عملية التغيير أمام مرآة النقد(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 ـــ 20].
مسؤولية المؤمن
في هذه الآيات، يريد الله أن ينبّهنا إلى نقاط ثلاث تتّصل بمسألة المصير في العمق، بحيث إِنَّ الإنسان الذي لا ينتبه إليها ولا يعيش معها، فإنّه قد يفقد مصيره ويخسر الدنيا والآخرة. النداء الأوّل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إنّها دعوة للمؤمنين إلى أن ينتبهوا إلى صفتهم الإيمانية. يقول الإنسان لنفسه مَن أنا؟ ما صفتي كإنسان يعيش في هذا الكون؟ هل أعيش مع صفتي الذاتيّة، لتكون المسألة عندي هي أنْ أُحقِّق ذاتي في ما تعيش من أنانيّات، أم أنّ صفتي هي الصفة العائلية، لتكون القضية عندي كيف أُحافظ على انتمائي العائلي، وكيف أُقوّي عائليّتي في مقابل عائليّات الآخرين، لأعيش الأنانية العائلية ولأحافظ على كرامة العائلة ومجدها؟ أم أنّي أتحرَّك بصفتي القوميّة؟ هل أنا عربي؟ أو أعجمي؟ لأؤكّد في حياتي صفتي القومية، فأعمل على أن أُحقّق العزّ لقومي وأُحقّق الموقع المميّز لقوميّتي؟ أم أنّني أتّخذ لنفسي صفة أخرى هي الصفة الإيمانية؟
لقد خاطب الله الناس بصفتهم الإيمانية، كما خاطبهم بصفتهم الإنسانية، ليقول لهم إنّ لكم صفتين: صفة تستمدّونها من وجودكم، وتلك هي صفة إنسانيّتكم، التي تلتقون فيها على أساس هذا المبدأ الذي يوحّدكم بين يديّ الله، وصفة الإيمان التي تجعل الحياة عندكم خاضعة للمسؤولية، التي تنطلق من الله وتتحرّك في خطّ علاقاتكم مع الحياة من حولكم، ومع عباد الله، وهي صفة الإيمان. فأنتم عندما تؤمنون بالله، فإنّكم تتحسَّسون حضور الله في الكون، باعتبار أنّه وحده الخالق، ووحده المدبّر، ووحده المهيمن على الأمر كلّه، فترجعون إليه تستمدّون منه شرعية كلّ عمل تعملونه وكلّ موقف تقفونه وكلّ علاقة تتحرّكون فيها، لتتحسَّسوا في إيمانكم أنّ الله ينظر إليكم من موقع هذا الإيمان، ويحاسبكم على أساس مواقع ومواقف هذا الإيمان. فالله سيقول لك كمؤمن كيف هي قضيّتك في خطّ إيمانك؟ هل كنت مؤمناً في بيتك تتعامل مع أهل بيتك بالإيمان؟ هل كنتَ مؤمناً في مجالات عملك، لتتعامل مع الناس على أساس الإيمان؟ هل أنتَ مؤمن في علاقاتك العامّة والخاصّة في ما تؤيّد وفي ما ترفض؟ كن المؤمن الذي يعتبر الإيمان كلّ حياته، ويعتبر صفة المؤمن هي الصفة التي تحيط بكلّ مواقعه، فلا يخلو أيّ موقع من مواقعه من خطّ الإيمان {... وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة : 57]. إنَّ الإيمان يفرض عليكم التقوى، لأنّ المؤمن بالله هو الذي يعتقد بأنّه مسؤولٌ أمام الله، وأنّ الله هو الذي يحاسبه، وهو الذي يعاقبه ويثيبه. ولهذا فإنَّ عليه أن يخشى مقام ربّه، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]. أن تخاف الله وأن تراقبه وأنتَ تتحرّك في حياتك وأن تحاسب نفسك على ما تحرَّكت فيه.
ترتيب الحساب مع الله
{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} اتّقِ الله ليدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تعرف رصيدك عند الله، ماذا قدّمت لنفسك أمام الله؟ حتّى إذا جاءك الموت الآن، فأنتَ تستطيع أن تحسّ بالأمن، لأنّك تملك رصيداً يدخلك الجنّة، أو يبعدك عن النار، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} غداً ستقف بين يديّ الله، قد يكون الغد يوماً تستقبله، وقد يكون شهراً تستقبله، وقد يكون سنة، أو أكثر من سنة. المهمّ أن تظلّ في وعيٍ دائم لِمَا قدّمت لغدك في الفرصة التي تقف فيها بين يَدَي ربّك، ممّا يعني أنّ على الإنسان في كلّ يوم أن يحسب حساباته في علاقاته مع الله، وأن يفكّر في اليوم الماضي كيف مضى، وفي اليوم القادم كيف يستقبله؟.. استمعوا لما ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لنتعلَّم كيف نحاسب أنفسنا، وكيف نستطيع أن نتعرَّف رصيدنا. يروى أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يوصي أبا ذر ليحدِّث أبو ذر نفسه بذلك، وليحدّث غيره بذلك "يا أبا ذر، حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً"(1)، احسب حساباتك الآن، كم معصية عصيت الله بها، وكم طاعة أطعت الله بها، هل حساب السيّئات عندك أكثر، أم حساب الحسنات؟ أم أنّ الحسابات تتساوى في هذا المجال؟ حاسِب نفسك الآن، إذا حاسبت نفسك الآن فإنَّ ذلك يهوِّن عليك الحساب غداً. مَن يحاسِب نفسه فسوف يعرف الخسارة والربح في حساباته؛ فإذا رأى نفسه خاسراً، حاول أن يعوِّض الخسارة وإذا كان رابحاً، حاول أن يحافظ على الرّبح وأن يستزيد منه. أمّا الذي لا يحاسب نفسه فيصعب عليه الحساب غداً، لأنَّ الأمور تضطرب عليه في ذلك الموقف الصعب.
"حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن": ما هو حجمك؟ ما هو قدرك؟ وما هي قيمتك عند ربّك؟ زِن نفسك لأنَّ ميزان الله لا يخطئ؛ فإذا لم تكن ممّن ثَقُلَت موازينه، فلن تستطيع أن تحصل على شيء، لأنَّ الذي يخفّ ميزانه يوم القيامة لا يجد لنفسه أيّ موقع في مواقع رحمة الله. لهذا لا بدّ لك من أن تزن نفسك الآن، فإذا رأيت نفسك خفيفاً في أعمالك، فحاول أن تثقل عملك، لتكون كفّتك في الميزان ثقيلة. وإذا رأيت أعمالك ثقيلة وجيّدة، فحاول أن تزيد من أعمالك، لتكون مواقعك أكثر ثباتاً وأكثر قيمة عند الله.
"وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن، وتَجَهَّز للعرض الأكبر"، عندما يعرض الناس {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة : 18]، هناك يوم العرض الأكبر، ليس عرض الأجساد أو الجمال أو المال، سوف تعرض سرائركم عند الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، وسوف تعرض أعمالكم على الله، يوم تقدّم الأعمال في صحيفة أمام الله، وسوف تعرض كلّ كلماتكم {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49]، جهِّز نفسك للعرض الأكبر؛ حتّى إذا عرضت على الله، كنتَ في موقع تستطيع أن تأمن فيه على نفسك وأنت تواجه الموقف العظيم بين يدي الله، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم تعرض، حيث لا يخفى على الله خافية.
"يا أبا ذر"، وكأنَّ رسول الله يخاطب كلّ واحدٍ منّا، "لا يكون العبد مؤمناً حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه"(1). إذا أردت أن تقسم مع شريكك، لتأخذ حصّتك وتعطيه حصّته، كيف تكون الدقّة في الحساب. إنّك تعمل على أساس أن تراقب حتّى القرش الصغير، لهذه المسألة هي أنّ عليك أن تحاسب نفسك، لأنّك إذا خسرت في حسابك مع شريكك، فقد تعوّض خسارتك، ولكن إذا أسأت الحساب مع نفسك فإنَّ إساءة الحساب تكلِّفك مصيرك أمام الله يوم القيامة.
الطرق الشرعية لاكتساب المال
قد يأتي وقت الغداء ويقدّم لنا الطعام والشراب، طعامٌ لذيذ وشراب بارد، يتغذّى به الجسد ويلتذ ويرتوي من الظمأ، لكن فكِّر: هذا الأكل الذي أمامي، من أين جاء، من حلال أم من حرام؟ هل سرقت المال الذي اشتريت به هذا الطعام؟ هل أخذته من معاملة غششت بها الناس؟ هل في الطعام دموع للأيتام الذين سلبتهم مالهم؟ هل في الطعام دموع للضعفاء الذين سرقت منهم مالهم؟ من أين مطعمك؟ لا بدّ للإنسان أن يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أَمِن حلال أم من حرام؟ لاحظوا كيف يقودنا رسول الله في ما يروى عنه إلى أن نحدّق بالأكل لنعرف مصدره، لا من أيّة شركة، أو من أيّ مصنع، أو من أيّة بلاد، لكن هل هو ممّا حرَّم الله أم هو ممّا أحلَّ الله؟
"يا أبا ذر مَن لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار"(1). يعني إذا فكّرنا أنّ المهم أن نحصِّل المال، وليس المهمّ طريقة تحصيله، فالحلال كما يقول بعض الناس ما حلَّ باليد ولو أخذته من سرقة، وهناك كلمة مهذّبة أصبحت للسرقة، "مصادرة"، صادرنا هذا المال. إنَّ هذا المصطلح أخذ يدخل في الميزان الثوري أو السياسي. صادرت، هل لك حقّ أن تصادر؟ من أين لكَ الحقّ؟ مَن الذي أباح لك أن تُصادِر؟ فإذا لم تكن لك شرعية من الله فأنتَ لصّ، وأنتَ سارق، وأنتَ خائن تخون موقعك، عندما تجعل منه أساساً للاعتداء على أموال الناس، لتكن لك سلطة سياسية، لكنّ الكلام أين شرعيّتك الإسلامية؟ لتكن لك سلطتك الأمنية لكن أين شرعيّتك الإيمانية؟
لا يحلّ مال إلاّ من حيث أحلَّه الله؛ فليحلّ الناس الكبار والصغار المال، إلاّ أنّه لن يكون حلالاً إلاّ إذا أحلّه الله. لهذا إذا كنت لا تبالي كيف اكتسبت هذا المال، من سرقة تعطيها أيّ عنوان مهذَّب، أو من معاملة باطلة، أو من عمل اشتمل على رجس، أو كنت وليّاً للأيتام فأكلتَ أموالهم، وكنتَ أخاً للضعفاء فأخذت إرثهم، وكنتَ حاكماً للمستضعفين فنهبت أموالهم، أو نهبت ميزانية الدولة التي تحكمها؟ إذا لم تبالِ من أين اكتسبت المال؟ فلن يبالي الله يوم القيامة من أين يدخلك النار.
محاسبة النفس
وهناك حديث ثان ينقله الإمام عليّ (عليه السلام) في ما يُروى عنه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أَكْيَسُ الكيّسين (والكيّس هو العاقل) مَن حاسَبَ نفسه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت"(2). يحاسب نفسه ويجعل عمله للآخرة، فقال رجل: "يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه، أجاب (عليه السلام): "إذا أصبح ثمّ أمسى"، قبل أن ينام، النهار انتهى، وأقفل الدكّان، ورجع من عمله وأراد أن ينام، قبل أن ينام يأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، "إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إنَّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً"(1) ليس هناك أيّ مجالٍ للعودة، ذهب اليوم فما الذي عملت فيه؟ وهذا اليوم معناه قطعة من العمر ذهبت، معناه يوم من عمري مات، كان هذا اليوم حيّاً في حياتي، ومات كما ستموت بقيّة أيامي، هل ذهب هذا اليوم في العمل كما ذهب في خطّ الزمن؟
أيُّها المؤمن؛ تكلَّم مع نفسك، أَذَكَرْتَ الله في هذا اليوم وحمدته؟ هل كان في هذا اليوم ذكر لله باللّسان، وذكر بالموقف والوعي؟ هل حمدت الله من كلّ ما يوجب حمده؟ أقضيت حوائج مؤمن فيه، أو نفَّسْتَ عنه كربه؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ هذا المؤمن كان جاراً وذاك كان قريباً، مات وله أطفال، يا نفس هل رعيت أطفال الجار المؤمن والقريب المؤمن، أم تركتهم من دون رعاية وهم بحاجة إلى مَن يرعاهم؟ أكففت غيبة أخ مؤمن؟ أم سكتَّ وقلت لا أريد أن أتعب نفسي بالدفاع عن المؤمن؟ أَأَعَنْت مسلماً؟ ما الذي صنعت في هذا اليوم؟ "إن ذكر أنّه جرى منه خير حمد الله وكبّره على توفيقه" أي شَكَرَه "وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته"(2).
المهمّ أن تحاسب نفسك، حتّى تستطيع أن تعرف نقاط الضعف في نفسك تجاه الله، في ما أراد الله منك من أوامره ونواهيه، وتجاه الناس في ما لهم عليك من حقوق، وتجاه نفسك في ما لنفسك عليك من حقوق، فإنَّ الله جعل لنفسك عليك حقّاً، أن لا تورّطها بدخول النار، كما جعل الله للنّاس عليك حقّاً، أن لا تظلمهم بالبغي والعدوان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر : 18]، وإذا نظرت ما قدَّمت لغد فلا تسترخ، ولكن اتّقِ الله في ما تستقبل من أمر، فقد يكون رصيدك جيّداً الآن، ولكن عليك أن تحافظ على رصيدك في ما تستقبل، حيث تستطيع أن تضمن لنفسك الرّبح في مستقبل حياتك قبل أن تموت، كما ضمنته في الماضي. لهذا لا بدّ أن تتّقي الله فتحاسب نفسك، ولا بدّ أن تتّقي الله في ما تستقبل من عمل {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من جديد، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر : 18 ـــ 19]. أيُّها المؤمنون، اذكروا ربّكم في الصباح وفي المساء، وقد جعل الله لنا هذه الصلاة التي نصلّيها خمس مرّات في اليوم، لنتذكّره دائماً، لنتذكّره في الصباح قبل أن نبدأ العمل، ولنتذكّره في وسط النهار بعد أن نستغرق في العمل، ولنتذكّره عند المساء بعد أن نتخفَّف من العمل. لنذكر الله قبل أن نبدأ اليوم ليكون يومنا تقيّاً، ولنذكره في وسط اليوم ليكون يومنا تائباً، ولنذكره في آخر اليوم ليكون يومنا واعياً تائباً نادماً، حتّى نذكر الله في كلّ وقت، لنعيش بحزام روحي يلتف على كلّ زماننا في ذكر الله.
من نسي ربّه نسي نفسه
ثمّ هناك ذكر لله لا باللّسان فحسب، بل بالقلب والوعي. أن تذكر الله سبحانه وتعالى عندما تقف أمام المعصية، وتدعوك نفسك إلى أن تهجم عليها، أو تقف أمام الطاعة وتدعوك نفسك إلى أن تتركها؛ اذكر الله، لأنّك إذا ذكرت الله، ذكرت نفسك، وعرفت ما يصلحها وما يخلّصها وما يحقّق لها الخير كلّه في الدنيا والآخرة. أمّا إذا نسيت الله فإنّك تنسى نفسك، لأنّك تعبد الشيطان وتعبد شهواتك وغرائزك، وبذلك تهمل نفسك، وتنسى مصلحتها وتضيع كما يضيع كلّ من اعتمد على نفسه وترك الاعتماد على الله.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19]، لأنَّ الإنسان إذا نسي ربّه، فإنّه يتحرّك في وحول المعصية، وبذلك يفسق في عمله، كما يفسق في روحيّته. ثمّ بعد ذلك فكّروا بالجنّة، لا تنسوها. لا تفكّروا فقط في دار تبنونها لسنوات تعيشونها، بل فكِّروا في دار تبنونها لعمرٍ خالد تعيشونه. فكّروا في الجنّة، وفي ثمنها، وفكّروا في النار وبما يبعدكم عنها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للكثيرين من الناس الذين يستغرقون في خير الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون بخير الآخرة، وللكثيرين من الناس الذين يعانون من شرّ الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون شرّ الآخرة: "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة"(1)، يعني، لو كان الخير كلّه لك، من مال وجاه وشهوات، وكان مصيرك إلى النار، فما قيمة كلّ ذلك البلاء والعناء؟ لهذا فكِّر أن تكون من أهل الجنّة ولا تفكّر أن تكون من أهل النار {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر : 20] وذلك هو الفوز العظيم. وإذا كنت تريد الجنّة، فاعرف أنّ الله لا يبيع جنّته مجاناً، بل إنّه جعل المسألة خاضعة للتجارة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف : 10] ويذكر الله الإيمان والجهاد في سبيل الله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111]، قالها عليّ (عليه السلام) لأصحابه في وقت من الأوقات وهو يتحدّث عن أعمالهم، "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا أعزّ أوليائه عنده هيهات لا يخدع الله عن جنّته ولا تبال مرضاته إلاّ بطاعته"(2) إذا كنتم تخدعون أنفسكم ويخدع بعضكم بعضاً في مظهر إيماني يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وفي عمل إسلامي يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وهناك خفايا وبلايا لا يعلمها إلاّ الله، لو اطّلعت عليها لولّيت منها فراراً ورعباً، فأنتَ قد تخدعني، وقد أخدعك، ولكن مَن يخدع الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
أهمية النقد الذاتي
في هذا الجوّ الإيماني الذي نريد أن نعيش فيه، لنتعلَّم النقد. والنقد الذاتي، أن ننقد أنفسنا كأفراد في ما أخطأنا فيه وفي ما فرَّطنا فيه، وأن ننقد أنفسنا كجماعات في ما أخطأت فيه الجماعة وفي ما فرَّطت فيه، وأن تكون لدينا شجاعة مواجهة الخطأ والاعتراف به وشجاعة تغييره، ولا نكون من الذين يحاولون أن يخفوا أخطاءهم، أو يصوَّروا أخطاءهم على أنّها صواب، وسيّئاتهم على أنّها حسنات، حتّى إِنّ بعضهم يحاول أن يجعل الخطأ مقدّساً، وإذا أخذ الخطأ قدسية في نفوس الناس، فكيف يمكن أن تستقرّ حياتهم؟.
لهذا عندما نفكّر في الله، فعلينا أن نفكِّر في أنفسنا، وفي موقعنا من الله. إذا كنتَ مؤمناً، ففكِّر في حجم إيمانك، وفي مسؤولية إيمانك. عندما يكون عملك عنواناً لعمل المؤمنين، فكيف تسيء إلى المؤمنين من خلال عملك، كما تسيء إلى نفسك من خلال عملك؟ لهذا فلننقد أنفسنا نقداً عميقاً واعياً، من خلال ما علَّمنا الله من القواعد التي تضبط حركة الإنسان في أوضاعه وعلاقاته. يجب أن يكون القرآن مرآة أنفسنا، انظر نفسك في مرآة القرآن، وحاول أن تتعرَّف؛ هل وجهك وجه قرآني في ما تتّجه إليه من أعمال؟ هل قلبك قلب قرآني في ما ينبض به من أحاسيس؟ هل عقلك عقل قرآني في ما يفكِّر فيه من أفكار؟ هل حركاتك حركات قرآنية في ما يرسم القرآن من برنامج للحركة؟ ليكن القرآن مرآة أنفسنا، كما تكون المرآة مرآة أجسادنا.
إنَّ هذا ما نحتاجه لنكون القرآنيين، الذين يغيّرون واقعهم على أساس القرآن في كلّ المجالات، سواء كانت مواقع فكرية في العقيدة أو كانت مواقع عاطفية في الشعور، أو كانت مواقع حركية في الواقع، أو كانت مواقع الانتماء في ما ينتمي إليه الناس. لننتبه إلى أنفسنا فقد يأتينا جوّ العصبية ليأخذنا إليه أو يأتينا جوّ الانفعالية ليضمّنا إليه. لنتخفَّف من عصبيّاتنا، فإنَّ كلّ عصبية في النار. ولنتخفَّف من انفعاليّاتنا فكلّ انفعالية في النار. ولنذكر الله ولنعرف أنفسنا، حتّى نستطيع أن ندرس إذا انتمينا إلى أيّ موقع، هل هذا الانتماء يرضي الله، أم يسخطه؟ وإذا تحرّكنا أيّ حركة، هل هذه الحركة ترضي الله أم لا ترضيه؟ تعلَّم أن تنقد نفسك، لأنّك ربّما تشعر بأنّك تتّخذ موقفاً لا يد لكَ فيه، لأنَّ الجوّ من حولك فرضه عليك.
لننظر إلى كلّ مواقعنا لنحدِّد؛ هل هي المواقع التي تؤدّي بنا إلى الجنّة أم إلى النار؟ لننظر إلى كلّ انتماءاتنا وإلى كلّ مواقفنا، وإلى كلّ كلماتنا، وإلى كلّ تأييدنا أو رفضنا، لننظر هل نحن على خطأ أم على صواب؟
لنفتح صدورنا للناقدين
لنتعلَّم في حياتنا أن ينقد بعضنا بعضاً "المؤمن مرآة أخيه" ـــ حديث شريف ـــ "رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي"(1)، كلمة قيلت عن عليّ (عليه السلام). أن لا تعتبر الإنسان الذي يأتيك ويذكر لكَ عيبك وخطأك عدوّاً لتبدأ بمحاربته، بل اعتبره صديقاً تعمل على أن تكرمه، لأنّه عرَّفك عيوبك التي ربّما تقضي عليك. هو يريد لك أن تحمي نفسك من عيبك، كما تحمي نفسك من عدوّك، وهو يرى منك ما لم تره من نفسك، ولذا يريدك أن تزيل القذى من أخلاقك، كما تزيل القذى من وجهك أو من عينك. لنتعلَّم النقد وأنّ النقد ليس عداوة، لننقد أنفسنا، ونطلب من الناس أن ينقدونا، ولنفتح صدورنا للناقدين، ولنبتعد عن كلمات السباب والشتائم والاتّهامات غير المسؤولة، ولنرتبط بالواقع في قضايانا.
إنّ أيّ إنسان مهما كانت درجته فهو ليس أعلى من أن ينقد وليس أعلى من أن ينبّه وليس أعلى من أن يوعظ. لقد قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو آنذاك أمير المؤمنين ـــ أقدم هذه الكلمات من عليّ (عليه السلام) لكلّ مَن ترتفع درجته في مواقع المسؤولية، سواء كانت مسؤولية شرعية أو غير شرعية، وهو يرى نفسه في ضخامة الشخصية، فلا يقبل أن يقول له أحد أخطأت أو ظلمت أو أسأت، بل يحبّ دائماً أن يقول له الناس أصبت إذا أخطأ، وأحسنت إذا أساء، وعدلت إذا ظلم، ألاّ يشجّع الناس ذلك؟ ـــ أقولها لكلم وأقولها لنفسي في بعض مواقع الضعف في ما أعيشه: إنَّنا لو أيَّدنا شخصاً وأحببناه وعظَّمناه، في أيّ موقع من مواقع القيادة أو المسؤولية وجاء مَن يقول إنَّ صاحبكم أخطأ، فتعالوا نبحث عن خطئه، أو أنّ صاحبكم ظلم فتعالوا نبحث عن ظلمه، أو أنّه أساء فتعالوا نبحث عن إساءته، كيف تتصرَّفون؟ إنّكم ستثورون، بعضكم يسبّ الناقد، والبعض يلقي عليه الحجارة، أو يفتح عليه النار، أو قد يشتمه، من دون أن تفكّروا ماذا قال هذا الرجل؟ وهل هو صحيح أم ليس بصحيح؟ إنَّنا نعبد أصناماً نقدّس فيها الخطأ والظلم والإساءة.
في عقيدتنا، كما هو الحقّ في ما نراه، أنَّ عليّاً (عليه السلام) معصوم، أخذ عصمته من خلال إمامته، ومن خلال إرادته، فعليّ المعصوم من خلال وعي العصمة في فكره ومن خلال إرادة العصمة في سلوكه، عليّ المعصوم الذي لم نستطع أن نكتشف ولم يكتشف أحد أيّ خلل فيه، حتّى إنّ بعضهم حاول أن يبحث عن شيء يريد به أن يسيء إلى عليّ (عليه السلام)، فقال "إنَّ في عليّ دعابة"(1) يعني يمزح ولم يكن عليّ بالمزَّاح، ولكنَّ عليّاً كان يلم بذلك في ما يستحبّه الله من ذلك، عليّ هذا الذي أخفى محبُّوه فضائله خوفاً من أعدائه وأخفى أعداؤه فضائله حَسَداً له، فظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين، عليّ هذا بعد أنْ صار حاكِماً قال للنّاس من حوله: "لا تُكَلِّموني بما تكلَّم به الجبابرة" لا تقولوا هذا أمير المؤمنين بيده السيف الذي يستطيع أن يقتل، وعنده الحبس الذي يستطيع أن يسجن، وعنده الجماعات الذين يستطيعون أن يضربوا أو يقتلوا، لا تنظروا إليَّ هذه النظرة، "ولا تظنّوا بي استثقالاً لحقّ يُقال لي ولا لعدل يعرض عليَّ" لا تعتقدوا أنّي استثقل إذا قال لي شخص: يا عليّ لقد تجنَّبت الحقّ. هذا هو الحقّ وقد انحرفت عنه، وهذا هو العدل فافعله "ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قال لي، فإنَّ من استثقل الحقّ أن يقال له والعدلَ أن يُعرَضَ عليه، كان العمل بهما أثقل عليه" الذي لا يطيق كلمة الحقّ أو الذي لا يتحمَّلها، كيف يتحمّل أن يفعل الحقّ وأن يقيم العدل؟ إذا لم يتحمّل الكلمة فكيف يتحمَّل الواقع؟ ثمّ قال لهم "فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ أو مشورة بعدل فإنّي لستُ في نفس يفوق أن أخطئ"(2) يعني لا تنظروا إليَّ نظرتكم إلى مَن لا يخطئ، بل حاسبوني كما لو كنت مخطئاً. لنعلِّم الأُمّة أن تنقد حكَّامها، ولنعلِّم الأُمّة أن تواجه المسؤولين فيها بالنقد البنَّاء، ونطلب من المسؤولين أن لا يعتبروا أنفسهم فوق النقد، بل أن يستمعوا إليه بكلّ طيبة وإخلاص، وأنْ يتحرَّكوا في خطّ الله بعيداً عن الجانب الذاتي في الحياة. وهذا ما فعله عليّ (عليه السلام)، فإنَّ عليّاً كان ذات يوم مع أصحابه وكان هناك خارجي، وتكلَّم الإمام بكلمة، وأعجبت هذا الخارجي ـــ وكان الخوارج يكفِّرون عليّاً ـــ فقال هذا الخارجي وهو يشير إلى عليّ (عليه السلام): "قاتله الله كافراً ما أفقهه"، والإمام عليّ (عليه السلام) كان صاحب السلطة العليا آنذاك والخوارج لا يمثّلون شيئاً، فوَثَبَ إليه القوم ليقتلوه، فالتفت إليهم الإمام وقال: "رويداً إنَّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب"(1)، سبّني فمن حقّي أن أسبّه ـــ يقول الله: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، هذا هو موقف عليّ (عليه السلام) وهذا ما يجب أنْ نتعلَّمه؛ أن لا نعتبر القيادات فوق النقد، مهما أخذت من حجم ومهما أخذت من قداسة، فليس هناك من معصوم. ولكن ليكن النقد موضوعياً وبنّاءً، بل قد يجب على الأُمّة أن تنقد مسؤوليها حتّى لا تغريهم بالخطأ، وحتّى لا تغرّهم بأنفسهم، وحتّى يشعروا بمسؤوليّتهم في قيادة الأُمّة.
غياب النقد يضيع قضايا الأُمّة
هذا ما يجب أن نتعلَّمه. ويجب أن نتعلَّم أن ننقد أنفسنا بأنفسنا وأن ينقد بعضنا بعضاً، سواء كانت المسألة نقد القيادة للقاعدة، أو نقد القاعدة للقيادة. ولأنَّ المسألة إذا لم ترتكز على أساس النقد البنّاء، فستضيع قضايا الأُمّة أمام بهلوانيّات الأشخاص وقداستهم. وهذا ليس فقط في الدائرة الفردية، بل حتّى في دائرة المواقع والمحاور، هناك في الساحة أحزاب وحركات ومنظّمات وجمعيات، وفي الأحزاب الكثير من الخطأ، وكذلك في المنظّمات وفي الحركات وفي الجمعيات الكثير من الخطأ، ولكنَّنا تعوّدنا أن نسكت عن أخطائنا، وننظر إلى أخطاء الآخرين. تعوّدنا أن نخفي أخطاءنا وأنْ نتعصَّب لها وأن نحمي المخطئين والمجرمين منّا، لأنَّ المجرم منّا إذا ظهرت جريمته، فسوف تنعكس على الحزب أو المنظّمة أو الحركة أو الجمعية أو الطائفة وما إلى ذلك، ولهذا نفكّر ونعمل على أن نحمي المجرم أو نخفِّف من جريمته أو نخفيها لأنّه منّا. أمّا إذا فعل إنسان آخر جريمة أقلّ من جريمة صاحبنا، ومعصية أقلّ من معصية صاحبنا، فإنَّنا نسقط السماء على الأرض؛ أين الدين؟! وأين الشريعة؟ وأين القانون؟ وأين المبادئ؟، ألاَ نفعل ذلك؟! ولهذا تخرّب هذه المواقع عندما يجد المجرمون غطاءً لجريمتهم، وعندما يجد المنحرفون غطاءً لانحرافهم، وعندما نتعصَّب للمجرمين، لأنّهم من جماعتنا ومن إخواننا وحزبنا وحركتنا وطائفتنا، فإنَّ الجريمة تنتشر في مجتمعاتنا.
إذا كنت صاحب مبدأ فعليك أن تحاسب الناس من خلال المبدأ. "مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ".
أيّ تجمّع سياسي أو اجتماعي يحمي اللّصوص فهو اللّص، أو يحمي القتلة فهو القاتل، أو يحمي المنحرفين فهو المنحرف، أو يحمي المفسدين فهو المفسد، لأنّك لا يمكن أن تكون صالحاً وتحبّ المفسدين، {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]، فكيف تحبّ المفسدين ولو كانوا من جماعتك، وتقول إنّك تحبّ الله. إنَّ هذا الخلل، هو الذي أدّى إلى كلّ هذا الإرباك والتعقيد والتشويه، وإلى كلّ الواقع الذي يتحرّك فيه المجرمون والخائنون والقَتَلَة والسارقون والمفسدون، فهؤلاء تحرَّكوا على أساس أنّهم انتموا إلى هذه الجهة، فأعطتهم غطاءها، وحرمت الآخرين من أن يواجهوهم، بل إنّها قد تدخل معركة ضدّ الآخرين.
التشيُّع المستقيم
"مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَن كان عدواً لله فهو لنا عدو، واعلموا أنَّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالورع"(1)، هذا منطق أهل البيت؛ أن تكون شيعياً تحبّ أهل البيت، هذا يعني أن لا تكون لصّاً أو قاتلاً أو مفسداً أو الإنسان الذي يثير الفتن. إذا كنت كذلك فلست بشيعي وأهل البيت أبرياء منك، لأنّك لستَ وليّاً لله ولا ولاية لأهل البيت مع أحد إذا لم يكن وليّاً لله. لهذا أَحِبُّوا السائرين في خطّ الله ولا تحبُّوا الخائنين، حتّى لو كانوا أهلكم أو أصحابكم أو أصدقاءكم.
يقول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم إنّهم إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها". لذلك لا بدّ أن نحبّ مَن أحبَّ الله وأن نبغض مَن أبغض الله، لتكون ولايتنا لله منطلقة في هذا الخطّ على كلّ المستويات.
ومن هذا المنطلق نقف مع الخطّ الإسلامي، الذي تقوده الثورة الإسلامية من خلال قيادة قائدها الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّها التزمت الحقّ ولأنّه التزم الحقّ، ولأنّها جاهدت في سبيل الله، ولأنّه دفع إلى الجهاد في سبيل الله، ولأنّه دعا إلى الله ـــ ونحن معه في الدعوة إلى الله ـــ ولهذا وقفت كلّ القوى المستكبرة ضدّه ولم يسقط ولم يهن ولم يلن ولم يتراجع، بل قال لهم كما قال جدّه الإمام الحسين (عليه السلام): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، وعندما خيَّروه بين السلّة والذلّة فلم يختر الذلّة واختار الموت.
يومٌ لنا ويوم علينا
ونحن عندما نواجه ما تواجهه الجمهورية الإسلامية، من الهجمة العالمية الاستكبارية التي زوّدت النظام العراقي بأحدث الأسلحة وأكثر الخبرات تقدُّماً في العالم، حيث اجتمع العالَم بشرقه وغربه على أن يعطيه القوّة، لتكون حربه حرب العالم على الثورة الإسلامية في إيران. وقد يتحدّث الناس عن ضعف، وعن عزيمة، وعن سقوط في الروح المعنوية، لكنَّ الله حدَّثنا عن أُحُدْ كما حدّثنا عن بدر وقال: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140]، ليس هناك نصر مطلق جعله الله لرسوله، وليس هناك هزيمة مطلقة جعلها الله لأعدائه، ولكنَّ الله أجرى الحياة على سنن القوّة والضعف، فيومٌ علينا ويومٌ لنا، ويوم نُساء ويومٌ نُسَرّ. المهم أن لا تسقط إرادتنا ولا تسقط مواقفنا ولا تضعف عزائمنا، وأنْ نظلّ نصنع القوّة عندما يحاول الآخرون أن يصنعوا فينا الضعف. والقضية ليست قضية يوم أو يومين أو مرحلة أو مرحلتين، وقد سمعنا من كلمات الإمام أنّه يتحدّث بالقوّة الإسلامية الإلهية، بروح هي أروع من روح الشباب، ليفتح عيون الأُمّة على مواقع الصبر، عندما يريد المستكبرون أن يقودوها إلى مواقع الهزيمة.
التعلُّم من التجارب
لهذا لا بدّ أن ننظر إلى هذه الأمور نظرتنا إلى الواقع وإلى حجم التحدّيات وإلى وعد الله سبحانه وتعالى بالنصر وإلى الاستفادة من الدروس، فإنَّ الإنسان يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط ضعفه، كما يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط قوّته. ونحن في هذا المجال لا بدّ لنا أن نحدّق بقضايانا ـــ بكلّ قضايانا الإسلامية ـــ لنعرف أنّ على الحالة الإسلامية بكلّ فصائلها أن لا تنهزم أمام كلّ الضغوط وأمام كلّ التحدّيات، حتّى إذا ضعفت في موقع فعليها أن تدرس لماذا ضعفت؟ فقد يكون الضعف من خلال خطئها في التجربة، وقد يكون من خلال ضغط الأعداء عليها في بعض المواقع. لا بدّ أن ندرس نقاط ضعفنا جيداً، لنعرف من أين انطلق الضعف؟ وكيف نستطيع أن نحوِّل نقاط الضعف إلى قوّة؟ ولا بدّ أن ندرس نقاط قوّتنا، حتّى لا يصيبنا الغرور، فما من موقع قوّة إلاّ وفيه موقع ضعف. وعلينا أن نحدّق بأعداء الأُمة، لنتحمّل مسؤولية الوقوف ضدّهم، وهذا ما نريد أن نواجهه في مسألة السياسة الأميركية التي فرضت على الأُمّة كلّها، سواء تحدّثنا عن الأُمّة العربية أو الأُمّة الإسلامية، فرضت على الأُمّة سيطرة "إسرائيل"، لأنَّ "إسرائيل" تمثّل الامتداد لسياسة الاستكبار العالمي. إنَّ أميركا تعمل على إضعاف كلّ مواقع الأُمّة وعملت على أن تسقط كلّ موقع يتحدّى فيه العنفوان الإسلامي المستكبرين، كما تفعل الآن مع الانتفاضة في فلسطين ومع الثورة الإسلامية في إيران ومع الحالة الإسلامية في لبنان، إنّها تعمل على أساس أن تسقط المواقع التي تعيد الروح للأُمّة، لتفكِّر هذه الأُمّة بالقوّة، وهي تريد لها أن تفكِّر بالضعف من خلال ذلك.
الفتنة اللبنانيّة صيغة أميركا
وفي إطلالة على الواقع اللبناني، نرى أنّ الأكثرية ـــ وإن لم يكن الجميع ـــ تعمل على أن تأتي أميركا إلى البلد، لتنظيمه ولتحلّ مشكلته ولتدبّر أمره، ولكي تعقد التحالفات لتدبير أو ترتيب أوضاعه، الكلّ ينادي أميركا أن تأتي، والكلّ يتحدّث عن أميركا على أساس أنّها خشبة الخلاص، فيما أميركا تريد أن تنصب لنا خشبة الصلب. إنّهم يتحدّثون عن صليب في لبنان، ولكنّهم لا يتحدّثون عمّن يعتقدون أنّه مصلوب. إنّهم يريدون أن يصلبوا الشعب على الخشبة الأميركية، لنعيش كلّنا في دائرة الصلب هذه. عن أيِّ سياسة نتحدّث، عندما نتحدّث عن السياسة الأميركية في المنطقة، والفتنة كلّها في كلّ هذه السنين هي من صنع المخابرات الأميركية والإرادة الأميركية؟
السلاح الخليجي و"إسرائيل"
أميركا هذه الأيام تخلق ضجّة عالمية، ماذا هناك؟ إيران اشترت صواريخ من الصين، وهذه تشكّل خطراً على السفن الأميركية في الخليج. وتحدّثت مع الصين وتحدّثت مع العالم وفكّرت في كيفية مواجهة الخطر. السعودية اشترت صواريخ وهي تعرف أنّ هذه الصواريخ موجّهة إلى إيران، وليست موجّهة إلى "إسرائيل"، لأنّه ليس هناك بلد عربي في أغلب البلدان العربية يفكّر بمقاتلة "إسرائيل"، ولاسيّما السعودية التي يمثّل الحديث عن مقاتليها "لإسرائيل" نكتة سياسية أو عسكرية. هي تعلم أنّها صواريخ موجّهة إلى إيران، ولكنّها حاولت أن تثير المسألة على أساس أنّ مجلس الشيوخ الأميركي يتحدّث أنّه ربّما توجّه هذه الصواريخ إلى "إسرائيل". فإذاً لا بدّ أن تأخذ ضمانات من السعودية، حتّى لا توجّه إلى "إسرائيل". ثمّ وهنا المزحة، قطر اشترت عدّة صواريخ ـــ وهنا أيضاً يذهب المبعوث الأميركي إلى قطر، حتّى يبحث الخطر الذي يمكن أن يؤثّر على "إسرائيل" من قطر. وهكذا بدؤوا يعتبرون الصواريخ التي اشترتها سوريا من الصين، إنّها أصبحت تشكِّل خطراً، وكلّ هذا الذي تتحدّث به أميركا عن خطر الصواريخ، كان من أجل أن تصل أميركا إلى حلف استراتيجي مع "إسرائيل" في تطوير صواريخ تحمل أميركا نفقتها لمصلحة "إسرائيل"، لماذا؟ وتقول للعرب لا "تزعلوا"، المسألة هي أنّني لا أريد أن أغضبكم، ولكن عندكم صواريخ، وهذه "الضعيفة" نريد أن نقويها قليلاً وهي حليفتنا. أميركا التي لا توافق على أن يملك أحد من العرب سلاحاً، حتّى أصدقاء "إسرائيل" في العمق، لأنّهم عملاء أميركا في العمق، وهي تعطي إسرائيل كلّ ما تريد من السلاح وتطوّر لها الأسلحة بنحو تقف أمام العالم العربي كلّه.
تقولون لنا: حتّى تخلصنا. أنّ أميركا تعمل الآن بكلّ ما عندها من طاقة. وكلّ جولات وزير الخارجية الأميركية، وكلّ جولات مبعوثي الإدارة الأميركية في المنطقة، من أجل أن تفرغ الانتفاضة من قوّتها ومن أجل أن يجمع العرب على مواجهة الانتفاضة، وعلى إسقاطها لأنّها تعيد الروح للمسألة الجهادية في السياسة العربية. كما أنّهم عندما يتحدّثون عن المتطرّفين الإسلاميين، في ما يتحدّثون فيه عن الحالة الإسلامية التي تعيد الروح للأُمّة الإسلامية، حتّى لا تخاف من "إسرائيل"، ولا تخاف من أميركا، لأنّهم يخافون أن يعيش الناس الروح التي تقاوم وتجاهد، وتثبت ولا تسقط ولا تخاف. يخافون من هذه الروح، لأنَّ مسألة السلاح هم كفيلون بها. هم يريدوننا أن نسقط أمام تهويلاتهم وهذا ما يعملون له، ولهذا فإنّ السياسة المطروحة في الساحة هي أن يعملوا على إثارة الفتن في داخل كلّ الذين يقاتلون "إسرائيل"، وكلّ الذين يحتمل أن يقاتلوا "إسرائيل" أو يقفوا سياسياً ولو تكتيكياً ضدّها حتّى يضعفوا جميعاً.
لا بدّ أنّكم سمعتم حديث رابين في واشنطن هذه الأيام، أنّه يقول: إنَّ التقاتل بين حزب الله وحركة أمل والتقاتل بين الفلسطينيين يوفّر علينا كثيراً من الجهود في مواجهة الأخطار، التي تأتينا منهما. معنى ذلك تقاتلوا، رحمكم الله وتشاتموا، أبقاكم الله، وتهاتروا يا عباد الله، وحاولوا أن يضخّم كلّ منكم شخصيّته، وإن يعلو كلّ منكم على الفريق الآخر، وانشغلوا بأنفسكم وشتائمكم، والعنوا بعضكم بعضاً.
حدّثني أحد مسؤولي الجامعة الأميركية قبل أن تحدث الحرب في الجنوب وفي الضاحية، أنَّ مجلس الأُمناء اجتمع في واشنطن وجيء بضابط أميركي يريد أن يتحدّث لهم عن لبنان وعن شيعته، وتحدَّث لهم عن حرب الجنوب وعن حرب الضاحية، وكنت أنفي أنّ ذلك سيكون، وكنّا سذَّجاً عندما كنّا نقول أنّه خطّ أحمر، لأنَّ كثيراً من الناس كانوا قد خضَّروا الخطوط الحمراء ممّن يضعون الألوان الخضراء للقتال وللسياسة المنحرفة في البلد، إنّهم يكيدون لنا بكلّ ما عندهم من قوّة ومن باطل ويخطِّطون ويزرعون لنا الذين ينفّذون هذه الخطط.
مواجهة الموقف بعقلية الرساليين
لهذا لا بدّ لنا من أن نواجه المسألة بمسؤولية، نحاول من خلالها أن نجمد كثيراً من الحساسيّات ونبرّدها، وأن نجمّد كثيراً من الخلافات، ونعطيها إجازة لنستطيع أن نواجه هذا الاستحقاق، لا استحقاق رئاسة الجمهورية، ولكنّه استحقاق الحريّة لنا أمام "إسرائيل". لا بدّ لنا أن نواجه المسألة بوعي، حتّى لا نكون كالأطفال نبني البيوت على الرمال ويأتي البحر ليجرفها، فلا يبقى لنا شيء من ذلك كلّه. إنّهم يتحدّثون في هذه الأيام عن اجتياح إسرائيلي صغير أو كبير، قد يتحدّث البعض نتيجة حرتقات سياسية، وقد يتحدّث البعض عن رؤية سياسية، وقد يتحدّث البعض عن انطباعات، وقد يتحدّث البعض عن تحليلات، لكن مهما كان الحديث، هل نظلّ نتحدّث حول أن يكون اجتياح أو لا يكون؟ هل يكون هجوم إسرائيلي أو لا يكون؟ إنّهم يتحدّثون عن هجوم إسرائيلي في إقليم التفاح، بعد أن فشل الهجوم الإسرائيلي على اللويزة وجبل صافي. إنّهم يتحدّثون عن ذلك الآن في الأحاديث السياسية، فماذا أعددنا لذلك؟ أعددنا اللّغو الذي نثيره في أوضاعنا، هل نعمل غرفة عمليات، أم لا؟ مَن يقود غرفة العمليات ومَن يحرّكها؟ لمن الأمن في الجنوب، لمن السلاح؟(1) و"إسرائيل" لا يستطيع أحد أن يمسك سلاحها، نفتّش عن الخنجر وعن المسدّس ولا نفتّش عن الطائرة التي تقصفنا، وعن الدبّابة التي تحرقنا وعن السفن التي تدمّرنا.
إذا كنّا نفكّر تفكيراً إسلامياً إيمانياً، لنكفّ عن كلّ هذا اللّغو، وكلّ هذه المهاترات في الصحف وفي غير الصحف. واجهوا الموقف على أساس أنّ "إسرائيل" شرٌّ مطلق، إذا كنتم تعتقدون أنّها شرٌّ مطلق ـــ فإنّي أشكّ في أن يكون الكثيرون على هذا الاعتقاد ـــ لعلَّنا أصبحنا نعتقد أنّ بعضنا شرٌّ مطلق للآخر، أكثر ممّا هي "إسرائيل" شرّ مطلق لنا، لأنَّنا نتصرّف على هذا الأساس. نتحدّث عن أمن "إسرائيل" ولا نتحدّث عن أمن الإنسان على نفسه. إنَّنا من جديد وقد تعبت ألسنتنا من هذا الحديث، إنّنا نقول للقيادات أن تفكِّر بعقلية الرسالة لا بعقلية الذّات، وبعقليّة الأُمّة لا بعقلية الفرد، وبعقلية العقل لا بعقلية الانفعال، وبعقلية المستقبل لا بعقلية زوايا الحاضر. إنَّنا نقول لهم انطلقوا في خطّ الوحدة ونحن معكم. ونريد أن نقول للأُمّة أن تعزل قياداتها، إذا رفضت قيادتها خطّ الوحدة التي تبني للأُمّة عزّتها وكرامتها على أساس الإيمان والإسلام، الذي تلتزمه الأُمّة كخطّ ينظّم لها كلّ حياتها. إنَّ علينا أن نعيش هذه الروح، بدلاً من أن نعيش اللّغو الذي يحاول فيه كلّ فريق أن يسجِّل نقطة على فريقٍ آخر. تعالوا لنسجّل كلّ النقاط على أعداء الله ورسوله ولنجمع كلّ النقاط لمصلحة الأُمّة كلّها، فإنَّ الواقع في لبنان لن يسير بكم إلى خير بل سيسير بكم إلى ما يشبه الخداع والتغرير. وكلّ فتنة وأنتم بخير، لأنّها ستستمر معكم إلى ما شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين
عملية التغيير أمام مرآة النقد(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 ـــ 20].
مسؤولية المؤمن
في هذه الآيات، يريد الله أن ينبّهنا إلى نقاط ثلاث تتّصل بمسألة المصير في العمق، بحيث إِنَّ الإنسان الذي لا ينتبه إليها ولا يعيش معها، فإنّه قد يفقد مصيره ويخسر الدنيا والآخرة. النداء الأوّل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إنّها دعوة للمؤمنين إلى أن ينتبهوا إلى صفتهم الإيمانية. يقول الإنسان لنفسه مَن أنا؟ ما صفتي كإنسان يعيش في هذا الكون؟ هل أعيش مع صفتي الذاتيّة، لتكون المسألة عندي هي أنْ أُحقِّق ذاتي في ما تعيش من أنانيّات، أم أنّ صفتي هي الصفة العائلية، لتكون القضية عندي كيف أُحافظ على انتمائي العائلي، وكيف أُقوّي عائليّتي في مقابل عائليّات الآخرين، لأعيش الأنانية العائلية ولأحافظ على كرامة العائلة ومجدها؟ أم أنّي أتحرَّك بصفتي القوميّة؟ هل أنا عربي؟ أو أعجمي؟ لأؤكّد في حياتي صفتي القومية، فأعمل على أن أُحقّق العزّ لقومي وأُحقّق الموقع المميّز لقوميّتي؟ أم أنّني أتّخذ لنفسي صفة أخرى هي الصفة الإيمانية؟
لقد خاطب الله الناس بصفتهم الإيمانية، كما خاطبهم بصفتهم الإنسانية، ليقول لهم إنّ لكم صفتين: صفة تستمدّونها من وجودكم، وتلك هي صفة إنسانيّتكم، التي تلتقون فيها على أساس هذا المبدأ الذي يوحّدكم بين يديّ الله، وصفة الإيمان التي تجعل الحياة عندكم خاضعة للمسؤولية، التي تنطلق من الله وتتحرّك في خطّ علاقاتكم مع الحياة من حولكم، ومع عباد الله، وهي صفة الإيمان. فأنتم عندما تؤمنون بالله، فإنّكم تتحسَّسون حضور الله في الكون، باعتبار أنّه وحده الخالق، ووحده المدبّر، ووحده المهيمن على الأمر كلّه، فترجعون إليه تستمدّون منه شرعية كلّ عمل تعملونه وكلّ موقف تقفونه وكلّ علاقة تتحرّكون فيها، لتتحسَّسوا في إيمانكم أنّ الله ينظر إليكم من موقع هذا الإيمان، ويحاسبكم على أساس مواقع ومواقف هذا الإيمان. فالله سيقول لك كمؤمن كيف هي قضيّتك في خطّ إيمانك؟ هل كنت مؤمناً في بيتك تتعامل مع أهل بيتك بالإيمان؟ هل كنتَ مؤمناً في مجالات عملك، لتتعامل مع الناس على أساس الإيمان؟ هل أنتَ مؤمن في علاقاتك العامّة والخاصّة في ما تؤيّد وفي ما ترفض؟ كن المؤمن الذي يعتبر الإيمان كلّ حياته، ويعتبر صفة المؤمن هي الصفة التي تحيط بكلّ مواقعه، فلا يخلو أيّ موقع من مواقعه من خطّ الإيمان {... وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة : 57]. إنَّ الإيمان يفرض عليكم التقوى، لأنّ المؤمن بالله هو الذي يعتقد بأنّه مسؤولٌ أمام الله، وأنّ الله هو الذي يحاسبه، وهو الذي يعاقبه ويثيبه. ولهذا فإنَّ عليه أن يخشى مقام ربّه، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]. أن تخاف الله وأن تراقبه وأنتَ تتحرّك في حياتك وأن تحاسب نفسك على ما تحرَّكت فيه.
ترتيب الحساب مع الله
{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} اتّقِ الله ليدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تعرف رصيدك عند الله، ماذا قدّمت لنفسك أمام الله؟ حتّى إذا جاءك الموت الآن، فأنتَ تستطيع أن تحسّ بالأمن، لأنّك تملك رصيداً يدخلك الجنّة، أو يبعدك عن النار، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} غداً ستقف بين يديّ الله، قد يكون الغد يوماً تستقبله، وقد يكون شهراً تستقبله، وقد يكون سنة، أو أكثر من سنة. المهمّ أن تظلّ في وعيٍ دائم لِمَا قدّمت لغدك في الفرصة التي تقف فيها بين يَدَي ربّك، ممّا يعني أنّ على الإنسان في كلّ يوم أن يحسب حساباته في علاقاته مع الله، وأن يفكّر في اليوم الماضي كيف مضى، وفي اليوم القادم كيف يستقبله؟.. استمعوا لما ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لنتعلَّم كيف نحاسب أنفسنا، وكيف نستطيع أن نتعرَّف رصيدنا. يروى أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يوصي أبا ذر ليحدِّث أبو ذر نفسه بذلك، وليحدّث غيره بذلك "يا أبا ذر، حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً"(1)، احسب حساباتك الآن، كم معصية عصيت الله بها، وكم طاعة أطعت الله بها، هل حساب السيّئات عندك أكثر، أم حساب الحسنات؟ أم أنّ الحسابات تتساوى في هذا المجال؟ حاسِب نفسك الآن، إذا حاسبت نفسك الآن فإنَّ ذلك يهوِّن عليك الحساب غداً. مَن يحاسِب نفسه فسوف يعرف الخسارة والربح في حساباته؛ فإذا رأى نفسه خاسراً، حاول أن يعوِّض الخسارة وإذا كان رابحاً، حاول أن يحافظ على الرّبح وأن يستزيد منه. أمّا الذي لا يحاسب نفسه فيصعب عليه الحساب غداً، لأنَّ الأمور تضطرب عليه في ذلك الموقف الصعب.
"حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن": ما هو حجمك؟ ما هو قدرك؟ وما هي قيمتك عند ربّك؟ زِن نفسك لأنَّ ميزان الله لا يخطئ؛ فإذا لم تكن ممّن ثَقُلَت موازينه، فلن تستطيع أن تحصل على شيء، لأنَّ الذي يخفّ ميزانه يوم القيامة لا يجد لنفسه أيّ موقع في مواقع رحمة الله. لهذا لا بدّ لك من أن تزن نفسك الآن، فإذا رأيت نفسك خفيفاً في أعمالك، فحاول أن تثقل عملك، لتكون كفّتك في الميزان ثقيلة. وإذا رأيت أعمالك ثقيلة وجيّدة، فحاول أن تزيد من أعمالك، لتكون مواقعك أكثر ثباتاً وأكثر قيمة عند الله.
"وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن، وتَجَهَّز للعرض الأكبر"، عندما يعرض الناس {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة : 18]، هناك يوم العرض الأكبر، ليس عرض الأجساد أو الجمال أو المال، سوف تعرض سرائركم عند الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، وسوف تعرض أعمالكم على الله، يوم تقدّم الأعمال في صحيفة أمام الله، وسوف تعرض كلّ كلماتكم {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49]، جهِّز نفسك للعرض الأكبر؛ حتّى إذا عرضت على الله، كنتَ في موقع تستطيع أن تأمن فيه على نفسك وأنت تواجه الموقف العظيم بين يدي الله، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم تعرض، حيث لا يخفى على الله خافية.
"يا أبا ذر"، وكأنَّ رسول الله يخاطب كلّ واحدٍ منّا، "لا يكون العبد مؤمناً حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه"(1). إذا أردت أن تقسم مع شريكك، لتأخذ حصّتك وتعطيه حصّته، كيف تكون الدقّة في الحساب. إنّك تعمل على أساس أن تراقب حتّى القرش الصغير، لهذه المسألة هي أنّ عليك أن تحاسب نفسك، لأنّك إذا خسرت في حسابك مع شريكك، فقد تعوّض خسارتك، ولكن إذا أسأت الحساب مع نفسك فإنَّ إساءة الحساب تكلِّفك مصيرك أمام الله يوم القيامة.
الطرق الشرعية لاكتساب المال
قد يأتي وقت الغداء ويقدّم لنا الطعام والشراب، طعامٌ لذيذ وشراب بارد، يتغذّى به الجسد ويلتذ ويرتوي من الظمأ، لكن فكِّر: هذا الأكل الذي أمامي، من أين جاء، من حلال أم من حرام؟ هل سرقت المال الذي اشتريت به هذا الطعام؟ هل أخذته من معاملة غششت بها الناس؟ هل في الطعام دموع للأيتام الذين سلبتهم مالهم؟ هل في الطعام دموع للضعفاء الذين سرقت منهم مالهم؟ من أين مطعمك؟ لا بدّ للإنسان أن يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أَمِن حلال أم من حرام؟ لاحظوا كيف يقودنا رسول الله في ما يروى عنه إلى أن نحدّق بالأكل لنعرف مصدره، لا من أيّة شركة، أو من أيّ مصنع، أو من أيّة بلاد، لكن هل هو ممّا حرَّم الله أم هو ممّا أحلَّ الله؟
"يا أبا ذر مَن لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار"(1). يعني إذا فكّرنا أنّ المهم أن نحصِّل المال، وليس المهمّ طريقة تحصيله، فالحلال كما يقول بعض الناس ما حلَّ باليد ولو أخذته من سرقة، وهناك كلمة مهذّبة أصبحت للسرقة، "مصادرة"، صادرنا هذا المال. إنَّ هذا المصطلح أخذ يدخل في الميزان الثوري أو السياسي. صادرت، هل لك حقّ أن تصادر؟ من أين لكَ الحقّ؟ مَن الذي أباح لك أن تُصادِر؟ فإذا لم تكن لك شرعية من الله فأنتَ لصّ، وأنتَ سارق، وأنتَ خائن تخون موقعك، عندما تجعل منه أساساً للاعتداء على أموال الناس، لتكن لك سلطة سياسية، لكنّ الكلام أين شرعيّتك الإسلامية؟ لتكن لك سلطتك الأمنية لكن أين شرعيّتك الإيمانية؟
لا يحلّ مال إلاّ من حيث أحلَّه الله؛ فليحلّ الناس الكبار والصغار المال، إلاّ أنّه لن يكون حلالاً إلاّ إذا أحلّه الله. لهذا إذا كنت لا تبالي كيف اكتسبت هذا المال، من سرقة تعطيها أيّ عنوان مهذَّب، أو من معاملة باطلة، أو من عمل اشتمل على رجس، أو كنت وليّاً للأيتام فأكلتَ أموالهم، وكنتَ أخاً للضعفاء فأخذت إرثهم، وكنتَ حاكماً للمستضعفين فنهبت أموالهم، أو نهبت ميزانية الدولة التي تحكمها؟ إذا لم تبالِ من أين اكتسبت المال؟ فلن يبالي الله يوم القيامة من أين يدخلك النار.
محاسبة النفس
وهناك حديث ثان ينقله الإمام عليّ (عليه السلام) في ما يُروى عنه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أَكْيَسُ الكيّسين (والكيّس هو العاقل) مَن حاسَبَ نفسه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت"(2). يحاسب نفسه ويجعل عمله للآخرة، فقال رجل: "يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه، أجاب (عليه السلام): "إذا أصبح ثمّ أمسى"، قبل أن ينام، النهار انتهى، وأقفل الدكّان، ورجع من عمله وأراد أن ينام، قبل أن ينام يأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، "إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إنَّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً"(1) ليس هناك أيّ مجالٍ للعودة، ذهب اليوم فما الذي عملت فيه؟ وهذا اليوم معناه قطعة من العمر ذهبت، معناه يوم من عمري مات، كان هذا اليوم حيّاً في حياتي، ومات كما ستموت بقيّة أيامي، هل ذهب هذا اليوم في العمل كما ذهب في خطّ الزمن؟
أيُّها المؤمن؛ تكلَّم مع نفسك، أَذَكَرْتَ الله في هذا اليوم وحمدته؟ هل كان في هذا اليوم ذكر لله باللّسان، وذكر بالموقف والوعي؟ هل حمدت الله من كلّ ما يوجب حمده؟ أقضيت حوائج مؤمن فيه، أو نفَّسْتَ عنه كربه؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ هذا المؤمن كان جاراً وذاك كان قريباً، مات وله أطفال، يا نفس هل رعيت أطفال الجار المؤمن والقريب المؤمن، أم تركتهم من دون رعاية وهم بحاجة إلى مَن يرعاهم؟ أكففت غيبة أخ مؤمن؟ أم سكتَّ وقلت لا أريد أن أتعب نفسي بالدفاع عن المؤمن؟ أَأَعَنْت مسلماً؟ ما الذي صنعت في هذا اليوم؟ "إن ذكر أنّه جرى منه خير حمد الله وكبّره على توفيقه" أي شَكَرَه "وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته"(2).
المهمّ أن تحاسب نفسك، حتّى تستطيع أن تعرف نقاط الضعف في نفسك تجاه الله، في ما أراد الله منك من أوامره ونواهيه، وتجاه الناس في ما لهم عليك من حقوق، وتجاه نفسك في ما لنفسك عليك من حقوق، فإنَّ الله جعل لنفسك عليك حقّاً، أن لا تورّطها بدخول النار، كما جعل الله للنّاس عليك حقّاً، أن لا تظلمهم بالبغي والعدوان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر : 18]، وإذا نظرت ما قدَّمت لغد فلا تسترخ، ولكن اتّقِ الله في ما تستقبل من أمر، فقد يكون رصيدك جيّداً الآن، ولكن عليك أن تحافظ على رصيدك في ما تستقبل، حيث تستطيع أن تضمن لنفسك الرّبح في مستقبل حياتك قبل أن تموت، كما ضمنته في الماضي. لهذا لا بدّ أن تتّقي الله فتحاسب نفسك، ولا بدّ أن تتّقي الله في ما تستقبل من عمل {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من جديد، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر : 18 ـــ 19]. أيُّها المؤمنون، اذكروا ربّكم في الصباح وفي المساء، وقد جعل الله لنا هذه الصلاة التي نصلّيها خمس مرّات في اليوم، لنتذكّره دائماً، لنتذكّره في الصباح قبل أن نبدأ العمل، ولنتذكّره في وسط النهار بعد أن نستغرق في العمل، ولنتذكّره عند المساء بعد أن نتخفَّف من العمل. لنذكر الله قبل أن نبدأ اليوم ليكون يومنا تقيّاً، ولنذكره في وسط اليوم ليكون يومنا تائباً، ولنذكره في آخر اليوم ليكون يومنا واعياً تائباً نادماً، حتّى نذكر الله في كلّ وقت، لنعيش بحزام روحي يلتف على كلّ زماننا في ذكر الله.
من نسي ربّه نسي نفسه
ثمّ هناك ذكر لله لا باللّسان فحسب، بل بالقلب والوعي. أن تذكر الله سبحانه وتعالى عندما تقف أمام المعصية، وتدعوك نفسك إلى أن تهجم عليها، أو تقف أمام الطاعة وتدعوك نفسك إلى أن تتركها؛ اذكر الله، لأنّك إذا ذكرت الله، ذكرت نفسك، وعرفت ما يصلحها وما يخلّصها وما يحقّق لها الخير كلّه في الدنيا والآخرة. أمّا إذا نسيت الله فإنّك تنسى نفسك، لأنّك تعبد الشيطان وتعبد شهواتك وغرائزك، وبذلك تهمل نفسك، وتنسى مصلحتها وتضيع كما يضيع كلّ من اعتمد على نفسه وترك الاعتماد على الله.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19]، لأنَّ الإنسان إذا نسي ربّه، فإنّه يتحرّك في وحول المعصية، وبذلك يفسق في عمله، كما يفسق في روحيّته. ثمّ بعد ذلك فكّروا بالجنّة، لا تنسوها. لا تفكّروا فقط في دار تبنونها لسنوات تعيشونها، بل فكِّروا في دار تبنونها لعمرٍ خالد تعيشونه. فكّروا في الجنّة، وفي ثمنها، وفكّروا في النار وبما يبعدكم عنها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للكثيرين من الناس الذين يستغرقون في خير الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون بخير الآخرة، وللكثيرين من الناس الذين يعانون من شرّ الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون شرّ الآخرة: "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة"(1)، يعني، لو كان الخير كلّه لك، من مال وجاه وشهوات، وكان مصيرك إلى النار، فما قيمة كلّ ذلك البلاء والعناء؟ لهذا فكِّر أن تكون من أهل الجنّة ولا تفكّر أن تكون من أهل النار {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر : 20] وذلك هو الفوز العظيم. وإذا كنت تريد الجنّة، فاعرف أنّ الله لا يبيع جنّته مجاناً، بل إنّه جعل المسألة خاضعة للتجارة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف : 10] ويذكر الله الإيمان والجهاد في سبيل الله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111]، قالها عليّ (عليه السلام) لأصحابه في وقت من الأوقات وهو يتحدّث عن أعمالهم، "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا أعزّ أوليائه عنده هيهات لا يخدع الله عن جنّته ولا تبال مرضاته إلاّ بطاعته"(2) إذا كنتم تخدعون أنفسكم ويخدع بعضكم بعضاً في مظهر إيماني يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وفي عمل إسلامي يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وهناك خفايا وبلايا لا يعلمها إلاّ الله، لو اطّلعت عليها لولّيت منها فراراً ورعباً، فأنتَ قد تخدعني، وقد أخدعك، ولكن مَن يخدع الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
أهمية النقد الذاتي
في هذا الجوّ الإيماني الذي نريد أن نعيش فيه، لنتعلَّم النقد. والنقد الذاتي، أن ننقد أنفسنا كأفراد في ما أخطأنا فيه وفي ما فرَّطنا فيه، وأن ننقد أنفسنا كجماعات في ما أخطأت فيه الجماعة وفي ما فرَّطت فيه، وأن تكون لدينا شجاعة مواجهة الخطأ والاعتراف به وشجاعة تغييره، ولا نكون من الذين يحاولون أن يخفوا أخطاءهم، أو يصوَّروا أخطاءهم على أنّها صواب، وسيّئاتهم على أنّها حسنات، حتّى إِنّ بعضهم يحاول أن يجعل الخطأ مقدّساً، وإذا أخذ الخطأ قدسية في نفوس الناس، فكيف يمكن أن تستقرّ حياتهم؟.
لهذا عندما نفكّر في الله، فعلينا أن نفكِّر في أنفسنا، وفي موقعنا من الله. إذا كنتَ مؤمناً، ففكِّر في حجم إيمانك، وفي مسؤولية إيمانك. عندما يكون عملك عنواناً لعمل المؤمنين، فكيف تسيء إلى المؤمنين من خلال عملك، كما تسيء إلى نفسك من خلال عملك؟ لهذا فلننقد أنفسنا نقداً عميقاً واعياً، من خلال ما علَّمنا الله من القواعد التي تضبط حركة الإنسان في أوضاعه وعلاقاته. يجب أن يكون القرآن مرآة أنفسنا، انظر نفسك في مرآة القرآن، وحاول أن تتعرَّف؛ هل وجهك وجه قرآني في ما تتّجه إليه من أعمال؟ هل قلبك قلب قرآني في ما ينبض به من أحاسيس؟ هل عقلك عقل قرآني في ما يفكِّر فيه من أفكار؟ هل حركاتك حركات قرآنية في ما يرسم القرآن من برنامج للحركة؟ ليكن القرآن مرآة أنفسنا، كما تكون المرآة مرآة أجسادنا.
إنَّ هذا ما نحتاجه لنكون القرآنيين، الذين يغيّرون واقعهم على أساس القرآن في كلّ المجالات، سواء كانت مواقع فكرية في العقيدة أو كانت مواقع عاطفية في الشعور، أو كانت مواقع حركية في الواقع، أو كانت مواقع الانتماء في ما ينتمي إليه الناس. لننتبه إلى أنفسنا فقد يأتينا جوّ العصبية ليأخذنا إليه أو يأتينا جوّ الانفعالية ليضمّنا إليه. لنتخفَّف من عصبيّاتنا، فإنَّ كلّ عصبية في النار. ولنتخفَّف من انفعاليّاتنا فكلّ انفعالية في النار. ولنذكر الله ولنعرف أنفسنا، حتّى نستطيع أن ندرس إذا انتمينا إلى أيّ موقع، هل هذا الانتماء يرضي الله، أم يسخطه؟ وإذا تحرّكنا أيّ حركة، هل هذه الحركة ترضي الله أم لا ترضيه؟ تعلَّم أن تنقد نفسك، لأنّك ربّما تشعر بأنّك تتّخذ موقفاً لا يد لكَ فيه، لأنَّ الجوّ من حولك فرضه عليك.
لننظر إلى كلّ مواقعنا لنحدِّد؛ هل هي المواقع التي تؤدّي بنا إلى الجنّة أم إلى النار؟ لننظر إلى كلّ انتماءاتنا وإلى كلّ مواقفنا، وإلى كلّ كلماتنا، وإلى كلّ تأييدنا أو رفضنا، لننظر هل نحن على خطأ أم على صواب؟
لنفتح صدورنا للناقدين
لنتعلَّم في حياتنا أن ينقد بعضنا بعضاً "المؤمن مرآة أخيه" ـــ حديث شريف ـــ "رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي"(1)، كلمة قيلت عن عليّ (عليه السلام). أن لا تعتبر الإنسان الذي يأتيك ويذكر لكَ عيبك وخطأك عدوّاً لتبدأ بمحاربته، بل اعتبره صديقاً تعمل على أن تكرمه، لأنّه عرَّفك عيوبك التي ربّما تقضي عليك. هو يريد لك أن تحمي نفسك من عيبك، كما تحمي نفسك من عدوّك، وهو يرى منك ما لم تره من نفسك، ولذا يريدك أن تزيل القذى من أخلاقك، كما تزيل القذى من وجهك أو من عينك. لنتعلَّم النقد وأنّ النقد ليس عداوة، لننقد أنفسنا، ونطلب من الناس أن ينقدونا، ولنفتح صدورنا للناقدين، ولنبتعد عن كلمات السباب والشتائم والاتّهامات غير المسؤولة، ولنرتبط بالواقع في قضايانا.
إنّ أيّ إنسان مهما كانت درجته فهو ليس أعلى من أن ينقد وليس أعلى من أن ينبّه وليس أعلى من أن يوعظ. لقد قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو آنذاك أمير المؤمنين ـــ أقدم هذه الكلمات من عليّ (عليه السلام) لكلّ مَن ترتفع درجته في مواقع المسؤولية، سواء كانت مسؤولية شرعية أو غير شرعية، وهو يرى نفسه في ضخامة الشخصية، فلا يقبل أن يقول له أحد أخطأت أو ظلمت أو أسأت، بل يحبّ دائماً أن يقول له الناس أصبت إذا أخطأ، وأحسنت إذا أساء، وعدلت إذا ظلم، ألاّ يشجّع الناس ذلك؟ ـــ أقولها لكلم وأقولها لنفسي في بعض مواقع الضعف في ما أعيشه: إنَّنا لو أيَّدنا شخصاً وأحببناه وعظَّمناه، في أيّ موقع من مواقع القيادة أو المسؤولية وجاء مَن يقول إنَّ صاحبكم أخطأ، فتعالوا نبحث عن خطئه، أو أنّ صاحبكم ظلم فتعالوا نبحث عن ظلمه، أو أنّه أساء فتعالوا نبحث عن إساءته، كيف تتصرَّفون؟ إنّكم ستثورون، بعضكم يسبّ الناقد، والبعض يلقي عليه الحجارة، أو يفتح عليه النار، أو قد يشتمه، من دون أن تفكّروا ماذا قال هذا الرجل؟ وهل هو صحيح أم ليس بصحيح؟ إنَّنا نعبد أصناماً نقدّس فيها الخطأ والظلم والإساءة.
في عقيدتنا، كما هو الحقّ في ما نراه، أنَّ عليّاً (عليه السلام) معصوم، أخذ عصمته من خلال إمامته، ومن خلال إرادته، فعليّ المعصوم من خلال وعي العصمة في فكره ومن خلال إرادة العصمة في سلوكه، عليّ المعصوم الذي لم نستطع أن نكتشف ولم يكتشف أحد أيّ خلل فيه، حتّى إنّ بعضهم حاول أن يبحث عن شيء يريد به أن يسيء إلى عليّ (عليه السلام)، فقال "إنَّ في عليّ دعابة"(1) يعني يمزح ولم يكن عليّ بالمزَّاح، ولكنَّ عليّاً كان يلم بذلك في ما يستحبّه الله من ذلك، عليّ هذا الذي أخفى محبُّوه فضائله خوفاً من أعدائه وأخفى أعداؤه فضائله حَسَداً له، فظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين، عليّ هذا بعد أنْ صار حاكِماً قال للنّاس من حوله: "لا تُكَلِّموني بما تكلَّم به الجبابرة" لا تقولوا هذا أمير المؤمنين بيده السيف الذي يستطيع أن يقتل، وعنده الحبس الذي يستطيع أن يسجن، وعنده الجماعات الذين يستطيعون أن يضربوا أو يقتلوا، لا تنظروا إليَّ هذه النظرة، "ولا تظنّوا بي استثقالاً لحقّ يُقال لي ولا لعدل يعرض عليَّ" لا تعتقدوا أنّي استثقل إذا قال لي شخص: يا عليّ لقد تجنَّبت الحقّ. هذا هو الحقّ وقد انحرفت عنه، وهذا هو العدل فافعله "ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قال لي، فإنَّ من استثقل الحقّ أن يقال له والعدلَ أن يُعرَضَ عليه، كان العمل بهما أثقل عليه" الذي لا يطيق كلمة الحقّ أو الذي لا يتحمَّلها، كيف يتحمّل أن يفعل الحقّ وأن يقيم العدل؟ إذا لم يتحمّل الكلمة فكيف يتحمَّل الواقع؟ ثمّ قال لهم "فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ أو مشورة بعدل فإنّي لستُ في نفس يفوق أن أخطئ"(2) يعني لا تنظروا إليَّ نظرتكم إلى مَن لا يخطئ، بل حاسبوني كما لو كنت مخطئاً. لنعلِّم الأُمّة أن تنقد حكَّامها، ولنعلِّم الأُمّة أن تواجه المسؤولين فيها بالنقد البنَّاء، ونطلب من المسؤولين أن لا يعتبروا أنفسهم فوق النقد، بل أن يستمعوا إليه بكلّ طيبة وإخلاص، وأنْ يتحرَّكوا في خطّ الله بعيداً عن الجانب الذاتي في الحياة. وهذا ما فعله عليّ (عليه السلام)، فإنَّ عليّاً كان ذات يوم مع أصحابه وكان هناك خارجي، وتكلَّم الإمام بكلمة، وأعجبت هذا الخارجي ـــ وكان الخوارج يكفِّرون عليّاً ـــ فقال هذا الخارجي وهو يشير إلى عليّ (عليه السلام): "قاتله الله كافراً ما أفقهه"، والإمام عليّ (عليه السلام) كان صاحب السلطة العليا آنذاك والخوارج لا يمثّلون شيئاً، فوَثَبَ إليه القوم ليقتلوه، فالتفت إليهم الإمام وقال: "رويداً إنَّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب"(1)، سبّني فمن حقّي أن أسبّه ـــ يقول الله: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، هذا هو موقف عليّ (عليه السلام) وهذا ما يجب أنْ نتعلَّمه؛ أن لا نعتبر القيادات فوق النقد، مهما أخذت من حجم ومهما أخذت من قداسة، فليس هناك من معصوم. ولكن ليكن النقد موضوعياً وبنّاءً، بل قد يجب على الأُمّة أن تنقد مسؤوليها حتّى لا تغريهم بالخطأ، وحتّى لا تغرّهم بأنفسهم، وحتّى يشعروا بمسؤوليّتهم في قيادة الأُمّة.
غياب النقد يضيع قضايا الأُمّة
هذا ما يجب أن نتعلَّمه. ويجب أن نتعلَّم أن ننقد أنفسنا بأنفسنا وأن ينقد بعضنا بعضاً، سواء كانت المسألة نقد القيادة للقاعدة، أو نقد القاعدة للقيادة. ولأنَّ المسألة إذا لم ترتكز على أساس النقد البنّاء، فستضيع قضايا الأُمّة أمام بهلوانيّات الأشخاص وقداستهم. وهذا ليس فقط في الدائرة الفردية، بل حتّى في دائرة المواقع والمحاور، هناك في الساحة أحزاب وحركات ومنظّمات وجمعيات، وفي الأحزاب الكثير من الخطأ، وكذلك في المنظّمات وفي الحركات وفي الجمعيات الكثير من الخطأ، ولكنَّنا تعوّدنا أن نسكت عن أخطائنا، وننظر إلى أخطاء الآخرين. تعوّدنا أن نخفي أخطاءنا وأنْ نتعصَّب لها وأن نحمي المخطئين والمجرمين منّا، لأنَّ المجرم منّا إذا ظهرت جريمته، فسوف تنعكس على الحزب أو المنظّمة أو الحركة أو الجمعية أو الطائفة وما إلى ذلك، ولهذا نفكّر ونعمل على أن نحمي المجرم أو نخفِّف من جريمته أو نخفيها لأنّه منّا. أمّا إذا فعل إنسان آخر جريمة أقلّ من جريمة صاحبنا، ومعصية أقلّ من معصية صاحبنا، فإنَّنا نسقط السماء على الأرض؛ أين الدين؟! وأين الشريعة؟ وأين القانون؟ وأين المبادئ؟، ألاَ نفعل ذلك؟! ولهذا تخرّب هذه المواقع عندما يجد المجرمون غطاءً لجريمتهم، وعندما يجد المنحرفون غطاءً لانحرافهم، وعندما نتعصَّب للمجرمين، لأنّهم من جماعتنا ومن إخواننا وحزبنا وحركتنا وطائفتنا، فإنَّ الجريمة تنتشر في مجتمعاتنا.
إذا كنت صاحب مبدأ فعليك أن تحاسب الناس من خلال المبدأ. "مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ".
أيّ تجمّع سياسي أو اجتماعي يحمي اللّصوص فهو اللّص، أو يحمي القتلة فهو القاتل، أو يحمي المنحرفين فهو المنحرف، أو يحمي المفسدين فهو المفسد، لأنّك لا يمكن أن تكون صالحاً وتحبّ المفسدين، {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]، فكيف تحبّ المفسدين ولو كانوا من جماعتك، وتقول إنّك تحبّ الله. إنَّ هذا الخلل، هو الذي أدّى إلى كلّ هذا الإرباك والتعقيد والتشويه، وإلى كلّ الواقع الذي يتحرّك فيه المجرمون والخائنون والقَتَلَة والسارقون والمفسدون، فهؤلاء تحرَّكوا على أساس أنّهم انتموا إلى هذه الجهة، فأعطتهم غطاءها، وحرمت الآخرين من أن يواجهوهم، بل إنّها قد تدخل معركة ضدّ الآخرين.
التشيُّع المستقيم
"مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَن كان عدواً لله فهو لنا عدو، واعلموا أنَّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالورع"(1)، هذا منطق أهل البيت؛ أن تكون شيعياً تحبّ أهل البيت، هذا يعني أن لا تكون لصّاً أو قاتلاً أو مفسداً أو الإنسان الذي يثير الفتن. إذا كنت كذلك فلست بشيعي وأهل البيت أبرياء منك، لأنّك لستَ وليّاً لله ولا ولاية لأهل البيت مع أحد إذا لم يكن وليّاً لله. لهذا أَحِبُّوا السائرين في خطّ الله ولا تحبُّوا الخائنين، حتّى لو كانوا أهلكم أو أصحابكم أو أصدقاءكم.
يقول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم إنّهم إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها". لذلك لا بدّ أن نحبّ مَن أحبَّ الله وأن نبغض مَن أبغض الله، لتكون ولايتنا لله منطلقة في هذا الخطّ على كلّ المستويات.
ومن هذا المنطلق نقف مع الخطّ الإسلامي، الذي تقوده الثورة الإسلامية من خلال قيادة قائدها الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّها التزمت الحقّ ولأنّه التزم الحقّ، ولأنّها جاهدت في سبيل الله، ولأنّه دفع إلى الجهاد في سبيل الله، ولأنّه دعا إلى الله ـــ ونحن معه في الدعوة إلى الله ـــ ولهذا وقفت كلّ القوى المستكبرة ضدّه ولم يسقط ولم يهن ولم يلن ولم يتراجع، بل قال لهم كما قال جدّه الإمام الحسين (عليه السلام): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، وعندما خيَّروه بين السلّة والذلّة فلم يختر الذلّة واختار الموت.
يومٌ لنا ويوم علينا
ونحن عندما نواجه ما تواجهه الجمهورية الإسلامية، من الهجمة العالمية الاستكبارية التي زوّدت النظام العراقي بأحدث الأسلحة وأكثر الخبرات تقدُّماً في العالم، حيث اجتمع العالَم بشرقه وغربه على أن يعطيه القوّة، لتكون حربه حرب العالم على الثورة الإسلامية في إيران. وقد يتحدّث الناس عن ضعف، وعن عزيمة، وعن سقوط في الروح المعنوية، لكنَّ الله حدَّثنا عن أُحُدْ كما حدّثنا عن بدر وقال: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140]، ليس هناك نصر مطلق جعله الله لرسوله، وليس هناك هزيمة مطلقة جعلها الله لأعدائه، ولكنَّ الله أجرى الحياة على سنن القوّة والضعف، فيومٌ علينا ويومٌ لنا، ويوم نُساء ويومٌ نُسَرّ. المهم أن لا تسقط إرادتنا ولا تسقط مواقفنا ولا تضعف عزائمنا، وأنْ نظلّ نصنع القوّة عندما يحاول الآخرون أن يصنعوا فينا الضعف. والقضية ليست قضية يوم أو يومين أو مرحلة أو مرحلتين، وقد سمعنا من كلمات الإمام أنّه يتحدّث بالقوّة الإسلامية الإلهية، بروح هي أروع من روح الشباب، ليفتح عيون الأُمّة على مواقع الصبر، عندما يريد المستكبرون أن يقودوها إلى مواقع الهزيمة.
التعلُّم من التجارب
لهذا لا بدّ أن ننظر إلى هذه الأمور نظرتنا إلى الواقع وإلى حجم التحدّيات وإلى وعد الله سبحانه وتعالى بالنصر وإلى الاستفادة من الدروس، فإنَّ الإنسان يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط ضعفه، كما يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط قوّته. ونحن في هذا المجال لا بدّ لنا أن نحدّق بقضايانا ـــ بكلّ قضايانا الإسلامية ـــ لنعرف أنّ على الحالة الإسلامية بكلّ فصائلها أن لا تنهزم أمام كلّ الضغوط وأمام كلّ التحدّيات، حتّى إذا ضعفت في موقع فعليها أن تدرس لماذا ضعفت؟ فقد يكون الضعف من خلال خطئها في التجربة، وقد يكون من خلال ضغط الأعداء عليها في بعض المواقع. لا بدّ أن ندرس نقاط ضعفنا جيداً، لنعرف من أين انطلق الضعف؟ وكيف نستطيع أن نحوِّل نقاط الضعف إلى قوّة؟ ولا بدّ أن ندرس نقاط قوّتنا، حتّى لا يصيبنا الغرور، فما من موقع قوّة إلاّ وفيه موقع ضعف. وعلينا أن نحدّق بأعداء الأُمة، لنتحمّل مسؤولية الوقوف ضدّهم، وهذا ما نريد أن نواجهه في مسألة السياسة الأميركية التي فرضت على الأُمّة كلّها، سواء تحدّثنا عن الأُمّة العربية أو الأُمّة الإسلامية، فرضت على الأُمّة سيطرة "إسرائيل"، لأنَّ "إسرائيل" تمثّل الامتداد لسياسة الاستكبار العالمي. إنَّ أميركا تعمل على إضعاف كلّ مواقع الأُمّة وعملت على أن تسقط كلّ موقع يتحدّى فيه العنفوان الإسلامي المستكبرين، كما تفعل الآن مع الانتفاضة في فلسطين ومع الثورة الإسلامية في إيران ومع الحالة الإسلامية في لبنان، إنّها تعمل على أساس أن تسقط المواقع التي تعيد الروح للأُمّة، لتفكِّر هذه الأُمّة بالقوّة، وهي تريد لها أن تفكِّر بالضعف من خلال ذلك.
الفتنة اللبنانيّة صيغة أميركا
وفي إطلالة على الواقع اللبناني، نرى أنّ الأكثرية ـــ وإن لم يكن الجميع ـــ تعمل على أن تأتي أميركا إلى البلد، لتنظيمه ولتحلّ مشكلته ولتدبّر أمره، ولكي تعقد التحالفات لتدبير أو ترتيب أوضاعه، الكلّ ينادي أميركا أن تأتي، والكلّ يتحدّث عن أميركا على أساس أنّها خشبة الخلاص، فيما أميركا تريد أن تنصب لنا خشبة الصلب. إنّهم يتحدّثون عن صليب في لبنان، ولكنّهم لا يتحدّثون عمّن يعتقدون أنّه مصلوب. إنّهم يريدون أن يصلبوا الشعب على الخشبة الأميركية، لنعيش كلّنا في دائرة الصلب هذه. عن أيِّ سياسة نتحدّث، عندما نتحدّث عن السياسة الأميركية في المنطقة، والفتنة كلّها في كلّ هذه السنين هي من صنع المخابرات الأميركية والإرادة الأميركية؟
السلاح الخليجي و"إسرائيل"
أميركا هذه الأيام تخلق ضجّة عالمية، ماذا هناك؟ إيران اشترت صواريخ من الصين، وهذه تشكّل خطراً على السفن الأميركية في الخليج. وتحدّثت مع الصين وتحدّثت مع العالم وفكّرت في كيفية مواجهة الخطر. السعودية اشترت صواريخ وهي تعرف أنّ هذه الصواريخ موجّهة إلى إيران، وليست موجّهة إلى "إسرائيل"، لأنّه ليس هناك بلد عربي في أغلب البلدان العربية يفكّر بمقاتلة "إسرائيل"، ولاسيّما السعودية التي يمثّل الحديث عن مقاتليها "لإسرائيل" نكتة سياسية أو عسكرية. هي تعلم أنّها صواريخ موجّهة إلى إيران، ولكنّها حاولت أن تثير المسألة على أساس أنّ مجلس الشيوخ الأميركي يتحدّث أنّه ربّما توجّه هذه الصواريخ إلى "إسرائيل". فإذاً لا بدّ أن تأخذ ضمانات من السعودية، حتّى لا توجّه إلى "إسرائيل". ثمّ وهنا المزحة، قطر اشترت عدّة صواريخ ـــ وهنا أيضاً يذهب المبعوث الأميركي إلى قطر، حتّى يبحث الخطر الذي يمكن أن يؤثّر على "إسرائيل" من قطر. وهكذا بدؤوا يعتبرون الصواريخ التي اشترتها سوريا من الصين، إنّها أصبحت تشكِّل خطراً، وكلّ هذا الذي تتحدّث به أميركا عن خطر الصواريخ، كان من أجل أن تصل أميركا إلى حلف استراتيجي مع "إسرائيل" في تطوير صواريخ تحمل أميركا نفقتها لمصلحة "إسرائيل"، لماذا؟ وتقول للعرب لا "تزعلوا"، المسألة هي أنّني لا أريد أن أغضبكم، ولكن عندكم صواريخ، وهذه "الضعيفة" نريد أن نقويها قليلاً وهي حليفتنا. أميركا التي لا توافق على أن يملك أحد من العرب سلاحاً، حتّى أصدقاء "إسرائيل" في العمق، لأنّهم عملاء أميركا في العمق، وهي تعطي إسرائيل كلّ ما تريد من السلاح وتطوّر لها الأسلحة بنحو تقف أمام العالم العربي كلّه.
تقولون لنا: حتّى تخلصنا. أنّ أميركا تعمل الآن بكلّ ما عندها من طاقة. وكلّ جولات وزير الخارجية الأميركية، وكلّ جولات مبعوثي الإدارة الأميركية في المنطقة، من أجل أن تفرغ الانتفاضة من قوّتها ومن أجل أن يجمع العرب على مواجهة الانتفاضة، وعلى إسقاطها لأنّها تعيد الروح للمسألة الجهادية في السياسة العربية. كما أنّهم عندما يتحدّثون عن المتطرّفين الإسلاميين، في ما يتحدّثون فيه عن الحالة الإسلامية التي تعيد الروح للأُمّة الإسلامية، حتّى لا تخاف من "إسرائيل"، ولا تخاف من أميركا، لأنّهم يخافون أن يعيش الناس الروح التي تقاوم وتجاهد، وتثبت ولا تسقط ولا تخاف. يخافون من هذه الروح، لأنَّ مسألة السلاح هم كفيلون بها. هم يريدوننا أن نسقط أمام تهويلاتهم وهذا ما يعملون له، ولهذا فإنّ السياسة المطروحة في الساحة هي أن يعملوا على إثارة الفتن في داخل كلّ الذين يقاتلون "إسرائيل"، وكلّ الذين يحتمل أن يقاتلوا "إسرائيل" أو يقفوا سياسياً ولو تكتيكياً ضدّها حتّى يضعفوا جميعاً.
لا بدّ أنّكم سمعتم حديث رابين في واشنطن هذه الأيام، أنّه يقول: إنَّ التقاتل بين حزب الله وحركة أمل والتقاتل بين الفلسطينيين يوفّر علينا كثيراً من الجهود في مواجهة الأخطار، التي تأتينا منهما. معنى ذلك تقاتلوا، رحمكم الله وتشاتموا، أبقاكم الله، وتهاتروا يا عباد الله، وحاولوا أن يضخّم كلّ منكم شخصيّته، وإن يعلو كلّ منكم على الفريق الآخر، وانشغلوا بأنفسكم وشتائمكم، والعنوا بعضكم بعضاً.
حدّثني أحد مسؤولي الجامعة الأميركية قبل أن تحدث الحرب في الجنوب وفي الضاحية، أنَّ مجلس الأُمناء اجتمع في واشنطن وجيء بضابط أميركي يريد أن يتحدّث لهم عن لبنان وعن شيعته، وتحدَّث لهم عن حرب الجنوب وعن حرب الضاحية، وكنت أنفي أنّ ذلك سيكون، وكنّا سذَّجاً عندما كنّا نقول أنّه خطّ أحمر، لأنَّ كثيراً من الناس كانوا قد خضَّروا الخطوط الحمراء ممّن يضعون الألوان الخضراء للقتال وللسياسة المنحرفة في البلد، إنّهم يكيدون لنا بكلّ ما عندهم من قوّة ومن باطل ويخطِّطون ويزرعون لنا الذين ينفّذون هذه الخطط.
مواجهة الموقف بعقلية الرساليين
لهذا لا بدّ لنا من أن نواجه المسألة بمسؤولية، نحاول من خلالها أن نجمد كثيراً من الحساسيّات ونبرّدها، وأن نجمّد كثيراً من الخلافات، ونعطيها إجازة لنستطيع أن نواجه هذا الاستحقاق، لا استحقاق رئاسة الجمهورية، ولكنّه استحقاق الحريّة لنا أمام "إسرائيل". لا بدّ لنا أن نواجه المسألة بوعي، حتّى لا نكون كالأطفال نبني البيوت على الرمال ويأتي البحر ليجرفها، فلا يبقى لنا شيء من ذلك كلّه. إنّهم يتحدّثون في هذه الأيام عن اجتياح إسرائيلي صغير أو كبير، قد يتحدّث البعض نتيجة حرتقات سياسية، وقد يتحدّث البعض عن رؤية سياسية، وقد يتحدّث البعض عن انطباعات، وقد يتحدّث البعض عن تحليلات، لكن مهما كان الحديث، هل نظلّ نتحدّث حول أن يكون اجتياح أو لا يكون؟ هل يكون هجوم إسرائيلي أو لا يكون؟ إنّهم يتحدّثون عن هجوم إسرائيلي في إقليم التفاح، بعد أن فشل الهجوم الإسرائيلي على اللويزة وجبل صافي. إنّهم يتحدّثون عن ذلك الآن في الأحاديث السياسية، فماذا أعددنا لذلك؟ أعددنا اللّغو الذي نثيره في أوضاعنا، هل نعمل غرفة عمليات، أم لا؟ مَن يقود غرفة العمليات ومَن يحرّكها؟ لمن الأمن في الجنوب، لمن السلاح؟(1) و"إسرائيل" لا يستطيع أحد أن يمسك سلاحها، نفتّش عن الخنجر وعن المسدّس ولا نفتّش عن الطائرة التي تقصفنا، وعن الدبّابة التي تحرقنا وعن السفن التي تدمّرنا.
إذا كنّا نفكّر تفكيراً إسلامياً إيمانياً، لنكفّ عن كلّ هذا اللّغو، وكلّ هذه المهاترات في الصحف وفي غير الصحف. واجهوا الموقف على أساس أنّ "إسرائيل" شرٌّ مطلق، إذا كنتم تعتقدون أنّها شرٌّ مطلق ـــ فإنّي أشكّ في أن يكون الكثيرون على هذا الاعتقاد ـــ لعلَّنا أصبحنا نعتقد أنّ بعضنا شرٌّ مطلق للآخر، أكثر ممّا هي "إسرائيل" شرّ مطلق لنا، لأنَّنا نتصرّف على هذا الأساس. نتحدّث عن أمن "إسرائيل" ولا نتحدّث عن أمن الإنسان على نفسه. إنَّنا من جديد وقد تعبت ألسنتنا من هذا الحديث، إنّنا نقول للقيادات أن تفكِّر بعقلية الرسالة لا بعقلية الذّات، وبعقليّة الأُمّة لا بعقلية الفرد، وبعقلية العقل لا بعقلية الانفعال، وبعقلية المستقبل لا بعقلية زوايا الحاضر. إنَّنا نقول لهم انطلقوا في خطّ الوحدة ونحن معكم. ونريد أن نقول للأُمّة أن تعزل قياداتها، إذا رفضت قيادتها خطّ الوحدة التي تبني للأُمّة عزّتها وكرامتها على أساس الإيمان والإسلام، الذي تلتزمه الأُمّة كخطّ ينظّم لها كلّ حياتها. إنَّ علينا أن نعيش هذه الروح، بدلاً من أن نعيش اللّغو الذي يحاول فيه كلّ فريق أن يسجِّل نقطة على فريقٍ آخر. تعالوا لنسجّل كلّ النقاط على أعداء الله ورسوله ولنجمع كلّ النقاط لمصلحة الأُمّة كلّها، فإنَّ الواقع في لبنان لن يسير بكم إلى خير بل سيسير بكم إلى ما يشبه الخداع والتغرير. وكلّ فتنة وأنتم بخير، لأنّها ستستمر معكم إلى ما شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين