّ الوضع السياسي في العالم قد انشغل بمسألة الانتفاضة في الضفة الغربية وغزة، وبدأت دول الخليج تعمل على أساس أن تتكامل أو تتعاون أو تتحاور مع إيران، وبدأت أميركا تسحب بعض بوارجها من الخليج. ولذلك كان هذا التصرّف منه من أجل أن يعيد الاهتمام العالمي إلى قضيّته. والإيرانيون يقولون لا خيار لنا، إنّ الشعب العراقي هو شعب مسلم، ولا فرق عندنا بين الشعب العراقي والشعب الإيراني، ولذا امتنعوا مدّة عن ذلك، ولكنّ هذا الجوّ استُغلّ، فأخذوا يوجّهون النداء للشعب العراقي قبل 24 ساعة، لينطلق بعيداً عن المواقع العسكرية حتّى لا يبتلى بهذه الحرب.
وقد عبَّر الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ عن الموقف، بأنّ إطلاق الصواريخ لن يخيف الشعب الإيراني المسلم، الذي يسعى إلى الاستشهاد ويعتبر الشهادة شرفاً له.
من هنا، لا بدّ من أن نواجه المسألة من خلال وعينا لطبيعتها، التي تتحرّك من خلال السياسة الدولية التي تعمل على محاصرة الشعب الإيراني المسلم، من أجل محاصرة الثورة الإسلامية.
الأزمة اللبنانية
وأخيراً عندما نواجه واقعنا الذي نعيشه، علينا أن نعرف أنّ الموقف في المسألة الداخلية لا يزال على حاله، وليس هناك حلّ للمسألة اللبنانية في المستقبل المنظور. فكلّ الحديث عن الإصلاح يتحرّك في دائرة معقّدة، لأنّ كلّ فريق يعمل على أن يثير المشاكل بوجه الفريق الآخر، فتبقى المسألة تراوح مكانها في كلّ الحوار اللبناني ـــ اللبناني الذي يمرّ بوساطة سورية من خلال وساطة أميركية.
كلّ ذلك من أجل أن يُنتخب رئيس جمهورية، حتّى يستطيع أن يدير الأزمة، أو يصرف الأعمال، لأنَّ الطبخة اللبنانية لم تنضج بعد، فهي مرتبطة بالطبخة الفلسطينية ومرتبطة بالطبخة الخليجية على حسب التعبيرات السياسية.
من هنا ينبغي أن لا نضع أنفسنا في أجواء الأحلام، بل علينا أن نتعايش مع المشكلة وأن نحدّق في الساحة جيداً. ولا بدّ أن نفكّر بأنّ القضية تتحرّك في الدائرة الصغيرة، وهي دائرة الشخص الذي سينتخب رئيساً. وقد دخلت "إسرائيل" على الخطّ علناً لتقوّيَ فريقاً ولتحرّك الصراعات اللبنانية. فعلينا من خلال التصريح الإسرائيلي أن نحدّق بالساحة، لنعرف مَن هو الفريق الإسرائيلي، وأين يتحرّك، وكيف ينطلق؟
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية نلاحظ أنّه حتّى الفريق الآخر، الذي يعتبر نفسه في مواجهة الفريق الإسرائيلي، لم يستطع أفراده أن يجتمع بعضهم مع بعض حيث كان اللّقاء بهم في دمشق كلاًّ على حِدَة.
وختاماً نعرج على ساحة المشاكل الإسلامية، التي نحمد الله على أنّها استطاعت أن تصل إلى حدّ التعقُّل والاتّزان. ونحن نسجِّل لساحتنا ولشعبنا ولكلّ أهلنا في الجنوب أنّهم استطاعوا بوعيهم واتّزانهم أن يمنعوا المشكلة، التي كان الجميع يعملون على إثارتها، ليقاتل المؤمن أخاه. ونحن نقول لجميع مَنْ في السّاحة إنَّ عليهم إذا اختلفوا سياسياً، أن يتحاوروا ويجلس بعضهم مع بعض؛ لأنَّ ذلك هو السبيل للوصول إلى نتائج إيجابية، وليس السبيل إلى ذلك هو التقاتل أو التراشق بالاتّهامات أو إطلاق التصريحات.
إنَّ علينا أن نكون الصادقين الأمناء الواعين، الذين يتحرّكون من خلال خطّ الإسلام وفي طريق الإسلام، حتّى نلتقيَ بالله ونحن مسلمون.
والحمد لله ربّ العالمين